المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

الوجود الاعتباري التابع لإمضائها. بل لعل الثاني هو الظاهر من إطلاق العنوان في كلام الشارع وغيره ممن له الاعتبار ، لظهور حاله في إرادة ثبوت العنوان بنظره واعتباره ، بل حمل العنوان على الوجود الإنشائي بعيد جدا ، لكونه بنظر العرف وجودا ادعائيا لا حقيقيا ، وإنما التزم الحمل عليه في عناوين المعاملات لخصوصية في الهيئة ، كما سبق.

ومن هنا لا ينهض الإطلاق بإثبات الحكم مع الشك في نفوذ المعاملة وصحتها ، فضلا عن أن ينهض بإثبات نفوذها وصحتها ، لعدم إحراز عنوانه.

نعم ، يمكن التمسّك بالإطلاقات المقامية لأدلة الأحكام المذكورة ، لأن خطاب الشارع للعرف بأحكام المضامين الاعتبارية من دون أن يتصدّى لبيان مورد اعتباره لها ظاهر في الاكتفاء في بيانه على ما عند العرف وعدم خروجه عليهم فيه ، كما هو الحال في خطابات الموالي العرفيين أيضا ، حيث لا إشكال في رجوع عبيدهم في معرفة مورد اعتبارهم إلى ما عليه العرف العام عند عدم تصدّيهم لبيان مورد الاعتبار مع وضوح إمكان خروجهم عمّا عليه العرف المذكور ، كالشارع.

وبالجملة : لما كان الأثر أمرا اعتباريا للشارع الأقدس ، وكان ظاهر خطابه بحكمه لزوم تحققه بالإضافة لاعتباره ، فلا مجال للتمسّك بإطلاقه اللفظي مع عدم إحرازه ، إلا أنه مع عدم تصديه لبيان مورد اعتباره يكون مقتضى الإطلاق المقامي لخطابه الإيكال إلى ما عليه العرف فيه ، ومتابعته لهم ، كسائر الموالي العرفيين. والظاهر أن ما ذكرنا مطابق لسيرة أهل الاستدلال. فلاحظ.

والله سبحانه وتعالى العالم ، ومنه نستمد العون والتوفيق. والحمد له

٢٢١

وحده ، والصلاة على من لا نبيّ بعده محمد وآله الطاهرين.

ولنكتف بهذا المقدار من الكلام في مقدمات مباحث الظهورات ، وندخل فيما هو المقصود بالأصل من المباحث المذكورة.

والمراد به تشخيص الظهورات النوعية ، سواء استندت للوضع أم لقرائن عامة منضبطة المفاد ، أما الظهورات المستندة لقرائن شخصية غير منضبطة فلا مجال للبحث عنها في علم الاصول ، لعدم تيسر استقصائها ، بل يوكل للفقيه عند الابتلاء بمواردها.

كما أن محل الكلام ظهور خصوص بعض الهيئات الإفرادية والتركيبية والحروف مما يكثر الابتلاء به ويظهر أثره في الاحكام الشرعية ، ولم يبحث بالنحو الكافي في العلوم اللغوية الاخرى ، كمعاني المفردات المبحوثة في معاجم اللغة ، والهيئات الإعرابية المبحوثة في علم النحو وغير ذلك. والبحث فيها يتم في ضمن مقاصد ..

٢٢٢

٢٢٣
٢٢٤

المقصد الأول

في بحث المشتق

وقد جرى غير واحد على بحثه في مقدمة علم الاصول. وأول من خرج عن ذلك بعض المعاصرين (رحمه الله تعالى) في اصوله ، بلحاظ رجوع البحث فيه إلى تشخيص الظهور ، وليس في مبادئ الظهور.

وكيف كان ، فقد وقع الكلام في أن المشتق حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدإ في الحال أو فيما يعمّه وما انقضى عنه ، مع الاتفاق ـ كما قيل ـ على كونه مجازا فيما لا تلبس به إلا في الاستقبال.

وينبغي تقديم امور لها دخل بتوضيح محل النزاع ، أو نافعة في مقام الاستدلال.

الأمر الأول : المشتق في اصطلاح النحويين ما كان لمادته معنى محفوظ في غيره مما شاركه فيها وفارقه في الهيئة ، كالفعل واسمي الفاعل والمفعول وغيرها.

أما في محل النزاع فهو العنوان المنتزع عن الذات ، الحاكي عنها بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة اليها.

وبينه وبين المشتق بالمعنى الأول عموم من وجه ، حيث يعم بعض الجوامد باصطلاح النحويين كالأب والأمّ والأخ والزوج والزوجة ونحوها مما

٢٢٥

يظهر من بعض كلماتهم المفروغية عن عموم النزاع لها ، كما يقصر عن الفعل والمصدر ، حيث لا ينتزعان عن الذات ، ولا يحكيان عنها ، بل عن المادة المجردة أو مع نحو من النسبة.

نعم ، ينبغي أن يكون النزاع في المشتقات راجعا للنزاع في وضع هيئاتها النوعي ، أما في الجوامد فهو راجع للنزاع في وضعها الشخصي ، لعدم أمر مشترك يجمعها يكون النزاع فيما وضع له ، وإنما تشترك في كونها عنوانا للذات بلحاظ جهة خارجة عنها ، وذلك أشبه بالجهة التعليلية.

وأما ما يظهر من الفصول من اختصاص النزاع باسم الفاعل ونحوه دون باقي المشتقات ، لعدم ملائمة جميع ما أوردوه في المقام لها. فهو كما ترى! لأن قصور الدليل عن بعض الدعوى لا يشهد بقصور الدعوى.

ولا سيما مع ظهور عموم النزاع لاسم المفعول من تفريع جمع من المحققين ـ كما قيل ـ على المسألة كراهة الوضوء بالماء المسخّن بالشمس بعد زوال حرارته.

نعم ، لا يبعد انصراف بعض كلماتهم عن ذلك ، إلا أنه لا يكفي في اختصاص النزاع ، خصوصا في العصور المتأخرة بعد الالتفات لهذه الجهات.

هذا ، وقد يستشكل في عموم النزاع لاسم الزمان ، لأن تصرّم الزمان مستلزم لعدم بقاء الذات بعد ارتفاع الحدث ، كي يقع الكلام في صحة إطلاق اسم الزمان عليها حقيقة.

وهو مبني اولا : على وضع الهيئة له بخصوصه ولو بنحو الاشتراك اللفظي بينه وبين المكان ، إذ لو كان موضوعا بوضع واحد للجامع بين الزمان والمكان وهو الظرفية ـ كما قد يظهر من بعض المحققين ، وجرى عليه غير

٢٢٦

واحد من تلامذته ، ويناسبه اطراد اسمي الزمان والمكان في الهيئة وارتكازية الجامع بينهما ـ فلا موضوع للإشكال المذكور ، لأن الظرفية قابلة للارتفاع عن الذات ولو في المكان ، ولا أثر لعدم قبولها له في الزمان بعد عدم وضع الهيئة له بخصوصه.

وثانيا : على كون المحكي باسم الزمان خصوص ما يقارن الحدث من الأمد الموهوم. أما لو أمكن إطلاقه حقيقة على ما هو أوسع منه مما يقع بين الحدّين الاعتباريين ، كالساعة واليوم والشهر ـ كما يظهر من غير واحد ـ فيتجه فرض البقاء له بعد ارتفاع الحدث.

وما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) من أن الحدث وإن ارتفع إلّا أن التلبس المصحح لانتزاع الظرفية للزمان باق ، غير ظاهر فتأمل.

الأمر الثاني : حيث عرفت أن محل الكلام هو العنوان المنتزع عن الذات بلحاظ جهة خارجة عنها لها نحو من النسبة إليها ، فالمصحح لانتزاع العنوان تارة : يكون فعلية اتصاف الذات بالعرض ، كما في الماشي المنتزع من فعلية الاتصاف بالمشي. واخرى : يكون أمرا آخر ، كوجود الملكة له ، أو القابلية أو الحرفة أو الصنعة أو نحوها مما لا يلحظ فيه الفعلية ، كما في عنوان المجتهد المنتزع من تحقق ملكة الاجتهاد في الشخص ، والكاتب المنتزع من تحقق ملكة الكتابة أو كونها وظيفة له وحرفة ، والصائغ المنتزع من كون صنعته الصياغة ، وأسماء الآلة المنتزعة من قابلية الشيء لأن يتحقق بواسطته الفعل ، بحيث لا يحتاج صدوره إلا إلى إعماله فيه ، كالفتح للمفتاح والسمر للمسمار.

والاكتفاء بما عدا الفعلية في الثاني إما أن يستند إلى المادة ، بأن لا يراد

٢٢٧

منها الفعلية مع بقاء الهيئة على ما هي عليه من الدلالة على فعلية التلبس بما يراد من المادة ، كما في الاجتهاد الذي يراد به اصطلاحا وجود الملكة الخاصة ولو من دون مزاولة للعمل ، والكتابة التي يراد بها تارة الملكة واخرى الوظيفة ، ولذا تدل المادة على ذلك في غير الهيئة المذكورة ، كالفعل والمصدر.

وإما أن يستند لخصوص الهيئة ، مع بقاء المادة على ما هي عليه من الدلالة على الحدث الفعلي ، كما في اسم الآلة ، حيث لا إشكال في كون المراد بموادها نفس الفعل الخارجي ، وليس الاكتفاء بالقابلية المذكورة إلا مقتضى الهيئة الخاصة.

ومثل ذلك ما أفاد الصنعة أو الحرفة مما بني على (فعّال) كالصّراف والنجّار والوزّان ، حيث لا إشكال في استناد الدلالة على ذلك للهيئة ، لا للتوسع في المادة ، ولذا تدل على ذلك فيما ينتزع من الأعيان ، كالحدّاد والبزّاز والجمّال والورّاق ، مع وضوح عدم الخروج بموادها عن معانيها. فهو نظير هيئة النسبة التي قد يراد بها ذلك ، كما في الجوهري.

وربما يتردد الأمر بين الوجهين ، كما في الصائغ ، الذي يكون المعيار في انتزاعه عرفا اتخاذ الصياغة صنعة ، لا عمل الصياغة ، حيث يحتمل ابتناؤه على التوسع في المادة بإرادة الأمر المذكور منها مع إرادة فعلية القيام به من الهيئة ، كما يحتمل ابتناؤه على التوسع في الهيئة بإرادة ذلك منها مع إرادة نفس العمل من المادة.

وكيف كان ، فلا مجال بعد ما سبق لما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) من رجوع جميع ذلك للتوسع في مفاد المادّة من دون تصرف في الهيئة ، بل المراد بها ما يراد في القسم الأول من الحكاية عن فعلية القيام بالمعنى

٢٢٨

الذي اريد من المادة.

ومثله ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من ابتناء ذلك على التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات وادعاء أن واجد ملكة الشيء أو القابلية له أو متخذه صنعة أو حرفة متلبس به دائما ، مع دلالة كل من المادة والهيئة على الفعلية في العمل أو في القيام به.

إذ لا شاهد على التوسع المذكور ، بل هو محتاج إلى عناية غير حاصلة ارتكازا.

بل لا ينبغي احتمالها فيما يطرد استعماله في غير الفعلية كأسماء الآلة ومثل الصراف والنجار ، إذ ليس من شأن التوسع والعناية الاطراد. ولا سيما في اسم الآلة الذي لا يستلزم الفعلية أصلا ، فاذا استندت إفادة ذلك في بعض ما تقدم للهيئة أو المادة أمكن الاستناد في الباقي بلا ملزم لالتزام التوسع في التطبيق بإلغاء الفترات فيه.

ثم إنه لا إشكال في أن ما تستند الدلالة فيه على غير الفعلية للمادة من هذا القسم داخل في محل النزاع ، حيث يقع الكلام في أن هيئته ـ كسائر هيئات المشتق ـ موضوعة للدلالة على خصوص حال التلبس أو على الأعم منه ومن حال الانقضاء ، لكن لا يراد بحال التلبس فيه حال التلبس بفعلية العمل ، بل حال التلبس بما يراد من المادة من ملكة أو حرفة أو غيرهما ، ويقابله حال الانقضاء الذي يكون بارتفاع المعنى المذكور ، لا بارتفاع التلبس بفعلية العمل.

وأما ما تستند فيه الدلالة على ذلك للهيئة فدخوله في محل النزاع لا يبتني على النزاع في وضع الهيئة للتلبس بما يراد بالمادة في خصوص الحال ،

٢٢٩

أو في الأعم منه ومن حال الانقضاء ، لفرض عدم وضعها لإفادة التلبس به مطلقا ، بل لإفادة معنى آخر قد لا يلازمه ، بل لا بد أن يبتني على النزاع في وضعها لذلك المعنى ـ من القابلية أو الحرفة أو غيرهما ـ بقيد فعلية تحققه في الحال ، أو بنحو يعمّ حال انقضائه ، فكما أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها التلبس في عمومه وخصوصه أمكن النزاع في المشتقات التي تتضمن هيئاتها أمرا غير التلبس في عموم ذلك الأمر وخصوصه.

وبالجملة : النزاع في العموم والخصوص إنما هو بعد تعيين ما يراد بالمادة من الأمر الفعلي أو ملكته أو القابلية له أو غيرها ، وتعيين ما يراد بالهيئة من التلبس بما يراد بالمادة أو ملكته أو القابلية له أو غيرها.

ومنه يظهر الحال في الجوامد التي تقع عنوانا للذات بلحاظ جهة خارجة عنها ، حيث لا فرق بينها وبين المشتقات إلا في أن الكلام فيها في مقتضى وضعها الشخصي ، وفي المشتقات في مقتضى وضع هيئاتها النوعي ، كما تقدّم في الأمر السابق.

ومن جميع ما سبق يظهر أنه لا مجال للاستدلال على عموم المشتق لحال الانقضاء ، بصحة إطلاق القسم الثاني من المشتقات المتقدمة مع انقضاء التلبس بالحدث ، كإطلاق الصائغ على الشخص حال عدم انشغاله بعمل الصياغة. فإن ذلك خروج عن محل الكلام ، إما لعدم كون المراد بالمادة الحدث ، بل الصنعة ونحوها ، أو لعدم دلالة الهيئة على التلبس. كيف؟! ولازمه عدم اعتبار الملابسة حتى في الحال الماضي ، لصدق بعض ما سبق بلحاظ الشأنية من دون تلبس بالحدث أصلا ، كما في اسم الآلة.

نعم ، لو صدق مثل ذلك بعد انقضاء ما يراد بالهيئة والمادة اتجه

٢٣٠

الاستدلال به.

الأمر الثالث : لا يخفى أن إطلاق العنوان الذاتي أو العرضي المشتق أو الجامد على الذات ـ حاكيا عنها أو [واصفا] لها أو محمولا عليها ـ إنما يكون بلحاظ اتحاده معها وانطباقه عليها ، وظرف الاتحاد الملحوظ هو المعبّر عنه في كلمات بعضهم بحال الجري ، ومن الظاهر أنه تارة : يكون في زمان النطق ، كما في قولنا : (زيد عادل الآن) ، أو (أكرم غدا المسافر الآن). واخرى : في زمان آخر ، كما في قولنا : (زيد مسافر أمس أو غدا) ، أو : (أعن الآن المسافر أمس أو غدا).

نعم ، مقتضى الإطلاق عرفا هو تنزيل حال الجري على زمان النطق وعدم احتياج إرادته إلى قرينة. وكأنه لكونه محط الأغراض والآثار ، فيكون هو الحقيق بالبيان ، فعدم التصدي لبيانه ظاهر في الاتكال على ارتكاز أقربية زمان النطق في بيانه.

ولا يحمل على غيره إلا بقرينة خاصة ـ كما في الأمثلة المتقدمة ـ أو عامة ، كما لو وقع المشتق طرفا لنسبة غير حالية ، حيث يحمل حال الجري على حال النسبة ، فلو قيل : (تصدق على فقير) ، كان ظاهره إرادة الفقير حين التصدق ، وإن قيل : (إن جاء زيد زاره العلماء) ، كان ظاهره إرادة العلماء حين مجيئه الذي هو زمان لزوم الزيارة ، إلى غير ذلك مما تناسبه خصوصيات النسب.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن ما يحكي عنه المشتق وما الحق به من الجوامد ـ من التلبس بالجهة العرضية المصححة لانتزاع العنوان ، أو نحو التلبس مما تقدم في الأمر السابق ـ لا يعتبر تحققه حال النطق ، بل يكفي تحققه قبله أو

٢٣١

بعده ، لعدم العناية في الاستعمالات المذكورة ، الكاشف عن كونها حقيقية ، وعن عموم الوضع بالنحو المناسب لها.

فلا بد من كون النزاع في اختصاص المشتق بالحال أو عمومه لحال الانقضاء إنما هو بلحاظ حال الجري ، بمعنى : أن العنوان هل يدل على التلبس أو نحوه في خصوص حال الجري ، فلا يصدق مع انقضائه حاله ، أو على الأعم منه ومن التلبس أو نحوه قبل حال الجري ، فيصدق مع انقضائه حاله.

ولعل التباس حال الجري بحال النطق بسبب كون التطابق بينهما مقتضى الإطلاق له دخل مهم في اشتباه مفهوم المشتق ولوقوع النزاع فيه ، على ما قد يتضح عند بيان المختار والاستدلال له.

الأمر الرابع : ربما يدعى أن النزاع في المقام ليس في سعة مفهوم المشتق وضيقه ، بل في حال صدقه مع وضوح مفهومه ، وأن صدقه ، على ما انقضى عنه التلبس هل هو لكونه من أفراده الحقيقية أو الادعائية؟ وأن تحرير النزاع في المفهوم خلط في محل الكلام.

لكن لا يخفى أن صدق المعنى على الفرد ـ المعلوم حاله ـ حقيقة وعدمه فرع سعة مفهومه له وضيقه عنه ، ولا معنى لصدقه عليه مع ضيق مفهومه عنه ، ولا لعدم صدقه عليه مع سعة مفهومه له.

بل سبق في استعمال اللفظ في أكثر من معنى أنه لا بد من ذلك حتى في الاستعمال المجازي ، بناء على ابتناء المجاز على ادعاء دخول الفرد في معنى اللفظ وعدم الخروج باللفظ عن معناه ، فلا بد فيه من نحو من التصرف في المعنى الموضوع له بنحو يشمل الفرد ادعاء.

وحينئذ لا بد من رجوع النزاع في سعة صدق المشتق للنزاع في سعة

٢٣٢

مفهومه.

الأمر الخامس : حكي عن الفارابي والشيخ الخلاف في أن صدق عنوان الموضوع على ذاته في القضايا المعتبرة في العلوم هل هو بالإمكان أو بالفعل الذي يكفي فيه الصدق في أحد الأزمنة الثلاثة ، فاذا قيل : (كل ماش متحرك) ، فالموضوع هو الماشي بالإمكان عند الفارابي ، والماشي بالفعل عند الشيخ.

وقد استدل على الثاني بعضهم : بأن ذلك هو المتبادر في العرف واللغة.

وهذا قد لا يناسب ما سبق من الاتفاق على عدم صدق المشتق حقيقة مع التلبس في الاستقبال ، فضلا عما لم يتلبس حتى فيه ، بل لم يكن تلبسه إلا إمكانيا.

كما قد لا يناسبه ـ أيضا ـ ما ذكروه في وجه تسمية القضية الفعلية ـ وهي التي حكم فيها بتحقق النسبة في أحد الأزمنة الثلاثة ـ بالمطلقة ، من أن مفادها هو المفهوم من القضية عند إطلاقها ، ضرورة أنه لو تم الاتفاق السابق في المشتق فلا يفهم من الإطلاق إلا التلبس في الحال ، أو فيما يعمه والتلبس في الماضي ، دون التلبس في الاستقبال.

ولم أعثر عاجلا على من تعرّض لذلك عدا بعض الأعاظم (قدس سره) فقد ذكر أن النزاع بين الفارابي والشيخ أجنبي عن محل الكلام ، لأن محل الكلام هو المفاهيم الإفرادية ، والنزاع المذكور في القضايا التركيبية ، وأن المحمولات فيها هل هي ثابتة على الأفراد الممكنة أو خصوص الفعلية منها.

لكن من الظاهر أن الموضوع الذي هو جزء القضية التركيبية إذا فرض دلالته على معنى خاص بما هو مفهوم إفرادي لزم دلالته على ذلك في ضمن

٢٣٣

القضية ، للقطع بعدم انسلاخه عن معناه الإفرادي عند صيرورته موضوعا لها ، إذ ليس مفاد التركيب إلا جعل النسب بين المعاني الإفرادية من دون تصرف فيها.

ولعل الأولى في تقريب خروج النزاع المذكور عن محل الكلام أن يقال : النزاع المذكور إنما هو فيما يعتبر من صدق عنوان الموضوع الذي هو مصحح للجري الذي تقدم الكلام فيه في الأمر السابق ، فالفارابي لا يعتبر فعلية الصدق ، بل يكتفي بإمكانه ، والشيخ يعتبر فعليته ولو في الزمان المستقبل ، أما النزاع في محل الكلام فهو في معيار الصدق ، وأنه لا بد فيه ـ ولو لم يكن فعليا بل إمكانيا ـ من التلبس حينه أو يكفي التلبس فيما سبق عليه.

وكذا الحال فيما تقدّم منهم في القضية الفعلية ، فانه راجع إلى أن المفهوم من القضية عند إطلاقها هو صدق المحمول على الموضوع في الجملة ولو في الزمان اللاحق ، وهو لا ينافي ما هو محل الكلام من أن معيار الصدق المصحح للجري هو التلبس حاله أو الأعم منه ومن التلبس فيما سبق.

نعم ، بناء على ما سبق منا من أن مقتضى الإطلاق كون حال الجري هو حال النطق يتجه عدم تمامية ما ذكروه في الموردين ، لأن ذلك يستلزم ظهور الإطلاق في كون الصدق المصحح للجري في حال النطق أيضا ، لا مطلق فعليته ولو في الزمان المستقبل ـ كما هو مقتضى ما ذكره الشيخ في الموضوع وما ذكروه في القضية الفعلية ـ فضلا عن الاكتفاء بالإمكان ، كما ذكره الفارابي في الموضوع. لكنه أمر آخر غير مورد الكلام في المشتق.

الأمر السادس : وقع الكلام بينهم في بساطة مفهوم المشتق وتركيبه.

ومرادهم بالبساطة عدم تضمن المفهوم الذات المتلبسة بالمبدإ ، بل هو

٢٣٤

متمحض في الدلالة على المبدأ المحكي بالمادة ، وليس مفاد هيئته إلا نحو نسبة تقتضي لحاظه بنحو يكون عنوانا للذات متحدا معها يصح حمله عليها ، في مقابل التركيب الراجع إلى أخذ الذات مع المبدأ في مفهوم المشتق بنحو يكون قيدا لها.

وقد أطالوا في ذلك بما لا يسعنا متابعتهم فيه لخروجه عما نحن بصدده من تعيين سعة مفهوم المشتق من حيثية التلبس وعدمها ، وعدم الأثر له في الاستنباط بعد اتفاق القولين في الحكاية به عن الذات ذات المبدأ ، وابتنائه على نحو من التدقيقات في المدعى والاستدلال ، التي هي أنسب بالمعقولات منها بمبحث الظهورات ، التي يكون الغرض منها تشخيص المفاهيم العرفية المدركة لعامة أهل اللسان بحسب سلائقهم وارتكازاتهم الأولية ، غير المبتنية على التكلف والتعمل.

وإنما أشرنا للنزاع المذكور هنا لأجل ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن النزاع في سعة مفهوم المشتق وضيقه في محل الكلام فرع وجود جامع عرفي بين حالي التلبس والانقضاء ، كي يقع الكلام في الوضع له أو لخصوص حال التلبس ، أما لو لم يكن هناك جامع بين الحالين فيمتنع الوضع لهما معا إلا بنحو الاشتراك اللفظي الذي لا قائل به في المقام ، بل يتعين الوضع لخصوص حال التلبس.

وقد ادعى (قدس سره) امتناع تقريب الجامع على كل من القول بالبساطة والقول بالتركيب.

أما على البساطة : فلأن مفهوم المشتق لما كان هو المبدأ المعرى عن الذات كان صدقه موقوفا على صدق المبدأ ، وامتنع صدقه مع ارتفاعه ، لأنه

٢٣٥

عبارة اخرى عن المبدأ الملحوظ محمولا على الذات ، ومن المعلوم توقف ذلك على وجود المبدأ ، ولا معنى لصدقه مع عدمه ، إذ لا جامع بين الوجود والعدم. وقد أقرّه على ذلك بعض مشايخنا.

وأما على القول بالتركيب : فلأنه لما كانت الذات هي الركن له ، وكانت ذات حالين حال التلبس وحال الانقضاء ، فلا جامع بينهما إلا بأخذ الزمان جزءاً من مدلول المشتق حتى يمكن بلحاظه فرض الجامع بين الحالين ، وحيث لا إشكال في عدم أخذ الزمان في مفهومه فلا مجال لفرض الجامع كي يمكن دعوى الوضع له.

وقد أطال (قدس سره) في تقريب ذلك على ما في تقريري درسه ، كما أطال بعضهم في مناقشته وردّه. ولا يسعنا استقصاء ما ذكر في المقام ، وإنما نكتفي ببيان عدم تمامية ما ذكره.

أما بناء على البساطة : فلأن القول بالعموم لحال الانقضاء لا يتوقف على كون المراد بالمشتق الذي هو بمعنى المبدأ الجامع بين وجود المبدأ وعدمه ، ليدفع بامتناع الجامع المذكور ، بل يكفي حكايته عن المبدأ في ظرفه فانيا في الذات محمولا عليها ـ كما هو مفاد الهيئة ـ مع دعوى الاكتفاء في صحة حمله عليها وحكايته عنها بتلبسها به في الجملة ولو مع انقضاء التلبس حال الحمل والحكاية.

وما ذكره من امتناع لحاظه محمولا عليها مع انقضاء تلبسها به عين مدعى القائل باختصاص المشتق بحال التلبس لا يسلم به القائل بالأعم ، وليس هو من المبادئ المسلمة عند الطرفين ليصح سوقه دليلا على المدعى المذكور.

وأما بناء على التركيب : فلا يتوقف فرض الجامع على أخذ الزمان في

٢٣٦

مفهوم المشتق ، بل كما أمكن دعوى الاختصاص بحال التلبس من أخذ زمان الحال فيه ، بل بأخذ نحو من النسبة بين الذات والحدث لا تصدق إلا فيه ، يمكن دعوى العموم بأخذ نحو من النسبة بينهما تصدق في الحالين.

ولا ضابط للنسب ولا للمفاهيم الإفرادية أو التركيبية ، بل هي تابعة لقوة التصوّر التي لا تقف عند حدّ محدود.

ولعل وضوح ما ذكرنا بعد التنبيه إليه مغن عن إطالة الكلام فيه.

ومن هنا كان المتعيّن البناء على إمكان كلا القولين ثبوتا. وإنما الكلام فيما هو الواقع منهما إثباتا تبعا لوجوه الاستدلال المذكورة لكلا الطرفين.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الأقوال في المسألة وإن كثرت ، فقيل : باختصاص المشتق بحال التلبس مطلقا وقيل : بعمومه لحال الانقضاء كذلك وقيل : بالتفصيل على وجوه لا مجال لاستقصائها.

إلا أن الحق هو اختصاص المشتق بحال التلبس ونحوه مما تقدّم التعرض له في الأمر الثاني ، من دون فرق بين أقسامه وحالاته ، ككونه لازما ومتعديا ، وكونه محكوما عليه ، ومحكوما به إلى غير ذلك.

لأنه هو المتبادر في الكل ، ولصحة السلب عما انقضى عنه التلبس ونحوه بلا ريب.

ولذا كان المرتكز تضادّ العناوين الاشتقاقية المأخوذة من المبادئ المتضادّة ، كالحاضر والمسافر ، والأسود والابيض والأحمر ، والغني والفقير ، والجالس والقائم ، وغيرها ، فكما لا يجتمع الحدثان في ذات واحدة في وقت واحد ، لا يجتمع العنوانان الاشتقاقيان منهما للذات كذلك ، فلا يحمل على الرجل انه مسافر وحاضر بلحاظ حال واحد ، وكذا غيرهما ، وهو شاهد

٢٣٧

بتبعية صدق العنوان لفعلية الانتساب ، وإلا كان حملهما كبيان انتساب الحدث بالفعل الماضي الذي يصدق مع ارتفاع النسبة. على ما ذكروه في المقام وأطالوا الكلام فيه بما لا مجال لمتابعتهم فيه بعد وضوحه.

وكأن التوقف فيه من بعضهم ناشئ من دلالة مادة المشتق على أمر غير الفعلية من ملكة أو شأنية أو حرفة أو غيرهما ، أو دلالة الهيئة على أمر غير التلبس ، على ما سبق التنبيه له في الأمر الثاني.

أو من اشتباه حال الجري في بعض الموارد ، وتخيل كونه في زمان خاص متأخر عن التلبس ، مع الغافلة عن القرينة الصارفة له إلى زمانه ، فيتخيل بسببه كون منشأ الصدق عموم وضع المشتق لحال الانقضاء مطلقا أو في بعض الموارد التي تعرض لها بعض المفصلين.

كما هو الحال في المشتقات المأخوذة من المبادئ التي لا بقاء معتد به لها بنحو يتعارف الإخبار به أو ترتيب أحكامه حين وقوعه ، بل لا يخبر به غالبا ولا يرتب حكمه إلا بعده ، كالضارب في قولنا : (زيد ضارب) ، و : (كلم الضارب) ، حيث لا إشكال في أنه لا يفهم من الأول الإخبار عن ضربه حين تحققه ، ومن الثاني إرادة تكليمه حين ضربه.

وكذا فيما إذا قضت المناسبات الارتكازية بكون المبدأ علة لثبوت الحكم وبقائه ولو بعد ارتفاعه ، كما في مثل : (يضمن المتلف) و (يجلد الزاني) و (يقطع السارق) و (يجزى المحسن بإحسانه) حيث لا يفهم منها ثبوت هذه الأحكام لهم حين تلبسهم بالأحداث الخاصة لا غير.

ومثله ما لا يتعارف حمله على الذات حين التلبس ، كالباني والحارث والنائح والمتكلم وغيرها مما يتعارف حمله على الذات بعده تلبسها به ، وإذا

٢٣٨

اريد بيانه حين التلبس جيء بالفعل ، فيقال : (زيد يبني أو يحرث أو يتكلم).

فإن هذه الموارد ونحوها وإن أوهمت عموم المشتق لحال الانقضاء ، إلا أن الظاهر عدم ابتنائها على ذلك ، بل على عدم إرادة الجري حال الإخبار أو حال ترتيب الأحكام ، بل المراد به ما يعم الجري فيما سبق مما يطابق حال التلبس ، خروجا فيها عما سبق في الأمر الثاني من أن مقتضى الإطلاق حمل الجري على حال النطق ، وأن مقتضى القرينة العامة كونه حال النسبة وترتيب الأحكام ، لأن الخصوصيات المشار إليها تكفي في الخروج عن ذلك.

ولذا لا يظن من أحد التوقف في تبادر حال التلبس ونحوه في المشتقات المذكورة وغيرها مع النص على حال الجري والنسبة ، كما لو قيل : (زيد ضارب أو زان أو نجار أو صائغ اليوم) ، حيث لا ريب في عدم صدق القضية مع صدور الضرب أو الزنا منه أمس ، أو اتخاذه الصياغة أو النجارة صنعة قبل سنة ثم إعراضه عنها.

ومن الظاهر أن (اليوم) قيد للنسبة وظرف للجري الذي يصححه اتحاد العنوان مع الذات الحاصل على القول بالأعم بعد ارتفاع التلبس ، وليس قيدا للحدث على أن يكون بمنزلة المفعول المطلق ، بحيث يكون معنى قولنا : (زيد ضارب اليوم) ـ مثلا ـ أنه ضارب ضربا حاصلا هذا اليوم ، كي لا ينافي عدم صدقه لعدم تحقق الضرب منه هذا اليوم صدق الضارب المطلق عليه اليوم بلحاظ سبق الضرب منه. فلاحظ.

ومنه يظهر الحال فيما لا بقاء له بنفسه ، بل البقاء لأثره ، كالجرح والقتل والتسخين للماء والتنظيف للثوب وغيرها. فإنه إن اريد من المبدأ فيه حقيقته ، وهو المعنى الحدثي المصدري الذي لا بقاء له كان مما سبق ، وابتنى

٢٣٩

الاستعمال فيه على ما سبق من أن الجري ليس بلحاظ حال النطق أو حال ترتيب الأحكام ، بل بلحاظ ما سبقه مما يطابق حال التلبس. ولازم ذلك العموم لما لو ارتفع الأثر.

وإن اريد من المبدأ فيه تسامحا ما يساوق الأثر ويبقى ببقائه ـ كما يكثر إرادة ذلك في اسم المفعول ـ خرج عما سبق ، ولا ملزم بالخروج في حال الجري عن مقتضى الإطلاق أو القرينة العامة ، بل يبنى فيه على مقتضاهما ويختص بحال التلبس الذي هو حال وجود الأثر ، وإن ابتنى على نحو من التسامح في المادة ، لما سبق من أنه لا أثر لاختلاف المواد فيما نحن بصدده من معنى المشتق. ولذا لا يصح الإطلاق بعد ارتفاع الأثر.

ومنه الإثمار في الشجرة لو اريد منه فعليته ، إذ الظاهر عدم إرادة المعنى الحدثي المصدري بل ما يساوق بقاء الثمرة.

نعم ، لو اريد به شأنية الإثمار في مقابل ما لا يثمر اتجه صدقه مع قطف الثمرة ، بل مع عدم ظهورها أيضا ، لفعلية الشأنية المذكورة.

هذا ، وفي الفصول قد فصل بين المشتق المأخوذ من المبادئ المتعدّية كالضارب والمكرم ، فيعمّ حال الانقضاء ، والمأخوذ من المبادئ اللّازمة كالعالم والقائم ، فيختص بحال التلبس ، مستدلا بالتبادر في المقامين.

وكأنّ منشأه كون الغالب في المتعدي عدم البقاء بالنحو المعتدّ به ، وفي اللّازم البقاء ، ولعلّه لذا غفل فعدّ (المالك) من اللّازم مع أنه متعد ، ومثله في التبادر لخصوص حال التلبس من المتعديات (اللابس والساكن) وغيرهما ، وعكسه في التبادر لما يعم حال الانقضاء من اللوازم (الزاني والجاني والمذنب) وغيرها مما لا بقاء له بنحو معتد به.

٢٤٠