المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

ومنه يظهر أن توصيفها بالتكليفية يبتني على التغليب ، لأن التكليف مأخوذ من الكلفة الموقوفة على الإلزام ، الذي يتضمّنه الوجوب والتحريم ، دون غيرهما.

وما ذكرناه ليس موردا للإشكال ، وإنما وقع الكلام في بعض ما يتعلّق بذلك.

وينبغي الكلام فيه في ضمن أمور ..

الأمر الأول : تكرر في كلامهم انتزاع الوجوب والاستحباب ، أو تسببهما عن تعلق إرادة المولى بالفعل ، كما أن التحريم والكراهة منتزعان أو مسببان عن تعلق كراهته به.

وقد استشكل على ذلك بما يرجع إلى أن القادر على تحقيق مراده ودفع ما يكرهه ـ سواء كان واجب القدرة ك (الله تعالى) ، أم ممكن القدرة كالإنسان في بعض الأوقات ـ حيث لا يتخلف وجود مراده عن إرادته ، ولا دفع ما يكرهه عن كراهته ، لزم عدم عصيان أوامره ونواهيه ، مع تحقق العصيان بالوجدان من العبيد لله تعالى الواجب القدرة ولغيره من الموالي العرفيين الذين قد يكونون قادرين على تحقيق مرادهم ، وذلك كاشف عن عدم توقف التكاليف على الإرادة والكراهة ، وأن منشأ التكليف أمر آخر ، وإلا لزم كشف العصيان عن كون التكليف صوريا ، لخلوه عن الإرادة فلا تكون مخالفته عصيانا.

وربما كان هذا أحد الوجوه الموجبة لدعوى مغايرة الطلب للإرادة ، وأن منشأ التكليف هو الطلب ـ كما عن الأشاعرة ـ وأنّه هو ما ادعوه من

٢١

الكلام النفسي ، أو غيره مما ذكره بعض أصحابنا.

وقد انجرّ الكلام بمشايخنا المتقدمين والمعاصرين إلى الكلام في ذلك ، وفي مسألة الجبر والاختيار ، وغير ذلك مما يناسبهما.

ولا يسعنا إطالة الكلام فيما ذكروه ؛ لخروجه عن محل الكلام ، بل ربما كان من التكلف المنهي عنه ، والذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه ، فلنقتصر على ما يخصّ المقام.

وقد حاول غير واحد دفع الإشكال المتقدم بأن عدم تخلّف المراد عن الإرادة من القادر مختص بالإرادة التكوينية ، وليس التكليف مسببا أو منتزعا منها ، بل من الإرادة التشريعيّة ، والتخلف فيها غير عزيز ، فمبنى الإشكال على الخلط بين الإرادتين.

ومن هنا لا بد من بيان الفرق بين الإرادتين ، وقد ذكروا له وجوها :

الأول : ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) من أنه لا فرق بينهما إلا في اقتضاء الإرادة التكوينية للفعل بالمباشرة بحركة عضلات المريد ، واقتضاء الإرادة التشريعية للفعل المنزل منزلة المباشرة ، لابتنائها على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته.

وفيه : أن التنزيل المذكور مما لا شاهد له ، بل لا مجال للبناء عليه بعد الرجوع للمرتكزات العرفية ، بل لعلّه ممتنع في التكاليف الشرعية.

على ان التنزيل إن كان تكوينيا راجعا إلى تبعية حركات العبد وعضلاته لإرادة المولى كحركات المولى وعضلاته امتنع التخلّف مطلقا.

وإن كان ادعائيا فلا أثر له في تحقيق مراد المولى الذي هو أمر حقيقي خارجي ، تابع لأسبابه التكوينية ، فلا وجه لاجتزاء المولى به في فرض كونه

٢٢

مريدا.

وإن كان تشريعيا راجعا إلى خطاب العبد بجعل عضلاته وحركاته بمنزلة عضلات المولى وحركاته في تحركها تبعا لإرادته ، رجع الكلام إليه ، واحتاج إلى بيان الإرادة التشريعية التي اقتضت الخطاب به.

الثاني : ما يظهر من غير واحد من انحصار الفرق بينهما في المتعلّق ، فمتعلق الإرادة التكوينية هو فعل المريد نفسه ، ومتعلق الإرادة التشريعية هو فعل المكلف ، بلا فرق بين حقيقتيهما.

وفيه : أن لازم ذلك عدم تحقق الإرادة في ظرف علم المولى بعدم تحقق المراد ، لأن فعلية الإرادة المستتبعة للسعي نحو المراد بتحريك العضلات نحوه ، أو بطلبه من الغير مشروطة باحتمال تحققه.

بل يلزم عدم تخلّف المراد في ظرف قدرة المريد عليه ، بأن كان المولى قادرا على فعل العبد ولو بإجباره ، كما هو المشاهد في مرادات الموالي الحتمية ، فالتخلف مع القدرة كاشف عن عدم الإرادة ، فلو كانت الإرادة منشأ للتكليف كشف التخلف عن كون التكليف صوريا لا معصية بمخالفته ، لعدم الإرادة على طبقه.

وأما ما ذكره بعضهم : من أن متعلق الإرادة التشريعية ليس مطلق فعل العبد ، بل خصوص الاختياري منه ، والإرادة المذكورة لا تقتضي جبر العبد ، للزوم الخلف.

فهو لا يدفع الإشكال ، حيث يلزم مع علم المريد بعدم تحقق الفعل الاختياري عدم فعلية إرادته المستتبعة للسعي له بالتكليف.

كما يلزم عدم تخلفه مع قدرة المولى عليه ، مع وضوح أنه قد يتخلف

٢٣

وإن كان قادرا ، كما هو المشاهد في كثير من الموالي العرفيين ، حيث يتسنّى له إقناع العبد وإحداث الداعي له ، بمثل الترهيب والترغيب والتذكير.

بل لا إشكال فيه في حقّ المولى الأعظم عزّ وجلّ ، إذ لو سلّم ما ذكره بعضهم من عدم استناد اختيار العبد إليه تعالى ، إلا أنه لا ريب في وقوعه تحت سلطانه ، ولو بتهيئة أسباب الهداية والسعادة ، أو الخذلان والشقاوة ، قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)(١) وقال عزّ وجلّ : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(٢) وقال سبحانه : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ)(٣).

مضافا إلى أن أخذ الاختيار قيدا في المراد والمكلف به ـ لو أمكن ، وغضّ النظر عمّا قيل من عدم كون الاختيار اختياريا ؛ فيمتنع أخذه في المكلف به الاختياري ـ كان لازمه عدم الإجزاء بالموافقة بوجه غير اختياري ، ولا يمكن البناء عليه في غير العباديات. فلاحظ.

الثالث : ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) (٤) من أن الاختلاف بين الإرادتين إنما هو في كيفية التعلّق بالمراد ، مع واحدة حقيقتهما ومتعلّقهما.

بدعوى : أنه إذا كان لوجود الفعل مقدمات عديدة كان لكل منه دخل في جهة من جهاته ، فهي تمنع العدم من جهتها ، وحينئذ فالمصلحة الداعية للشيء والموجبة لإرادته قد تكون مقتضية لحفظه من جميع الجهات ، وقد

__________________

(١) سورة يونس : ٩٩.

(٢) سورة الأنعام : ١٤٩.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦.

(٤) سيدنا الجد السيد محسن الطباطبائي الحكيم (منه).

٢٤

تكون مقتضية لحفظه من بعضها ، فإن كانت على النحو الأول أوجبت إرادته من جميع الجهات ، بنحو تنشأ منها إرادات غيريّة بعدد جميع المقدمات ، وإن كانت على النحو الثاني أوجبت إرادته من خصوص تلك الجهة ، فتنشأ منها إرادة غيريّة متعلّقة بالمقدمة الحافظة لها دون غيرها.

وحيث كان صدور الفعل من المكلّف في فرض عدم الداعي النفسي إليه يتوقف على تشريع التكليف به ، وعلم المكلف بالتكليف الذي هو شرط في حدوث الداعي العقلي لفعله ، وعدم مزاحمة الداعي العقلي بالدواعي الشهوية على خلافه ، كان تشريع التكليف من مقدمات وجود فعل المكلف الحافظة لبعض جهات وجوده ، وكانت إرادة الشارع المتعلقة بالفعل من هذه الجهة هي الإرادة التشريعية ، وتقابلها الإرادة التكوينية ، وهي المتعلّقة بفعله من جميع جهات وجوده ، المقتضية لحفظه بلحاظ جميع المقدمات ، وهي التي يمتنع تخلف المراد عنها مع قدرة المريد. أما التشريعية فلا يمتنع التخلف فيها ، لفرض قصورها.

وعليه لا يكون العصيان كاشفا عن عدم الإرادة ، بل عن قصورها وأنها لم تبلغ مرتبة التكوينية ، كما تكون التشريعية من مراتب التكوينية الموجودة في ضمنها.

وفيه : أن ملاك الإرادة الغيرية لما كان هو الوصول للمراد النفسي فلا مجال له إلا مع العلم بحصول المراد النفسي ؛ للعلم بتحقّق بقية المقدمات أو احتمال ذلك.

أما مع العلم بعدم تحقق المراد النفسي ، للعلم بعدم تحقق بقية المقدمات ، فيمتنع إرادة بقية المقدمات بإرادة غيرية تابعة لإرادة ذيها نفسيا.

٢٥

نعم ، قد تكون مرادة بإرادة نفسية غير تابعة لإرادة ذيها ، فيقتصر المريد على تحقيقها ، وحيث ذكرنا أنه كثيرا ما يعلم المولى بعصيان المكلف للمزاحمات الشهوية أو نحوها للداعي العقلي ، امتنع أن يكون تشريع التكليف مسببا عن إرادة غيرية تابعة لإرادة المكلّف به نفسيا ، بل ذلك يكشف عن عدم تعلق الإرادة النفسية به وكون منشأ التكليف أمرا آخر.

أما بعض المحققين (قدس سره) (١) فقد أنكر الإرادة التشريعية في موارد التكاليف الشرعية ـ مع تفسيره الإرادة التكوينية بما يتعلق بفعل المريد نفسه ، والإرادة التشريعية بما يتعلق بفعل الغير ـ لدعوى : أن الإرادة التشريعية إنما تتعلق بفعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى المريد ، لأن شوقه إلى الفائدة يستتبع شوقه لذيها ، وهو فعل الغير الاختياري ، وحيث لم يكن فعل الغير مقدورا للمريد بلا واسطة ، بل بتبع البعث والتحريك اللذين هما فعل المريد بالمباشرة ، كانت إرادته سببا في إرادتهما وفعلهما.

أمّا إذا لم يكن لفعل الغير فائدة عائدة للمريد فيمتنع تعلّق الشوق به ، لامتناع تحققه بلا داع ، وحيث كان تعالى مستغنيا بذاته امتنع في حقه الإرادة التشريعية ، لعدم كون متعلقها ـ وهو فعل الغير ـ موردا للنفع له.

نعم ، ربما يكون إيصال النفع إلى الغير بتحريكه ـ أمرا أو التماسا أو دعاء ـ ذا فائدة عائدة إلى الشخص ، فينبعث الشوق إلى إيصال النفع بالبعث والتحريك ، الذي هو فعل المريد بالمباشرة.

ولا وجه لعدّ مثله إرادة تشريعية بعد كون المراد هو إيصال النفع إلى الغير بتحريكه ، وهو فعل المريد نفسه. إلا أن يكون محض اصطلاح.

__________________

(١) الشيخ محمد حسين الأصفهاني. (منه).

٢٦

وقد أطال (قدس سره) في ذلك ، ومرجع كلامه ـ على غموض فيه ، وجري على مسلك أهل المعقول ـ إلى عدم اشتمال موارد التكاليف الشرعية على إرادة أو كراهة تشريعيتين كي يمتنع تخلفها ، بل ليس موضوع الإرادة والكراهة فيها إلا نفس البعث والزجر. إلا أن يكونا هما المرادين بالإرادة والكراهة التشريعيتين ، فلا مشاحة في الاصطلاح.

وفيه : ـ مع ما سبق من عدم اختصاص الإشكال بالأحكام الشرعية ، بل يجري في تكاليف الموالى العرفيين ، الذين اعترف بإمكان الإرادة التشريعية في حقهم ـ أن توقف الإرادة التشريعية لفعل الغير على وصول نفع منه للمريد غير ظاهر الوجه. بل كما أمكن تعلق الإرادة التكوينية بفعل ما لا يصل نفعة إلى المريد ـ لفرض كماله ـ أمكن ذلك في الإرادة التشريعية.

والتحقيق : أن منشأ التكليف من الشارع الأقدس وغيره ليس من سنخ الإرادة التكوينية ، التي هي في الحيوان عبارة : عن الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد. ومن الله تعالى ما يشارك ذلك في النتيجة ، وهي : السعي لتحقيق المراد ، التي يعبّر عنها شرعا وعرفا بالمشيئة. بل هو أمر آخر قد يطلق عليه الإرادة شرعا وعرفا ، إما بنحو الاشتراك اللفظي ، أو مجازا بلحاظ مشاركته في الجملة للمعنى المتقدم في العلّية للمراد ، وإن لم تكن عليته تامّة ، بل بنحو الاقتضاء ، وليكن هو المراد بالإرادة التشريعية. ونظيره في ذلك الكراهة التشريعية.

وتوضيح ذلك : أنه لا بد في انتزاع التكليف من نحو من العلاقة بين المكلّف والمكلّف تقتضي متابعة الثاني للأول وموافقته ، سواء كان اقتضاؤها بحكم العقل تبعا لذاتيهما ـ كالمولى الحقيقي عزّ وجلّ مع عبيده ـ أم لأمر

٢٧

خارجي ، كقوة المكلّف المستلزمة لخوف ضرره ، أو وجوب طاعته شرعا ، أو دالة له على المكلّف تقتضي موافقته.

وحينئذ فما ينتزع منه التكليف هو الخطاب والتشريع المبتنيان على الجهة المذكورة ، وعلى جعل السبيل بلحاظها ، سواء كان الداعي لذلك هو إرادة حصول المكلف به تكوينا من جميع الجهات من كل مكلّف ، أو في الجملة ولو من بعضهم ، أم إرادته من بعض الجهات ـ على ما تقدّم توضيحه في كلام سيدنا الأعظم (قدس سره) ـ أم أمرا آخر كالملاك الواجب الحفظ تشريعا على المكلّف ، أو امتحان المكلّف وإظهار حاله في الطاعة والمعصية.

ومن هنا لا ينافيه تخلّف المراد ، وإن كان المكلّف قادرا على تحقيقه من المكلّف بالاختيار أو بدونه ، كما لا يمنع من طلبه العلم بعدم تحققه من المكلّف.

نعم ، لو كان الداعي له هو إرادة فعل المكلّف تكوينا من جميع الجهات لم يتخلّف مع قدرة المكلّف ، بإجبار المكلّف ، أو بإحداث الدواعي الموجبة لفعلية اختياره ، ومع عجزه لا يصدر التكليف منه مع علمه بعدم تحقق المكلف به ، كما لا يصدر معه التكليف منه ـ أيضا ـ لو كان الداعي هو إرادته من بعض الجهات ، وإن كان قادرا على تحقيقه.

كل ذلك لعدم فعلية إرادته التكوينية حينئذ ، ولا داعي للتكليف غيرها ، كما سبق توضيحه.

وهو الحال ـ أيضا ـ لو كان الداعي هو الإرادة بأحد الوجهين ، إذا لم يكن الطلب منشأ لانتزاع التكليف ، لعدم العلاقة المقتضية لمتابعة المطلوب منه للطالب ، وموافقته له.

٢٨

وقد ظهر من ذلك أن الإرادة التشريعية مباينة للإرادة التكوينية خارجا ، وإن كان متعلقهما واحدا وهو فعل الغير ، وأن بينهما عموما من وجه مورديا في مورد الطلب ، حيث يجتمعان فيما لو كان الداعي للتكليف هو تعلّق الإرادة التكوينية بالمكلف به ، وتنفرد الإرادة التشريعية فيما إذا كان الداعي أمرا آخر كالملاك والامتحان ، وقد تنفرد التكوينية فيما لو لم يكن بين الطالب والمطلوب ما يصحح انتزاع التكليف.

وأما امتناع التخلّف مع قدرة المريد ، وعدم فعلية الإرادة مع العلم بعدم حصول المراد ، فهما تابعان للإرادة التكوينية.

كما أن الداعوية العقلية تابعة للإرادة التشريعية التي بها قوام التكليف دون التكوينية.

ولذا كان التكليف الامتحاني حقيقيا مقتضيا للإطاعة عقلا حتى لو علم المكلّف بحاله.

ولا يكون التكليف صوريا إلّا بتخلّف الإرادة التشريعية ، بأن لم يكن الخطاب مبنيا على العلاقة المتقدمة التي يبتني عليها التكليف ، ولا على جعل السبيل بلحاظها ، كما لو كان الغرض منه الاعتذار للغير عن فعل العبد ، لبيان عدم إطاعته للمولى ، كي لا يؤاخذ بإساءته لذلك الغير ، فلا تجب إطاعته على العبد لو اطلع على حاله.

هذا ، وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد إنشاء الطلب هو إبراز كون الفعل على ذمة المكلّف فلا مجال للالتزام به على ظاهره ، لوضوح أنه ـ مع اختصاصه بالطلب ممن له التكليف ، المبني على ملاحظة الجهة المقتضية لمتابعته ـ من سنخ الوضع ، وهو مباين للتكليف المستفاد من إنشاء

٢٩

الطلب سنخا ، لتقوّم التكليف بالعمل ، ولذا كان مقتضيا له بنفسه ، وموضوعا للطاعة والمعصية بلا توسط أمر غير حكم العقل ، ولا يعقل ثبوته مع عدم وجوب العمل ، بخلاف الوضع ك (الدين والملك) فهو لا يقتضي العمل بنفسه ، ولا يكون موضوعا للطاعة والمعصية ، وإنما يكون موضوعا للحكم الشرعي المقتضي له والموضوع لهما ، ولذا أمكن ثبوته مع عدم وجوبه لعجز ، أو عسر ، أو غيرهما.

نعم ، لما كان البعث والتحريك في مورد التكليف مبنيا على ملاحظة العلاقة المقتضية لمتابعة المكلّف للمكلّف ، وعلى جعل المسئولية بلحاظها ـ كما سبق منا ـ كان مستتبعا للمسئولية بالفعل المخاطب به ، بحيث يصير كأنه في ذمة المكلف ، فكون المكلّف مسئولا بالفعل وفي ذمته مسبب عن إنشاء الطلب في مورد التكليف ومتفرع على التكليف ، لا أنه مفاد إنشاء الطلب الذي يكون منشأ لانتزاع التكليف ، فضلا عن أن يكون مفاد مطلق إنشاء الطلب ولو في غير مورد التكليف.

ولعله لذا ورد التعبير عن بعض الواجبات بالدّين ، مثل ما عن الصادق عليه السلام في وصية لقمان : «وإذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء ، صلّها ، واسترح منها ، فإنها دين» (١).

ولا يبعد ابتناء ما ذكره على ما ذكرناه من الأمر الارتكازي ، وإن لم يوضّح في كلامه بالوجه المناسب له.

الأمر الثاني : المتيقّن ممّا تقدّم منّا ومنهم في منشأ انتزاع التكليف إنما

__________________

(١) الوسائل ج ٥ ، باب : ١٢ من أبواب قضاء الصلوات ، حديث : ٢٥.

٣٠

هو في الحكمين الإلزاميين ، وهما الوجوب والحرمة ، وأما الحكمان الاقتضائيان غير الإلزاميين ـ وهما الاستحباب والكراهة ـ فالكلام في منشأ انتزاعهما يبتني على الكلام في الفرق بينهما وبين الحكمين الإلزاميين.

وقد يستفاد مذهبهم في ذلك ـ تبعا ـ مما ذكروه في مباحث مادة الأمر والطلب وصيغتيهما عند الكلام في دلالتها على الوجوب وعدمها ، وأنها لو دلّت فهل تكون دلالتها بالوضع أو الإطلاق أو بأمر خارج من عقل أو عرف؟ حيث كان الكلام هناك في مقام الإثبات المتفرع على حقيقة الفرق بينهما ثبوتا.

أما نحن فحيث كنا هنا بصدد التعرض لحقيقة الأحكام كان البحث المذكور من البحوث الأصلية ، الحقيقة بالذكر في المقام.

والمستفاد من كلماتهم المفروغية عن اشتراك الأحكام الاقتضائية غير الإلزامية ، والإلزامية ، في جهة تقتضي الطلب والبعث نحو المتعلّق ، أو النهي والزجر عنه ، وإنما الكلام في الخصوصية الزائدة على ذلك التي يمتاز بها أحد الحكمين عن الآخر.

والكلام في ذلك يبتني ..

تارة : على أن الإرادة التشريعية التي هي منشأ انتزاع التكليف متحدة في حقيقتها مع الإرادة التكوينية ، وليس الفرق بينهما إلا في ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من ابتناء الثانية على تنزيل عضلات العبد وحركاته منزلة عضلات المولى وحركاته ، أو في ما سبق عن غير واحد من اختلاف متعلقهما ، فمتعلق الإرادة التكوينية فعل المريد نفسه ، ومتعلق التشريعية فعل الغير.

٣١

وأخرى : على ما سبق من سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن الإرادة التشريعية مرتبة من التكوينية ، وأنها إرادة للفعل من حيثية تشريع التكليف وإيصاله فقط ، لا من جميع الجهات كالتكوينية.

وثالثة : على ما سبق من بعض المحققين من عدم انتزاع التكليف الشرعي من الإرادة التشريعية لفعل الغير ، بل من نفس البعث والزجر بداعي جعل الداعي ، اللذين هما فعل المريد بالمباشرة ، ومرادان له بإرادة تكوينية.

ورابعة : على ما سبق من بعض مشايخنا من أن حقيقة التكليف اعتبار المكلّف به ذمة المكلّف.

وخامسة : على ما ذكرناه في حقيقة الإرادة التشريعية المقوّمة للتكليف.

أما على الأول فقد ذكر بعض الأعيان المحققين (قدس سره) (١) : أن الفرق بين الحكم الإلزامي وغيره راجع إلى الفرق بين مرتبتي الإرادة الموجبة لهما تبعا لاختلاف الملاك الموجب لهما ، فإن كان إلزاميا كانت الإرادة شديدة ينتزع منها الحكم الإلزامي ، وإلا كانت الإرادة ضعيفة ينتزع منها الحكم غير الإلزامي.

ويشكل : بأن الإرادة لما كانت هي الشوق المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد والسعي لتحصيله فهي وإن كانت قابلة للشدة والضعف ، إلا أنها لا تنقسم إلى إلزامية وغيرها ، بل عدم الإلزام مستلزم لعدم فعلية الإرادة ، لمنافاته الإرادة ، لمنافاته لفعلية السعي نحو المراد الذي هو لازم لها ، ولذا لا تنقسم الإرادة التكوينية إلى لزومية وغيرها ، تبعا لاختلاف الملاك والغرض الموجب لها ، بل مرجع عدم اللزوم في الشوق إلى محض الرغبة من دون أن

__________________

(١) الشيخ آغا ضياء الدين العراقي. (منه).

٣٢

تبلغ مرتبة الإرادة.

وأما ما ذكره من أن ذلك خلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية ، فهو كما ترى! إذ لا وجه لاختلافهما في ذلك بعد الاعتراف باتحاد حقيقتهما ، وبعد اشتراكهما في اختلاف الملاك الموجب لهما في الإلزام وعدمه ، بل الأولى كون ذلك كاشفا عن اختلاف حقيقتيهما.

أما بعض الأعاظم (قدس سره) (١) فقد صرّح بما ذكرناه ، من أن الإرادة وإن كانت قابلة للشدة والضعف ، إلا أنها ما لم تشتد بحيث يترتب عليها تحريك العضلات لا تكون إرادة.

كما أن ظاهره اشتراك الوجوب والاستحباب في الإرادة ، وفي ما يترتب عليها ، وهو الخطاب المتضمّن لإيقاع المادة تشريعا على المكلف ، وإنما يختلفان في المبادئ ، حيث يكون إيقاع المادة على المكلف تشريعا مسببا تارة : عن مصلحة لزومية واخرى : عن مصلحة غير لزومية.

أما وجوب الفعل فهو بحكم العقل ، تبعا لصدق الإطاعة عليه ، التي هي واجبة عقلا بنفسها. ويكفي في صدقها عليه صدور البعث من المولى من دون قرينة على كون مصلحته غير لزومية. أما مع قيام القرينة على ذلك بترخيص المولى في الترك فلا يصدق عنوان الإطاعة ، ولا يكون واجبا ، بل يكون مستحبا.

ومرجع ذلك إلى أن الوجوب والاستحباب وإن اشتركا في الإرادة إلا أنهما يختلفان في الملاك الموجب لها ، وفي منشأ الانتزاع المسبّب عنهما ،

__________________

(١) الشيخ ميرزا محمد حسين النائيني. (منه)

٣٣

فالوجوب مسبب عن البعث من دون قرينة على كون الملاك غير لزومي ، والاستحباب مسبب عن البعث مع القرينة على ذلك. وقد قاربه في ذلك بعض من تأخّر عنه.

ولا بد أن يريد بالإطاعة ما يساوق عدم المعصية ، لأنها الواجبة عقلا والتي يختص بها الأمر الوجوبي ، وإلّا فالإطاعة. بمعنى المتابعة للمولى تتحقق بموافقة الأمر الاستحبابي ، ولا تتصف بالوجوب عقلا ، بل بمحض الحسن.

وحينئذ يشكل ما ذكره ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه آنفا من منافاة الترخيص في الترك للإرادة ـ بأن التابع لصدق الإطاعة ـ بالمعنى المذكور ـ هو الوجوب العقلي المختص بالتكاليف الشرعية ، والكلام إنما هو في الوجوب المولوي الذي هو المنشأ لصدق الإطاعة ، وهو الطلب اللزومي الذي لا يختص بأوامر الشارع الأقدس ، بل يجري في الأوامر العرفية ، ومن الظاهر أنه تابع للطلب الصادر من المولى تبعا للملاك الداعي له ، حيث يكون لزوميا تارة ، وغير لزومي اخرى ، ومع عدم المعيّن يكون محتملا للوجهين ، ودليل الترخيص كاشف عن حاله ، لا مقوّم ثبوتا لعدم لزوميته ، بحيث يكون عدم الدليل عليه مساوقا للزوم الطلب واقعا.

كيف ، ولازم ذلك كون وصول دليل الترخيص موجبا لانقلاب الطلب من الوجوب إلى الاستحباب ثبوتا؟! ولا يظن الالتزام به منه ولا من غيره ، إلا في موارد النسخ ، والانقلاب به ـ لو تمّ ـ مسبّب حقيقة عن نفس الترخيص ، لا عن وصول دليله.

نعم ، قد يكون عدم وصول الدليل على الترخيص منشأ للبناء على كون الطلب إلزاميا ظاهرا ، لأنه الأصل في الطلب ، أو لغير ذلك مما يرجع إلى

٣٤

مقام الإثبات ـ ويأتي الكلام فيه في محله إن شاء الله تعالى ـ فيكون تبعا لذلك موضوعا للإطاعة ظاهرا ، فيجب عقلا وجوبا طريقيا في طول وجوب الإطاعة الواقعية ، وإن كان مستحبا واقعا. فكأن ما ذكره مبتن على اختلاط مقام الثبوت بمقام الإثبات ، ومقام الواقع بمقام الظاهر.

وأما على الثاني فتوجيه الفرق بين الحكمين غير عسير ، لأنه إذا أمكن إرادة الشيء من بعض الجهات دون بعض بنحو يقتصر على المقدمات الحافظة لوجوده من تلك الجهات ، فكما يمكن الاقتصار على الطلب الإلزامي الذي يجب عقلا إطاعته ، يمكن الاقتصار على الطلب غير الإلزامي الذي يحسن عقلا إطاعته ، ولذا كان ظاهره انتزاع الوجوب من مقام إظهار الإرادة مع عدم الترخيص في الترك ، والاستحباب من مقام إظهارها مع الترخيص فيه.

نعم ، لا يبعد كون إلزامية الإرادة والطلب وعدمها راجعة إلى خصوصية في الإرادة والطلب ، مستكشفة بالترخيص وعدمه لا متقوّمة بهما ، وأن الترخيص لازم لعدم إلزاميتهما ، وعدمه لازم لإلزاميتهما ، مع تقوّم كلّ من الحكمين الإلزامي وعدمه بنفس الإرادة والطلب بإحدى خصوصيتيهما ، من دون دخل للترخيص وعدمه فيه ، وذلك لما أشار إليه بعض المحققين (قدس سره) ، من أنه قد لا يخطر أحد الأمرين ـ من الترخيص وعدمه ـ على بال الحاكم عند جعل أحد الحكمين والخطاب به. وربما يرجع ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) إلى ذلك. والأمر سهل.

وأما على الثالث فقد ذكر المحقق المذكور أن الفرق بينهما ينحصر في تأكد البعث وعدمه ، فالوجوب هو الإنشاء بداعي البعث الأكيد ،

٣٥

والاستحباب هو الإنشاء بداعي البعث غير الأكيد ، والبعث وإن كان اعتباريا ، والاعتبار بنفسه لا يقبل الشدة والضعف ، إلّا أن الشدة والضعف في نفس الأمر المعتبر ـ وهو البعث ـ لأن اعتبار أمر حقيقي بمرتبته الشديدة أو الضعيفة أمر ممكن ، بلحاظ اختلاف الأثر المترتب عليه في مقام العمل.

والمصلحة اللزومية كما تناسب شدة الإرادة تناسب شدة البعث وتأكده ، وغير اللزومية كما تناسب ضعف الإرادة تلازم ضعف البعث وعدم تأكّده. وأما الترخيص في الترك وعدمه فهما لازمان لمنشا الاستحباب والوجوب ، لا مقومان له ، لما سبق منا التنبيه عليه تبعا له.

لكن جعل الشدة والضعف في البعث الاعتباري معيارا في الفرق بين الحكمين لا يخلو عن إشكال ، لأن اعتبار البعث إنما هو لأجل ترتب الانبعاث عليه عقلا ، كما يترتب خارجا على البعث الحقيقي ، وكما يترتب المراد على الإرادة في التكوينيات ، ومن الظاهر ترتب الانبعاث الخارجي على البعث الحقيقي والمراد على الإرادة مطلقا وإن كانا ضعيفين ، وذلك لا يناسب دخل شدة البعث وضعفه في لزوم الانبعاث عقلا وعدمه.

وأما على الرابع فقد ذكر بعض مشايخنا : أن الفرق بين الحكمين في مقام الثبوت من حيثية المبدأ ، وذلك بشدة الملاك وضعفه ـ بناء على تبعية الأحكام للملاكات ـ وفي مقام الإثبات من حيثية مقارنة الحكم للترخيص وعدمه ، إذ حيث كان الطلب عبارة عن إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف ، فاللازم عقلا بمقتضى قانون المولوية والعبودية لزوم الامتثال ، وهو مرجع الوجوب. إلّا أن يرد ترخيص من المولى نفسه ، فيجوز ترك الامتثال عقلا ، وهو مرجع الاستحباب.

٣٦

وهو مقارب لما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) أو راجع إليه. غايته ، أنه صرح بكون الترخيص وعدمه فرقا بين الحكمين في مقام الإثبات لا الثبوت ، وهو لا يناسب ما ذكره من كون الترخيص رافعا لحكم العقل بوجوب الامتثال ، فيكون الفعل به مستحبا ، ولولاه لكان واجبا ، حيث يناسب ذلك دخل الترخيص وعدمه في الحكمين ثبوتا لا إثباتا.

على أنه إذا كان مفاد الطلب إبراز اعتبار المادة في ذمّة المكلف فوجوب أداء ما في ذمة المكلف عليه لمّا كان عقليا راجعا إلى مقام الإطاعة امتنع ترخيص المولى في تركه ، كما يمتنع ترخيصه في ترك الواجب.

إلّا أن يرجع ترخيصه إلى رفعه عن ذمة المكلف ، فيرتفع موضوع حكم العقل ، لكن يكون نسخا لمفاد الطلب ، ولا يبقى معه وجه لبقاء الاستحباب.

أو يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلا بنحو خاص من الجعل في الذمة ، ولا يجب في غيره ، وهو ما يستكشف بترخيص المولى ، فيكون الترخيص كاشفا عن حال الجعل ، ولم ينهض الوجه المذكور لبيان الفارق بين الجعلين ثبوتا.

ولا مجال لقياسه على ترخيص الدائن في تأخير الدين ، أو عدم أدائه الموجب لعدم وجوب الأداء مع بقاء انشغال الذمة بالدين.

للفرق بينهما بأن وجوب أداء حقوق الناس لما كان شرعيا كان للشارع التصرّف فيه سعة وضيقا ، فله إناطته بعدم ترخيص صاحب الحق في ترك الأداء ، من دون أن ينافي بقاءه ، أما أداء حقوق المولى فهو عقلي خارج عن وظيفة الشارع.

٣٧

والظاهر توجه ذلك على ما سبق من بعض الأعاظم ، كما يتوجه ما سبق عليه هنا في الجملة ، لرجوع أحدهما للآخر. فلاحظ.

وأما على الخامس ـ الذي عرفت منا تقريبه ـ فالحكم غير الإلزامي وإن كان الخطاب به مبنيا على ملاحظة الجهة المقتضية للموافقة بين الحاكم والمخاطب ، إلا أنه يفترق عنه في عدم ابتنائه على جعل المسئولية بلحاظ تلك الجهة ، بحيث تكون المخالفة خرقا لها وخروجا عليها ، بل على محض جعل مقتضى الخطاب على حساب الحاكم منتسبا إليه ، بحيث يكون الإتيان به لأجله وعلى حسابه من حيثية واحديته لتلك الجهة المقتضية للمتابعة.

وبعبارة اخرى : الخطاب ممن ينبغي متابعته مبتنيا على ملاحظة الجهة المقتضية للمتابعة هو المصحح لانتزاع الحكم وإضافته إليه ، بنحو يقتضي نسبة متعلقه له وصيرورته في حسابه حتى يكون الإتيان به لأجله إطاعة له وقياما بمقتضى تلك الجهة الملحوظة ، كالعبودية للمولى الأعظم ، والسلطنة من الموالي العرفيين ، والحق المتبادل بين المتناظرين.

وهذا ما تشترك فيه الأحكام المولوية الاقتضائية وبه تمتاز عن الأوامر والنواهي الإرشادية ، فانها لا تبتني على ملاحظة الجهة المذكورة ، بل على نحو الإرشاد لواقع لا دخل للامر والناهي به ، ولا ينتسب إليه ، ولا يكون منشأ لانتزاع الحكم منه ، ولا يصح متابعتها لأجله.

نعم ، الحكم المولوي تارة : يتمحض في ذلك ، فلا يكون إلزاميا ، بل يستلزم الترخيص في الترك مع التفات الحاكم.

واخرى : يبتني مع ذلك على جعل المسئولية بالإضافة لتلك الجهة ، بحيث تكون مخالفته خرقا لها وخروجا عن مقتضاها ، فيكون إلزاميا ، ويلزمه

٣٨

عدم الترخيص في الترك.

فالفرق بينهما ثبوتا راجع إلى ذاتي الحكمين ، ولا ينحصر في مبادئهما ، وهي الملاكات التي تكون إلزامية تارة ، وغير إلزامية اخرى ، كما لا ينحصر بالفرق العرضي بالترخيص في الترك وعدمه.

وأولى من ذلك عدم تقوّمهما بالترخيص وعدمه ، أو المنع من الترك ، بنحو ينتزعان من الأمرين مع بساطتهما مفهوما ، أو بنحو التركيب في مفهومهما ، إذ اشتمال الخطاب على إحدى الخصوصيتين الذاتيتين المشار إليهما يكفي في انتزاع أحد الحكمين بلا حاجة للترخيص وعدمه ، أو المنع.

ومما تقدّم يظهر ضعف ما عن بعضهم : من إرجاع الأوامر الاستحبابية للأوامر الإرشادية ، وأنها لا تتضمّن إلّا الإرشاد للمصلحة الراجحة.

وأما ما اشير إليه في وجه ذلك : من منافاة البعث للترخيص في الترك ، فلا بد من اختصاصه بالوجوب وخلوّ الأمر الاستحبابي عنه ، وتمحضه في الإرشاد.

فهو مدفوع : بأن المراد بالبعث إن كان هو الحث على الفعل المعبر عنه بالطلب ، فهو لا ينافي الترخيص ، بل قد لا يخلو منه الأمر الإرشادي أيضا ، كما لو كان الداعي له حب الخير للمخاطب.

وإن كان المراد منه ما يساوق جعل المسئولية على المخاطب ولابدّية الطلب منه فخلو الخطاب عنه لا يستلزم كونه إرشاديا ، لما سبق.

كيف والأوامر الإرشادية لا تصحح نسبة متعلقها للشارع والشريعة ، بنحو يؤتى به لأجله ، كما لا تقتضي موافقتها أهلية المخاطب بها للثواب منه ، مع وضوح ثبوتهما في الأوامر الاستحبابية.

٣٩

وبالجملة : وضوح الفرق بين الأوامر الاستحبابية والإرشادية بمقتضى المرتكزات المتشرعية والعرفية ، وبملاحظة آثار كل منهما بحدّ لا ينبغي معه خفاؤه وإرجاع أحدهما للآخر ، بل اللازم لأجله البناء على خطأ التفسير المستلزم لذلك ، ويكون كالشبهة في مقابل البديهة.

تنبيهان :

أولهما : ما تقدّم منا في تفسير الحكم الاقتضائي الإلزامي وغيره كما يجري في الوجوب والاستحباب يجري في الحرمة والكراهة ، وإن اختلفا عنهما في كون الملاك فيهما راجعا للمفسدة في الفعل المقتضية للزجر عنه ، وللمصلحة المقتضية للبعث نحوه في الوجوب والاستحباب.

وأما على بقية المباني فحيث ذكرها أصحابها في مبحث الأوامر تبعا لبيان مفاد صيغة الأمر ومادّته ، فقد اقتصر بعضهم على ما يناسبها وهما الوجوب والاستحباب ، وربما يستفاد تفسير الحرمة والكراهة من مجموع كلماتهم ولو بلحاظ ملاك المبنى.

فالمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الإرادة ذات المرتبتين ، أو مع الترخيص في الترك وعدمه انتزاع الحرمة والكراهة من الكراهة ذات المرتبتين ، أو مع الترخيص في الفعل وعدمه. والمناسب لانتزاع الوجوب والاستحباب من الطلب أو البعث انتزاع الحرمة والكراهة من النهي أو الزجر.

أما على ما سبق من بعض مشايخنا فالمناسب كون حقيقتهما اعتبار ترك المادة في ذمة المكلف ، لكن لازمه عدم الفرق بين تحريم الشيء وإيجاب تركه ،

٤٠