المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

حينئذ ويكون من المشروط بالمعنى المتقدم.

وإنما الكلام ، فيما إذا لم تكن الخصوصية دخيلة في تعلق الغرض بالواجب لو توقف تحقق الواجب عليها تارة : لكونها من قيوده الشرعية الدخيلة في ترتب مصلحته عليه ، كالطهارة من الحيض التي يتوقف عليها الصوم الواجب بكفارة قد تحقق سببها حال الحيض.

واخرى : لكونها ظرفا للقدرة عليه ، لتوقفه تكوينا على أمر استقبالي خارج عن الاختيار.

وثالثة : لتوقفه على مقدمات اختيارية تحتاج إلى زمن.

هذا ، وصريح الفصول تعميم المعلق للصورة الأخيرة ، وظاهر غير واحد ممن وافقه في إمكان المعلق أو خالفه خروجها عنه ، مع اتفاق الكل ومفروغيتهم عن إمكانها ووقوعها وشيوعها ، لوضوح أن الانبعاث للمقدمات إنما هو بسبب فعلية التكليف لذيها ، فدخولها في المعلق محض اصطلاح لا ينبغي إطالة الكلام فيه.

فالعمدة الكلام في الصورتين الاوليين اللتين تشتركان في توقف المكلف به على أمر غير اختياري مع فرض تجدد القدرة عليه بعد ذلك ، لتحقق ما يتوقف عليه في الزمن المستقبل ، حيث يقع الكلام في أن ذلك هل يمنع من فعلية التكليف أو لا؟

ومرجعه إلى أن القدرة المعتبرة في فعلية التكليف زائدا على فعلية الملاك والغرض هل هي القدرة على المكلف به في وقته ولو كان هو الزمن المستقبل أو خصوص القدرة الفعلية حين فعلية التكليف؟

ثم إنه لا إشكال في أن البعث نحو الأمر الاستقبالي الموقوف على أمر

٣٤١

غير اختياري لا يصح على الإطلاق وبلحاظ جميع المقدمات ، بنحو يقتضي الداعوية للانبعاث إليه من حيثيتها ، حتى من حيثية المقدمة غير الاختيارية ، لاستحالة ذلك ، والقائل بإمكان المعلق إنما يلتزم بإمكان البعث للأمر الاستقبالي من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية ، بنحو يقتضي الانبعاث إليه في وقته بعد تحققها لا مطلقا ، كما فيما تكون جميع مقدماته اختيارية.

ومنه يظهر أنه لا مجال للمنع من المعلق تارة : لقبح التكليف بما لا يطاق. واخرى : لأن الغرض من التكليف جعل الداعي العقلي لموافقته ، ومع تعذر موافقته يمتنع تحقق الداعي إليها ، فيلغو جعل التكليف والخطاب به ، لتخلف غرضه.

لوضوح أن الوجهين المذكورين إنما يتوجهان لو كان المدعى فعلية التكليف في المقام بالنحو المقتضي للداعوية على الإطلاق حتى من حيثية المقدمة المذكورة ، حيث يقبح مع فرض تعذر الانبعاث ، ويكون لاغيا لتخلف غرضه.

أما حيث كان المدعى أن فعلية التكليف إنما تقتضي الانبعاث للمكلف به في وقته الذي يقدر عليه فيه ، لأن ذلك هو الغرض منه ، فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولا يكون لاغيا.

نعم ، قد يدعى أن داعوية التكليف لتمام مقدماته ارتباطية ، فلا يمكن التفكيك بينها في الداعوية. ولذا سبق منّا في رد ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) في الواجب المشروط امتناع تعلق التكليف بالمقيد من دون أن يقتضي التكليف بتحصيل القيد المقدور.

كما لا إشكال في أن تعذر بعض مقدمات الواجب رأسا مانع من

٣٤٢

التكليف به بنحو يقتضي تحصيل باقي المقدمات ، بل يسقط رأسا.

لكنه يندفع : بأن المنشأ في الارتباطية المذكورة أن فعلية تعلق غرض المولى بالشيء المستتبعة لتحصيله بالتكليف به تقتضي الداعوية لتمام مقدماته التي يتوقف عليها حصوله.

وهو إنما يقتضي الداعوية لتمام مقدماته في ظرف القدرة عليها ، ولا ينافي عدم الداعوية إليها في ظرف تعذرها ، لأن ذلك لا يرجع لقصور في داعوية التكليف ، بل للمانع من فعليتها.

وأما سقوط التكليف بتعذر بعض مقدماته فلأن تعذر المقدمة رأسا مستلزم لتعذر المكلف به فيمتنع التكليف به ، لما سبق من قبح التكليف بما لا يطاق ولغويته ، ولا معنى للتكليف به لأجل باقي مقدماته ، لأن تعلق الغرض بالمقدمات وداعوية التكليف إليها في طول تعلق الغرض بذيها وداعوية التكليف ، فمع امتناع داعوية التكليف إليه لتعذره لا موضوع للداعوية إليها ، بل يتعين سقوط التكليف.

وهذا بخلاف المقام المفروض فيه تحقق المقدمة غير الاختيارية في المستقبل المستلزم للقدرة على المكلف به حينئذ ، فلا يقبح التكليف به ولا يكون لاغيا ، وإذا صدر التكليف كان صالحا للداعوية للمكلف به في وقته ، فيدعو في طول داعويته له إلى بقية المقدمات الدخيلة في ترتبه.

هذا ، وقد يستدل لامتناع المعلق بأن التكليف إنما ينتزع من الإرادة التشريعية ، وهي لا تكون إلّا مع فعلية القدرة على المكلف به ، ليمكن معها السعي إليه بتهيئة المقدمات ، نظير الإرادة التكوينية التي لا تكون فعلية القدرة على المراد ، ولذا عرفت بأنها الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد.

٣٤٣

وفيه : ـ مضافا إلى عدم وضوح توقف الإرادة التكوينية على فعلية القدرة ، بحيث لا تتعلق بالأمر الاستقبالي ، وإلى إمكان السعي نحو المعلق بتهيئة مقدماته الاختيارية ـ أنه لا مجال لقياس الإرادة التشريعية التي هي المعيار في التكليف بالإرادة التكوينية ، حيث سبق في بيان حقيقة التكليف اختلافهما سنخا ، وأن الإرادة التشريعية متقومة بالخطاب بداعي جعل السبيل المستتبع لحدوث الداعي العقلي للإطاعة ، وعدم صحة الخطاب في المقام بنحو يدعو للمكلف به من غير حيثية المقدمة غير الاختيارية أول الكلام.

ومن هنا لم يتضح بعد ملاحظة كلماتهم في المقام والتأمل فيما ذكرنا ما ينهض بإثبات امتناع المعلق عقلا.

نعم ، قد يدعى لغوية البعث بالتكليف الفعلي ارتكازا في ظرف تعذر الواجب وامتناع السعي إليه ولو بالشروع في مقدماته ، حين لا يكفي في فعلية التكليف بالشيء فعلية تعلق الغرض به ، ما لم يكن للتكليف به بالبعث إليه دخل في إحداث الداعي للسعي له.

وبذلك يظهر الفرق بين المعلق الذي يتوقف على أمر غير اختياري ، وغيره مما كانت جميع مقدماته اختيارية تحتاج إلى زمن ، فإنهما وإن اشتركا في كون الواجب استقباليا يتعذر تحصيله فعلا ، إلّا أن إمكان السعي للثاني بالشروع في مقدماته كاف في الفرق بينه وبين الأول ارتكازا ورفع لغوية التكليف به.

لكنه يخلو عن إشكال ، حيث لا يبعد الاكتفاء في رفع اللغوية بإحداث الداعي لفعل الواجب في وقته.

ولا سيّما مع أن المعلق إنما يتعذر السعي إليه من حيثية مقدمته غير

٣٤٤

الاختيارية ، دون بقية المقدمات ، سواء كانت موسعة يتأتى فعلها بعد وقت الواجب ـ كالوضوء والتستر للصلاة ـ أم لا ، كالمقدمات المفوتة التي لا إشكال في صلوح التكليف للداعوية إليها وفي لزوم تحصيلها ، ولا يتضح مع ذلك لغوية فعلية التكليف بالمعلق.

بل لو كان لزوم تحصيل المقدمات المفوتة قبل الوقت موقوفا على فعلية التكليف لكان وضوح لزوم تحصيلها كافيا في استيضاح فعليته ، وفي إمكان المعلق ووقوعه ، بل شيوعه.

إلّا أنه حيث يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ عدم توقفه على ذلك افتقر إثبات فعلية التكليف بالمعلق وعدم لغويته للرجوع للوجدان فيها بنفسها.

ولا يبعد قضاء الوجدان بها ، كما قد يوضحه قياس التعذر حين حدوث التكليف بالتعذر بعد حدوثه ، كما لو تعذرت بعض مقدمات الصلاة بعد دخول وقتها بنحو يستلزم تأخيرها مدة في ضمن الوقت ، أو تعذر قضاء الصلاة والصوم الثابتين في الذمة في وقت خاص لطارئ من حيض أو نفاس أو نحوهما.

فإن الالتزام بعدم فعلية التكليف في ذلك وسقوطه بالتعذر وتجدده بتجدد القدرة بعيد جدا عن المرتكزات ، والفرق بين الحدوث والبقاء أبعد عنها.

وبالجملة : بعد عدم نهوض ما ذكروه بالاستدلال على امتناع المعلق عقلا وإمكانه ، فمرجع حديث اللغوية وعدمها إلى الرجوع للوجدان والتأمل في المرتكزات العرفية ، وهي لا تثمر إلّا قناعات شخصية غير قابلة للاستدلال والإلزام ، إلّا بنحو من التقريب للوجدان وتنبيهه ببعض التنظيرات ونحوها.

٣٤٥

والظاهر بعد التأمل في ذلك عدم لغوية التكليف بالمعلق وإمكانه ووقوعه ، بل شيوعه ، لما ذكرنا. فلاحظ.

تنبيهان

الأول : حيث سبق عدم الإشكال في اعتبار أصل القدرة في التكليف ، وأن البناء على إمكان المعلق راجع للاكتفاء بالقدرة الاستقبالية ، فلو قيل به في مورد كانت فعلية التكليف مع التعذر الفعلي منوطة ثبوتا بتحقق القدرة عليه في المستقبل ، وإثباتا بإحرازها بالعلم أو بطريق معتبر ، ومنه أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء ، فيبنى لأجلها على فعلية التكليف ظاهرا ، فيجب ترتيب آثارها عقلا.

الثاني : لا يختص ما ذكر بالواجب وان اقتصروا عليه في عنوان محل كلامهم ـ على ما هو ديدنهم في كثير من مباحث المقام ـ بل يجري في المستحب أيضا ، لأنه يشارك الواجب في اعتبار القدرة عليه من حيثية لغوية البعث نحو ما يتعذر تحصيله ويمتنع إحداث الداعي العقلي له ، وإن لم يشاركه فيه من حيثية قبح التكليف بما لا يطاق ، لفرض عدم ابتنائه على الإلزام المستتبع للإلزام والمؤاخذة.

كما يجري في المنهي عنه أيضا ، أما بلحاظ تعذر ترك المنهي عنه فلعين ما سبق في الواجب والمستحب ، وأما بلحاظ تعذر فعله فلأن تعذر فعل الشيء يستلزم لغوية النهي عنه ، لامتناع حدوث الداعي العقلي معه ، ومثله الحال في الواجب بالإضافة إلى تعذر الترك ، كما لا يخفى.

وحينئذ يجري الكلام السابق في أن المعتبر هو القدرة الفعلية أو ما يعم القدرة في المستقبل.

٣٤٦

هذا ، وأما اشتراط نفس الحكم فعدم اختصاصه بالوجوب وجريانه في جميع الأحكام التكليفية بل الوضعية ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

المقام الثاني : في إحراز المعلق

وحيث كان المعيار فيه فعلية التكليف مع تعذر الواجب فلا بد فيه من إحراز فعلية التكليف ، ولو بإطلاق دليل الخطاب به.

ولو كان مقتضى الإطلاق عدم تقييد التكليف ولا الواجب لكن علم بتقييد أحدهما فقد ذكر شيخنا الأعظم (قدس سره) أن اللازم البناء على رجوعه للواجب الذي هو مفاد المادة ، دون الوجوب الذي هو مفاد الهيئة ، واستدل على ذلك بوجهين. والظاهر عدم تماميتهما ، وإن لم يسع المقام إطالة الكلام فيهما.

بل يتعين التوقف للعلم الإجمالي بتقييد أحد الإطلاقين المانع من حجية كل منهما.

بل لو كان القيد مذكورا في الكلام وتردد بين الأمرين كان مانعا من انعقاد كلا الإطلاقين ، لأن احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية مانع من انعقاد الإطلاق ، كما يمنع من انعقاد سائر الظهورات الأولية ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد ، ومبحث الظواهر.

نعم ، ذكر في الفصول أن مقتضى القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمادة دون الهيئة المستلزم لكون الواجب معلقا ، قياسا على ظرف المكان ، فكما أنه إذا قيل : صل في المسجد ، أو فوق السطح ، كان ظاهرا في رجوع القيد للواجب مع إطلاق الوجوب ، فيجب تحصيله مقدمة للامتثال ، كذلك إذا قيل : صم غدا ، أو سافر في شهر رجب ، كان ظاهرا في إطلاق الوجوب

٣٤٧

وفعليته قبل تحقق الخصوصية الزمانية ، وكون القيد راجعا للواجب ، وإن لم يجب تحصيله ، لخروجه عن الاختيار وكأنه لاتحاد هيئة ظرفي الزمان والمكان ارتكازا المقتضي لاتحاد مفادهما ومتعلقهما في الكلام.

وبهذا فرّق (قدس سره) بين ما إذا كانت الخصوصية الزمانية أو غيرها مأخوذة بلسان الظرف ، وما إذا كانت مأخوذة شرطا في جملة شرطية ، حيث يتعين رجوعها في الثاني للتكليف الذي هو مفاد الهيئة بمقتضى القواعد العربية ، على ما سبق توضيحه في الواجب المشروط.

لكنه يشكل : بالفرق بين ظرف الزمان وظرف المكان ، لا من جهة اختلاف مفاد هيئتيهما وضعا ، فإنه بعيد جدا بعد ما سبق ، بل لأنه لا معنى لظرفية المكان للحكم بل لا تكون ظرفية المكان من شئون الحكم إلّا بتأويل القضية الظرفية بقضية شرطية يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف ، بأن يرجع قولنا : صل في المسجد ـ مثلا ـ إلى قولنا : صل إن كنت في المسجد ، وهو تكلف مستبعد ، فكان الأولى صرف الظرفية للمكلف به ، بأن يكون الظرف متعلقا به وقيدا له ، فمرجع قولنا : صل في المسجد ، إلى قولنا : صل صلاة واقعة في المسجد.

أما ظرفية الزمان فكما يمكن رجوعها للمكلف به يمكن رجوعها للحكم ، فيتعين البناء على رجوعها إليه لو كان هو مقتضى الظهور الأولى ، كما هو الظاهر.

ولذا كان هو ظاهر التركيب لو كانت الخصوصية الزمانية اختيارية ، كما لو قيل : صل حين دخولك المسجد ، أو وقت سفرك.

ومن ثمّ لا يكون التكليف فعليا قبل تحقق الخصوصية ، ولا يجب

٣٤٨

تحصيلها مقدمة لامتثاله.

وبعبارة اخرى : مقتضى الظهور الأولي للكلام رجوع الظرف مطلقا زمانا كان أو مكانا للحكم ، وحيث لا ملزم بالخروج عن ذلك في ظرف الزمان كان هو مقتضى الظهور الفعلي ، ولذا لا يجب تحصيل الخصوصية الزمانية لو كانت اختيارية.

أما في ظرف المكان فلا بد من الخروج عنه ، لامتناع ظرفية المكان للحكم ، حيث يكون ذلك قرينة عامة على إرجاعها للمكلف به بعد كونه أقرب عرفا من تنزيل مفاد القضية الظرفية على مفاد القضية الشرطية التي يكون الشرط فيها ظرفية الظرف للمكلف.

ثم إن ما ذكره (قدس سره) من اقتضاء القواعد العربية رجوع ظرف الزمان للمكلف به ـ لو تم ـ لا يقتضي كون الواجب معلقا إلّا بضميمة إحراز فعلية الوجوب الذي لا دليل عليه إلّا إطلاق الهيئة ، والتمسك به فرع إمكان الواجب المعلق ، كما جرى عليه هو (قدس سره).

أما لو كان ممتنعا لدعوى اللغوية أو غيرها من المحاذير العقلية الارتكازية ، فيكون ذلك قرينة عامة صارفة عن مقتضى الإطلاق ، ولا يصلح الإطلاق للدلالة على إمكانه ، لتوقف الإطلاق على عدم القرينة العامة الصارفة عن مقتضاه.

بخلاف ما سبق من اقتضاء القواعد العربية رجوع الشرط في الشرطية للهيئة ، فإنه ظهور نوعي ارتكازي مستند للوضع لا يمكن عادة قيامه على ما هو ممتنع في نفسه.

ولذا سبق منا الاستدلال به على إمكان تقييد الهيئة ، وأنه يكشف عن

٣٤٩

خلل في وجه المنع إجمالا لو لم يتضح تفصيلا ، فهو كالشبهة في مقابل البديهة. فلاحظ.

٣٥٠

المبحث الثالث

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى

نفسي وغيري

قسم الأصوليون الواجب إلى القسمين المذكورين ، بسبب تعرضهم لذلك في مباحث الأوامر ، واهتمامهم بخصوص الوجوب منها.

مع أنه لا إشكال في جريانه في المستحب.

بل الظاهر جريانه في الجملة في المحرم والمكروه ، على ما يتضح في مبحث مقدمة الواجب إن شاء الله تعالى.

وهم وإن اختلفوا في تعريف كل من القسمين ، إلّا أن خلافهم ليس للخلاف في مصاديق كل منهما ، بل في التعريف المطابق لها.

ولعل الأولى أن يقال : الأمر بالشيء إن كان لمقدميته لمأمور به فهو غيري ، وإلا فهو نفسي ، سواء كان مسببا عن حسن ذلك الشيء ذاتا أم عرضا ، بلحاظ المصالح المترتبة عليه التي لا تكون بنفسها موردا للتكليف.

وكذا الحال في النهي ، فهو إن تعلق بالشيء لمقدميته لمنهي عنه كان غيريا ، وإلّا كان نفسيا.

والأمر سهل بعد ما ذكرنا من أن النزاع في التعريف لا في المعرف.

هذا ، والأمر والنهي الغيريان إنما يكونان منشأ لانتزاع التكليف الغيري المولوي بناء على ثبوت الملازمة بين التكليف بالشيء والتكليف بمقدمته الذي

٣٥١

يأتي الكلام فيه في مباحث الملازمات العقلية إن شاء الله تعالى.

وحيث يأتي هناك عدم ثبوت الملازمات المذكورة وأن المقدمة إنما تجب أو تحرم عقلا لا شرعا فلا تكليف غيري.

وأمر المولى بمقدمة المأمور به ونهيه عن مقدمة المنهي عنه لو صدر لا يكون بداعي التكليف ، بل بداع آخر ، كالإرشاد للإطاعة ، أو لبيان المقدمية.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام في أن ظاهر الأمر والنهي لو جردا عن القرينة هل يقتضي الحمل على كونهما نفسيين ، أو لا؟ بل لا دافع لاحتمال كونهما مقدميين ، سواء قلنا بثبوت التكليف الغيري للبناء على الملازمة ، أم لم نقل ، على ما سبق.

وقد ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أن مقتضى إطلاق الصيغة كون التكليف نفسيا ، لما هو المعلوم من توقف التكليف الغيري بالمقدمة على فعلية التكليف النفسي بذيها ، فلا يصح البعث إليها إلّا مقيدا بذلك ، وهو خلاف إطلاق الصيغة.

ولا يخفى أن ذلك لا يتجه لو احتمل كون الأمر أو النهي لبيان المقدمية ، لوضوح أن المقدّمية لو كانت لا تختص بحال دون حال ، فيصح إطلاق البعث الوارد لبيانها ، ولا تنافي إطلاق الصيغة.

إلّا أن يدفع الاحتمال المذكور بأن سوق الأمر والنهي لبيان المقدمية من سنخ الكنايات التي لا يحمل الكلام عليها إلّا بالقرينة ، لما تقدم من وضع صيغة الأمر والنهي للنسبة البعثية أو الزجرية ، أو يدعى خروج الاحتمال المذكور عن محل الكلام ، وأن الكلام في فرض صدور الأمر والنهي بداعي

٣٥٢

البعث والزجر ، مع التردد في حالهما وأنهما نفسيان أو غيريان.

فالعمدة في المقام : أن الوجه المذكور إنما يتم لو كانت الغيرية مستلزمة لتقييد البعث أو الزجر ، لكون التكليف النفسي الذي تحتمل المقدمية بالإضافة إليه مشروطا بشرط غير حاصل ولا مذكور في الخطاب ، كما لو أطلق طلب الوضوء ـ الذي يحتمل كونه غيريا بالإضافة إلى طلب الصلاة ـ بنحو يتناول ما قبل الوقت ، دون ما لو كان مشروطا بشرط حاصل أو مذكور في الخطاب ، كما لو أمر بعد الوقت بالكون على طهارة ، أو أمر به مشروطا بالوقت ، حيث لا ينفع الوجه المذكور ، لعدم منافاة الغيرية لإطلاق البعث حينئذ ، كما هو ظاهر.

فالأولى أن يقال : إنه وإن لم يكن في ذلك مجال للإطلاق المقابل للتقييد ، إلّا أنه يمكن إثبات كون الأمر نفسيا بالإطلاق السياقي للأمر ، فإن المستفاد عرفا من إطلاق الأمر بالشيء كونه بنفسه موردا للغرض ، بحيث يدعو أمره له استقلالا ، ويحصل الغرض الأقصى من الأمر بالإتيان به ، ويسقط التكليف به تبعا لذلك بلا حاجة إلى ضم شيء إليه ، كما هو الحال في المأمور به النفسي ، بخلاف المأمور به الغيري ، لوضوح أنه لا يدعو إلى متعلقه إلّا في طول داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه ، لأن الغرض منه في طول الغرض من المأمور به النفسي ، فما لم يحصل المأمور به النفسي لا يسقط الأمر الغيري ، إما لأن الأمر الغيري متعلق بخصوص المقدمة الموصلة ـ كما هو الظاهر ـ أو لتوقف حصول الغرض الأقصى منه على ذلك ، بنحو يكون سقوط الأمر بامتثاله مراعى بحصوله ، وهو خلاف المنسبق من الأمر ارتكازا.

نعم ، هذا الوجه كسابقه إنما يحرز كون الأمر نفسيا ، ولا ينفي احتمال

٣٥٣

كون متعلقه مأمورا به غيريا أيضا ، لكونه قيدا في الواجب النفسي ، لإمكان اجتماع الجهتين في أمر واحد ، وغيريا بالإضافة إلى العصر ، لأنها من قيودها ، لوجوب الترتيب بينهما ، ولا دافع للاحتمال المذكور إلّا إطلاق دليل ذلك الواجب لو كان.

هذا كله في غير المسببات التوليدية التي لا تنفك عن أسبابها ، ولا تنفك أسبابها عنها ، كالوضوء والطهارة ، فلو ورد الأمر بالسبب ، وتردد بين مطلوبيته لنفسه ومطلوبيته غيريا لأجل مطلوبية مسببه ، فلا أثر عملي للشك المذكور ، لا في السبب ، لغرض ترتب غرضه عليه مطلقا بسبب عدم انفكاكه عن مسببه ، ولا في المسبب ، لغرض عدم انفكاكه عن سببه ، ليحتاج إلى تقييده به ، فلا ينهض إطلاق كل منهما بإثبات أحد الأمرين أو نفيه.

نعم ، قد يشعر التعبير بالسبب بمطلوبيته بعنوانه الأولي ، لا الثانوي المنتزع من ترتب مسببه عليه. لكنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة.

ولعله خارج عن محل الكلام. فلاحظ.

هذا كله مع ثبوت إطلاق لدليل الخطاب بالشيء وبما يحتمل مقدميته له ، أما مع عدمه فالصور مختلفة.

مثلا : إذا علم بوجوب الوضوء إما نفسيا أو غيريا لمقدميته لقراءة القرآن بسبب تقييد الواجب منها به فتارة : يعلم بعدم وجوب القراءة فعلا. واخرى : يعلم بوجوبها. وثالثة : يشك فيه.

لا إشكال في جريان البراءة في الصورة الاولى من وجوب الوضوء ، للعلم بعدم فعلية وجوبه غيريا بسبب عدم وجوب القراءة ، فالشك في وجوبه نفسيا متمحض في الشك في التكليف الاستقلالي الذي هو مجرى البراءة بلا

٣٥٤

إشكال.

نعم ، لو علم بوجوب القراءة بعد ذلك جرى حكم الصورة الثانية على ما يأتي توضيحه.

وأما الصورة الثانية فمرجعها إلى العلم بوجوب القراءة في الجملة إما مطلقة أو مقيدة بالوضوء ، مع العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو تقييد القراءة الواجبة به ، وحيث كان في كل منهما زيادة كلفة مقتضى البراءة عدمها كان العلم الإجمالي المذكور منجزا لكلا طرفيه ، فيجب الفراغ عنهما بتقديم الوضوء على القراءة والإتيان بها حاله ، ولا يكتفي بالوضوء الذي لا تتحقق به القراءة عن طهارة ، كما لو وقع بعدها أو تخلل بينهما الحدث.

ودعوى : جواز الاقتصار على الوضوء من دون محافظة على قيديته للقراءة ، لأن العلم الإجمالي المذكور يستلزم العلم بوجوب الوضوء تفصيلا وإن تردد بين كونه نفسيا وغيريا ، فينحل به العلم الإجمالي ، ولا يكون منجزا لاحتمال قيديته للقراءة.

مدفوعة : بأن وجوب الوضوء غيريا كما يتفرع ثبوتا على وجوب القراءة المقيدة به نفسيا يتفرع عليه في مقام التنجيز ، لما أشرنا إليه آنفا من تفرع داعوية الأمر الغيري لمتعلقه على داعوية الأمر النفسي إلى متعلقه ، وأنها في طولها ، فلا يتنجز وجوب الوضوء على كل حال إلّا بتنجز احتمال وجوبه غيريا الموقوف على تنجز احتمال وجوب القراءة المقيدة به بسبب العلم الإجمالي ، فلا يكون مانعا من تنجزه.

وبعبارة اخرى : العلم بوجوب الوضوء على كل حال لا يكون منجزا

٣٥٥

له إلّا بمنجزية كل من احتمالي وجوبه النفسي والغيري ، وحيث كان تنجز احتمال الوجوب النفسي للقراءة المقيدة به لا يكون مانعا منه.

ونظير المقام ما لو علم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو الصلاة المقيدة به ، حيث لا مجال لدعوى انحلاله بالعلم التفصيلي بوجوب الوضوء على كل حال إما نفسيا أو غيريا ، فيجتزأ به ولا يؤتى بالصلاة لعين ما ذكر.

هذا ، وحيث كان التحقيق منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات يظهر أنه لا يعتبر العلم بفعلية وجوب القراءة في الحال ، بل يكفي العلم بفعلية وجوبها بعد ذلك ، المستلزم للعلم الإجمالي بأحد الأمرين من وجوب الوضوء نفسيا في الحال ، ووجوب القراءة المقيد به بعد ذلك ، فيتنجز كل منهما ، كما أشرنا إليه في الصورة الاولى.

وأما الصورة الثالثة فحيث لا يعلم فيها بوجوب نفسي في الحال ، لا للوضوء ، لاحتمال كون الأمر به غيريا ، ولا للقراءة بالفرض المستلزم لعدم العلم بفعلية وجوب الوضوء الغيري فلا مانع فيها من الرجوع للبراءة من كل من التكليفين.

ومجرد العلم بأنه لو وجبت القراءة في الحال لكان الوضوء واجبا فعلا نفسيا أو غيريا لا يكفي في تنجز شيء من الأمرين بعد فرض عدم العلم بوجوب القراءة.

نعم ، لو علم بوجوبها بعد ذلك دخلت في الصورة الثانية ، كما سبق.

وربما كانت في المقام صور اخرى يظهر الحال فيها مما تقدم ، ولا مجال لاستقصائها.

٣٥٦

تذنيب :

أشرنا آنفا إلى أن داعوية الأمر الغيري في طول داعوية الأمر النفسي ، فلا بد في مقربية موافقته وتحقق الإطاعة بها من وقوعها بداعي امتثال الأمر النفسي ، فتكون مقربيته بلحاظ كونه شروعا في امتثال الأمر النفسي واستحقاق الثواب به بلحاظ ذلك ، لا لكونه موجبا للاستحقاق بنفسه ، لعدم قيام غرض به في قبال غرض الأمر النفسي. فزيادة الثواب به ليس لكونها عوضا عنه في قبال عوضية أصل الثواب لامتثال الأمر النفسي ، بل لامتثال الأمر النفسي بلحاظ طول مدة الاشتغال به ، لما هو المرتكز من أن أفضل الأعمال أشقها.

نعم ، ليس معنى استحقاق الزيادة به لزومها عقلا على المولى ، بحيث يكون حبسها ظلما منه ، نظير استحقاق الاجرة على المؤجر. بل كون العبد أهلا لها لقيامه بما هو موضوع للتعويض ، ولذا يصدق عليها الثواب والأجر والجزاء على العمل.

وليست هي ابتداء تفضل من المولى كتفضله بنعمة الخلق والرزق ونحوهما مما لا يصدق عليه الجزاء بل الظاهر أن ذلك هو مرجع الاستحقاق على امتثال التكليف النفسي أيضا ، وليس هو لازما على المولى ، لأن لزومه لا يناسب وجوب الإطاعة على العبد ، ولا هو ابتداء تفضل.

وقد يشير إلى الفرق بين الاستحقاق بالنحو الذي ذكرنا وابتداء التفضل قوله في الدعاء : «اللهم إن لم أكن أهلا أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء».

٣٥٧

ثم إنه تعرض غير واحد في المقام لتوجيه اعتبار التقرب في الطهارات الثلاث ، واستحقاق الثواب عليها بما لا مجال لإطالة الكلام فيه ، وربما يفي البحث في الفقه ببعض ذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

٣٥٨

المبحث الرابع

في تقسيم المأمور به إلى

تعييني وتخييري

وموضوع هذا التقسيم في كلماتهم وإن كان خصوص الوجوب ، إلّا أنه ناشئ عن اهتمامهم به ، وإلا فوضوح عمومه للاستحباب مانع من احتمال بنائهم على تخصيصه بالوجوب.

نعم ، الظاهر عدم جريانه في النهي وإن جرى نظيره فيه على ما نتعرض له في ذيل هذا المبحث إن شاء الله تعالى.

وكيف كان ، فالمراد بالمأمور به التعييني ما يتعلق به الأمر على نحو يقتضي تحقيقه بعينه من دون أن يقوم مقامه فيه شيء آخر ، كالصلاة والصوم والحج ، وبالتخييري ما يتعلق به الأمر بنحو يقتضي الاجتزاء عنه بعدل له يقوم مقامه في امتثاله ، كما في خصال الكفارة.

هذا ، وحيث كان متعلق التكليف مطلقا فعل المكلف الذي هو كلي ذو أفراد كثيرة يتحقق امتثاله بأي فرد منها من دون مرجح لبعض الاصناف أو الأفراد على بعض كان التكليف مطلقا مبنيا على التخيير ، لكن التخيير المذكور عقلي ، ومحل الكلام التخيير الشرعي.

ومحصل الفرق بينهما : أن الغرض الداعي للتكليف إن كان قائما بما به الاشتراك بين الأطراف ، بحيث يكون وافيا به ، من دون دخل لما به

٣٥٩

الامتياز بينها فيه ، بل هي مقارنة لموضوع الغرض لا غير ، كان التكليف متعلقا بما به الاشتراك بعينه ، وهو الجامع ، وكان التخيير بين الأطراف عقليا ، بملاك تحقق الإطاعة مع كل منها ، وقبح الترجيح من غير مرجح ، من دون أن يستند للمولى ، لانه ليس من شئون تكليفه.

وإن كان قائما بما به الامتياز بينها على البدل ـ ولو بضميمة ما به الاشتراك ـ بحيث يكون لكل منها دخل فيه حين وجوده لزم تعلق التكليف بها على نحو وفائها بالغرض ، ويكون التخيير بينها شرعيا ، لتبعيته لنحو تكليفه بها. وهو محل الكلام في المقام.

ولو فرض تعذر الخطاب تعيينا بالجامع في الأول لعدم إدراك العرف له تعين الخطاب بأفراده تخييرا ، لكن لا يكون التخيير شرعيا وإن أصر عليه بعض الأعاظم (قدس سره) ، بل هو عقلي ، لتبعية الحكم للملاك والغرض ثبوتا ، بل يكون الخطاب بالأفراد عرضيا للوصول بها للجامع الذي هو المكلف به ثبوتا ، ويكون التخيير عقليا.

ومن هنا ذكر المحقق الخراساني (قدس سره) أن التكليف التخييري لو كان ناشئا عن غرض واحد يقوم به كل واحد من الأطراف لزم كون التخيير عقليا ، لأن امتناع صدور الواحد عن المتعدد ملزم بكون الغرض الواحد مستندا للجامع بين الأطراف من دون دخل لخصوصياتها المتباينة فيه ، فيكون هو المكلف به تعيينا تبعا للغرض المذكور ، وليس ذكر الأطراف بخصوصياتها إلّا لتعيينه وحصره ، لا لقيام التكليف بها ، ليكون التخيير شرعيا.

لكن ما ذكره مبني على ما سبق منه في مبحث الصحيح والأعم من ملازمة وحدة الأثر لوحدة المؤثر ، وقد سبق هناك الإشكال في وجهه ، وأنه قد

٣٦٠