المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

مدفوعة : بأن ترك تمام أفراد الماهية في بعض الأزمنة ترك لتمام أفرادها الطولية فيه وإن كان لتعذرها ، ولا يعتبر في امتثال النهي كون تمام الأفراد المتروكة اختيارية مقدورة.

وليس منشأ الفرق من الجهة الثانية توقف ترك الماهية على ترك أفرادها الطولية والعرضية ، بل اقتضاء النهي استمرار الترك في تمام أزمنة وجود موضوعه ، بخلاف الأمر ، حيث لا يقتضي إلا الفعل في بعض أزمنة وجود موضوعه.

ولا ينهض ببيان الفرق من هذه الجهة الوجه المتقدم ولا غيره مما سبق في مساقه ، كما يظهر بالتأمل فيها ، حتى المؤيد السابق ، لوضوح أن تعذر استيعاب أفراد الماهية بالإيجاد إنما يقتضي امتناع الأمر بها بنحو يقتضي الجمع بينهما ولغوية النهي عنها بنحو يقتضي الاكتفاء بترك بعضها ، لا امتناع الأمر بنحو يقتضي الاشتغال في تمام أزمنته بإيجاد بعض الأفراد ، ولا لغوية النهي بنحو يقتضي ترك الجميع في خصوص بعض أزمنته ، كما لعله يظهر بالتأمل.

ولعل الأولى في وجه الفرق بينهما من الجهة الثانية ما نبه له سيدنا الأعظم (قدس سره) وتوضيحه : أن مقتضى الأمر والنهي ليس هو الفعل والترك بمعناهما الاسمي ، كي يكون مقتضى إطلاق النهي الاكتفاء بتحقق الترك ـ لتمام الأفراد ـ ولو في بعض الأزمنة ، كما ان مقتضى إطلاق الأمر الاكتفاء بتحقق الفعل ـ لبعض الأفراد ـ في بعضها ، لما هو الظاهر من عدم أخذ الفعل والترك بمعناهما الاسمي في متعلق الأمر والنهي ، بل ليس متعلقهما إلا الطبيعة ، مع اختلاف نحو النسبة فيهما إليها بالنحو المقتضي ارتكازا للفعل والترك بمعناهما الحرفي المطابق لنسبة القضية الحملية الموجبة أو السالبة ، فيكون

٣٠١

امتثال الأمر بتحقيق مفاد القضية الموجبة ، وامتثال النهي بتحقيق مفاد القضية السالبة.

ولذا ناسب قيام الجملة الخبرية الحملية الموجبة أو السالبة مقام الجملة الطلبية المفيدة للأمر والنهي ، خصوصا بناء على ما سبق في توجيه قيامها مقامها.

كما لم يكن الفرق ارتكازا بين أداة النفي والنهي إلا في سوق الأولى في مقام الحكاية ، والثانية في مقام الزجر ، مع التطابق بينهما في سعة المفاد.

وحينئذ يتجه الفرق المذكور بين الأمر والنهي ، لما هو المعلوم من أنه يكفي في صدق القضية الموجبة تحقق النسبة ولو في بعض أزمنتها ، ولا يكفي في صدق السالبة إلا استمرار السلب في تمام أزمنتها ، ولا يكفي تحققه في بعضها إلا مع تقييدها الذي هو خلاف الفرض.

ولذا كان التناقض ارتكازيا بين قولنا : ضرب زيد ، وقولنا : لم يضرب زيد ، وبين قولنا : يضرب زيد ، وقولنا : لا يضرب زيد ، بخلاف قولنا : فعل الضرب ، و : تركه ، و : يفعل الضرب ، و : يتركه ، لأن الترك فيهما مأخوذ بمعناه الاسمي ، الذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، والذي يكتفى فيه بالترك في بعض الأزمنة ولو مع الفعل في بعضها.

ويؤيد هذا الوجه غلبة عدم استمرار المكلف في فعل المنهي عنه في تمام أزمنة النهي ، فلو اريد من النهي ما يكتفي في امتثاله بالترك في بعض الأزمنة كان ترتب الأثر عليه نادرا.

ولعل ما ذكرنا هو الوجه في تبادر إرادة استمرار الترك من لفظ التحريم ومن مادة النهي ونحوهما مما يقتضي ترك الفعل ، لظهور أن المراد بها ما يراد

٣٠٢

بأداة النهي.

بل لعله هو الوجه في انسباق ذلك من الأمر بالترك ـ مع أن الجمود على مدلوله اللفظي الحقيقي لا يقتضيه كما سبق ـ لأن المستفاد منه إرادة تحريم العمل لا وجوب تركه.

هذا حاصل ما تيسر لنا في وجه الفرق بين الأمر والنهي من الجهتين المذكورتين ، الذي هو من الوضوح بحد يستغني معه عن التوجيه لو لا طروء بعض الشبه والمناقشات التي يكفي في دفعها ما سبق.

ومن هنا ينبغي الكلام فيما يتعلق بذلك ويترتب عليه مما وقع موردا للبحث في كلامهم في مباحث الأوامر والنواهي.

واستيفاؤه يكون في ضمن مسائل ..

المسألة الاولى : في المرة والتكرار

اختلفوا في أن الأمر هل يقتضي المرة في الامتثال أو التكرار أو لا يقتضي شيئا منهما.

والظاهر أن البحث راجع إلى مقام الجعل وتشخيص حال الأمر ، الذي يتفرع عليه مقام الامتثال ، لا إلى مقام الامتثال رأسا بعد الفراغ من عدم اقتضاء أحد الأمرين في مقام الجعل ، لتكون من لواحق مسالة الإجزاء ، لخروج ذلك عن ظاهر كلامهم ومساق حججهم.

هذا ، وفي الفصول أن الأكثر حرروا النزاع في الصيغة ، بل نص جماعة على اختصاصه بها ، ولذلك عدها من مباحث الصيغة.

إلا أن بعض حججهم لا يناسب الاختصاص المذكور.

ولهذا ألحقناها بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي

٣٠٣

مطلقا مع قطع النظر عن الصيغة.

إذا عرفت هذا فالمرة والتكرار تارة : يجعلان من شئون المكلف به المستفاد من المادة أو نحوها.

واخرى : يجعلان من شئون التكليف المستفاد من الصيغة أو نحوها.

أما على الأول الذي هو ظاهرهم فالظاهر ـ كما صرح به جماعة ـ عدم اقتضاء التكليف بنفسه المرة ولا التكرار.

إذ ما دل على التكليف ـ كالصيغة وغيرها ـ لا يتعرض له.

وما دل على المكلف به ـ كالمادة ونحوها ـ إنما يدل على الماهية من حيث هي ، والمرة والتكرار خارجان عنها ، فينهض الإطلاق بنفي اعتبار التكرار ، كما ينهض بنفي اعتبار المرة لو اريد به ما يساوق مانعية التكرار.

وكذا لو اريد به كون ما زاد على المرة خارجا عن المكلف به وإن لم يكن مانعا منه ، لمنافاته لإطلاق الماهية المستلزم لصدقها على القليل والكثير.

نعم ، لو لم يكن للتكليف إطلاق فالأصل إنما ينهض بنفي اعتبار التكرار ونفي مانعيته لا غير ، من دون أن يتعرض لخروج ما زاد على المرة في المكلف به أو دخوله فيه في ظرف وجوده ، لعدم اقتضاء كل منهما زيادة كلفة في مقام العمل.

نعم ، يأتي تقريب حكم العقل بالمرة في الجملة في مقام الفراغ والامتثال لا في مقام الجعل.

وأما على الثاني فلا إشكال في المرة بمعنى وحدة التكليف المجعول بعد ما سبق من كون المكلف به هو الطبيعة من حيث هي ، لاستحالة اجتماع المثلين ، ولا بد في تعدده من تعدد متعلقه ، لقيام القرينة على أن المكلف به ليس

٣٠٤

هو الطبيعة من حيث هي ، بل بنحو الاستغراق لجملة من الأفراد ، حيث يمكن حينئذ تعدد التكليف تبعا لها ، كما يمكن وحدته وتعلقه بها بنحو المجموعية ، والمتبع في إثبات أحد الأمرين ظاهر الدليل.

وكذا لو ابتنى التكليف على الانحلال إلى تكاليف متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة ، كما في القضايا الحقيقية ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ...)(١) حيث كان ظاهره تعدد الموضوع بتعدد أفراد الدلوك ، فيتجدد التكليف بتجدده في كل يوم ، المستلزم لتعدد الصلاة الواجبة تبعا لتعدد التكليف ، وعدم كون الواجب طبيعة الصلاة من حيث هي الصادقة بالفرد الواحد ، لامتناع تعدد التكليف بها ، كما ذكرنا ، وتمام الكلام فيه في مبحث التداخل من مفهوم الشرط. فلاحظ.

ولعل ذلك هو منشأ القول بالتكرار ، لأن الشائع في الأحكام الشرعية أن يكون تشريعها بنحو القضية الحقيقية.

وإلا فمن البعيد جدا البناء على لزوم التكرار من دون أن يتجدد موضوع التكليف ، مع وضوح خروجه عن طريقة العقلاء في فهم دليل التكليف وامتثاله بنحو يلحق بالبديهيات.

لكن البناء على التكرار لتجدد موضوع التكليف لا يرجع إلى إفادة الأمر التكرار ، الذي هو ظاهر تحرير محل النزاع ، بل إلى ظهور القضية في الحقيقية المنحلة إلى قضايا متعددة بتعدد الموضوعات المفروضة ، وهو أجنبي عن محل الكلام جار في غير الأمر أيضا.

__________________

(١) سورة الاسراء : ٧٨.

٣٠٥

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمل فيما ذكرنا ، وإن أطال غير واحد في استطراد حجج القولين بما لا مجال للتعرض له بعد ما سبق ، لظهور ضعفها بأدنى تأمل.

نعم ، قد يستدل على التكرار مع قطع النظر عن مفاد الأمر تارة : بقوله (صلّى الله عليه وآله) : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وأخرى : باستصحاب وجوب الطبيعة بعد الاتيان بها مرة.

ويظهر اندفاع الأول مما ذكرناه في تعقيب الاستدلال بالحديث على قاعدة الميسور من ضعفه في نفسه وظهوره في الاستحباب.

وأما الثاني فهو ـ مع أنه لا يقتضي لزوم التكرار إلا بناء على الفور ، وإلا فلا يمنع من الاكتفاء بالمرة في آخر الوقت ، كما لا يخفى ـ مندفع : بأن فرض تعلق الوجوب بالطبيعة على إطلاقها مستلزم للعلم بسقوطه بالمرة كما يأتي. واحتمال بقاء الوجوب إنما يكون لاحتمال تعلقه بالطبيعة بقيد التكرار الذي سبق أنه مخالف للإطلاق والأصل.

تنبيهان

الأول : بناء على ما ذكرنا من تعلق الأمر بالطبيعة من حيث هي من دون تقييد بمرة أو تكرار ، سواء أحرز عدم التقييد بالإطلاق أم بالأصل ، فلا إشكال في تحقق الامتثال بفرد واحد ، لصدق الطبيعة به.

وكذا بأفراد متعددة إذا كانت في دفعة واحدة ـ بأن يفرغ منها في زمان واحد ـ لصدق الطبيعة المرسلة عليها بعين صدقها على الفرد الواحد.

وإليه يرجع ما قيل من الاكتفاء في الامتثال بصرف الوجود الصادق على القليل والكثير.

٣٠٦

وإن لم تكن في دفعة واحدة ـ بأن يفرغ من بعضها قبل الفراغ من الآخر ـ فلا إشكال في تحقق الامتثال بالفرد الذي يسبق الفراغ منه وإن تأخر الشروع فيه ، لانطباق الطبيعة عليه الموجب لسقوط التكليف بتحقق مقتضاه.

ومعه يمتنع الامتثال بالفرد اللاحق ، فلا يكون امتثالا مستقلا بعد الامتثال بالأول ، ولا يكون دخيلا في الامتثال الواحد ، بحيث يكون الامتثال بكلا الفردين ، كما لو كانا في دفعة واحدة ، لأن سقوط الأمر وخروج المكلف عن عهدته أمر غير قابل للتعدد عقلا ، فإذا استند للفرد السابق لانطباق الطبيعة عليه وتحقق مقتضى الأمر به يمتنع استناده للفرد اللاحق ، على ما هو الحال في جميع موارد اجتماع العلل المتعددة على المعلول الواحد ، حيث يستند المعلول للجميع مع تقارنها وللأسبق مع ترتبها.

والتخيير بين الأقل والأكثر لو تم مبني على تقييد الطبيعة المأمور بها بنحو يمنع من انطباق المأمور به على الفرد الواحد في ظرف وجود فرد بعده ، وهو خلاف فرض إطلاق الطبيعة في المقام.

وأما ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) في توجيه عدم صلوح الفرد الثاني للامتثال من أن إطلاق المادة يقتضي أن يراد بها صرف الوجود الصادق على القليل والكثير ، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق ، لأنه وجود بعد وجود لا صرف الوجود الذي هو بمعنى خرق العدم.

ففيه : أن المأمور به ليس هو صرف الوجود بالمعنى الذي ذكره ، الذي لا ينطبق على الوجود اللاحق ، لعدم أخذ مفهومه في المأمور به ، بل ليس المأمور به إلا الطبيعة بما لها من حدود مفهومية بعد لحاظها خارجية بنحو الإرسال ، ولا إشكال في صدقها على الأفراد المتعاقبة ، كما تصدق على

٣٠٧

الأفراد المقارنة وعلى الفرد الواحد.

وقد يراد بصرف الوجود ذلك.

وإن شئت قلت : عدم الامتثال بالفرد اللاحق ليس لعدم انطباق المأمور به في مقام الجعل عليه ، بل لامتناع دخله في سقوط الأمر بعد استقلال الفرد السابق بالامتثال بسبب انطباق المأمور به عليه.

فهو أمر عقلي من شئون مقام الامتثال ، ولا يرجع إلى مقام الجعل.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن الحق بلحاظ نفس التكليف هو المرة بمعنى الفرد ، في مقام الجعل. وإما بلحاظ المكلف به فلا مجال للبناء على المرة أو التكرار في مقام الجعل ، بل يتعين البناء على المرة بمعنى الدفعة ـ مع وحدة الفرد أو تعدده ـ في مقام الامتثال بحكم العقل. والمعيار في الدفعة مع تعدد الأفراد هو التقارن في الفراغ عنها ولو مع الترتب في الشروع فيها.

الثاني : مبنى الأصحاب في جملة من المقامات على حمل الأوامر الندبية على السريان والاستغراق فيسري الأمر إلى جميع الأفراد الطولية والعرضية ، بنحو يقتضي التكرار دون صرف الوجود ، لانحلال الأمر بالطبيعة إلى أوامر متعددة بعدد الأفراد ، كما في الأمر بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والبر والإحسان وغيرها ، مع أن ما ذكرناه في الأوامر الوجوبية آت فيها.

وقد وجهه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بناء على ما ذكره في الأوامر ، من أن مقتضى القاعدة حمل الإطلاق فيها على السريان لو لا تعذر الجمع بين الأفراد الملزم بحمله على صرف الوجود. وهو مختص بالأوامر الوجوبية ، أما الندبية في محذور في حملها على السريان مع تعذر الجمع بين الأفراد ، لأنها حيث لا تقتضي الإلزام بصرف القدرة لامتثالها لا تمنع من فعلية

٣٠٨

الأمر بما يزاحمها ، فيتعين حمل إطلاقها على السريان بعد أن كان هو مقتضى القاعدة.

وقد يناسبه ـ أيضا ـ الوجه المتقدم في تأييد الوجه المختار في الفرق بين الأمر والنهي.

لكن مما سبق يتضح أن القاعدة لا تقتضي حمل الإطلاق على السريان بعد أن كان أمرا زائدا على الماهية ، بل يلزم الحمل على الماهية المرسلة ، ولازمة الاكتفاء في امتثال الأمر بصرف الوجود مع قطع النظر عن قرينة تعذر الجمع بين الأفراد ، فلا يختص بالأوامر الوجوبية ، بل يجري في الندبية ، كما ذكرنا.

ومن هنا كان الظاهر العمل بما يقتضيه الإطلاق المذكور في الأوامر الندبية كالوجوبية ، والحمل فيها على السريان والاستغراق إنما يكون لقرينة خاصة خارجية تقتضي ذلك ، وهي كثيرة في مواردها ، مثل ما تضمن أن الصلاة خير موضوع ، وأن ذكر الله حسن على كل حال ، أو المناسبات الارتكازية العرفية أو المتشرعية التي قد تقتضي ذلك فيها ، كما قد تقتضيه في الأوامر الوجوبية ، كما أنها قد تقتضي الاكتفاء بصرف الوجود ، كما في مثل غسل اليدين قبل الطعام ، لارتكاز أن المراد به التنظيف الذي يكفي فيه ذلك.

المسألة الثانية : في الفور والتراخي

مما وقع الكلام بينهم أن الأمر هل يقتضي الفور ـ بمعنى المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب ، أو في أول أزمنة الإمكان ـ كما عن الشيخ (قدس سره) وجماعة ، أو التراخي بمعنى جواز التأخير.

وأما بمعنى لزوم التأخير فلم أعثر عاجلا على قائل به ، وإنما يظهر من

٣٠٩

الفصول وجود متوقف فيه يرى أن التأخير هو المتيقن من الامتثال.

هذا وقد صرح في الفصول بأن النزاع إنما هو في استفادة أحد الأمرين من خصوص الصيغة ، وهو المناسب لأخذ غير واحد لها في موضوع النزاع عند تحريره.

لكن ملاحظة مجموع كلماتهم وحججهم تشهد بعدم اختصاص النزاع بها ، بل يعم استفادة أحد الأمرين من دليل خارجي شرعي أو عقلي يقتضي أحدهما بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

بل قد يعم لزوم الفور عقلا في مقام الامتثال ، لا شرعا في مقام الجعل.

ولذا ألحقنا هذه المسألة بهذا الفصل الذي هو من مباحث الأوامر والنواهي مطلقا ، لا بالفصل الثالث الذي يبحث فيه عن الصيغة.

إذا عرفت هذا ، فالحق ما ذكره جماعة من عدم لزوم الفور ولا التراخي ، لا شرعا في مقام الجعل ، ولا عقلا في مقام الامتثال.

أما في مقام الجعل فلخروجهما عن مفاد المادة والهيئة ونحوهما مما يدل على المكلف به والتكليف ؛ لعدم دلالة المادة ونحوها مما يدل على المكلف به إلّا على الماهية الصادقة بنحو واحد على الأفراد الطولية والعرضية ، ومقتضى إطلاقها الاجتزاء بكل منها.

كما أن الهيئة ونحوها مما يدل على التكليف لا تدل إلّا على البعث نحو المكلف به وطلبه على ما هو عليه من السعة ، فلا تقتضي وجوب خصوص فردها السابق زمانا بنحو وحدة المطلوب أو تعدده.

ودعوى : أن البعث الاعتباري يستتبع الانبعاث حين تحققه للتلازم بينهما عرفا ، كملازمة البعث الخارجي للانبعاث حقيقة.

٣١٠

ممنوعة ، لأن البعث والانبعاث الخارجيين متلازمان تلازم المتضايفين ، فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر عقلا ، أما البعث الاعتباري بالخطاب بالتكليف فهو غير ملازم للانبعاث بمعنى فعلية الإطاعة لا عقلا ولا عرفا ، لوضوح تخلفها عنه كثيرا ، وإنما يلازم الانبعاث بمعنى إحداث الموضوع للإطاعة بالنحو الصالح للداعوية للعمل ، أما نحو العمل المدعو إليه فهو تابع للمأمور به سعة وضيقا ، فمع فرض ظهور إطلاقه في إرادة الطبيعة على سعتها لا وجه لكون البعث سببا لإحداث الداعي نحو خصوص بعض أفراده بالنحو الملازم للبدار.

ولذا لا إشكال ظاهرا في عدم اقتضاء الأمر بنفسه البدار لو كان الواجب موقتا بوقت واسع ـ بناء على ما هو المعروف من إمكانه ـ مع وضوح إمكان البدار للطبيعة المقيدة بالوقت المذكور كالطبيعة المطلقة.

نعم ، لو كان المدعى ظهور الصيغة أو نحوها في البعث نحو العمل بنحو البدار كان راجعا لتقييد المأمور به بالفرد السابق.

لكن لا طريق لإثبات ذلك ، بل المرتكزات تقضي بتمحضها في البعث نحو الطبيعة.

فلا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب.

كما لا مجال لاستفادته من الأمر بالمسارعة والاستباق في قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ)(١) وقوله سبحانه : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٣٣.

٣١١

كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١) وقوله عزّ اسمه : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ...)(٢).

بدعوى : أنه ليس المراد من المغفرة والجنة إلّا سببهما ومنه فعل الواجبات ، التي هي أيضا من الخيرات.

لاندفاعها : بأن سببية فعل الواجبات للمغفرة والجنة وكونه من الخيرات ـ بناء على أن المراد بها الاخروية ، كما هو الظاهر ، وعليه يبتني الاستدلال ـ في رتبة متأخرة عن تعلق الأمر بها ، فلا يصلح الأمر بالمسارعة والاستباق إليها ـ الذي هو متأخر رتبة عن سببيتها وعن صدق عنوان الخيرات عليها ـ لتقييد المأمور به منها شرعا ، بنحو يكون عدم المسارعة والاستباق مخرجا لها عن كونها سببا للمغفرة والجنة ومن الخيرات ، لعدم الأمر بها بدونهما.

مع أنها لو حملت على الإلزام المولوي لزم تخصيص الأكثر ، لخروج الواجبات الموسعة والمستحبات ، مع إباء عمومها ارتكازا عن التخصيص ، كما نبه له غير واحد.

ودعوى : أن خروجها تخصص لا تخصيص ، لاستحالة وجوب المبادرة لما يجوز تركه ، فلا يهم كثرته.

ممنوعة ، لأن استحالة شمول الحكم لبعض أفراد العام لا يقتضي خروجه تخصصا ، بل هو تخصيص عقلي قد يستبشع إذا كثر أو كان العام آبيا عن التخصيص ، فيكون قرينة على إرادة ما لا يلزم منه ذلك.

ومنه يظهر أنه لا مجال لحملها على وجوب الفور بنحو تعدد المطلوب

__________________

(١) سورة الحديد : ٢١.

(٢) سورة البقرة : ١٤٨.

٣١٢

ـ لا بنحو وحدة المطلوب الراجع إلى تقييد المأمور به ـ وإن لم ينهض بمنعه الوجه الأول. بل يتعين حملها على الإرشاد إلى ما يحكم به العقل من حسن البدار للطاعات مطلقا وانتهاز الفرصة في اكتساب الخيرات وإن لم تكن واجبات.

هذا ، وربما يدعى استفادة التقييد بالفور من حكم العقل لبعض الوجوه التي أغنى ضعفها عن إطالة الكلام فيها ، ولا سيما مع التصدي لدفعها في المعالم والفصول. فراجع.

وأما الاستدلال للزوم التراخي بما قيل : من أن الواجب غالبا يحتاج إلى مقدمات مستلزمة للتراخي في امتثاله.

فهو كما ترى! لأن الاضطرار للتراخي غالبا لا يكشف عن مطلوبية بنحو تعدد المطلوب فضلا عن وحدته بنحو لا يجزي الفعل لو وقع في أول أزمنة التكليف ، لعدم احتياجه إلى مقدمات تقتضي صرف الوقت أو لتحققها قبله.

ومن هنا كان الظاهر عدم لزوم الفور ولا التراخي.

نعم ، قد يستفاد الفور العرفي من شاهد الحال ، كما يكثر في الخطابات الشخصية غير المبنية على القوانين العامة ، حيث يغلب صدورها عند حضور وقت العمل وتحقق الحاجة للأمر به ، لا لمحض بيان تحقق موضوع التكليف ، ولا يبعد كون الغلبة المذكورة قرينة عامة على حمل الخطابات المذكورة على ذلك عند الشك ، سواء كانت الخطابات تنجيزية ، كما في قول القائل : ناولني ماء أو اغلق الباب ، أم تعليقية ، كما في قوله : إن جاء زيد فأكرمه ، وإن أحسن إليك فكافئه ، وإن كانت المناسبات العامة الارتكازية والقرائن الخاصة

٣١٣

قد تقتضي تعيين وقت خاص.

وهذا بخلاف الخطابات المتضمنة للقوانين العامة ، كما في الأحكام الشرعية وغيرها ، فان الظاهر سوقها ـ تبعا لمدلولها اللفظي ـ لمحض بيان تحقق موضوع التكليف ، من دون نظر لوقت العمل به ، بل مقتضى الإطلاق المتقدم السعة فيه.

هذا كله لو كان للخطاب بالتكليف إطلاق ، أما بدونه فلا ينبغي التأمل في أن مقتضى البراءة عدم وجوب الفور لو احتمل وجوبه بنحو تعدد المطلوب ، بأن يكون تكليفا زائدا على التكليف بالواجب.

وأما لو احتمل وجوبه قيدا في الواجب بنحو وحدة المطلوب فالكلام فيه هو الكلام في مسألة الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين الذي كان التحقيق فيه جريان البراءة.

وحينئذ لو لم يأت به فورا يتجه استصحاب التكليف بالطبيعة في الآن الثاني وما بعده على ما هو عليه من التردد بين الفور وعدمه ، لأنه صالح للداعوية عقلا لأصل الطبيعة ، نظير صلوح التكليف المردد بين الأقل والأكثر للداعوية نحو الأقل.

وبه ينحل العلم الإجمالي إما بوجوب الفعل فورا أو بقاء التكليف به لو لم يأت به فورا ، المقتضي للاحتياط بالمبادرة ثم التدارك مع عدمها لو لا الانحلال بالاستصحاب المذكور. فتأمل جيدا.

هذا كله في استفادة أحد الأمرين ـ من الفور أو التراخي ـ في مقام الجعل شرعا.

وأما في مقام الفراغ والامتثال فقد يدعى حكم العقل بلزوم الفور

٣١٤

ولو مع السعة في مقام الجعل ، لأن الإطاعة من حقوق المولى ، ويجب المبادرة بأداء الحق ولا يجوز المماطلة به.

وفيه : أن وجوب المبادرة بأداء الحق شرعي مختص بالاستحقاق المساوق للملكية الاعتبارية ، كاستحقاق الدين في الذمة ، لما في حبسه من التصرف في الملك بغير إذن صاحبه المنافي لسلطنته.

أما استحقاق الإطاعة عقلا فهو نحو آخر من الاستحقاق تابع بنظر العقل لداعوية التكليف سعة وضيقا ، فإذا كان الأمر يدعو للطبيعة على ما هي عليه من السعة بنحو تنطبق على الأفراد اللاحقة كالسابقة لا يحكم العقل بوجوب المبادرة والاقتصار في الإطاعة على الأفراد السابقة.

ولذا لا إشكال ظاهرا في عدم لزوم الفور في الموقتات الموسعة ، مع كون أدائها حقا للمولى أيضا ، لعدم الفرق بينها وبين المطلقات إلّا في استفادة السعة فيها في مقام الجعل من صريح الخطاب ، وفي المطلقات من الإطلاق ، ولا دخل لذلك بالفرق في مقام الفراغ والامتثال.

وبالجملة : لا مجال للبناء على لزوم الفور في مقام الامتثال مع فرض السعة في مقام الجعل.

نعم لو علم بالعجز عما عدا الفرد الأول لزمت المبادرة إليه بمقتضى لزوم الإطاعة ، كما هو الحال في سائر موارد انحصار القدرة ببعض أفراد الواجب.

بل مقتضى لزوم إحراز الفراغ والامتثال لزوم المبادرة مع احتمال تجدد العجز عن الطبيعة في الزمن اللاحق ، لو لا أصالة السلامة المعول عليها عند العقلاء في سائر الموارد ، إلّا أن يكون هناك مثير لاحتمال العجز بنحو يعتد به

٣١٥

العقلاء ، وعلى ذلك جرت سيرة المتشرعة وفتاوى الأصحاب بلزوم المبادرة لتفريغ الذمة مع ظهور أمارات الموت.

لكنه لا يرجع إلى وجوب المبادرة واقعا في مقام الفراغ والامتثال ، كما هو محل الكلام ، بل ظاهرا عند الشك في القدرة على الامتثال بدونها.

المسألة الثالثة : فيما يتعلق بالنهي

حيث سبق أن امتثال النهي إنما يكون بترك تمام أفراد الطبيعة المنهي عنها في تمام أزمنة النهي كان مناسبا للفور والتكرار على خلاف ما سبق في الأمر ، وليس هو موردا للإشكال عندهم.

وإنما وقع الكلام في أمرين :

الأمر الأول : في أنه هل يكتفي في امتثال النهي وموافقته بمحض الترك ولو مع الغافلة عن العمل المنهي عنه أو تعذره ، أو لا بد فيه من كف النفس عنه الموقوف على الالتفات إليه ثم الإعراض عنه.

وقد يظهر منهم المفروغية عن أن مقتضى حاق اللفظ هو الاكتفاء بمحض الترك. وكأنه لما أشرنا إليه آنفا من أن مقتضى النهي عرفا هو مفاد القضية الحملية السالبة.

ودعوى : أن النهي لما كان مسوقا لإحداث الداعي للترك كان مقتضاه صدور الترك بداعيه ، المستلزم للكف ، لا بداع آخر ولا غفلة.

مدفوعة : بأن مرجع ذلك إلى حمل النهي على التعبدي ، فيجري فيه ما يجري في أصالة التعبدية في الأمر مما يأتي الكلام فيه ، بل لا يظن ممن التزم بأصالة التعبدية في الأمر الالتزام بها في النهي.

على أن ذلك لا يقتضي لزوم الكف مطلقا ، بل في خصوص صورة

٣١٦

الإطلاق ، لما هو المعلوم من إمكان كون التكليف توصليا ، بل كثرته ، وإنما الكلام في الحمل عليه مع الإطلاق. فتأمل.

وكيف كان ، فالظاهر ما ذكرناه من المفروغية عن أن الاكتفاء بمحض الترك هو مقتضى الاقتصار على المدلول اللفظي للخطاب ، وأن منشأ القول بلزوم الكف هو دعوى : أن محض الترك غير مقدور للمكلف ، لأنه أمر أزلي سابق على القدرة فلا يستند إليها ليمكن التكليف به ، بل يلزم حمل النهي على التكليف بالكف ، الذي هو أمر وجودي مستند للمكلف مقدور له.

ولو تم ذلك فقد يجري فيما لو لم يكن الترك أزليا ، بل كان المكلف متلبسا بالفعل قبل النهي ، لأن ذلك لما كان نادرا وكان الغالب ورود النهي مورد أزلية الترك فقد تكون الغلبة المذكورة موجبة لظهور النهي في إرادة الكف مطلقا ، لعدم الفرق ارتكازا في مفاده بين الموردين.

لكن الوجه المذكور غير تام في نفسه ، لما ذكره جماعة من أن أزلية الترك إنما تستلزم عدم كونه اختياريا قبل حصول القدرة للمكلف ، ولا تنافي تعلق الاختيار به بلحاظ حال استمراره الذي هو ظرف التكليف وتوجه النهي ، لأن القدرة على الفعل تستلزم القدرة على الترك ، وبدونها يكون الفعل واجبا أو ممتنعا لا مقدورا قابلا لأن ينهى عنه.

الأمر الثاني : حيث سبق أن النهي مع إطلاقه يقتضي الترك في تمام الأزمنة ، فهل يختص ذلك بما إذا لم يخالف في بعض الأزمنة ، فإن خولف سقط رأسا ويحتاج بقاؤه إلى قرينة مخرجة عن الإطلاق ، أو لا بل يبقى مع المخالفة بنحو يقتضي العود للترك ، ما لم نقم قرينة مخرجة عن مقتضى الإطلاق؟

صرح المحقق الخراساني (قدس سره) بعدم دلالته على أحد الأمرين في

٣١٧

نفسه ، قال : «بل لا بد في تعيين ذلك من دلالة ، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة ...» ولم يتعرض لبيان مقتضى الإطلاق ولا لتوجيهه.

لكن سيدنا الأعظم (قدس سره) ذكر أن مقتضى إطلاق المتعلق لحاظه بنحو صرف الوجود ، نظير ما تقدم منه في التنبيه الأول لمسألة المرة والتكرار ، قال «فكما أن إطلاق قوله : اضرب ، يقتضي البعث إلى صرف الوجود ولا يقتضي التكرار كذلك إطلاق قوله : لا تضرب ، يقتضي الزجر عن صرف الوجود ، فاذا خولف بالوجود لم يقتض الزجر عن الوجود بعد ذلك ، فإنه وجود بعد وجود ، لا وجود بعد العدم الذي هو صرف الوجود.

نعم الغالب في المفسدة أن تكون قائمة بكل حصة بحيالها ، وفي المصلحة أن تكون قائمة بصرف الوجود ، فلعل هذه الغلبة تقتضي كون مقتضى الإطلاق هو الثاني ، لأن الأول حينئذ يحتاج إلى بيان. فتأمل».

ويظهر الإشكال فيما ذكره أولا مما تقدم هناك من أن إطلاق المتعلق لا يقتضي الحمل على صرف الوجود ، بل على الطبيعة بحدودها المفهومية ، إلّا أن سعة انطباقها تستلزم تحققها بصرف الوجود فيكون امتثالا للأمر بها وعدم تحقق تركها إلّا بترك تمام أفرادها ، فلا يكون امتثال النهي عنها إلّا بذلك.

أما أن فعل بعض الأفراد في بعض الأزمنة يوجب سقوط النهي رأسا فهو أمر آخر يحتاج إلى دليل ، ومجرد تعلق الأمر بالطبيعة لا يقتضيه.

وأما ما ذكره أخيرا من أن غلبة تعلق المفسدة بالأفراد بنحو الانحلال هو الذي قد يوجب الصرف عن مقتضى الإطلاق الأولي والبناء على بقاء النهي لو خولف.

٣١٨

فهو غير ظاهر ، لعدم وضوح الغلبة المذكورة مع قطع النظر عن موارد الأحكام الشرعية ، لتكون من القرائن العرفية العامة الصارفة عن مقتضى الإطلاق. وثبوتها في موارد الأحكام الشرعية لما كان بسبب قيام الادلة الخاصة لم يكن من القرائن العامة التي يستند إليها الظهور ، ويخرج بها عن مقتضى الإطلاق. فلاحظ.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أن ترك الطبيعة تارة : يكون مطلوبا استقلالا وملحوظا بنحو المعنى الاسمي ، بأن يكون المطلوب خلوّ صفحة الوجود عن تلك الطبيعة ، فيكون ترك الأفراد حينئذ ملازما للمطلوب لا نفسه.

واخرى : يكون مرآة وملحوظا بنحو المعنى الحرفي توصلا به إلى طلب ترك أفرادها ، فالمطلوب حقيقة هو ترك نفس الأفراد المستلزم لخلوّ صحيفة الوجود عن الطبيعة.

وعلى الأول لو عصي النهي بإيجاد فرد من تلك الطبيعة سقط ، إذ ليس هناك إلّا نهي واحد متعلق بالطبيعة الواحدة ، والمفروض عصيانه.

وعلى الثاني حيث كان النهي منحلا إلى نواه متعددة بعدد الأفراد فسقوط بعضها بالعصيان لا يقتضي سقوط غيره. وهذا القسم هو الغالب في موارد النهي ، لأن منشأه غالبا هو المفسدة في متعلقه ، ولا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة ، ومن ثم كان هذا هو ظاهر النهي دون الوجه الأول.

هذا كله بالإضافة إلى الأفراد العرضية.

وأما بالإضافة إلى الأفراد الطولية فبقاء النهي بعد مخالفته كما يمكن أن يكون لأخذ الزمان قيدا في الأفراد موجبا لتكثرها ، يمكن أن يكون لاستمرار

٣١٩

نفس النهي عن الطبيعة في جميع الأزمنة.

وحيث لا دليل على أخذ الزمان في المتعلق ، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله انا ما ، كان دليل الحكمة مقتضيا لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضا.

هذا حاصل ما ذكره أثبتناه عن تقرير بعض مشايخنا لدرسه بأكثر ألفاظه.

وكأن مراده من الفرق بين لحاظ ترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي ولحاظه بنحو المعنى الحرفي ليس هو الفرق المذكور في محله بين المعنى الاسمي والحرفي ، لبداهة عدم خروج الطبيعة المتعلّقة للنهي عن كونها معنى اسميا ، بل مجرد لحاظ الطبيعة في الأول استقلالا موردا للنهي والغرض ، وفي الثاني طريقا لملاحظة الأفراد التي هي في الحقيقة مورد لهما ، والتعبير بالمعنى الاسمي والحرفي لمجرد المناسبة لما اشتهر من استقلالية الأول وآلية الثاني.

وكيف كان فيرد على ما ذكره ..

أولا : أن تصور الطبيعة بالوجهين غير ظاهر ، بل هي لا تلحظ إلّا بحدودها المفهومية لكن بنحو تكون خارجية متحدة مع الأفراد ، غايته أنها تارة : تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو المجموعية ، فلا يكون النهي عنها إلّا واحدا له طاعة واحدة ومعصية واحدة. واخرى : تلحظ متحدة مع الأفراد بنحو الانحلال ، فيختص كل فرد منها بنهي له طاعته ومعصيته.

وثانيا : أن غلبة صدور النهي عن مفسدة يشترك فيها جميع الأفراد لا يستلزم كون الغالب في النهي الانحلال ، بل كما يمكن أن يكون لكل فرد مفسدته القائمة به المستلزمة للنهي عنه ، فيكون النهي عن الطبيعة انحلاليا ،

٣٢٠