المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

وقد سبق أن التبادر لما يعم حال الانقضاء فيما لا بقاء له ونحوه ليس لعموم المشتق له ، بل لعدم كون الجري بلحاظ حال النطق ، فلا ينافي عموم اختصاص المشتق بحال التلبس.

وإلا فمن البعيد جدا اختلاف مفاد الهيئة لغة باختلاف المواد ، بل لا مجال له بعد ما سبق من تبادر خصوص حال التلبس مع النص على حال الجري.

بقي الكلام في حجج القائلين بالعموم ...

وقد احتجوا بعلامتي الوضع المشهورتين ، وهما التبادر وعدم صحة السلب.

ويظهر المنع منهما مما سبق في تقريب الاختصاص بحال التلبس.

كما احتجوا بجملة من الاستعمالات في حال الانقضاء ، كآيتي السرقة والزنا وغيرهما ، بل ربما يدعى كثرة ذلك بنحو لا يناسب كونه مجازا.

ويندفع : بأن الاستعمال مع معرفة المراد أعم من الحقيقة. وكثرة المجاز ليست عزيزة.

مع أنه لم يتضح كون الاستعمالات المذكورة بلحاظ حال الانقضاء ، بل الظاهر كونها بلحاظ حال التلبس مع عدم كون الجري في حال النطق ولا حال النسبة ، كما يظهر بملاحظة ما سبق ، فلا نطيل.

نعم ، لا بأس بإفاضة الكلام فيما ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١) أن من عبد صنما لا يكون إماما.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.

٢٤١

فعن ابن المغازلي بسنده عن عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «أنا دعوة أبي إبراهيم». قلت : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال : «أوحى الله عزّ وجل إلى إبراهيم أني جاعلك للناس إماما ، فاستخف إبراهيم الفرح ، قال : ومن ذريتي أئمة مثلي؟ فأوحى الله عزّ وجل إليه : أن يا إبراهيم إني لا اعطيك عهدا لا أفي لك به ، قال يا رب ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال : لا اعطيك لظالم من ذريتك عهدا. قال : إبراهيم عندها : واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس. فقال النبي (صلّى الله عليه وآله) : فانتهت الدعوة إليّ وإلى علي ، لم يسجد أحدنا لصنم قط ، فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا» (١).

وفي صحيح هشام بن سالم ، قال أبو عبد الله (عليه السلام) : «الأنبياء والمرسلون على اربع طبقات ، فنبيّ منبأ في نفسه لا يعدو غيرها. ونبيّ يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ، ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام ، مثل ما كان إبراهيم على لوط. ونبيّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا ، كيونس ... وعليه إمام. والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم. وقد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا وليس بإمام حتى قال الله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، فقال الله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما» (٢) ، وقريب منهما غيرهما (٣).

__________________

(١) غاية المرام في حجة الخصام للبحراني : ٢٧٠.

(٢) اصول الكافي ١ : ١٧٤ ، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني : ٢٧١.

(٣) راجع اصول الكافي ١ : ١٧٥ ، وغاية المرام في حجة الخصام للبحراني : ٢٧٠ ـ ٢٧٢.

٢٤٢

وقد ذكروا أن الاستدلال بالآية الشريفة الذي تضمنته النصوص إنما يتم بناء على عموم المشتق لحال انقضاء التلبس ، لابتنائه على كون المراد بعدم إمامة الظالم في الآية الشريفة عدم إمامته ولو بعد ارتفاع ظلمه.

وقد أجيب عن ذلك بوجوه :

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من احتمال كون الظلم بحدوثه مانعا من الإمامة إلى الأبد ، فيكفي في امتناع إمامة الشخص صدق الظالم عليه ولو سابقا بلحاظ سبق التلبس ، بلا حاجة إلى صدقه عليه فعلا. بل هو المناسب لجلالة قدر الإمامة ، ورفعة محلّها وعظم خطرها.

ويشكل بمخالفة الاحتمال المذكور لظاهر جعل العنوان ، لما سبق من أن حمل حال الجري على حال النسبة ـ وهي في المقام عدم نيل العهد ـ مقتضى القرينة العامة بلا ملزم بالخروج عنها ، بعد كون الظلم مما له بقاء معتد به قابل عرفا لأن يبين ثبوت الحكم حينه.

ومجرد كون عموم المانعية لحال عدم صدق العنوان أنسب برفعة مقام الإمامة ، لا يقتضى تعيينه بعد كون تبعيتها لصدقه مناسبا لها أيضا ، لأن رفعة المنصب بالمقدار الزائد ـ مع كونه عين الدعوى ـ لا قرينة على سوق الآية الشريفة لبيانه.

الثاني : ما يستفاد مما ذكره بعض الأعيان المحققين ، وهو أن الظلم لما كان له فردان : ما لا بقاء له كضرب اليتيم وما له بقاء كالغصب والكفر ، امتنع إناطة الحكم به بنحو يدور مداره وجودا وعدما ، لعدم مناسبته لأحد فرديه ، بل لا بدّ من أن يناط بوجوده بنحو يبقى بعد ارتفاعه ، ليناسب كلا فرديه.

٢٤٣

وفيه ـ مضافا إلى أن الظلم قد فسر في كثير من الروايات المذكورة بالشرك والكفر ، وإلى أنه في مثل ضرب اليتيم قابل للبقاء بلحاظ عدم الاستيهاب أو عدم التوبة. فتأمل ـ : أنه يكفي في حمل العنوان على أنه مما يدور الحكم مداره وجودا وعدما قابلية بعض أفراده للبقاء ، لكفاية ذلك في رفع لغوية الخطاب عرفا. ولذا لا إشكال في فهم ذلك لو اخذ عنوان الظالم موضوعا للمانعية من غير الإمامة العامة ، كإمامة الصلاة ، وقبول الشهادة.

الثالث : ما ذكره الشيخ الطبرسي ويظهر من بعض الأعاظم (قدس سره) وغيره من أن الآية لما لم تكن واردة بنحو القضية الخارجية لتقصر عمن انقضى عنه الظلم حين صدورها ، بل بنحو القضية الحقيقية كانت شاملة للظالم حين وجوده وتلبسه بالظلم ، ومقتضى إطلاقها عدم نيله العهد أبدا ، لأن قوله تعالى : (لا يَنالُ) مضارع منفي غير محدود بوقت ، وهو يقتضى التأبيد.

وفيه : أن مقتضى الإطلاق عدم ارتفاع الحكم عن موضوعه ، لا عدم ارتفاعه بارتفاعه ، فاذا اخذ في موضوع امتناع الإمامة عنوان الظالم لزم دورانه مدار صدق العنوان المذكور ، لا ثبوته للذات بعد ارتفاعه ، كما هو الحال لو قيل : لا تصل خلف الفاسق.

نعم ، لو كان العنوان مسوقا لمجرد الحكاية عن الذات مع كونها تمام الموضوع اتجه ما ذكره (قدس سره). لكنه مخالف لظاهر أخذ العنوان ، ولا سيما في القضايا الحقيقية ، وفي مثل المقام مما كان دخل العنوان في الحكم ارتكازيا. بل لا يظن منه ولا من غيره البناء على ذلك.

الرابع : ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من ظهور صدر الآية في

٢٤٤

سؤال إبراهيم (عليه السلام) الإمامة لذريته ، ويمتنع منه سؤالها لمن هو متلبس بالظلم حينها ، بل المسئول له من عداهم ممن لم يتلبس بالظلم أصلا أو انقضى تلبسه به ، فيكون ذيلها إخراجا للقسم الثاني ، دون من تلبس بالظلم حينها ، لخروجه عن مورد السؤال.

وفيه ـ مع عدم ظهور صدر الآية ولا الروايات في سؤال إبراهيم وطلبه للإمامة ، بل استفهامه عنها. فتأمل ـ : أن إبراهيم (عليه السلام) لم يطلب استيعاب ذريته بالإمامة ، ليمنع عمومه للمتلبس بالظلم ، بل جعلها فيهم في الجملة من دون نظر لشروط المستحق لها ، وبيان المستحق ابتداء منه تعالى ، فلا مانع من حمله على المتلبس فعلا بالظلم.

الخامس : أن وضوح منافرة منصب الإمامة للتلبس بالظلم مانع من حمل الآية الشريفة عليه ، لاستهجان بيانه حينئذ ، بل لا بد أن يحمل على ما يحتاج للبيان مما فيه نحو من الخفاء ، وهو مانعية الظلم انا ما من الإمامة ولو بعد ارتفاعه ، فيكفي صدق العنوان سابقا بلحاظ حال التلبس.

وفيه : أن وضوح ذلك بحسب المرتكزات العقلية والفطرة الأوّلية لا يمنع من بيانه بعد خروج الناس عن ذلك عملا بسبب جور الظالمين ، بل اعتقاد كثير من أهل الأديان بخلافه ، لشبهات روجها الطواغيت ، فقد اشتهر عن المسيحيين إيمانهم المطلق بالكنيسة ، وكذا غيرهم من أهل الأديان حتى بعض فرق المسلمين.

ولو لا ما منّ الله تعالى به من وضوح البيان ببقاء القرآن المجيد ، وجهود أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم المخلصين ، في التأكيد على ذلك ، وفي كشف حال الظالمين وسلب الثقة بهم ، لاتخذ عامة المسلمين طواغيتهم أئمة

٢٤٥

يتبعونهم في الأحكام ، ويأخذون منهم الحلال والحرام ، كما تبعوا بعض الأوائل في كثير من فروع الدين واصوله ، مع وضوح ظلمهم حين ادعاء المنصب ، وإن حاول بعض الأتباع ـ بضلالهم ـ التلبيس والدفاع عن أئمتهم ، وتنزيه سيرتهم عن الظلم ، وسننهم في الدين عن الابتداع ، بعد وضوح مانعية التلبس بالظلم عن الإمامة بسبب الجهود المذكورة.

فكيف يستغنى مع ذلك عن إتمام الحجة ببيان صريح في القرآن المجيد الذي يتلى اناء الليل وأطراف النهار ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! والحمد لله على هدايته لدينه. ونسأله العصمة والتوفيق.

والذي ينبغي أن يقال : الاستدلال على عموم المشتق بهذه النصوص موقوف :

أولا : على ورودها في مقام الاحتجاج بالآية الشريفة على عدم إمامة من عبد وثنا أو صنما ، كي يتعين كون استفادة ذلك منها بمقتضى الوضع أو الظهور العام ، ليتسنى إلزام الخصم به في مقام الاحتجاج.

وثانيا : على أن المراد بالعهد في الآية الشريفة الإمامة التي لا تكون فعلية للشخص إلا بوجوده واجتماع الشرائط فيه ، ومنها عدم كونه ظالما ، كي يدعى أن ظاهرها لزوم عدم كونه ظالما حين انعقاد الإمامة له ، فلا يشمل من خرج عن التلبس بالظلم إلا بناء على عموم المشتق.

ولا طريق لإثبات الأمرين ، لو لم يكن الظاهر خلافهما.

أما الأول : فلعدم ظهور النصوص في الاحتجاج بالآية والإلزام بمفادها لخصم منكر ، بل في مجرد بيان المراد منها ، ولا مانع من ابتناء إرادة ما تضمنته النصوص منها على خلاف ظهورها البدوي ، لقرائن اطلع عليها من أوتي علم

٢٤٦

الكتاب بنحو يرجع إلى استعمال المشتق مجازا في حال انقضاء التلبس ، أو إلى عدم كون الجري بلحاظ حال فعلية الإمامة ، بل بلحاظ حال التلبس ولو كان سابقا على ذلك الراجع إلى مانعية صدق العنوان من أهلية المتصف به للإمامة ولو بعد ارتفاعه.

وأما الثاني : فلاحتمال ألا يكون المراد بالعهد في الآية العهد بالإمامة للإمام ، بل العهد لإبراهيم (عليه السلام) بجعل الإمامة في ذريته بعد طلبه ذلك أو استفهامه عنه ، بل لا يبعد كون ذلك هو الظاهر من الآية ، بحمل العهد على الفعلي الشخصي ، لا الكلي المنحل إلى أفراد تقديرية لا تكون فعلية إلا بنصب الإمام في وقته. بل هو كالصريح من النبوي المتقدم وغيره.

وعليه : يكون مفاد الآية أن العهد الذي قطعه الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) بالإمامة لذريته قد جعل بنحو لا يتناول الظالم منهم.

وليس المراد به الظالم حين قطع العهد ، لعدم وجوده بعد ، بل يتعين حمله على من يكون ظالما حين وجوده ، وإن اختص صدقه عليه بحال تلبسه بالظلم ، فيعم بإطلاقه من يبقى عليه ومن يفارقه.

وذلك كما يقتضي عدم مقارنة الإمامة للتلبس بالظلم كذلك يقتضي عدم تأخرها عنه أو سبقها عليه وإليه يرجع اعتبار العصمة في الإمامة.

أما لو كان المراد بالعهد العهد بالإمامة فلا تنهض الآية بالثاني إلا بناء على عموم المشتق لحال الانقضاء الذي هو محل الكلام ، ولا بالثالث إلا بناء على عمومه للتلبس في الاستقبال ، الذي لا مجال له بلا كلام.

٢٤٧

بقي في المقام أمران :

أحدهما : أن ظاهر الآية الشريفة كون الإمامة مجعولة منه تعالى للشخص ابتداء ، لعلمه بأهليته لها ، كما هو مذهب الإمامية أعز الله دعوتهم ، لا إمضاء لبيعة الناس بها ، كما هو مذهب العامة ، لعدم صحة النسبة له تعالى في الإمضائيات ، كما سبق عند الكلام في المعاملات من مبحث الصحيح والأعم. ولما هو المعلوم من عدم توقف إمامة ابراهيم (عليه السلام) على البيعة.

وهو المناسب لرفعة مقام الإمامة وجلالتها وأهمية الآثار المترتبة عليها.

ودعوى : أن ثبوت ذلك منه تعالى لا ينافي إمضاءه سبحانه لبيعة الناس بالإمامة.

مدفوعة : باحتياج الامضاء للدليل. ولا سيما مع ظهور الآية في أن جعل الإمامة لإبراهيم (عليه السلام) بعد ابتلائه له بالكلمات وإتمامه لهن ، حيث يظهر منه تبعيتها لأهلية الإمام التي تظهر باختباره وامتحانه تعالى له.

وعليه يلزم تنزيل ما ورد في أحكام الإمامة ـ كالنبوي المشهور بين الفريقين : (من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) (١) ـ على ما تضمنته الآية الشريفة.

ثانيهما : ذكر الرازي في تفسيره أن المراد بالامامة في الآية الشريفة النبوة لا الخلافة لوجوه :

الأول : ظهورها في كون الإمام إماما لجميع الناس ، وذلك لا يكون

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٧٧.

٢٤٨

إلا الرسول المستقل بالشرع ، إذ لو كان تابعا لرسول آخر كان مأموما لذلك الرسول.

الثاني : أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء ، ولا يكون كذلك إلا النبي.

الثالث : أن إمامة النبوة أعلى مراتب الإمامة ، فيجب الحمل عليها ، لذكرها في مقام الامتنان ، فلا بد أن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ، ليحسن نسبة الامتنان. قال بعد ذلك : (فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة).

والكل كما ترى! لاندفاع الأول بأن غير النبي من الأئمة إمام لجميع الناس اللذين في عصره ، وذلك هو المنساق من عموم الآية ، ولذا لا يقدح في إمامة النبي المستقل بالشريعة عدم إمامته لمن سبق عصره أو تأخر عن شريعته ، فلا يقدح في إمامة الإمام عدم إمامته لنبي شريعته غير الموجود حين إمامته ، بل هو كسائر من سبق عصرها من الناس.

نعم ، لو تضمنت الآية أن الإمام لا يكون مأموما ولو لغير أهل عصره اتجه قصورها عن الإمام التابع لنبي شريعته. لكن الآية لم تتضمن ذلك ، بل تضمنت أنه إمام لجميع الناس ، كما هو ظاهر الجمع المحلى باللام.

وأما الثاني فهو يبتني على مبانيهم من اختصاص الإمامة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) بنظم أمر الدنيا ، ولا يجري على مبانينا معشر الإمامية من عمومها لشئون الدين والدنيا تبعا لعموم الحاجة فيهما.

كما أن الثالث موهون بأن كون النبوة أعلى المراتب لا يقتضي إرادتها ، لعدم اختصاص الامتنان بالمراتب العالية من النعم ، فإن كل نعمة مورد للامتنان.

٢٤٩

بل لا امتنان في الاقتصار على المراتب العالية منها. وإلا لزم الاختصاص بأعلى مراتب النبوة وأشرفها ، كالنبوة الخاتمة.

هذا كله مع أن النبوة مباينة للإمامة مفهوما ، فان الإمام هو الذي يجب على الناس متابعته والأخذ منه والاقتداء به ، والنبوة لا تستلزم ذلك ، إذ قد يختص النبي بأحكام من دون أن يجب الأخذ منه على الناس متابعته والأخذ منه على الناس ، بل قد يكون عليه إمام ، كما تضمنه صحيح هشام بن سالم المتقدم وغيره.

بل سبق فيه أن إبراهيم (عليه السلام) كان نبيا وليس بإمام ، كما هو ظاهر صدر الآية الشريفة أيضا المتضمن أن جعله إماما كان بعد ابتلائه بالكلمات ، قال تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ...)(١). ولا إشكال ظاهرا في أنه ابتلي بالكلمات وهو نبي.

نعم ، بناء على ما حكاه من قراءة ابن عباس برفع (إبراهيم) ونصب (ربه) يكون المراد ظاهرا اختبار إبراهيم (عليه السلام) لله سبحانه في إجابة دعائه ، إذ يمكن حينئذ أن يكون قد دعا الله قبل نبوته ، وجعل نبيا حين جعله إماما ، لا قبل ذلك. لكنها شاذة والاستدلال إنما يكون بالقراءة المشهورة.

وقد خرجنا في الحديث عن الآية عما يقتضيه البحث رغبة في استكمال الفائدة. وبذلك ينتهي الكلام في بحث المشتق ، وإن اطال مشايخنا في بعض ما يتعلق به من المباحث مما لا دخل له بمحل الكلام ، ولا يتضح ترتب فائدة

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.

٢٥٠

معتد بها عليه ينبغي لأجلها صرف الوقت. ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق.

٢٥١
٢٥٢

٢٥٣
٢٥٤

المقصد الثاني

في الأوامر والنواهي

وقد جرى أهل الفن على التفريق بين الأوامر والنواهي وتخصيص كل منهما بمقصد ، مع أن النواهي تشارك الأوامر أو تناظرها في جل المباحث المذكورة في مقصدها ، كمباحث مفاد المادة والصيغة والجمل الخبرية ، ومباحث تقسيمات الواجب إلى النفسي والغيري ، والأصلي والتبعي ، والمطلق والمشروط ، والعيني والكفائي وغيرها ، ومباحث المرة والتكرار والفور والتراخي وغيرهما ، ولم يذكروا تلك المباحث في مقصد النواهي اكتفاء بما ذكروه في مقصد الأوامر.

وأهم ما ذكروه في مقصد النواهي مسألتا اجتماع الأمر والنهي ، واقتضاء النهي الفساد ، اللذان هما من مباحث الملازمات العقلية حسب التبويب الذي جرينا عليه ، مع أن نسبة الأولى لكل من المقصدين واحدة.

ومن هنا كان الأنسب جمعهما في مقصد واحد ، كما جرينا عليه هنا ، مع تعميم موضوع البحث لهما في مورد الاشتراك ، وتخصيصه بأحدهما في مورد الانفراد.

٢٥٥

مقدمة

الظاهر أن الأمر والنهي متقابلان مفهوما واقتضاء ، فالأمر نحو نسبة بين الامر والمأمور والماهية المأمور بها تقتضي تحقيق المأمور للماهية وإيجادها في الخارج ، والنهي نحو نسبة بينهما وبين الماهية المنهي عنها تقتضى ترك المنهي للماهية وعدم إيجادها في الخارج.

فتقابلهما بلحاظ سنخهما وأثرهما ، لا بلحاظ متعلقهما ، نظير التقابل بين الإرادة والكراهة في حقيقتهما واقتضائهما للمراد والمكروه.

وقد يظهر من بعض عباراتهم اتحاد نسبتيهما مفهوما وأثرا وأن التقابل إنما هو في متعلقهما ، فقد ذكر بعضهم في بيان مفاد النهي أنه لا فرق بينه وبين الأمر إلا في أن المطلوب في الأمر الوجود وفي النهي العدم ، كما حكي عن آخرين في مسألة الضد أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده العام وهو الترك.

وذلك كله مناف للمرتكزات العقلائية والعرفية في حقيقة النسبتين ومفاد الدال عليهما.

وكأنه يبتني على نحو من التسامح أو الاشتباه في حقيقة كل من النسبتين بلازمها في مقام الامتثال أو العمل على طبقها. ولا معدل عما ذكرنا.

إذا عرفت هذا فالكلام يقع في فصول ..

٢٥٦

الفصل الأول

في ما يتعلق بمادة الأمر والنهي

ذكروا لمادة الأمر معاني كثيرة ، كالطلب والشأن والحادث والشيء وغيرها.

والظاهر أنه مشترك لفظا بين معنيين : نحو من الطلب أو ما يرجع إليه ، ويأتي الكلام في بعض الخصوصيات المأخوذة فيه ، والشأن أو ما يجري مجراه ، وليطلق على الأول الأمر الطلبي ، وعلى الثاني الأمر الشأني.

وهو الجامع بين بقية المعاني المذكورة له ، فذكر كل من تلك المعاني بخصوصياتها يبتني على اشتباه المفهوم بالمصداق ، حيث يبعد استقلال كل منها بالوضع مع تقاربها ذهنا بنحو يدرك العرف رجوعها لجامع واحد ، بل لا ريب في عدم الوضع لبعضها ، وأن الاستعمال فيه لاندراجه في مفهوم خاص جامع بينها.

وصعوبة تحديده تفصيلا لا ينافي إدراكه ارتكازا ، ككثير من المفاهيم العرفية.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم (قدس سره) أنه عبارة عن الواقعة التي لها أهمية في الجملة ، وأرجع الأمر الطلبي إليه ، باعتباره من الامور ذات الأهمية ، فلا يكون لمادة الأمر إلا معنى واحد ، وليست مشتركة لفظا بين معنيين.

لقضاء الوجدان بأن الاستعمال في جميع الموارد في معنى واحد.

٢٥٧

ويشكل ما ذكره : بأنه ـ مضافا إلى عدم أخذ الأهمية في المعنى ـ لا مجال لإرجاع الأمر الطلبي للمعنى الآخر ، وتخصيص المادة بمعنى واحد ، لأن الأمر الطلبي مصدر اشتقاقي يجمع على أوامر ، كما يجمع النهي على نواهي ، والأمر الشأني جامد يجمع على أمور ، حيث يكشف ذلك عن اشتراك اللفظ بين معنيين متباينين مفهوما ، وإن كان الأمر الطلبي من مصاديق الأمر الشأني ببعض الاعتبارات كالنهي والاستفهام وغيرهما.

وأما ما في منتهى الاصول من إمكان اختلاف جمع المفهوم الواحد باختلاف مصاديقه ، كما يمكن اختلافه بحسب الاشتقاق باختلاف نسبه حسب اختلاف الحاجة ، فإذا كانت اختلافات النسب في معنى كثيرة كثرت اشتقاقاته ، وإن كانت قليلة قلّت.

ففيه : أن الجمع يرد على المفهوم باعتبار تعدد أفراده ، لا على الأفراد ليختلف باختلافها. وكذا الحال في الاشتقاق ، فمع وحدة المعنى لا بد من كونه على وجه واحد ، والاختلاف في مقدار الاشتقاق إنما يكون مع تعدده ، كما يختلف اللازم مع المتعدي في بعض الاشتقاقات.

على أن الأمر ليس في قلة الاشتقاق وكثرته ، بل في اشتقاق أحد المعنيين وجمود الآخر ، ومباينة المعنى الاشتقاقي للجامد أوضح من أن تخفى.

وقابلية بعض أفراد المعنى الجامد للاشتقاق بلحاظ خصوصيته الفردية لا تصحح الاشتقاق من مادته الجامدة ، ولذا لا يصح الاشتقاق من الأمر الشأني لو اريد من النهي أو الاستفهام أو نحوهما مما يكون فردا له بملاك فردية الأمر الطلبي له.

ولعله لذا اعترف بعدم خلوّ ما ذكره عن المناقشات.

٢٥٨

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في تباين المعنيين مفهوما ، واشتراك مادة الأمر بينهما اشتراكا لفظيا. نعم قد يكون الأمر الطلبي مأخوذا من الأمر الشأني بحسب الأصل ، كما في كثير من المواد المشتركة ، كمادة شجر التي يرجع إليها الشجر الجامد ، والشجار المشتق.

والأمر ليس بمهم ، إنما المهم تحقيق حال الأمر الطلبي وتحديد مفاده ، والمنظور في ذلك إنما هو المفاد اللغوي والعرفي ، الذي يحمل عليه في كلام الشارع الأقدس ونحوه مما له دخل في الاستنباط.

وإلا فقد ادعي أن المراد به اصطلاحا القول المخصوص ، وهو (افعل) أو ما بمعناه ، وهو غير مهم لو تم.

هذا ، وأما النهي فهو مختص ظاهرا بالمعنى المقابل للأمر ، ويشاركه في أكثر الجهات المبحوث عنها فيه أو في جميعها.

إذا عرفت هذا فقد وقع الكلام بينهم :

تارة : في اتحاد الأمر مع الإرادة النفسية أو مباينته لها لتقومه بالإنشاء.

واخرى : في أخذ علوّ الامر أو استعلائه في مفهومه.

وثالثة : في دلالته وضعا أو إطلاقا على الإلزام.

ويجري نظير ذلك في النهي ، حيث يقع الكلام في اتحاده مع الكراهة النفسية ، وفي اعتبار علوّ الناهي أو استعلائه فيه ، وفي دلالته على الإلزام.

والذي ينبغي أن يقال : لا إشكال بعد النظر في المرتكزات العقلائية والعرفية في مباينة الأمر والنهي مفهوما وخارجا للإرادة والكراهة النفسيتين وتقومهما بالجعل والإنشاء الذي قد لا يكون مسببا عن الإرادة والكراهة للمتعلق ، بل يكون بداعي الامتحان أو غيره. نظير ما سبق عند الكلام في

٢٥٩

حقيقة الأحكام الاقتضائية ـ في مقدمة علم الاصول ـ من أن الإرادة والكراهة التشريعيتين اللذين هما منشأ انتزاع التكليف مباينتان سنخا للإرادة والكراهة النفسيتين الحقيقيتين.

فليس الأمر والنهي إلا عبارة عن الخطاب بالحث نحو الشيء أو الزجر عنه من دون أن يستلزما إرادته أو كراهته فضلا عن أن يتحدا معهما مفهوما أو خارجا ، كما يظهر من بعضهم.

نعم ، الظاهر عدم الاكتفاء فيهما بمطلق الحث والزجر ، بل يختصان بما يبتني منهما على فرض المخاطب نفسه بمرتبة من ينبغي متابعته وتنفيذ خطابه ، إما لسلطان غالب ، أو لقوة قاهرة ، أو لحق لازم عرفا أو شرعا.

لكن لا بمعنى لزوم بلوغه لذلك حقيقة ، بل يكفي تخيله ذلك أو ادعاؤه له ، لأن المعيار على ابتناء الخطاب عليه.

ولذا لا يكفي وجوده الواقعي من دون أن يبتني عليه الخطاب. فلو وجب شرعا إطاعة الأب فطلب طلب الراجي غافلا عن ذلك لم يصدق على طلبه الأمر ، كما لا يصدق على زجره النهي ، وإن وجبت إطاعته.

كما أنه لو طلب طلب السلطان القاهر صدق الأمر والنهي وإن لم تجب إطاعته شرعا ولم يخش سلطانه.

ومرجعه إلى اعتبار الاستعلاء دون العلوّ ، خلافا لما ذكره غير واحد من العكس.

بل يجري ذلك حتى في الأوامر والنواهي الإرشادية إذا ابتنت على ادعاء المرشد بلوغه أهلية الإرشاد لمعرفته بمرتبة تلزم بمتابعته.

أما لو ابتنت على محض معرفته بالواقع المرشد إليه ولو صدفة من دون

٢٦٠