المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

كذلك يمكن أن تكون المفسدة واحدة تحصل بكل فرد ولا تستدفع إلّا بترك تمام الأفراد ، فيكون النهي عن الطبيعة واحدا واردا على افرادها بنحو المجموعية.

وثالثا : أن ما ذكره في وجه عدم تكثر الأفراد بلحاظ الزمان من عدم الدليل على أخذ الزمان في المتعلق يدفعه أن تكثر الأفراد الخارجية والفرضية التي يشملها الحكم تابع لاختلاف الخصوصيات واقعا وإن لم تلحظ تلك الخصوصيات ولم تؤخذ تفصيلا أو إجمالا في المتعلق ، وإلا فالأفراد العرضية متقومة بخصوصيات لا دليل على أخذها في المتعلق أيضا.

نعم ، مجرد شمول الحكم للأفراد الطولية وتكثرها تبعا لاختلاف الخصوصيات الزمانية لا يكفي في بقاء الحكم بعد مخالفته ما لم يكن بنحو الانحلال ، بحيث يكون لكل فرد نهيه المختص به والذي لا يكون فعليا إلّا بالقدرة عليه ، ولا ينهض كلامه بإثبات ذلك.

كما أن ما ذكره من أنه حيث لا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله انا ما كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة أيضا ، لا ينفع في إثبات عدم سقوط النهي بعد مخالفته ، وذلك لأن مقدمات الحكم وإن اقتضت مع عدم ذكر القيد بقاء المحكمة في تمام الأزمنة اللاحقة ، إلّا أن بقاء النهي كما يكون لتجدد الغرض فيه في كل ان ، بحيث يكون وجوده في كل ان لغرض مستقل قائم به ، فلا يلزم من مخالفته في بعض الآنات سقوطه في بقيتها بعد استقلالها بغرضها ، كذلك يكون مع وحدة الغرض منه بحيث لا يتحصل شيء من غرضه إلّا بموافقته في جميع الآنات ، فيلزم سقوطه بالمخالفة في بعضها ، وكلامه (قدس سره) لا ينهض بإثبات أحد الوجهين.

٣٢١

نعم ، الظاهر أن المفهوم عرفا من الإطلاق هو الثاني ، ولذا يعدّ التارك في الآن الأول مطيعا عرفا ، لا أن إطاعته مراعاة باستمراره على الترك ، كما تكون إطاعة من يشرع في امتثال الواجب الارتباطي مراعاة بإكماله.

وكأنه لابتناء الارتباطية على نحو من العناية الموجب لاحتياجها لمزيد بيان ، وبدونه ينهض الإطلاق بدفع احتمالها.

ونظير ذلك يجري في المجموعية بين الأفراد الراجع للارتباطية بينها في مقام النهي ، فإنها تبتني على نحو من العناية ـ أيضا ـ التي يدفعها الإطلاق ، ويترتب على ذلك زيادة المعصية بزيادة الأفراد المأتي بها من الطبيعة المنهي عنها ولو كانت في دفعة واحدة ، فمن ينظر لامرأتين في ان واحد أكثر معصية ممن ينظر لامرأة واحدة.

والرجوع للمرتكزات العرفية في فهم إطلاق النهي كاف في استيضاح الجهتين وإن فرض عدم وضوح وجههما.

٣٢٢

الفصل السادس

في تقسيمات المأمور به والمنهي عنه

قد ذكروا للواجب تقسيمات كثيرة ، كتقسيمه إلى نفسي وغيري ، وإلى مطلق ومشروط ، وإلى تعييني وتخييري ، وغير ذلك.

والبحث في كل تقسيم ..

تارة : في حقيقة الأقسام المتحصلة فيه.

واخرى : فيما يقتضيه إطلاق الخطاب أو الأصل مع عدم القرينة على تعيين أحد الأقسام.

والظاهر أن تلك التقسيمات لا تختص بالواجب ، بل تجري في المستحب ، وإنما تعرضوا لها في الواجب لأهميته مع المفروغية عن كون المستحب على غراره.

بل أكثرها يجري في المنهي عنه أيضا محرما كان أو مكروها.

ولعلهم إنما لم يذكروها فيه لتقديم الكلام عندهم في الأوامر فأغنى الكلام فيها عن الكلام في النواهي ، كما أغنى في كثير من المباحث السابقة واللاحقة مما سبق ويأتي عمومه للنواهي.

ومن هنا عمّمنا عنوان البحث.

بل قد ينفع الكلام في بعض تلك الأقسام في غير التكليفيات ، كما قد

٣٢٣

يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فيقع الكلام في مباحث :

٣٢٤

المبحث الأول

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى

مطلق ومشروط

لا إشكال في إمكان إطلاق المأمور به والمنهي عنه ، بنحو يشمل تمام أفراد الماهية ، كما يمكن تقييدهما بقيد يرجع إلى تضييق الماهية وقصر مورد الأمر أو النهي منها على بعض الأفراد.

كما لا إشكال في وقوع كلا الأمرين ، تبعا لظاهر دليليهما أو صريحهما ، وليس هو محل الكلام في المقام.

وإنما الكلام في إطلاق التكليف بالأمر والنهي بنحو لا تتوقف فعليته وصلوحه للبعث والزجر على أمر مفقود ، وتقييده بنحو لا يصلح للبعث والزجر إلّا بعد وجود القيد من دون أن يؤخذ القيد في متعلقه.

فإن أمكن كل من الأمرين ثبوتا تعين الرجوع في تعيين كل منهما إثباتا لظاهر دليلهما ، وإن امتنع الاشتراط تعين رفع اليد عن ظهور الدليل فيه وتنزيله على تقييد نفس المأمور به مع فعلية الأمر بدون القيد.

فمحل الكلام في الحقيقة مختص بما إذا كان ظاهر الدليل اشتراط نفس الأمر أو النهي.

أما لو كان ظاهره تقييد نفس المأمور به أو المنهي عنه فهو خارج عن

٣٢٥

محل الكلام ، حيث لا إشكال في العمل بالظهور المذكور بعد إمكان مؤداه.

هذا ، ومن الظاهر أنه لا تكليف مطلق من جميع الجهات ، إذ لا أقل اشتراطه بالشروط العامة.

ومن هنا اختلفت كلماتهم في تعريف الواجب المطلق الذي هو محل كلامهم ، بنحو يظهر من بعضهم أن الكلام في خصوص بعض الشروط وخروج بعضها عن محل الكلام ، كالشروط العامة.

لكن حيث كان المهم من هذا التقسيم معرفة حال الواجب المشروط وكيفية النسبة بينه وبين الشرط في مقام الجعل في الكبريات الشرعية المستتبع لنحو النسبة بينهما في الخارج من دون فرق بين الشروط كان الأنسب ما ذكره المحقق الخراساني واحتمله شيخنا الأعظم (قدس سرهما) من أن وصفي الإطلاق والاشتراط إضافيان.

فالواجب مع كل شيء تارة : يكون له دخل فيه ، فيكون مشروطا بالإضافة إليه ، واخرى : لا يكون له دخل فيه ، فيكون مطلقا بالإضافة إليه وإن كان مشروطا بالإضافة إلى غيره.

ولا يهم تحديد الواجب المطلق بعد كون الغرض من التقسيم معرفة الواجب المشروط ، بل مطلق الخطاب المشرط أمرا كان أو نهيا إلزاميا كان أو غيره ، كما سبق ، فاللازم صرف الكلام إليه.

وقد ذكرنا أن الكلام إنما هو في فرض ظهور الدليل في تقييد التكليف ، كما في موارد القضية الشرطية ، لأن مفاد أداة الشرط نحو نسبة ـ بين نسبة جملة الشرط التي مطابقها في الخارج وجود الشرط ، ونسبة جملة الجزاء التي مطابقها في الخارج الحكم الفعلي الصالح للبعث والزجر ـ تقتضي إناطة الثانية

٣٢٦

بالاولى ، ولازم ذلك عدم فعلية الحكم إلّا بفعلية الشرط.

وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط عنوانا للموضوع في قضية حقيقية مرجعها إلى جعل الحكم على ما يعم الأفراد المقدرة للموضوع ، كما في : يجب على المستطيع الحج ، وعلى الزوج الإنفاق ، لوضوح أن عنوان الموضوع مقوم للنسبة التي تتضمن الحكم ، لا قيد زائد عليها كالشرط.

ورجوعها للقضية الشرطية لبّا لا ينافي كونها أظهر منها في كون الوصف دخيلا في الحكم ، لا في متعلقه.

ومن هنا كان المشهور رجوع الشرط للتكليف المستفاد من هيئة الأمر والنهي ، أخذا منهم بظاهر الأدلة ، بل ظاهر من سبق على شيخنا الأعظم (قدس سره) المفروغية عن ذلك ، حيث لم يتصدوا لإثبات ذلك ، بل لآثاره ، وقد جرى على ذلك جملة ممن تأخر عنه وتصدوا لإثباته ، وإن اختلفوا في مفاد الشرطية وحقيقة الحكم المشروط وواقعه في مقام الجعل والخارج ، وقد تعرضنا لذلك في مبحث استصحاب الحكم عند الشك في نسخه ، ومبحث الاستصحاب التعليقي ، لمسيس الحاجة إليه هناك ، ولا مجال لإطالة الكلام فيه هنا بعد اتفاقهم على ما هو المهم هنا من عدم فعلية الحكم بنحو يصلح للداعوية والبعث والزجر مع عدم تحقق الشرط ، بناء على رجوعه للهيئة.

وخالف في ذلك شيخنا الأعظم (قدس سره) حيث حكي عنه دعوى رجوع الشرط للمكلف به الذي هو مفاد المادة في الخطاب ، فيقتضي تقييده وقصره على الماهية الواجدة للشرط ، دون التكليف ، بل هو فعلي صالح للداعوية والبعث حتى قبل وجود الشرط بعد الاعتراف بأن مقتضى القواعد العربية ما عليه المشهور ، كما سبق توضيحه.

٣٢٧

والمستفاد مما حكي عنه في التقريرات أن الملزم بالبناء على رجوع الشرط للمادة وجهان :

أحدهما : أنه لا إطلاق في الفرد الموجود من الأمر الذي هو مفاد الهيئة ، ليقبل التقييد بالشرط ، لما اختاره (قدس سره) من أن المعاني الحرفية جزئية ، بخلاف الواجب الذي هو مفاد المادة ، فإنه مفهوم كلي قابل للإطلاق والتقييد ، فيتعين رجوع الشرط إليه وتقييده له.

لكن سبق في التنبيه الأول لمبحث المعنى الحرفي الكلام في امتناع تقييده ، وذكرنا جملة من الوجوه المذكورة في كلماتهم لإمكان تقييده ودفع ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) ، وأن التحقيق اختلاف سنخ القيود ، والذي يمتنع تقييد المعنى الحرفي به بعضها ، دون مثل الشرط.

كما ذكرنا هناك أنه لا مجال لما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) هنا من أن كون المعنى الحرفي آليا مانع من تقييده بالشرط أو غيره. فراجع.

على أن مانعية جزئية المعنى الحرفي وآليته من تقييده لو تمت إنما تمنع من رجوع الشرط للتكليف إذا كان التكليف مستفادا من الهيئة أو الحرف ، دون ما إذا كان مستفادا من معنى اسمي ، كالوجوب والفرض والتحريم ، فاذا قيل : يجب عليك الحج إن استطعت ، فكما لا محذور في تقييد الحج بالاستطاعة ، لكونه معنى اسميا ، كذلك لا محذور من تقييد الوجوب بها ، لأنه معنى اسمي أيضا. فلاحظ.

وأظهر من ذلك ما لو كان الشرط مأخوذا عنوانا للموضوع في قضية حملية حقيقية ، كما لو قيل : ليحج المستطيع ، لوضوح أن عنوان الموضوع طرف النسبة التي هي معنى حرفي لا قيد زائد عليها ، ليتجه دعوى امتناع

٣٢٨

تقييدها به مع جزئيتها أو آليتها.

ولعله لذا احتمل (قدس سره) عدم فعلية التكليف قبل تحقق العنوان ، لعدم تحقق موضوعه.

فراجع ما ذكره في توجيه وجوب المقدمات قبل الوقت لو لزم من الإخلال بها فوت الواجب في وقته.

ثانيهما : أن اختلاف ما يدل على الطلب ثبوتا وظهور بعضه في رجوع الشرط للتكليف ـ كالقضية الشرطية ـ وظهور بعضه في رجوعه للواجب ـ كهيئة التوصيف ـ لا أثر له في الفرق بعد كون الطلب المنكشف به على وجه واحد ثبوتا لا اختلاف فيه وجدانا ، سواء بيّن بدليل لفظي أو لبي أم بقي كامنا في النفس ولم يبيّن أصلا لمانع من بيانه.

فإن العاقل إذا توجه إلى أمر فإما ألا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلا وهو خارج عن محل الكلام ، وإما أن يتعلق غرضه به فيطلبه فعلا إما بلحاظ مصلحته ـ كما هو الحال بناء على تبعية الأحكام للملاكات الواقعية ـ أو اعتباطا وليس هناك صورة اخرى يكون الطلب فيها بنفسه مشروطا ليمكن العمل بظاهر ما دل على ذلك.

نعم ، إذا تعلق غرضه به فطلبه ، فإما أن يكون ذلك الأمر موردا لطلبه على جميع وجوهه وأحواله ، فيكون مطلقا ، أو على تقدير خاص اختياري ، للمكلف ـ كالسفر في القصر ، والطهارة في الصلاة ـ أو غير اختياري ، كالزمان.

فإن كان اختياريا فتارة : يتعلق الغرض بالتكليف به مطلقا بنحو تكون الخصوصية موردا للتكليف ، فيجب تحصيلها مقدمة له ، فيكون واجبا مطلقا ،

٣٢٩

كالأول ، وإن افترق عنه بأخذ الخصوصية فيه دونه.

واخرى : يتعلق الغرض بالتكليف به بنحو لا يجب تحصيل الخصوصية ، بل يكتفي بحصولها من باب الاتفاق ، فيجب تحصيله على تقدير حصول الخصوصية ، كما في القصر مع السفر ، وهو الواجب المشروط.

وكذا الحال لو كانت الخصوصية غير اختيارية ، لاستحالة التكليف بها حينئذ.

فالفرق بين الواجب المشروط والمطلق الذي تؤخذ الخصوصية فيه ليس بكون الخصوصية قيدا للتكليف في الأول وللمكلف به في الثاني ، بل بكونها موردا للتكليف في الثاني دون الأول ، مع كونها قيدا في المكلف به في كليهما ، سواء كان دليل الطلب ظاهرا في رجوع الخصوصية للتكليف أم للمكلف به ، إذ ليس الموجود وجدانا إلّا ما ذكرنا.

ثم إن هذا الوجه لو تم لم يفرق فيه بين استفادة التكليف من معنى حرفي ، كمفاد الهيئة والحرف ، واستفادته من معنى اسمي ، كالوجوب والتحريم.

كما لا يفرق فيه بين أخذ الخصوصية شرطا للتكليف في قضية شرطية وأخذها عنوانا لموضوعه في قضية حقيقية ، بخلاف الوجه السابق.

ومن هنا لا يتجه منه (قدس سره) ما سبق من احتمال عدم فعلية التكليف لو كانت الخصوصية عنوانا للموضوع إلّا بعد حصولها ، ويتجه ما ذكره مقرر درسه من إنكار الفرق وجدانا بينه وبين مفاد الشرطية.

هذا ، ويشكل ما ذكره ..

أولا : بأن فرض أخذ الخصوصية المقدورة في المكلف به مع كون

٣٣٠

التكليف به بنحو لا يدعو إليها ، بل يكتفي بحصولها من باب الاتفاق غير ظاهر ، وإن أقره عليه غيره ، بل مع فرض تعلق الغرض بالمقيد وإمكان تحصيله بتحصيل قيده يتعين كون القيد مطلوبا بتبعه ، وعدم تعلق الغرض بتحصيل الخصوصية ملازم لعدم تعلقه بتحصيل المقيد بها الذي لا يحصل بدونها ، ولذا كانت داعوية التكليف بالشيء لتحصيل مقدماته عقلية ، لا شرعية.

نعم ، قد يوجه عدم التكليف بالقيد ، بأن ما هو المعتبر في المكلف به ليس هو مطلق وجود الخصوصية ، ليتعين البعث إليها بتبعه ، بل وجودها من باب الاتفاق الذي لا يتحقق مع البعث إليها ، فعدم داعوية التكليف بذي الخصوصية إليها ليس لقصور في داعويته ، بل لقصور في القيد ، حيث لا يترتب الغرض عليه لو وجد بداعي التوصل للمكلف به.

لكنه يندفع : بأن لازم ذلك عدم ترتب الغرض على القيد لو أتي به بداعي التوصل للمكلف به ، فلا يكون من أفراد القيد ، ولا يتحصل به المكلف به المقيد ، ولا يظن منهم الالتزام بذلك.

مضافا إلى ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن لازمه كون الوجود من باب الاتفاق كسائر القيود واجدا لجميع مبادي الإرادة وإن لم يصح البعث إليه ، مع أنه قد يكون مبغوضا ، كما لو قيل : إن ظاهرت أو أفطرت أو قتلت مؤمنا فكفّر.

ومن هنا كان الظاهر كون الشروط التي لا يجب تحصيلها مع القدرة عليها شروطا للتكليف لا للمكلف به ، فلا يصلح التكليف للداعوية إليها ، لعدم فعليته قبلها ، ولأنه إنما يدعو إلى متعلقه لا إلى موضوعه.

ولذا كان عدم وجوب تحصيل الشرط تابعا ثبوتا لظهور الدليل

٣٣١

في كونه قيدا لنفس التكليف ، لأخذه عنوانا لموضوعه في قضية حقيقية أو شرطا له في ضمن قضية شرطية أو نحوهما ، مع وضوح أنه لو بني على تنزيل ما ظاهره رجوع الشرط للتكليف على رجوعه للمكلف به لم يكن وجه لاستفادة عدم وجوب تحصيل الشرط منه ، ولزم توقف البناء عليه على دليل خاص ، وليس بناؤهم على ذلك.

وثانيا : أن ما ذكره (قدس سره) يبتني على الخلط بين شروط التكليف وشروط المكلف به ثبوتا ، مع وضوح الفرق بينهما بالتأمل في المرتكزات وفي الأمثلة العرفية ، كما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره).

فإن الخصوصية تارة : تكون دخيلة في تعلق الغرض بالماهية وفي الحاجة إليها بلحاظ أثرها وفائدتها ، فبدونها لا يحتاج إليها ولا يرغب في أثرها ، كالمرض بالإضافة إلى شرب الدواء ، والجوع والعطش بالإضافة إلى تناول الطعام والماء.

واخرى : تكون دخيلة في ترتب أثرها وفائدتها في فرض تعلق الغرض بها والحاجة إليها وإلى أثرها ، كالغليان للدواء والطهى للطعام والتبريد للماء.

فالاولى : تكون من قيود التكليف وشروطه ، لتبعية التكليف بالشيء لتعلق الغرض به ، والمفروض عدم تعلق الغرض بدونها ولذا لا يجب تحصيلها ، لعدم فعلية التكليف قبل حصولها ، ولأن التكليف لا يدعو إلى موضوعه ، بل الى متعلقه ، بل قد يكون مبغوضا للمولى ، كالمحرمات التي تكون موضوعا لبعض التكاليف ، كوجوب الكفارة ونحوها.

والثانية : تكون من قيود الواجب ، لتبعية المكلف به سعة وضيقا لمورد الغرض والفائدة والأثر المرغوب فيه ، فيجب تحصيلها تبعا للواجب المقيد بها

٣٣٢

في فرض فعلية التكليف بالواجب ، لتمامية موضوعه.

إلّا أن تكون خارجة عن الاختيار كالخصوصية الزمانية ، حيث يأتي إن شاء الله تعالى في الواجب المعلق الكلام في فعلية التكليف بالمقيد قبل حصوله وعدمها.

وحيث اتضح الفرق بين شروط التكليف وشروط المكلف به يتضح حال ما ذكره شيخنا الأعظم من أن العاقل إذا توجه إلى شيء فإما أن لا يتعلق به غرضه ولا يريده أصلا ، أو يتعلق به غرضه فيطلبه فعلا.

إذ ظهر بذلك أن هناك صورة ثالثة يكون فيها الملتفت إليه موردا للغرض تعليقا ، لتبعيته لأمر قد لا يكون حاصلا ، فيتعين إناطة التكليف به تبعا للغرض ، ولا يكون التكليف بدونه فعليا.

وعليه ينزل جميع ما هو ظاهر أو صريح في اشتراط نفس التكليف ، كالشرط في القضية الشرطية وعنوان الموضوع في القضية الحقيقية ، ولا ملزم بالخروج عن ظاهره.

على أن ما ذكره (قدس سره) لا يناسب ما اعترف به من أن مقتضى القواعد العربية رجوعه للتكليف.

لوضوح أن مقتضى القواعد المذكورة ظهورات نوعية ارتكازية ، فكيف يمكن انعقادها على ما هو ممتنع عقلا مخالف للوجدان وليست هي كالظهورات الشخصية التي قد تنعقد على خلاف الواقع لخلل في البيان أو في فهمه.

بل الظهورات النوعية تكشف عن كون ما ينافيها كالشبهة في مقابل البديهة ، لا بد من ثبوت خلل في بعض مقدماته إجمالا لو لم يعلم تفصيلا.

٣٣٣

بل ما ذكره (قدس سره) لا يناسب ما صرح به غير مرة من فرض مقدمة الوجوب ، وأنها التي يتوقف عليها الوجوب دون الوجود ، وأنه يمتنع ترشح الطلب عليها من الواجب لاستلزامه طلب الحاصل.

إلّا أن يكون ذلك منه مماشاة للقوم مع كونها عنده مقدمة للوجود ، لتوقف خصوصية الواجب عليها ، كما ربما يظهر من بعض عباراته ، غايته أن الخصوصية الموقوفة عليها قد اخذت بنحو لا تكون موردا للتكليف ، على ما سبق منه التعرض له.

لكن لازم ذلك الاستدلال على عدم وجوبها بلزوم الخلف ، لا بطلب الحاصل ، كما سبق منه ، الظاهر في المفروغية عن عدم وجوبها قبل وجودها ، لعدم وجوب ذيها.

ومن هنا كان كلامه (قدس سره) في غاية الاضطراب والإشكال ، ولا معدل عما ذكرنا.

ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) منع من رجوع الشرط للهيئة ، لما سبق في الوجه الأول من أن المعنى الحرفي إلى غير قابل للتقييد ، كما منع من رجوعه للمادة بنفسها المستلزم لتقييد المكلف به مع فعلية التكليف قبل تحقق القيد ، لما بنى عليه من ابتناء القضية الشرطية والحقيقية على أخذ الموضوع والشرط مفروض الوجود في فعلية الحكم المستلزم لعدم فعليته قبل تحقق الشرط والموضوع ، على ما فصله وأطال الكلام فيه ، ومن هنا ادعى رجوع الشرط للمادة المنتسبة.

قال بعض مشايخنا (دامت بركاته) في تقريره لدرسه : «المراد منه هو تقييد المادة المنتسبة فإن الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير

٣٣٤

تقييد ، وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج.

مثلا : الحج المطلق لا يتصف بالوجوب ، بل المتصف هو المتصف بالاستطاعة الخارجية ، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ، فالقيد راجع إلى المادة بما هي منتسبة إلى الفاعل».

بل أنكر (قدس سره) كون مراد شيخنا الأعظم (قدس سره) ما هو ظاهر التقريرات من رجوع القيد للمادة ، بنحو يكون من قيود الواجب مع إطلاق الوجوب وفعليته ، حاكيا عن السيد الشيرازي (قدس سره) عدم صحة النسبة المذكورة.

لكنه لا يناسب تصدي شيخنا الأعظم (قدس سره) بما ذكره للرد على صاحب الفصول (قدس سره) الذي فرق بين المشروط والمعلق بأن القيد في الأول للتكليف وفي الثاني للمكلف به مع إطلاق التكليف وفعليته قبل الشرط ، فردّ عليه بأن القيود وإن اختلفت لفظا في مقام الإثبات ، إلّا أنها لا تختلف لبا في مقام الثبوت ، بل هي راجعة للمكلف به مطلقا مع فعلية التكليف على كل حال ، وإنما تختلف في كونها موردا للتكليف تارة ، وعدمه اخرى ... إلى آخر ما تقدم ، بنحو يظهر للناظر فيه انتظام المطلب وتناسقه ، حيث يبعد معه اشتباه المقرر فيه جدا ، بل يكاد يقطع بعدمه.

على أن ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) لا يخلو عن غموض وإشكال ، إذ لحاظ المادة بما هي منتسبة راجع إلى تقييدها بالنسبة ، وإذا كانت آلية المعنى الحرفي مانعة من تقييده كانت مانعة من التقييد به ، إذ لا بد من لحاظ كل من القيد والمقيد استقلالا ، لأن التقييد نحو من النسبة التي لا تقوم

٣٣٥

إلّا بالمعاني الاسمية الاستقلالية.

نعم ، حيث عبر هو (قدس سره) عن النسبة بمفاد الاسم ولحظها بما هي معنى اسمي أمكن التقييد بها كما يمكن تقييدها. وهو خارج عن مفروض الكلام من كون الدال على النسبة الهيئة أو الحرف وكونها معنى اسميا آليا.

وأما لو أراد أن القيد راجع إلى المادة في ظرف انتسابها ، على نحو نتيجة التقييد.

أشكل : بأن ذلك جار في قيود الواجب أيضا ، لوضوح أن التقييد لا يصح إلّا في ضمن القضية المتضمنة للحكم ولانتساب المادة ، ولا معنى لاعتباره مع قطع النظر عن ذلك ، فلا بد من بيان الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب من وجه آخر.

مضافا إلى أن تقييد المادة المنتسبة لا يقتضي إناطة التكليف بالقيد ، لفرض كون نسبة الحكم للمادة سابقة رتبة على التقييد.

كما أن ما ذكره من أن المتصف بالوجوب ليس هو الحج المطلق ، بل المقيد بالاستطاعة الخارجية ، راجع إلى تقييد الواجب كتقييد الصلاة بالطهارة ، إذ لا يراد به إلّا تقييدها بالطهارة الخارجية من دون أن يقتضي إناطة التكليف بها.

ودعوى : لزوم وجود الموضوع في رتبة سابقة على الحكم.

مدفوعة : بأن ذلك لا يتم في الموضوع الذي هو بمعنى متعلق التكليف ومعروضه وهو المكلف به وقيوده ، لاستحالة بقاء التكليف مع وجوده ، وإنما يتم فيما يناط به التكليف مما هو خارج عن المكلف به ، كالمكلف وقيوده ، وإرادته في المقام موقوفة على تقييد الهيئة المفيدة للتكليف على ما ذكرناه في

٣٣٦

القضية الشرطية.

إلّا أن يراد برجوع القيد للمادة المنتسبة رجوع القيد لانتساب المادة ، فلا تكون المادة منتسبة وطرفا للطلب إلّا بوجود القيد ، ومن الظاهر أن الانتساب مستفاد من الهيئة فتقييده لا يكون إلّا برجوع القيد إليها ، كما ذكرنا.

نعم ، لا يراد برجوع القيد إليها رجوعه لها بنفسها مع قطع النظر عن أطرافها ، لوضوح عدم قيامها بنفسها لا لحاظا ولا خارجا ، بل رجوعه لها بما هي قائمة بأطرافها من المكلف والمكلف به.

ولذا كان مفاد الشرطية تعليق جملة بجملة ، في قبال رجوعه للمادة التي هي مفهوم إفرادي طرف للنسبة.

وبالجملة كلامه (قدس سره) في غاية الغموض والإشكال ، ولعله ناشئ عن ضيق التعبير واختلاط بعض أنحاء التقييد ببعض ، على ما سبق الكلام فيه في مبحث المعنى الحرفي.

والأمر لا يخرج عما ذكرنا من رجوع الشرط للهيئة المستلزم لكونه جزء من موضوع التكليف الذي يناط فعليته به.

ثم إنه كما يمكن تقييد الهيئة المفيدة للحكم بالشرط يمكن تقييدها بغيره ، كالغاية التي يلزم من أخذها فيه ارتفاعه بحصولها ، وكذا غيرها.

وربما يأتي في مبحث مفهوم الغاية ما ينفع في المقام. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

٣٣٧

بقي شيء

وهو أنه لا ريب ظاهرا في أنه إذا تمت مقدمات الحكمة في الخطاب لزم حمل المأمور به والمنهي عنه على الإطلاق ، وأن الاشتراط يحتاج إلى قرينة خاصة وعناية في البيان مخرجة عن ذلك ، كالتقييد في المفاهيم الاسمية الإفرادية. وكذا الحال في سائر قيود الهيئة من غاية أو نحوها.

وأما مع عدم تمامية مقدمات الحكمة وإجمال الخطاب أو الإهمال فيه ، أو كون الدليل لبيا ، فمقتضى الأصل البراءة من التكليف مع فقد القيد المحتمل ، بل مقتضى الاستصحاب عدمه ، على ما أوضحناه في محله من مبحث البراءة.

نعم ، مع الشك في التقييد بالغاية إذا احرزت فعلية التكليف قبلها فمقتضى الاستصحاب بقاؤه بعدها بعد فرض عدم أخذه قيدا في متعلق الحكم ، حيث يحرز حينئذ وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، وعدم اختلاف موضوعيهما بالإطلاق والتقييد ، على ما أوضحناه في محله من مبحث الاستصحاب.

٣٣٨

المبحث الثاني

في تقسيم المأمور به والمنهي عنه إلى

معلّق ومنجّز

قسم صاحب الفصول (قدس سره) الواجب إلى معلق ومنجز ، فالأول ما يكون زمانه متحدا مع زمان وجوبه ، والثاني ما يكون زمانه متأخرا عن زمان وجوبه ، فيكون الوجوب فيه حاليا والواجب استقباليا.

وقد ذكر (قدس سره) هذا التقسيم للتنبيه على الفرق بين المعلق والمشروط بأن التكليف في المشروط غير فعلي ، بخلافه في الأول فإنه فعلي ، فهو من أقسام المطلق المقابل للمشروط.

وغرضه بذلك التمهيد لما يأتي إن شاء الله تعالى من ظهور الثمرة بين القسمين في المقدمات المفوّتة ، وهي التي يتعذر حصول الواجب في وقته إذا لم تحصل قبل الوقت ، كالغسل من الحدث الأكبر لمن عليه الصوم في النهار ، حيث لا إشكال في وجوبها قبل الوقت تبعا لوجوب ذيها لو كان من المعلق.

وإنما ينحصر الإشكال في وجوبها لو كان وجوب ذيها مشروطا ، غير فعلي قبل الوقت.

ومن هنا لا مجال لما أورده عليه المحقق الخراساني (قدس سره) من عدم الثمرة لهذا التقسيم ، لعدم الفرق بين المعلق والمنجز في الغرض المهم بعد كون التكليف في كليهما حاليا ، لأن الثمرة المذكورة مترتبة على إطلاق التكليف

٣٣٩

وفعليته المشترك بين القسمين ، ولا يصح التقسيم إلّا بلحاظ ترتب الثمرة على الفرق بين القسمين ، وإلّا لكثرت التقسيمات.

لاندفاعه : بأنه يكفي في صحة هذا التقسيم بيان الفرق بين المشروط والمعلق ، وظهور الثمرة بلحاظه بعد خفائها.

نعم ، كان الأنسب بصاحب الفصول (قدس سره) أن يجعل هذا التقسيم من لواحق تقسيم الواجب إلى مطلق ومشروط ، لأنه تقسيم لأحد قسميه ، وهو المطلق ، وليس تقسيما في مقابله.

كما أن شيخنا الأعظم (قدس سره) حيث أنكر رجوع الشرط للهيئة في المشروط والتزم برجوع جميع الشروط للمادة ، أنكر الفرق بين المشروط والمعلق.

ومرجع كلامه إلى إنكار المشروط بالمعنى المشهور ، لا إلى إنكار المعلق وإنما أراد من المشروط المعلق.

إذا عرفت هذا ، فيقع الكلام تارة : في إمكان المعلق ثبوتا. واخرى : في الدليل عليه إثباتا.

المقام الأول : في إمكان المعلق

حيث سبق في الوجه الثاني لمناقشة شيخنا الأعظم (قدس سره) في إنكاره رجوع الشرط للهيئة تقريب الفرق الارتكازي بين شروط الوجوب وشروط الواجب ، يتضح أن الخصوصية الزمانية ونحوها من الخصوصيات المستقبلة إذا كانت دخيلة في تعلق الغرض بالواجب ، بحيث لا حاجة إليه قبلها ، فهي خارجة عن محل الكلام ، حيث لا إشكال في دخلها في التكليف

٣٤٠