المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

وربما يكون الوجه في بنائهم على ذلك وجريهم عليه أن عدم الإلزام ناشئ عما هو من سنخ المانع عن تأثير الملاك في الالزام ، فلا يعتنى باحتماله مع إحراز المقتضي بنفس البعث.

أو أن البعث والطلب لما كان مقتضيا للانبعاث كان الاقتصار عليه من دون تنبيه على الترخيص الذي هو قد يمنع من فعليته ظاهرا في إرادة الإلزام المناسب لفعليته تبعا للمقتضي ، ولذا يكون الترخيص عرفا من سنخ الاستدراك على خلاف مقتضى البعث والطلب ، فلا يعتني باحتماله مع المقتضي المذكور.

فالمورد من صغريات قاعدة المقتضي التي قد يجري عليها العقلاء في بعض الموارد.

لكن لا بأن تكون بنفسها دليلا على الإلزام عند إحراز البعث ، بل تكون من القرائن العامة التي يحتف بها الكلام المشتمل على الصيغة ، والتي توجب انعقاد الظهور في الإلزام ، مع كون الدليل هو الظهور المنعقد للإطلاق على طبقها ، فلو لم ينعقد الظهور لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم الإلزام من دون أن يكون ظاهرا فيه ، أو لم يحرز لتردد الكلام بين ما هو ظاهر في الإلزام وما هو ظاهر في عدمه ، لا مجال للبناء على الإلزام ، لعدم التعويل على قاعدة المقتضي بنفسها ، ليستغنى بها عن الظهور الإطلاقي المذكور ، بل الأصل عدم الإلزام.

كما أن جري أهل اللسان على ما يناسب القاعدة المذكورة في المقام لا يكون قرينة على استعمال الصيغة في الطلب الإلزامي ، بل هو موجب لانعقاد الظهور الإطلاقي للكلام في الإلزام مع كونه خارجا عن مفاد الصيغة ،

٢٨١

وليس مفادها إلا النسبة البعثية المناسبة للأمرين.

ويظهر أثر ذلك فيما لو تضمنت الصيغة البعث نحو جملة من الامور قامت القرينة الخارجية على عدم الإلزام ببعضها ، حيث لا مجال للبناء على الإلزام في الباقي بناء على الأول ، لامتناع استعمال الصيغة فيه في فرض عدم الإلزام ببعض ما تضمنت البعث له ، أما بناء على ما ذكرنا فحيث لا تكون القرينة الخارجية رافعة للظهور الإطلاقي تعين العمل عليه في غير مورد القرينة على خلافه ، وعليه سيرتهم ، على ما سبق.

نعم ، لو كانت القرينة المذكورة متصلة مانعة من انعقاد الظهور الإطلاقي في الالزام تعين التوقف عن استفادة الإلزام حتى في غير موردها.

تنبيهات

الأول : ما تقدم كما يجري في صيغة الأمر وأداته يجري في أداة النهي ، كما أشرنا إليه في بعض الموارد ، حيث يظهر بالتأمل في الوجوه المذكورة مشاركتها لهما في تلك الجهات الموجبة للانصراف للإلزام أو استفادته من حكم العقل أو الإطلاق ، أو في نظائرها.

فمثلا : إذا كان الفرق بين الوجوب والاستحباب تأكد الإرادة أو البعث ، كان الفرق بين الحرمة والكراهة تأكد الكراهة أو الزجر.

وإذا كان مفاد صيغة الأمر البعث نحو المادة ، وكان منشأ لصدق الإطاعة عليها الواجبة عقلا عليها ما لم يرخص المولى في الترك ، كما سبق من بعض الأعاظم (قدس سره) ، كان مفاد أداة النهي الزجر عن المادة ويكون

٢٨٢

منشأ لصدق المعصية القبيحة أو المحرمة عقلا عليها ما لم يرخص المولى فيها.

كما أنه إذا كان مفاد صيغة الأمر إبراز اعتبار المادة في ذمة المكلف ، ويجب الخروج عما في الذمة عقلا ما لم يرخص المولى في تركه ـ كما سبق من بعض مشايخنا ـ كان مفاد أداة النهي حرمان المكلف من المادة فيقبح عقلا التلبس بها ما لم يرخص فيه المولى.

وهكذا الحال في بقية الوجوه وأجوبتها ، وإنما لم يتعرضوا لذلك لأنهم بصدد البحث في الأوامر.

الثاني : الظاهر أن الوجوه المذكورة تجري في مادة الطلب بعين التقريبات المتقدمة ، وكذا في مادة الأمر والنهي بناء على عدم اختصاصهما وضعا بالإلزام ، كما صرح به بعضهم في مادة الأمر ، وأشرنا إليه آنفا.

بل تجري في كل ما يشاركها في البعث نحو الفعل أو الزجر عنه.

الثالث : بعد أن اختار في المعالم اختصاص الصيغة لغة بالوجوب ، واستدل على ذلك قال : «فائدة : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم السلام) أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم ، بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر [به] منهم (عليهم السلام)».

ولا يبعد تمامية ما ذكره بناء على وضع الصيغة بحسب الأصل للإلزام ، وأنه هو الوجه في حملها عليه مع التجرد عن القرينة ، لأن كثرة الاستعمال بالنحو المذكور تناسب صيرورة الندب أو مطلق الطلب مجازا مشهورا ، لو لم يحصل النقل لأحدهما بنحو الاشتراك اللفظي أو مع هجر المعنى الأول.

٢٨٣

وما في الكفاية من أن الاستعمال فيه وإن كثر إلا أنه لما كان مع القرينة لم يوجب صيرورة المجاز مشهورا مانعا من انعقاد ظهور الكلام في المعنى الحقيقي عند التجرد منها ، كما ترى! لأن لازمه امتناع المجاز المشهور ، لتوقفه حينئذ على شيوع الاستعمال المجازي المجرد عن القرينة ، ولا طريق لإحراز كون الاستعمال مجازيا مع التجرد عنها.

ومن هنا فالظاهر أن القرينة في المجاز لما لم تكن جزء من الدال على المعنى المجازي والحاكي عنه ، بل هي قرينة على سوق اللفظ ذي القرينة للدلالة عليه بنفسه خروجا به عما وضع له ، كانت كثرة استعماله فيه موجبة لتحقق العلاقة بينهما حتى يصير مجازا مشهورا له أو يتحقق النقل إليه ، بخلاف ما لو فرض كون القرينة جزءاً من الدال على المعنى المجازي الحاكي عنه ، حيث تكون كالقيد الوارد على الماهية الذي يكون جزءاً من الدال على إرادة المقيد منها ، الذي لا تكون كثرة الاستعمال معه بنفسها سببا لتجدد العلاقة بين اللفظ الدال على الماهية مع تجرده عن القيد وبين المقيد ، إلا بمقارنات أخر زائدة على كثرة الاستعمال.

نعم ، بناء على ما ذكرنا من عدم وضع الصيغة لخصوص الوجوب ، بل لما يناسب مطلق الطلب ، وأن الحمل على الوجوب لأنه مقتضى الإطلاق عند عدم القرينة ، فكثرة الموارد التي تقوم فيها القرينة المتصلة أو المنفصلة على الاستحباب لا توجب تبدل مقتضى الإطلاق ، لعدم منافاتها للجهة الموجبة لحمل المطلق على الوجوب ، حيث لا موضوع للإطلاق معها ، نظير ما ذكرناه في كثرة الاستعمال مع القيد.

ولذا كان ديدن الأصحاب على استفادة الوجوب عند التجرد عن

٢٨٤

القرينة في أخبار الأئمة (عليهم السلام) ، كما هي سيرة جميع المسلمين على ذلك في النبويات مع شيوع إطلاق الصيغة فيها في مورد الاستحباب أيضا ، بل لعله كذلك في الكتاب المجيد أيضا.

بل الإنصاف أن كثرة الاستعمال في موارد الندب مع السيرة المذكورة من أقوى الشواهد على ما ذكرناه من عدم اختصاص الصيغة بالوجوب وضعا ، وحملها عليه مع الإطلاق والتجرد عن القرينة. فلاحظ.

الرابع : الظاهر أن وقوع صيغة الأمر وأداته عقيب النهي أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في البعث نحو الفعل ، فضلا عن الإلزام به.

كما أن وقوع أداة النهي عقيب الأمر أو في مورد توهمه مانع من ظهورها في الزجر عن الفعل ، فضلا عن كونه بنحو الإلزام.

لأنها وإن لم تخرج عما استعملت فيه من النسبة البعثية أو الزجرية ، إلا أن ما سبق من أصالة كون الداعي للاستعمال هو البعث أو الزجر بمقتضى بناء أهل اللسان لا يجري في الموردين المذكورين ، بل المتيقن لهم كون الداعي رفع النهي أو الأمر السابقين أو بيان عدمهما.

ولا مجال لما يحكى عن بعض العامة من عدم خروج صيغة الأمر في المورد المذكور عن الدلالة على الوجوب ، فضلا عن أصل الطلب.

ومثله ما عن المشهور من دلالتها على الإباحة لو اريد بها الإباحة بالمعنى الأخص التي هي أحد الأحكام الخمسة ، لعدم المنشأ لذلك.

وإن اريد بها الإباحة بالمعنى الأعم ، التي هي محض الإذن في الفعل وعدم النهي عنه طابق ما ذكرناه.

هذا ، وعن بعضهم أن الأمر إن علق بزوال علة النهي كان ظاهرا في

٢٨٥

رجوع الحكم الثابت قبل النهي ، كما في قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) وقوله سبحانه : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)(٢). ويجري نظيره في النهي ، فهو لو علق بزوال علة الأمر كان ظاهرا في رجوع الحكم الثابت قبله.

وهو قد يتجه لو كانت علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان الثانوي الطارئ على العنوان الأولي والمانع عن تأثير مقتضيه ، كما في الآيتين المتقدمتين ، لأن مقتضى انتهاء أثر العنوان الثانوي المذكور بارتفاعه فعلية الحكم الأولي ، لارتفاع المانع منه.

ولا مجال له في غير ذلك بأن تكون علة النهي أو الأمر المرتفعين من سنخ العنوان المعاقب للعنوان الموجب للحكم الأول ، لا طارئا عليه مجتمعا معه.

فمثلا لو كان السلام على الصبية مستحبا ، ونهي عن السلام على الشابة ، ثم ورد : فإذا شابت المرأة فسلم عليها ، لا مجال لدعوى ظهوره في عود استحباب السلام عليها الثابت حين صباها ، لأن ارتفاع حكم الشابة عنها لا يستلزمه.

بل عود الحكم الأولى في الأول لا يستند لظهور الصيغة ، بل لإطلاق دليله أو عمومه الأحوالي ، حيث يقتصر في الخروج عنه على صورة ثبوت الحكم المنافي له بطروء العنوان الثانوي ، وإلا فمجرد ارتفاع الحكم الثانوي

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٣.

٢٨٦

تبعا لارتفاع عنوانه لا ينافي ثبوت حكم ثانوي آخر تبعا لطروء عنوان ثانوي آخر ، مانع من فعلية الحكم الأولي ، ولا دافع لاحتمال ذلك إلا الإطلاق أو العموم المذكور.

ومن هنا ليس مفاد الصيغة والأداة في جميع الموارد إلا رفع الحكم السابق ، ويرجع في الحكم الجديد إلى قرائن أو أدلة أخر خارجة عنه.

نعم ، لو كان النهي أو الأمر السابقين غير إلزاميين فكما يكون ظاهر صيغة الأمر وأداته وأداة النهي ارتفاعهما يكون ظاهرها عدم ثبوت الإلزامي منهما أيضا. إذ لا يحسن الأمر مع الحرمة ، ولا النهي مع الوجوب ، بل يدور الأمر بين الأحكام الثلاثة الباقية ، كما لعله ظاهر.

٢٨٧
٢٨٨

الفصل الرابع

في الجمل الخبرية

لا إشكال في استعمال الجمل الخبرية في مقام بيان مطلوبية مضمونها من نسبة ثبوتية أو سلبية.

وقد وقع الكلام في ظهورها في اللزوم وعدمه ، حيث صرح بعضهم بعدم ظهورها فيه ، بل تحمل على مطلق الطلب ، لدعوى : أنه بعد فرض الخروج بها عن معناها الذي وضعت له وهو الإخبار ، فلا مرجح للوجوب من بين المجازات ، والمتيقن إرادة أصل الطلب والبعث ، لا بمعنى ظهورها فيه ، ليتجه ما تقدم في تقريب استفادة الإلزام من الصيغة من أنه مقتضى إطلاق كل ما سبق لبيان البعث أو الزجر ، جريا على قاعدة المقتضي في المقام.

بل بمعنى ترددها بين الاستعمال فيه وفي كل من الوجوب أو الاستحباب بخصوصيته ، ومع إجمالها لا مجال للإطلاق المتقدم ، لأنه فرع الظهور في مطلق الطلب. وليس الاقتصار على مطلق الطلب إلا لأنه المتيقن في البين.

لكن هذا الوجه يبتني على الخروج بالصيغة عن معناها ، وقد اشتهر المنع منه في العصور المتأخرة.

وقد ذكروا في توجيه المنع المذكور وتوجيه الدلالة على الإلزام معه وجوها.

٢٨٩

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أنها مستعملة في معناها لكن لا بداعي الإعلام بالأمر المخبر به ـ كما هو الأصل في الجمل الخبرية ـ ليلزم الكذب ، بل بداعي البعث نحو المطلوب بوجه اكد من البعث بالصيغة ، حيث أخبر المتكلم بوقوع مطلوبه في الخارج لبيان أنه لا يرضى إلا بوقوعه.

ويشكل : بأن النكتة المذكورة غير ملتفت إليها ، ولا مقصودة ارتكازا ، في غالب الاستعمالات ، لا من المتكلم ولا من المخاطب ولا من غيره ممن يطلع على الاستعمال المذكور.

بل ما ذكره من كونه اكد في البعث ، وما يلزمه من عدم ملائمتها إلا للوجوب كالمقطوع بعدمه ، حيث لا إشكال ظاهرا في قابليتها لأن يراد منها الاستحباب ، كما تحمل عليه مع قيام الدليل على الترخيص في الترك كالصيغة ، مع أن لازم ذلك التصادم مع الدليل المذكور والاستعمال المزبور وتعذر الجمع بينهما بالاستحباب.

نعم ، ذكر (قدس سره) أن الجهة المذكورة إن لم توجب ظهورها في الوجوب فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين المحتملات عند الإطلاق بمقدمات الحكمة ، لأن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع للوجوب توجب تعين إرادته إذا كان المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره.

وكأنه راجع إلى أن الجهة المذكورة لو لم تكن هي المصححة للاستعمال في مقام البعث والطلب ، بل كان المصحح له جهة اخرى تجتمع مع مطلق البعث والطلب وإن لم يكن إلزاميا ، إلا أن مقتضى الإطلاق بمقدمات الحكمة هو ملاحظة هذه الجهة ـ زائدا على الجهة المصححة لإرادة

٢٩٠

البعث والطلب ـ لكمال مناسبتها للإخبار ، وعليه لو قامت القرينة على عدم ملاحظتها لزم الحمل على البعث والطلب غير الإلزامي ، لوجود المصحح له غيرها.

لكنه يشكل : بأن ذلك قد يتم لو احرز كون المتكلم بصدد بيان إحدى الخصوصيتين ، حيث يتعين اتكاله على المناسبة المذكورة ـ لو تمت ـ في بيان خصوصية الإلزام ، ولا طريق لإحراز ذلك بعد كون أصل البعث والطلب موردا للعمل.

ومجرد كون إحدى الخصوصيتين أنسب لا تقتضي حمل المطلق عليها بعد صلوح القدر الجامع لأن يترتب عليه العمل ، نظير ما تقدم في الوجه الأول من وجوه تقريب كون الإلزام مقتضى إطلاق الصيغة. فراجع.

نعم ، يتجه ذلك لو كان المدعى أن المصحح للاستعمال من سنخ المناسبة المذكورة إلا أنه ذو مراتب أدناها يجتمع مع عدم الإلزام وأقواها يناسب الإلزام ، فيكون الإلزام أقرب للإخبار من غيره ، فمع عدم القرينة المخرجة عنه يكون هو الظاهر في نفسه لا بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

نظير ظهور نفي الحقيقة في الشرعيات في نفي الإجزاء ، لأنه أقرب إليه من نفي الكمال.

ولعله إليه يرجع ما قيل من أن الاستعمال في المقام من باب الإخبار بالشيء تعويلا على وجود مقتضيه ، وهو الإرادة ، نظير إخبار الطبيب بالموت تعويلا على وجود مقتضيه ، وهو المرض ، وإلا لم يمكن الالتزام بظاهره ، لاستلزامه الكذب مع تخلف المقتضي عن التأثير بسبب المزاحمات ، كما هو الحال في النظير.

٢٩١

وكيف كان ، فلا مجال لدعوى ذلك أيضا ، لعين ما سبق من عدم لحاظ الجهة المذكورة في مقام الاستعمال ، فإن الظاهر أنها كما لا تكون ملحوظة بنفسها لا يكون الملحوظ سنخها مما يناسب مطلق الطلب.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن هيئة الفعل الماضي موضوعة للنسبة التحققية التي تكون تارة : في مقام الإخبار ، واخرى : في مقام الإنشاء ، فتفيد في الأول وجود المادة خارجا ، وفي الثاني إما أن يراد منها إنشاء وجود المادة باللفظ اعتبارا ، كما في صيغ العقود والإيقاعات أو يراد منها إنشاء تحقق المادة في عالم التشريع ، فتفيد طلب المادة من المكلف.

وأما هيئة المضارع فهي موضوعة للنسبة التلبسية الراجعة لتلبس الفاعل بالمادة فعلا ، فتفيد في مقام الإخبار التلبس خارجا ، وفي مقام الإنشاء إما تلبس الفاعل بالمادة اعتبارا ، كما في صيغ العقود والإيقاعات ، أو في مقام التشريع ، كما في المقام ، فتفيد طلب المادة أيضا.

وبالجملة : الماضي والمضارع موضوعان ومستعملان في النسبة التحققية أو التلبسية لا غير ، إما في الخارج أو في عالم الاعتبار أو في عالم التشريع ، والإخبار والانشاء من المداليل السياقية لا اللفظية.

وحينئذ إذا افيد بهما الطلب كان محمولا على الوجوب بحكم العقل بالتقريب المتقدم منه في حمل الصيغة عليه.

ولا يخلو ما ذكره عن غموض وإشكال ، لابتنائه ..

أولا : على عدم الفرق في مدلول الكلام بين الخبر والإنشاء ، وقد سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي ثبوت الفرق بينهما فيه.

وثانيا : على ما سبق منه في توجيه حمل الصيغة على الوجوب ، الذي

٢٩٢

سبق أيضا المنع منه.

مضافا إلى أن صلوح الكلام لمقام التشريع موقوف على كونه مبرزا للإرادة أو نحوها مما هو مقوم للتكليف ، فلا بد من بيان الوجه في صلوح الجملة الخبرية لذلك. فتأمل.

وإلى أن لازم ذلك صحة الطلب بالفعل الماضي مطلقا كما يصح الإخبار وإنشاء المادة به كذلك ، وقد اعترف بعدم العثور على ذلك في غير القضايا الشرطية ، ومن الظاهر أن الفعل الماضي فيها ينسلخ عن الدلالة على الزمان الماضي ، حيث يكشف ذلك عن عدم صلوح نسبته بنفسها لمقام التشريع.

الثالث : ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الجملة الخبرية الفعلية مستعملة تبعا لوضعها في ايقاع النسبة ، غايته أن الداعي لإيقاع النسبة إن كان هو الكشف عن وقوعها في الخارج تمحضت في الخبرية ، وإن كان هو التوسل لوقوعها في الخارج قامت مقام الجملة الإنشائية في الطلب ، لدلالتها عليه بالملازمة.

والطلب المذكور وإن أمكن كونه غير إلزامي إلا أنها ظاهرة عند الإطلاق بمقدمات الحكمة في كونه إلزاميا ، للتقريب الثاني أو الثالث المتقدمين في وجه حمل إطلاق الصيغة عليه.

ويشكل : بأن التوسل إلى تحقق المضمون في الخارج ليس من دواعي الكلام عرفا بمقتضى طبعه ، بل ليس الداعي له طبعا إلا الحكاية.

وأما إنشاء نفس النسبة وإيجادها اعتبارا بالكلام ـ كما في صيغ العقود والإيقاعات ـ فهو يبتني على نحو من التوسع والتصرف في مفاد الكلام على

٢٩٣

ما سبق في الفرق بين الخبر والانشاء في ذيل الكلام في المعنى الحرفي.

كما أن التوسل بالوجه الذي ذكره من لوازم إبراز الإرادة أو نحوها مما يقوم التكليف بالكلام ، فلا بد من توجيه صلوح الكلام ، للإبراز المذكور ، ولم ينهض كلامه بذلك.

مضافا إلى ما سبق من الإشكال في الوجهين السابقين لاستفادة الإلزام من إطلاق الصيغة.

هذا ، وقد جزم بعض مشايخنا باختلاف معنى الجملة الخبرية حين استعمالها في مقام بيان الطلب عما هي عليه حين استعمالها في مقام الإخبار ، فهي في مقام الإخبار مستعملة في إبراز قصد الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها جريا على مقتضى وضعها ، وفي مقام بيان الطلب مستعملة في إبراز الطلب النفسي واعتبار المادة على ذمة المكلف ، وإنما تحمل على الوجوب للوجه المتقدم منه في الصيغة من لزوم امتثال ما أمر به المولى عقلا ما لم يرخص فيه منه.

ويشكل : بما سبق من أنه ليس مفاد التكليف اعتبار المادة في ذمة المكلف ، وأن ذلك ـ لو تم ـ إنما يصلح تفسيرا للتكليف المبرز بالجمل الخبرية ، لا لمفاد الجمل الخبرية أو غيرها من مبرزات التكليف حين إبرازه بها ، كيف وإلا لزم ترادف جميع المبرزات للتكليف؟! فلا بد من كون الإبراز المذكور مدلولا التزاميا لها ومن سنخ الداعي منها ، مع اختصاص كل منها بمدلول لفظي يباين مدلول الآخر.

ومن ثمّ كان المناسب بيان مدلول الجمل الخبرية اللفظي أولا ، ثم بيان وجه صلوحه للإبراز المذكور.

٢٩٤

مضافا إلى ما سبق من الإشكال في الوجه العقلي المذكور لاستفادة الوجوب.

ولعل الأولى أن يقال : إذا تم استعمال الجمل الخبرية في محل الكلام في إنشاء الطلب وخروجها عن مقام الإخبار فلا ينبغي التأمل في الخروج بها عن معانيها الموضوعة لها ، لتبادر الحكاية بها عن النسب التامة الخارجية ، دون طلب المادة والبعث اليها ، فإرادة الطلب والبعث بها تبتني على عناية خارجة عما هي موضوعة له ، ويكون متبادرا منها ، كما أشرنا إليه عند الكلام في الفرق بين الخبر والإنشاء في لواحق المعنى الحرفي.

نعم ، لا يبعد عدم خروجها في المقام عن الخبرية ، فهي مستعملة في مقام الحكاية والإخبار عن حال المطلوب منه أو المنهي بلحاظ ما ينبغي وقوعه منه بسبب الطلب أو النهي المتوجهين له ، فكأن حضوره للامتثال وكونه في مقامه قد اخذ مفروض الوجود ، والإخبار بوقوع الفعل منه أو عدمه يبتني على المفروغية عن ذلك ، إما لاعتقاد المتكلم ذلك فيه ، أو لادعائه له بسبب ظهور حاله فيه أو تشجيعا أو ترغيبا أو تخويفا.

أو أن الإخبار يكون تعليقيا لبا منوطا بكونه في مقام الامتثال وعدم الخروج عما يراد منه.

وعلى كلا الوجهين يكشف عن ثبوت الطلب أو النهي ، ويصلح لبيان أحدهما ، لكونهما ملزومين للمدلول اللفظي للجملة ، وهو وقوع الفعل أو عدمه من المكلف من حيثية كونه مطيعا.

وبهذا يمكن توجيه دلالة الجملة الاسمية على الطلب ، وإن أهمل التعرض لها في بعض الوجوه المتقدمة ، كما في مثل قوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَ

٢٩٥

الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) ، فيحمل على الإخبار بعدم وقوع هذه الامور ممن فرض الحج للمفروغية عن كونه في مقام القيام بوظائف الحج وفروضه. فلاحظ.

وكيف كان ، فبعد فرض ظهور الجمل المذكورة في بيان الطلب أو الزجر ، إما لسوقها في مقام الإنشاء مجازا ، أو للإخبار بالوجه المتقدم فالظاهر من المرتكزات الاستعمالية سوقها لبيان أصل الطلب والزجر ، لا خصوص الإلزامي أو غير الإلزامي منهما ، ولا بنحو تكون مرددة بينهما فقط أو مع مطلق الطلب أو الزجر ، لتكون مجملة ، لعين ما سبق في الصيغة من صلوحها للإلزامي وغيره من دون تبدل في المعنى المسوقة له ارتكازا.

وحينئذ يتجه حمل إطلاقها على خصوص الإلزامي منهما للوجه المتقدم في الصيغة من دون خصوصية لها في ذلك.

كما انه يتجه حمل الجمل الإثباتية منها الواردة عقيب النهي أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الفعل ، وحمل الجمل السلبية منها الواردة عقيب الأمر أو في مورد توهمه على مجرد الترخيص في الترك ، لأن المتيقن سوقها لبيان أحد الأمرين دون الطلب أو الزجر ، لعدم ظهورها في أحدهما.

فهي إما أن تكون مستعملة في إنشاء الإذن والسعة مجازا ، أو مسوقة للإخبار عن حال الفاعل في فرض تعلق إرادته بالفعل او الترك جريا على مقتضى السعة والإذن المقصود بيانهما بالجمل الذكورة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

٢٩٦

الفصل الخامس

في سعة كل من الأمر والنهي موضوعا وحكما

لا يخفى أن ورود الأمر أو النهي على الطبيعة يرجع إلى نحو نسبة بين الامر والمأمور به ، أو بين الناهي والمنهي والمنهي عنه ، وبتلك النسبة قوام الحكم الشرعي الذي هو محل الكلام في المقام.

ومن الظاهر أن كلا من الامر والناهي والمأمور والمنهي لا سعة فيه ، بل هو شخصي لا ينطبق على كثيرين ولا يقبل الاطلاق والتقييد ، والذي يقبل السعة والضيق أحد أمرين :

الأول : المأمور به والمنهي عنه ، لأنهما عبارة عن الطبيعة الكلية القابلة للإطلاق والتقييد.

الثاني : نفس النسبة التي يتقوم بها الحكم الشرعي ، لأنها وإن كانت جزئية إلا أنها تقبل نحوا من السعة لإطلاقها أو الضيق لتقييدها بشرط أو غاية أو نحوهما ، على ما سبق في ذيل الكلام في المعنى الحرفي. فراجع. والمتبع في تحديد سعة كلّ من الأمرين في مقام الإثبات ظاهر الدليل على ما يتضح المعيار فيه في محله.

ثم إنه بعد تحديد سعة كل منهما إطلاقا أو تقييدا فالظاهر المصرح به في كلام جماعة اختلاف الأمر والنهي في جهتين :

٢٩٧

الأولى : أنه يكفي في موافقة الأمر والجري على مقتضاه تحقيق صرف الوجود للماهية المأمور بها مطلقة كانت أو مقيدة ، ولا يعتبر استيعاب أفرادها ، بخلاف النهي ، حيث لا بد في موافقته والجري على مقتضاه من استيعاب تمام أفراد الماهية المنهي عنها بالترك ، ولا يكفي ترك بعضها مع فعل غيره.

الثانية : أن مقتضى الأمر الجري عليه وموافقته ـ بتحقيق صرف الوجود ـ في بعض أزمنة وجوده.

أما النهي فهو يقتضي الجري عليه ـ بترك تمام أفراد الطبيعة ـ في تمام أزمنة وجوده ، ولا يكفي ترك تمام الأفراد في بعض أزمنة وجوده مع فعل شيء منها في بقيتها.

والظاهر أن الفرق المذكور ليس عقليا متمحضا لمقام الطاعة ومن شئون الامتثال ، مع عدم اختلافهما في مقام الجعل ، بل هو متفرع ثبوتا على الفرق بينهما في مقام الجعل تبعا للفرق بينهما في الملاك ، وإثباتا على ظهور دليل كل منهما فيما يناسبه.

ومن هنا يقع الكلام في وجه الفرق بينهما من الجهتين المذكورتين وقد سبق في مقدمة الكلام في هذا المقصد أن الفرق بين الأمر والنهي ليس من جهة المتعلق ، بل متعلقهما واحد ، وهو الطبيعة ، وليس الاختلاف بينهما إلا ذاتيا مستتبعا للفرق بينهما في الاقتضاء ، فالأمر يقتضي الفعل والنهي يقتضي الترك ، فلا بد من استناد الفرق بينهما لذلك.

وقد ذكروا في منشأ الفرق المذكور وجوها لا يخلو بعضها عن إشكال في نفسه ، وبعضها وإن كان تاما في نفسه إلا أن الفرق لا يستند إليه ارتكازا ،

٢٩٨

للغافلة عنه ، ولا بد في القرينة من أن تلحظ ولو ارتكازا في مقام الإفادة والاستفادة. ومن هنا لا مجال لإطالة الكلام فيما ذكروه.

ولعل الأولى أن يقال : الطبيعة التي يتعلق بها الأمر والنهي لما لم تكن مقيدة بنحو خاص تعين حملها على الماهية الخارجية بما لها من حدود مفهومية تكون بها صالحة للانطباق على تمام أفرادها وعلى بعضها بنحو واحد ، وهي المعبر عنها بالماهية المرسلة ، لا خصوص الماهية المقيدة بالسريان أو بالبدلية ، لأن السريان المتقوم باجتماع الأفراد ، والبدلية المتقومة بالاكتفاء ببعضها ، قيدان زائدان على الطبيعة خارجان عن مفهومها ، لا قرينة على كل منهما ولا مرجح لأحدهما ، بل مقتضى الإطلاق عدم أخذهما في متعلق كل من الأمر والنهي.

نعم ، حيث كان مقتضى الأمر إيجاد متعلقه ، ومقتضى النهي تركه ، فسعة انطباق الماهية مستلزمة للاكتفاء بصرف الوجود منها ، الحاصل بالفرد والأفراد ، وعدم الاكتفاء في امتثال النهي إلا بترك جميع الأفراد ، لأن إيجاد أي فرد لها لا يجتمع مع ترك الماهية المذكورة ، بل هو إيجاد لها.

ومن هنا يظهر أن حمل الأمر على البدلية ، والنهي على السريان والاستغراق ، ليس لأن متعلق الأول الماهية البدلية ، ومتعلق الثاني الماهية السارية ، كي يطالب بوجه الفرق بينهما ، بل قد لا يناسب ما سبق من وحدة متعلقهما ، بل لأن سعة الماهية التي هي المتعلق لهما مع اختلاف الأمر والنهي في الاقتضاء ـ لأن الأول يقتضي الفعل والثاني يقتضي الترك ـ مستلزمان للاختلاف بينهما في كيفية الامتثال ، فيكفي في امتثال الأمر بتحقق صرف الوجود ، ولا يكتفي في امتثال النهي إلا بترك تمام الأفراد.

٢٩٩

ولذا كان التحقيق أن ما زاد على الفرد الواحد لا يكون خارجا عن الامتثال ، كما هو لازم كون متعلق الأمر الماهية البدلية.

ويؤكد الوجه الذي ذكرناه ويؤيده ما ذكره غير واحد من أن تعذر تحقيق جميع أفراد الطبيعة الطولية والعرضية بضميمة عدم التقييد في متعلق الأمر والنهي بأفراد معينة يمكن الجمع بينها ، كاشف عن عدم كون الأمر بها بنحو الاستغراق ، بل بنحو يكفي في امتثاله أي فرد ، وعن عدم كون النهي عنها بنحو البدلية ، لتحقق ترك بعض الأفراد قهرا ، بل بنحو الاستغراق.

وإن كان الظاهر عدم كون ذلك منشأ للفرق لعدم دخله ارتكازا في فهم الكلام ، ولا بد في القرينة من أن تلحظ في مقام الإفادة والاستفادة ، كما سبق.

ومما ذكرنا يتضح توجه الفرق المذكور حتى بناء على أن اختلاف الأمر والنهي إنما يكون في المتعلق ، وأن الأمر عبارة عن طلب الفعل والنهي عبارة عن طلب الترك ، إذ لما كان يكفي في فعل الطبيعة إيجاد بعض أفرادها تعين الاكتفاء به في امتثال طلب الفعل ، ولما كان تركها لا يتحقق إلا بترك تمام أفرادها تعين توقف امتثال طلب تركها عليه.

لكن هذا الوجه كأكثر الوجوه المذكورة في كلماتهم إنما ينهض ببيان الفرق من الجهة الأولى دون الثانية ، لوضوح أن توقف ترك الماهية على ترك تمام الأفراد إنما يقتضي توقف امتثال النهي على تركها ، أما لزوم استمرار الترك المذكور في تمام أزمنة النهي فهو أمر آخر لا يقتضيه الوجه المتقدم.

ودعوى : أن ترك الماهية كما يتوقف على ترك أفرادها العرضية يتوقف على ترك أفرادها الطولية ، وهو لا يكون إلا باستمرار الترك في تمام الأزمنة.

٣٠٠