المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

ادعاء لذلك لم يصدق الأمر والنهي.

هذا هو الظاهر بحسب المرتكزات العرفية.

ومن هنا كان الظاهر أخذ الإلزام في مفهوم الأمر والنهي ، كما هو المتبادر من إطلاقه ، بل الظاهر صحة السلب عن الطلب غير الالزامي ، وإن صح إطلاقه على ما يعمه بنحو من العناية ، كما في مقام التقسيم.

وقد يشهد بما ذكرنا جملة من الآيات التي تضمنت ترتب استنكار المخالفة والتحذير منها والذم عليها ، بنحو يظهر منها كون هذه الامور من لوازم المفهوم ، كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١) وقوله عزّ وجل : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(٢) وقوله سبحانه : (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)(٣).

وكذا الروايات الظاهرة في المفروغية عن اقتضاء الأمر الإلزام ، كقوله (صلّى الله عليه وآله) : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كل صلاة» (٤) أو : «مع كل صلاة» (٥) وما في حديث بريرة : فقال لها النبي (صلّى الله عليه وآله) : «لو راجعتيه فإنه أبو ولدك» ، فقالت : يا رسول الله أتأمرني؟ قال : «لا إنما أنا شفيع» ، فقالت : لا حاجة لي فيه (٦).

__________________

(١) سورة النور : ٦٣.

(٢) سورة البقرة : ٢٧.

(٣) سورة الأعراف : ١٢.

(٤) الوسائل ج ١ ، باب : ٣ من أبواب السواك ، حديث : ٤.

(٥) الوسائل ج ١ ، باب : ٥ من أبواب السواك ، حديث : ٣.

(٦) مستدرك الوسائل باب : ٣٦ من أبواب نكاح العبيد والإماء ، حديث : ٣.

٢٦١

فإن الاستعمال وإن كان أعم من الحقيقة ، إلا أن ابتناء الاستعمالات المذكورة في الخصوصية على القرينة دون حاق اللفظ بعيد جدا ، ولا سيما في النبويات. ولا أقل من كونها مؤيدة للمدعى ، كما ساقها في الكفاية.

هذا ، ولو فرض عدم تمامية ذلك كان ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة بالإطلاق ونحوه جاريا في المقام. كما أن الظاهر مشاركة النهي للأمر في جميع ما تقدم ، للتقابل بينهما عرفا.

٢٦٢

الفصل الثاني

في ما يتعلق بمادة الطلب

الطلب لغة السعي نحو الشيء لمحاولة تحصيله والوصول إليه. وهو المناسب لموارد إطلاقه في الكتاب المجيد والسنة الشريفة واستعمال أهل العرف ، كقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً)(١) وقوله عزّ اسمه : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(٢) وقولهم (عليهم السلام) : «طلب العلم فريضة» (٣) وما ورد من وجوب طلب الماء لمن يجده وعدم مشروعية التيمم بدونه (٤) ، وقول الشريف الرضي :

لو على قدر ما يحاول قلبي

طلبي لم يقر في الغمد عضبي

إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة.

والظاهر عدم خروجه عن المعنى المذكور عند إطلاقه في مورد الحث

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٤.

(٢) سورة الحج : ٧٣.

(٣) راجع الوسائل ج ١٨ ، باب : ٤ من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.

(٤) راجع الوسائل ج ١ ، باب : ١ و ٢ من أبواب التيمم.

٢٦٣

على الشيء ، لأن الحث على الشيء نحو من السعي لتحصيله. ومن هنا كان الظاهر اتحاده خارجا مع الحث المذكور.

وليس هو متحدا مع الإرادة النفسية ، لا مصداقا ولا مفهوما.

لكن في لسان العرب : «وطلب إلى طلبا : رغب» وقد يظهر منه اتحاد الطلب مع الرغبة التي هي أمر نفسي مباين للحث الإنشائي.

إلا أنه في غير محله ، لوضوح أن مراده ليس مجرد الرغبة النفسية ، بل إبداؤها للشخص المطلوب إليه في مقام حثه على تحقيق المرغوب فيه ، الذي يعبر عنه بقولنا : رغب إليه ، ومن الظاهر أن الإبداء المذكور هو الحث الانشائي ، فيطابق ما ذكرنا.

بل لا يبعد صدق الطلب عرفا على الحث المذكور وإن لم يكن بداعي السعي لتحصيل المطلوب ، لعدم إرادته ، بل بداع آخر ، كالامتحان.

ودعوى : أنه حينئذ طلب صوري لا حقيقي. غير ظاهرة ، وإنما يكون الخطاب طلبا صوريا لو أوهم الحث ولم يكن واردا مورد الحث حقيقة ، كما في موارد التقية ونحوها.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمل في عدم اتحاده مفهوما ولا خارجا مع الإرادة ، بل غاية الأمر كونه ملازما لها لو غض النظر عما ذكرنا من صدقة في مورد الامتحان.

فما في كلام بعضهم من أنه عبارة عن الإرادة ومتحدا معها ، في غير محله قطعا.

ومثله في الضعف ما عن الأشاعرة من أنه أمر قائم بالنفس غير الإرادة ،

٢٦٤

وهو المسمى عندهم بالكلام النفسي والمدلول بنظرهم للكلام اللفظي.

وقد ذكروا أنه هو المعيار في التكليف دون الإرادة ، وبذلك وجهوا تخلف الامتثال عن التكليف مع امتناع تخلف مراده تعالى.

لاندفاعه : بأنه لا واقع للكلام النفسي ارتكازا ، فضلا عن أن يكون هو الطلب والمعيار في التكليف.

وتخلف الامتثال عن التكليف ليس لأن الكلام النفسي هو المعيار في التكليف ، بل لان المعيار فيه هو الخطاب بداعي جعل السبيل ، الذي فسرنا به الإرادة التشريعية ، وذكرنا أنه غير مستلزم للإرادة ، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية من مقدمة علم الأصول.

وبذلك نستغني عن البحث فيما أطالوا الكلام فيه هنا من إبطال كلام الاشاعرة ، وفيما جرّ إليه ذلك من الكلام في شبهة الجبر ، ولا سيما مع خروجه عما هو محل الكلام هنا من تشخيص الظهورات ، ومع كون الشبهة المذكورة من مزالّ الأقدام ، حتى ورد النهي عن الكلام في القدر ، وأنه بحر عميق فلا تلجه ، وطريق مظلم فلا تسلكه ، وسر الله فلا تكلفه (١). فلا ينبغي الكلام في ذلك إلا لرفع الشبهة لو طرأت على بعض الناس ، لا التنبيه إلى الشبهة ثم محاولة رفعها ، حيث قد لا يوفق الانسان لرفعها ، فتبقى عليه تبعة التنبيه إليها. عصمنا الله من الزلل في القول والعمل.

ثم إن الظاهر أن مادة الطلب لا تقتضي العلو من الطالب ولا الاستعلاء ، فيصدق الطلب على الدعاء والرجاء وغيرهما. كما لا تختص

__________________

(١) كتاب التوحيد للصدوق ص : ٢٩٦ ، طبع النجف الأشرف سنة : ١٣٨٦.

٢٦٥

بالإلزام ، ومن ثم كان الطلب أخص من الأمر.

نعم ، ما يأتي في وجه استفادة الإلزام من الصيغة مع عدم اختصاصها به وضعا لو تم جار في مادة الطلب ، لعدم الفرق بينهما في الجهة المقتضية له ، على ما يتضح إن شاء الله تعالى.

٢٦٦

الفصل الثالث

في ما يتعلق بصيغة الأمر والنهي

المراد بصيغة الأمر في كلماتهم هي هيئة فعل الأمر ثلاثيا كان أو غيره.

والحق بها لام الأمر الداخلة على الفعل المضارع ، لاتحادهما فيما هو المهم من محل الكلام ، وهو الدلالة على الطلب والإلزام. أما النهي فلا هيئة تخصه ، وإنما يستفاد من (لا) الناهية ، كما يستفاد الأمر من اللام.

وقد ذكروا لصيغة الأمر معاني متعددة ، كالطلب ـ الذي هو الشائع من موارد استعمالها ـ والإباحة ، كقوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا)(١) ، والتمني ، كقول الشاعر :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

 ........

والتعجيز ، كقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(٢) ، والتهديد ، كقوله تعالى : (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(٣) ، والاحتقار ، كقوله سبحانه : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)(٤) وغيرها.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٣.

(٣) سورة هود : ١٢٢.

(٤) سورة طه : ٢٢.

٢٦٧

كما يجري نظيرها في لام الأمر. بل في (لا) الناهية ، حيث تصلح للاستعمال في تلك المعاني ، مع استبدال الطلب بالنهي.

وقد وقع الكلام بينهم في اشتراكها بين المعاني لفظا ، أو اختصاصها بالأول مع كونها مجازا في الباقي.

وإن كان الظاهر ـ تبعا لجمع من المحققين ـ أنها موضوعة لنحو نسبة خاصة لا تخرج عنها إلى غيرها في مقام الاستعمال ، لا حقيقة ولا مجازا ، واختلاف المعاني المذكورة لها راجع لاختلاف دواعي الاستعمال ، فكما أن القضية الحملية تستعمل تارة بداعي الإخبار والحكاية ، وأخرى بداعي الاستهزاء والسخرية ، مع عدم خروج هيئتها عن معناها ، كذلك الحال في المقام ، وفي كثير من الهيئات والحروف ، على ما يشهد به التدبر في المرتكزات الاستعمالية.

والنسبة المذكورة حيث كانت من المعاني الحرفية التي سبق اختلافها سنخا مع المعاني الاسمية فلا يكون شرحها بالاسم ، كالطلب والبعث والزجر ونحوها إلا لفظيا لضيق التعبير على ما سبق في مبحث المعنى الحرفي.

ولعل الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها هيئة الأمر ولامه بالنسبة البعثية ، دون الطلبية ، لأنها أقرب ارتكازا للبعث الصاد من الباعث والقائم بين المبعوث والمبعوث إليه منها إلى الطلب القائم بالطالب والأمر المطلوب ، وليس المطلوب منه إلا آلة له من دون أن يكون طرفا له.

وبهذا كانت مقابلة ل (لا) الناهية التي يكون الأنسب التعبير عن النسبة التي تؤديها بالنسبة الزجرية ، لقيام الزجر بالمزجور عنه ، وليس الزاجر إلا فاعل له.

٢٦٨

نعم ، الخطاب بالنسبة المذكورة والحث بها يصدق عليه الطلب ، بلحاظ ما سبق من معناه ، لأن الحث المذكور سعي نحو المطلوب ، وإن لم تكن النسبة المؤداة طلبية.

ولا يهم تحقيق ذلك بعد عدم الريب ظاهرا في أن الأصل حمل هيئة الأمر وأداته على استعمالهما بداعي الحث على الفعل ، وحمل أداة النهي على استعمالها بداعي الزجر عنه ، دون بقية الدواعي المتقدمة من إباحة او تهديد أو غيرهما ، من دون فرق بين القول بوحدة معنى الصيغة وأداة الأمر والنهي مع اختلاف الدواعي والقول بتعدده.

وإنما المهم استفادة الإلزام منها بالوضع أو الإطلاق أو غيرهما ، بحيث يكون هو الأصل الذي يحمل عليه الكلام مع عدم القرينة الصارفة عنه ، لأهميته في مقام العمل جدا. ومن ثم كان ذلك حقيقا بالكلام في المقام ، وبالنقض والإبرام.

والظاهر أن النزاع لا ينحصر بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب عقلا ، المتفرع على كون المخاطب بالصيغة ممن تجب إطاعته عقلا ، كالشارع الأقدس ، بحيث لا موضوع له في خطاب غيره ـ كما قد يظهر من بعض الوجوه الآتية وقد يوهمه التعبير عنه بالوجوب ـ بل يجري في مطلق الإلزام ولو من الموالي العرفيين الذين لا تجب إطاعتهم ، بل ولو من غير الموالي ، كالداعي والملتمس والشافع.

وتوضيح ذلك ..

أن الطلب تارة : يبتني على نسبة المطلوب للطالب ، بحيث يصحح إضافة المطلوب إليه ، فيؤتى به لأجله وعلى حسابه ، ويكون الممتثل مستحقا للشكر

٢٦٩

منه.

واخرى : لا يبتني على ذلك ، بل على محض الكشف عن واقع لا دخل للطالب له.

والثاني هو الطلب الإرشادي ، أما الأول فهو الطلب المولوي إن صدر من المولى ، بل قد يطلق على كل طلب صادر ممن يهتم بإطاعته ولو لخوف عقابه أو رجاء ثوابه ـ كالسلطان ـ بل من كل من كان مستعليا وإن لم يكن عاليا في نفسه ، وإن صدر من السافل للعالي كان دعاء أو عرضا ، وإن صدر من النظير للنظير كان شفاعة والتماسا ونحوهما.

ثم إن الإلزام في الطلب الإرشادي تابع ثبوتا للواقع الذي يرشد إليه ، حيث لا بد فيه من الأهمية بمرتبة خاصة ، مع عدم المزاحم ، أما في المولوي وما يجري مجراه فهو تابع لخصوصية في الطلب الصادر من الطالب ، بأن يبتني على نحو من الإصرار على المطلوب زائدا على إضافة المطلوب للطالب وجعله في حسابه ، بحيث يكون عدم امتثاله مخالفة له وردا على الطالب ، وإن لم يوجب استحقاق العقاب عقلا أو عرفا ، لعدم كون الطالب لازم الإطاعة.

ولذا يكون خروجا عن مقتضى المولوية التي يبتني عليها الطلب المولوي ، على ما سبق في بيان حقيقة الأحكام التكليفية.

وأما خصوصية الملاك فهي علة لخصوصية الطلب المذكورة التي يتبعها الإلزام ، لا أنها السبب المباشر له ، كما في الطلب الارشادي.

وتمام ما سبق جار في النهي.

هذا كله في منشأ الإلزام في مقام الثبوت.

وأما في مقام الإثبات فقد وقع الكلام في دلالة الصيغة على الالزام

٢٧٠

وضعا أو إطلاقا ، أو عدم دلالتها عليه.

قال في الكفاية : «في أن الصيغة حقيقة في الوجوب ، أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال».

ولا ينبغي التأمل في عدم اختصاصها بالطلب غير الإلزامي بعد عدم تبادره منها وعدم العناية في استعمالها في الإلزامي.

كما أن الظاهر عدم اشتراكها لفظا بين الطلب الإلزامي وغيره ، لوجود القدر المشترك بينهما عرفا ، وهو مطلق الحاصل من النسبة البعثية ، فلو اريد العموم لهما كان الظاهر الاكتفاء بالوضع للقدر المشترك المذكور ، ولا سيما مع بعد الاشتراك اللفظي في نفسه ، خصوصا في الهيئات والحروف.

والمهم في المقام القولان الآخران ..

الأول : أنها حقيقة في الطلب الإلزامي ، بمعنى أنها موضوعة لنحو من النسبة البعثية لا تلائم غيره ، وإلا فالإلزام أو الوجوب بما هو معنى اسمي لا يكون مفاد الحرف.

الثاني : أنها حقيقة في مطلق الطلب الحاصل مع الإلزام وغيره ، بأن تكون موضوعة للنسبة البعثية المطلقة الملاءمة لكل منهما.

ومرجع أدلة الأول وجهان :

أولهما : التبادر للإلزامي مع عدم القرينة الحالية أو المقالية الصارفة عنه. ولذا يصح في مورد الصيغة إطلاق الأمر الذي سبق أنه موضوع للإلزام ، كما يصح الذم على المخالفة ، وقد وردا في ترك إبليس السجود لآدم مع كون الخطاب به بالصيغة ، كما لا يحسن عرفا الاعتذار عن المخالفة باحتمال الندب.

٢٧١

ثانيهما : استعمالها في كثير من الآيات والروايات ولسان أهل العرف في مقام بيان الإلزام من دون حاجة إلى ضم القرينة بالوجدان.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن الاستعمال أعم من الحقيقة. إذ هي إنما تتجه مع احتمال القرينة لا مع القطع بعدمها كما لا مجال لمعارضة ذلك باستعمالها في الندب ، بعد عدم الاشكال ظاهرا في بناء العرف والمتشرعة على احتياجه للقرينة.

نعم ، إنما ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع لخصوص ما يناسب الطلب الإلزامي لو لم يكن الطلب الإلزامي مقتضى الأصل في مفاد الصيغة أو القرينة العامة التي يلزم الحمل عليها مع عدم المخرج عنها حتى لو كانت موضوعة لما يناسب مطلق الطلب ، حيث ينحصر منشؤهما حينئذ بالوضع ، فيستدل بهما عليه.

أما إذا احتمل ذلك أو ثبت فلا ينهض هذان الوجهان بإثبات الوضع ، لإمكان استنادهما للأصل أو القرينة المذكورين ، بأن لا يكون فهم الإلزام من إطلاق الصيغة من باب تبادر معنى اللفظ الموضوع له منه ، ولا الاكتفاء في بيانه بها لأدائها له بمقتضى وضعها له ، بل هما مسببان عما ينضم إليها من الأصل أو القرينة المذكورين ، مع وضعها لما يناسب مطلق الطلب ، كما جرى عليه غير واحد من محققي المتأخرين.

ويناسبه أن إرادة الطلب غير الإلزامي من الصيغة وإن احتاجت للقرينة إلا أنها لا تبتني ارتكازا على العناية والخروج بها عن معناها ، بل هي لا تدل بمقتضى المرتكزات الاستعمالية إلا على محض البعث القابل للأمرين.

وقد يناسبه ما هو ديدنهم فيما لو خوطب بجملة امور قام الدليل على

٢٧٢

عدم الالزام ببعضها من البناء على الإلزام في الباقي ، مع أنه لو ابتنت إرادة الطلب الإلزامي من الصيغة على إفادتها له وضعا وإرادة الطلب غير الإلزامي منها على الخروج بها عما وضعت له ، لم يمكن استفادة الإلزام منها بالإضافة إلى ما لم تقم القرينة على عدم الإلزام به في الفرض ، كما لعله ظاهر.

ومن هنا كان الظاهر وضع الصيغة للنسبة البعثية المطلقة الملاءمة لمطلق الطلب. ولزم الكلام في وجه الحمل على الإلزام مع عدم القرينة الصارفة عنه.

ولهم في ذلك طرق :

الأول : الانصراف لخصوص الإلزام لكثرة الاستعمال فيه ، أو لغلبة وجوده ، أو لأكمليته.

وفيه : أن معيار الانصراف لبعض الأفراد هو شدة أنس الذهن به ، وهو لا يلازم شيئا من هذه الامور وإن كان قد يتحقق معها أو مع بعضها.

مع أن الاستعمال في الطلب غير الإلزامي ليس بأقل ، بل هو في خطابات الشارع أكثر ، فان المندوبات والمكروهات وأدلتها أكثر من الواجبات والمحرمات وأدلتها.

وأما الأكملية فهي مبنية على كون المعيار في الإلزام شدة الارادة أو الطلب وتأكدها وقد سبق عند الكلام في حقيقة الأحكام التكليفية المنع من ذلك ، وأن المعيار فيه أمر آخر ذكرناه هناك وهنا. فراجع.

الثاني : حكم العقل. وقد قرر بوجهين :

أولهما : ما يظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) وربما يوجد في كلام غيره من أن الوجوب هو الثبوت ، وهو يكون في التشريعيات عقليا تبعا لصدق عنوان الإطاعة على الفعل ، فإذا صدر بعث من المولى نحو شيء

٢٧٣

ولم تقم قرينة على كون المصلحة غير لزومية انطبق عنوان الإطاعة على الانبعاث عن بعثه ، فيجب عقلا.

نعم ، لو قامت قرنية على كون المصلحة غير لزومية لم يكن الانبعاث إطاعة فلا يجب عقلا.

ولا يخفى أنه لا بد من حمله على الإطاعة التي يصدق بعدمها العصيان ، لأنها هي الواجبة عقلا تبعا لقبح المعصية ، وهي التي لا تصدق في مورد عدم كون المصلحة لزومية ، وإلا فمطلق الإطاعة تصدق على الانبعاث عن بعث المولى فيما إذا لم تكن المصلحة لزومية ، وهي لا تتصف عقلا بالوجوب ، بل بمحض الحسن.

ولعله لذا قال بعض المعاصرين في اصوله : «فان العقل يستقل بلزوم الانبعاث عن بعث المولى والانزجار عن زجره قضاء لحق المولوية والعبودية ، فبمجرد بعث المولى يجد العقل أنه لا بد للعبد من الطاعة والانبعاث ما لم يرخص في تركه ويأذن في مخالفته».

وكيف كان ، فيشكل ذلك بأن محل الكلام ليس هو الوجوب العقلي التابع لوجوب إطاعة الامر ، بل ما يساوق الإلزام التابع لواقع الخطاب ثبوتا ، والذي لا يختص بالخطابات الشرعية ، كما سبق.

على أن الوجوب العقلي تابع للإلزام المذكور ، فلا بد من إحرازه ، لا لعدم وصول الترخيص في الترك.

ولو فرض حكم العقل بوجوب الانبعاث مع الشك في الإلزام وعدم وصول الترخيص ، فليس هو لتحقق موضوع وجوب الإطاعة واقعا ، بل هو حكم آخر ظاهري طريقي في طول الحكم بوجوب إطاعة البعث الإلزامي

٢٧٤

واقعا ، نظير الحكم بوجوب الاحتياط مع الشك في الامتثال ، الذي هو في طول وجوب الامتثال الواقعي ، ومن المعلوم من مذهبه عدم بنائه عليه ، بل المرجع عنده البراءة في مثل ذلك ، كما لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب ، أو كان محتفا بما يصلح قرينة على الترخيص من دون أن يكون ظاهرا فيه ، حيث يعلم بصدور البعث من المولى ويشك في الترخيص في الترك.

مضافا إلى أن مقتضى الوجه المذكور أن يكون ورود الترخيص بل وصوله رافعا للوجوب ، لا كاشفا عن عدمه من أول الأمر ، مع أنه لا يظن بهم البناء عليه في غير مورد النسخ المبتني على تبدل حال الطلب من الإلزام لغيره.

كما أن لازمه كون تصريح الشارع بالوجوب تنبيها على أمر خارج عن حقيقة حكمه متمحض للإرشاد إلى حكم العقل ، مع وضوح بطلان ذلك ومخالفته للنصوص والأدلة المتضمنة لبيان الفرائض ، لصراحتها في كون الافتراض أمرا تابعا للشارع مجعولا له.

ثانيهما : ما ذكره بعض مشايخنا من أن مفاد الصيغة إبراز جعل المادة في عهدة المكلف واعتبارها في ذمته ، فيجب عقلا السعي لتحقيقها ، والخروج عما انشغلت به ذمته ما لم يرخص المولى نفسه في الترك ، فيكون الوجوب مستفادا من حكم العقل لا من الصيغة ، بل هي مطلقا للابراز المذكور. وليس الفرق بين الوجوب والاستحباب إلا في لزوم المصلحة وعدمه ثبوتا ، وفي الترخيص وعدمه إثباتا.

ويشكل : بأن ما ذكره ـ لو تم ـ إنما يصلح أن يكون بيانا لحقيقة الحكم

٢٧٥

الشرعي ، ولا مجال لأن يكون مفادا للصيغة ، لوضوح عدم الفرق في مفهومها بين أن تقع في كلام الشارع وكلام غيره ممّن لا يستتبع إنشاؤه التكليف ، بل حتى في الخطابات الإرشادية ، فلا بد أن يكون مفادها المطابقي أمرا آخر مشتركا بين جميع الموارد مصحح لانتزاع التكليف ـ بالمعنى المتقدم أو غيره ـ لو صدر من المولى الواجب الطاعة عقلا ، كالبعث أو نحوه ، فيقع الكلام في وجه حمله على الإلزام مع صلوح مفاد الصيغة لغيره.

ولذا سبق أن محل الكلام لا يختص بالإلزام المساوق لاستحقاق العقاب ، بل يجري في جميع الخطابات.

على أن ما ذكره يبتني على ما سبق منه في مقدمة الاصول في بيان حقيقة الأحكام التكليفية. وقد سبق المنع من تفسير الحكم التكليفي بذلك ثبوتا ، وأن لازمه كون الفرق بين الاستحباب والوجوب بالترخيص وعدمه في مقام الثبوت ، لا في مقام الإثبات ، كما ادعاه.

كما أنه إذا كان وجوب أداء ما في الذمة عقليا كان تنبيه الشارع على الوجوب بيانا لأمر عقلي خارج عن حقيقة حكمه ، كما يمتنع ترخيصه في الترك إلا بنحو النسخ الذي لا وجه معه لبقاء الاستحباب ، نظير ما تقدم في الوجه السابق.

إلا أن يرجع إلى اختصاص وجوب الأداء عقلا بنحو خاص من الجعل دون غيره ، وأنه بالترخيص وعدمه يستكشف نوع الجعل ، وحينئذ يكون الفرق ثبوتا بين الوجوب والاستحباب راجعا إلى ذاتيهما ولا ينحصر بلزوم المصلحة وعدمه.

كما يقع الكلام في وجه حمل الجعل المدلول للصيغة على ما يجب معه

٢٧٦

الأداء عقلا مع فرض صلوحه لغيره ، ولا ينهض الوجه المذكور ببيان ذلك.

مضافا إلى أنه إذا كان مفاد الصيغة اعتبار المادة في ذمة المكلف ، وكان العقل حاكما بوجوب الخروج عن ذلك ما لم يثبت الترخيص لزم البناء على الوجوب لو تردد الدليل بين ما هو ظاهر في الوجوب وما هو ظاهر في الاستحباب ، أو احتف بما يصلح قرينة على الترخيص من دون ان يكون ظاهرا فيه ، حيث يعلم باعتبار المولى المادة في ذمة المكلف ، ويشك في ترخيصه في تركه ، نظير ما سبق في الوجه الأول.

الثالث : أن الإلزام مقتضى الإطلاق فيما لو كان المتكلم في مقام البيان. وقد يقرب بوجوه :

أولها : ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من أن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب ، حين لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد.

وفيه : أن عدم المنع من الترك في الندب ليس من سنخ القيد للطلب ، لينفى بالاطلاق ، بل هو أمر مقارن له خارج عنه مطابق للأصل ، فلا ينهض الإطلاق بنفيه.

نعم ، لو كان مرجع الندب إلى عدم الطلب مع عدم إرادة المخاطب الامتثال كان مستلزما لتقييد الطلب ، فينفى بالإطلاق. لكن لا مجال لتوهم ذلك.

ثانيها : ما يظهر من غير واحد من أن الطلب الإلزامي طلب تام لا حدّ له وغيره مرتبة من الطلب محدودة بحد من حدود النقص ، فاذا كان المتكلم في مقام البيان لزم حمل ما يدل على الطلب في كلامه على الطلب التام الذي

٢٧٧

يكون ما به امتيازه من سنخ ما به الاشتراك ، لصلوح الكلام لبيان كلا حديه ، دون الطلب الناقص الذي يكون ما به امتيازه مباينا لما به الاشتراك ، لعدم صلوح الكلام إلا لبيان أحد حديه.

وفيه : أولا : أنه يبتني على كون الفرق بين الطلب الإلزامي وغيره بالشدة والضعف ، وقد سبق المنع من ذلك.

وثانيا : أن ذلك ليس بأولى من أن يقال : لما كان الشديد يبتني على تأكد وجود الماهية بما يزيد على ما يتوقف عليه صدقها ويدل عليه لفظها كان الاقتصار في مقام بيان إحدى الخصوصيتين على اللفظ الدال عليها والذي يكفي في صدقه صرف الوجود مناسبا لإرادة الضعيف الذي يتحقق به صرف الوجود وتحتاج المرتبة الزائدة عليه إلى مرتبة زائدة في البيان.

وإن كان كلا الوجهين غير خال عن الإشكال بل المنع بعد صدق الماهية على كلا الفردين بنحو واحد.

وثالثا : أن ذلك لو تم موقوف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان إحدى الخصوصيتين ، وعدم الاقتصار على بيان القدر المشترك بينهما ، ولا طريق لإحراز ذلك بعد صلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل ، لكفايته في الداعوية عقلا وإن لم يحرز كونه إلزاميا ، غايته أن داعويته لا تكون إلزامية.

نعم ، لو لم يكن القدر المشترك صالحا لأن يترتب عليه العمل اتجه حمل الكلام على بيان إحدى الخصوصيتين مما يترتب عليه العمل.

ومن هنا ذكروا أن المطلق يحمل على الماهية المرسلة ، لأن حمله على الماهية المبهمة من حيثية الإرسال والتقييد مستلزم لعدم صلوحه لترتب

٢٧٨

العمل عليه ، وكذا الماهية المقيدة بعد عدم التعرض للقيد ، فتتعين الماهية المرسلة الصالحة لأن يترتب عليها العمل.

ولذا كان تعيين أن الماهية المرسلة استغراقية أو بدلية محتاجا إلى قرينة زائدة على كون المتكلم في مقام البيان ، لصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل.

وبالجملة : ليس بناء العرف على حمل الإطلاق على الفرد الأكمل بعد صدق عنوان المطلق بغيره ، وصلوح القدر المشترك لأن يترتب عليه العمل ، ولذا لا يظن بهم البناء في مثل المقام على الحمل على أعلى مراتب الوجوب وأشدها.

ثالثها : ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج ، فلا بد من وفاء الطلب بذلك ، ويختص ذلك بالإلزامي ، فيكون هو المستفاد بمقتضى إطلاق الطلب ، ولو كان هناك مانع من الإلزام لوجب بيانه ، لكونه على خلاف مقتضى الأصل في الطلب.

وفيه : أولا : أن غرض الطالب المباشر ليس هو إيجاد مطلوبه في الخارج ، بل إرشاد الطالب المخاطب لفائدة المطلوب في الطلب الإرشادي ، وإضافة المطلوب للطالب بنحو يمكن الإتيان به لأجله وعلى حسابه بنحو يستحق منه الشكر عليه في غيره من أنواع الطلب ، على ما سبق.

نعم ، قد يكون الغرض من الإرشاد أو الإضافة المذكورين هو ايجاد المطلوب في الخارج وقد يكون أمرا آخر كالامتحان ، ولذا قد يطلب ممن يعلم بعد امتثاله.

ثم إن الغرض من الطلب الإلزامي في غير الإرشادي زائدا على ما سبق

٢٧٩

جعل المسئولية من قبل الطالب ، بنحو تكون عدم الامتثال ردا لطلبه.

لكن المفروض الشك في كونه غرضا من الطلب بعد فرض الشك في كون الطلب إلزاميا ، فلا يكون قرينة على كون الطلب إلزاميا.

وثانيا : أنه لو سلم كون غرض الطالب إيجاد مطلوبه في الخارج ، فليس الغرض دائما إيجاده مطلقا وإلا لم يكن الطلب إلا إلزاميا ، بل الغرض من الطلب غير الإلزامي هو إيجاده من دون حرج على المطلوب منه ، فحيث يفرض الشك في كون الطلب إلزاميا لزم الشك في كون الغرض هو إيجاد المطلوب مطلقا ، ليستكشف به كون الطلب الزاميا.

وبالجملة : فرض كون الغرض من الطلب مطلقا مناسبا للإلزام لا يناسب فرض انقسام الطلب إلى إلزامي وغيره ، وفرضه في مورد الصيغة مناسبا له لا يناسب الاعتراف بدلالة الصيغة على أصل الطلب الصالح للأمرين.

ولعل الأولى أن يقال : لما كان المعيار في الظهور هو طريقة أهل اللسان في مقام التفاهم لم يهم معرفة منشئه بعد استيضاح طريقتهم.

ومن الظاهر من سيرتهم في المقام هو الاكتفاء في بيان الطلب الإلزامي بإطلاق ما يدل على الطلب والبعث من دون حاجة للتنبيه على الإلزام ، وأنه لو بين كان من سنخ التأكيد المستغنى عنه ، وليس المحتاج للبيان إلا عدم الإلزام.

وعليه يبتني ما تقدم من الاستدلال على الوضع لخصوص الإلزام ، الذي تقدم التسليم به في نفسه ، وأن الإشكال إنما هو في نهوضه باثبات الوضع ، الذي لو تم لا ينافي الظهور فيه بنحو يستفاد من الإطلاق.

٢٨٠