المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

كما صرّح به غير واحد ـ وإن ابتنى على التصرف والخروج عن المعنى الموضوع له ، فيكون مجازا.

غاية الأمر أنه لا يحسن إلا مع عدم استبشاع التصرف في معنى اللفظ وإرادة أحد الوجهين به.

وليس الإشكال إلا في الوجه الأخير ، ولذا كان ظاهر المعالم ، وصريح الفصول ، والكفاية اختصاص النزاع به.

وقد تصدّى غير واحد لبيان وجه امتناعه. والمستفاد منهم في ذلك وجوه ..

الأول : ما يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) من أن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة على المعنى ـ كي يمكن كونه علامة على أكثر من واحد ـ بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه كأنه الملقى ، فيكون اللفظ فانيا في المعنى فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، ويمتنع لحاظ ذلك في استعمال واحد بالإضافة إلى معنيين ، لاستلزامه لحاظ اللفظ فانيا في كل من المعنيين.

لكن لم يتضح الوجه في امتناع ذلك ، فإنه إن رجع إلى امتناع فناء اللفظ في كلّ من المعنيين ، بل ليس له إلا فناء واحد ، أشكل : بأن فناء الوجه في ذي الوجه ليس حقيقيا ، بل راجعا إلى طريقية الوجه لذي الوجه ، بحيث يكون سببا لحضوره ذهنا وعبرة له ، ولا مانع من كون الشيء الواحد طريقا لحضور شيئين في الذهن ، وهو معنى فنائه فيهما. إلا أن يراد بالفناء معنى آخر لم يتضح لنا كي يتضح لازمه.

وإن رجع إلى أن اتحاد اللفظ بالمعنى في مقام الاستعمال يستحيل فرضه في معنيين ، لامتناع فرض الوحدة بين شيء واحد وأمرين متباينين.

١٤١

أشكل : بعدم ابتناء الاستعمال ولا الوضع على فرض الاتحاد بين اللفظ والمعنى ، بل على مجرد طريقية اللفظ للمعنى ، والتعبير عن ذلك بالاتحاد لا يراد منه حقيقته ، كي يلتزم بلازمه.

وإن رجع إلى ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن استعمال اللفظ في معنيين وفنائه فيهما مستلزم للحاظه آلة مرّتين تبعا لكل منهما ، ويمتنع لحاظ الشيء الواحد مرّتين في ان واحد ، لأنّ اللحاظ إضافة بين اللاحظ والملحوظ وتعدد الإضافة إنما يكون باختلاف أحد طرفيها ، أو باختلاف زمانها ، ويمتنع تعددها من دون اختلاف في الطرفين ولا في الزمان.

أشكل : بأن الاستعمال وإن كان موقوفا على نحو من اللحاظ للفظ يسمى باللحاظ الآلي ، إلا أنه لا ملزم بكون كل معنى محتاجا إلى لحاظ للفظ خاصّ به ، كي يكون الاستعمال في معنيين محتاجا للحاظ اللفظ مرتين ، بل لا مانع من كون اللفظ ملحوظا بلحاظ واحد طريقا لكل من المعنيين حاكيا عنهما وفانيا فيهما ، فلا يحتاج في الاستعمال الواحد إلا لحاظ واحد للفظ مهما تعدّدت المعاني التي يكون الاستعمال فيها.

الثاني : ما يظهر من بعض المحققين (قدس سره) من أن حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ ، لأن وجود اللفظ في الخارج وجود له بالذات ، ووجود للمعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل ، وحيث كان الموجود الخارجي بالذات ـ وهو اللفظ ـ واحدا امتنع كون الوجود التنزيلي للمعنى متعددا بتعدد المعنى ، لأن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود ، لاتحاد الوجود والإيجاد بالذات.

وفيه : أولا : أن المراد بكون الوجود اللفظي وجودا تنزيليا للمعنى إن

١٤٢

كان هو اتحادهما خارجا ، بحيث يتطابقان ، كي يستحيل اتحاد الشيء الواحد مع أمرين متباينين.

فهو من الوهن بمكان ظاهر ، كيف وهما مختلفان سنخا وموضوعا؟! فالأول حقيقي موضوعه اللفظ ، والثاني تنزيلي موضوعه المعنى.

وإن كان المراد ترتبهما ، بأن يكون إيجاد اللفظ سببا لإيجاد المعنى ، لأنه آلته. فهو وإن أمكن عقلا ، إلا أنه لا تساعد عليه المرتكزات العرفية الاستعمالية ، بل ليس اللفظ إلا حاكيا عن المعنى وآلة لإحضاره في الذهن ، ولا مانع من حكاية الشيء الواحد عن أمرين.

وثانيا : أنه لا مانع من كون الوجود الواحد للفظ وجودا لكلا المعنيين تنزيلا ، وهو لا ينافي ما سبق منه من أن وحدة الإيجاد تستلزم وحدة الوجود ، إذ يمكن الالتزام بأن التعدد في المقام ليس بالمعنى المتحد مع الإيجاد ، بل للموجود ، في عدم توقف تعدده على تعدد الإيجاد.

فهو نظير : ما لو قتل رجل شخصين بضربة واحدة ، حيث لا ريب في تعدد القتلين مع وجودهما بإيجاد واحد.

ودعوى : أنه مع وحدة وجود المعنيين يلزم كون الاستعمال في مجموعها الذي سبق خروجه عن محل الكلام ، لا في كل منهما.

مدفوعة : بأن المعيار في الاستعمال في مجموع المعنيين هو ملاحظة الوحدة الاعتبارية بينهما بملاحظة كلّ منهما حين الاستعمال بما له من الخصوصيات المميزة عن الآخر ضمنا ، ولا يكون الملحوظ الاستقلالي إلا مجموعها بملاحظة ما به امتيازهما عن غيرهما ، والمعيار في الاستعمال في كلّ منهما هو ملاحظة كل منهما استقلالا بما له من الخصوصيات المميزة عن غيره حتى الآخر ، من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما ، فمع كون الاستعمال

١٤٣

على النحو الثاني يكون الاستعمال في معنيين الذي هو محل الكلام ، وإن كان إيجادهما بإيجاد واحد المستلزم لوجودهما بوجود واحد بناء على ما ذكره (قدس سره).

وليس المراد من الاستعمال الذي هو محل الكلام هو الاستعمال في المعنى وحده بنحو لا يكون معه غيره ، لوضوح أنه لا معنى معه للنزاع في إمكان الاستعمال في معنيين.

الثالث : ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أن المفهوم المحكي باللفظ قد يكون واحدا كمفهوم النقطة ، وقد يكون متعددا كمفهوم العشرة الذي هو عبارة عن آحاد متكثرة ، لكن تكثرها إنما هو قبل الاستعمال ، أما بالاستعمال فهو مفهوم واحد ، لوحدة الحكاية عنه في مقام استعمال اللفظ فيه.

وعليه إن اريد باستعمال اللفظ في معنيين تعددهما قبل الاستعمال مع وحدتهما به للاستعمال في تمامهما فيكون كل منهما مدلولا تضمنيا للفظ فلا مانع منه عقلا.

وإن اريد به استعماله في معنيين بلحاظ حال ما بعد الاستعمال ، بحيث يكون كل منهما مدلولا مطابقيا فهو غير معقول ، لأن اثنينيتهما بالاستعمال تتوقف على تعدد الاستعمال ، وهو خارج عن الفرض ، ممتنع مع وحدة اللفظ.

ويندفع : بأنّ ما ذكره من تعدد المعنى قبل الاستعمال مع وحدته بعده راجع إلى تركب المفهوم الواحد ، ومرجعه إلى الاستعمال في المجموع بعد اعتبار الوحدة بين أجزائه ، وقد تقدّم خروجه عن محل الكلام ، وأن الكلام إنما هو في الاستعمال الواحد في كل من المعنيين مع لحاظه استقلالا بتمام حدوده

١٤٤

حتى ما يمتاز به عن الآخر ، من دون فرض وحدة بينهما ، ليكون كل منهما جزء لمدلول اللفظ ، فإن كان المدعى امتناع ذلك احتاج إلى دليل.

الرابع : ما ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الاستعمال في كلّ من المعنيين استقلالا مستلزم لتعدد اللحاظ في ان واحد ، وهو ممتنع عقلا.

وكأنّ مراده استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين ـ كما نسب إليه في بعض كلماتهم ـ وإلا فالجمع بين اللحاظين إذا كان أحدهما آليا مما لا إشكال فيه ، بل جميع الاستعمالات مبنية عليه ، لابتنائها على لحاظ اللفظ آلة والمعنى استقلالا. ومثله لحاظ الامور المتعددة ضمنا في أمر واحد استقلالي ، كالمفاهيم المركبة.

وكيف كان ، فدعوى استحالة الجمع بين اللحاظين الاستقلاليين مع تعدد الملحوظ خالية عن الشاهد ، كما ذكره غير واحد ممن تصدّى للجواب عن دليله.

نعم ، لو أراد امتناعه عادة لم يكن بعيدا ، لابتناء استعمال اللفظ في المعنى على نحو خاص من اللحاظ له حين أدائه والحكاية عنه باللفظ ، وهو لا يتيسر بالإضافة إلى أكثر من معنى بمقتضى المرتكزات الاستعمالية ، وليس هو كسائر التصورات المحضة ، التي لا إشكال في إمكان اجتماعها في ان واحد في افق النفس ، بالإضافة إلى أمور متعددة لا ارتباط بينها.

ومنه يظهر أنه لا مجال للنقض على ذلك بأن الإنسان يقوم بامور متعددة في ان واحد ، فيأكل ويمشي ويتكلّم ويكتب ... إلى غير ذلك مما يتوقف على تصور الامور المتعدّدة في زمان واحد.

لاندفاعه بأن تصور العمل الذي لا بدّ منه حين القيام به ليس من سنخ

١٤٥

التصور الاستعمالي ، بل يكفي فيه التصور الارتكازي المستند لعادة ونحوها ، من دون حاجة لتصوره تفصيلا بحدوده المفهومية الذي لا بد منه حين استعمال اللفظ فيه.

ومثله النقض بأن المتصور حين إرادة بيان الجملة تمام أطرافها ، ويبقى هذا التصور إلى إتمامها.

لاندفاعه : ـ أيضا ـ بأن تصور تمام أطراف الجملة يبتني على تصورها ضمنا في ضمن تصور مجموعها ارتكازا ، وليس تصور كل منها استقلالا تفصيلا إلا حين النطق بلفظه الدال عليه. وكذا الحال في اللوازم والملزومات التي قد تقصد بالبيان ، لأنّها ليس مقصودة بالاستعمال بنحو تكون ملحوظة استقلالا ، ويقصد أداؤها بالكلام وجعله بإزائها ، بل هي من سنخ الدواعي له المركوزة في الذهن ، فلا تخل بالمدعى.

وبالجملة : الرجوع للوجدان شاهد بتعذّر الاستعمال في أكثر من معنى بنحو الاستقلال ، لابتناء الاستعمال على نحو من التصور للمعنى حين أدائه باللفظ ، لا يمكن تحققه باستعمال واحد بالإضافة إلى أكثر من معنى واحد. ويشاركه في ذلك الإشارة باليد ونحوها ، لأنها من سنخه.

نعم ، يتيسر سوق بعض الألفاظ أو الهيات في الكلام لمحض العلامية على امور أخر غير ما استعمل فيه ، بالاتفاق مع بعض السامعين لها ، أو بداعي التسبيب لتصورهم لها ، للعلم بنحو من الملازمة الذهنية بينها وبينه في حقهم ، من دون أن يكون مستعملا فيها ولا مجعولا بإزائها ، بل لا يستعمل إلا في معنى واحد ، لتعذّر الاستعمال في أكثر من معنى ، كما ذكرنا.

على أنه لو سلّم عدم تعذره فلا إشكال في احتياجه إلى عناية خاصّة

١٤٦

تخرج عن الوضع الطبيعي للانسان المتعارف.

وبسبب الامتناع المدعى أو الحاجة للعناية المذكورة جرت الاستعمالات والبيانات الكلامية من أهل اللسان على وحدة المعنى المستعمل فيه ، بحيث لو تيسر للمتكلم لحاظ الأمور المتعددة استقلالا وجعل اللفظ بإزاء كل منها باستعمال واحد ـ لخصوصية فيه يمتاز بها عن عامة أهل اللسان ، أو بإعماله العناية المشار إليها ـ لم يكن مجال لحمل كلامه عليه ما دام جاريا على الطريقة العرفية ، بل لا بد في الحمل عليه من اتضاح خروجه عن الطريقة العرفية في بيانه.

ومنه يظهر أنه ليس كالاستعمال في المعنى المجازي ، بحيث لو تردد الأمر بينهما كان مجملا ، فضلا عن أن يكون أولى من المجاز بناء على كونه حقيقيا.

بل يتعيّن الحمل على المجاز لو كان مقبولا عرفا بحيث يحمل عليه لو علم بالاستعمال في معنى واحد ، لعدم خروجه عن الطريقة العرفية في الكلام ، وإن كان محتاجا للقرينة ، عملا بأصالة الظهور.

والحمل على الحقيقة مختصّ بما إذا كانت مقتضى أصالة الظهور في فرض جري المتكلم على الطريقة العرفية في البيان ، لا مطلقا ، ولو مع استلزامها الخروج عنها.

وإن لم يكن المجاز مقبولا كان الكلام مجملا ولا يحمل على الاستعمال في أكثر من معنى ، لأن خروج المتكلم عن الطريقة العرفية في كلامه محتاج إلى عناية ليس بناء العقلاء على الحمل عليها من دون بيان.

وعلى هذا لو علم باستعمال اللفظ في أكثر من معنى بأحد الوجوه الثلاثة السابقة ، كان المتعين الحمل على أحد الوجهين الأولين مع مقبوليته

١٤٧

عرفا ، لأنهما يرجعان إلى التصرف في المعنى الذي يكون به الاستعمال مجازيا ، ومع عدم مقبوليتهما عرفا ، لعدم المناسبة المصححة لهما ، أو عدم الجامع العرفي بين المعنيين ، أو نحو ذلك يتعيّن البناء على الإجمال.

ولا مجال لما يظهر من تقرير درس بعض مشايخنا من الإجمال مطلقا ، لعدم المرجح ، فضلا عما يظهر منه في حاشيته على تقريره لدرس بعض الأعاظم (قدس سره) من ترجح الوجه الثالث بناء على كونه حقيقيا ، لترجح الحقيقة على المجاز اللّازم من الوجهين الأولين.

بقي في المقام امور :

الأول : أنه قد يمنع استعمال اللفظ في أكثر من معنى مطلقا أو بنحو الحقيقة لدعوى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الوحدة ، فاستعماله في أكثر من معنى ـ وإن كان ممكنا ـ خروج عن القيد المذكور ، فلا يصح ، أو يكون مجازا ، كما في المعالم.

لكن إن كان المراد بالوحدة التي يدعى التقييد بها هي الوحدة الذاتية المفهومية المتقوّمة بحدود المعنى المفهومية ، فيرجع إلى دعوى : أن اللفظ موضوع للمعنى بحدوده المفهومية الخاصّة به ، من دون أن ينضم إليه غيره بحد يجمع بينهما.

فالوحدة المذكورة ليست قيدا زائدا على المعنى مأخوذا فيه عند الوضع له ، بل أخذها في المعنى الموضوع له عبارة اخرى عن الوضع للمعنى بنفسه ، لتقوم المعنى الموضوع له بحدوده المفهومية ، ولا يمكن فرض الوضع له إلا بأخذ تلك الحدود فيه.

ومنه يظهر عدم الخروج عن الوحدة المذكورة بالاستعمال في أكثر من

١٤٨

معنى بالوجه الذي هو محلّ الكلام ، وهو جعل اللفظ بإزاء كل من المعنيين بحدوده المفهومية الخاصة به من دون فرض وحدة اعتبارية بينهما ، ليكون كل منهما جزء المعنى المستعمل فيه.

ولا يخرج عنها إلّا بالاستعمال في تمام المعنيين الذي تقدّم أنه في الحقيقة استعمال في معنى واحد يبتني على التصرف في المعنى الموضوع له ، ويكون مجازا ، وأنه خارج عن محل الكلام.

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الاستعمالية ، بأن يدّعى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد الاستعمال فيه وحده. أشكل أولا : بعدم الدليل على تقييد الموضوع له بذلك ، بل المشاهد من طريقة الواضعين خلافه ، حيث يضع اللفظ بإزاء المعنى من دون التفات للقيد المذكور. كما أن المتبادر من اللفظ في الأعلام الشخصية وغيرها هو معناه بحدوده المفهومية مجردا عن القيد المذكور.

وثانيا : بأنه يمتنع تقييد المعنى الموضوع له بذلك ، لأن الوضع له إنما هو بلحاظ استعماله فيه ، ويمتنع تقييد المعنى المستعمل فيه بالقيد المذكور ، لأن القيد المذكور من شئون الاستعمال المتأخرة عنه رتبة ، فلا يمكن لحاظه حينه قيدا في المعنى المعروض للاستعمال والمتقدم عليه رتبة.

مع ان الخصوصية الاستعمالية من طوارئ المعنى بما له من تقرر مفهومي ، لا سعة فيه كي يقبل التضييق بالتقييد به ، لا من طوارئه بما له من وجود خارجي ، كي يكون قابلا له لو كان واسعا ، لكونه كليا منطبقا على كثيرين.

اللهم إلا أن يدعى كون الاستعمال في المعنى وحده شرطا للواضع ،

١٤٩

لا قيدا للمعنى الموضوع له. لكن لا طريق لإحراز اشتراط الواضع ، ولا سيما مع ما هو المعلوم من عدم تنبّه الواضع لذلك في مثل الأعلام الشخصية ، وعدم وجود واضع خاص في غيرها ، على ما سبق.

إلا أن يرجع إلى خروجه عن طريقة أهل اللسان ـ كما ذكرناه آنفا ـ فلا يصح الاستعمال مطلقا حتى مجازا.

وإن كان المراد بالوحدة الوحدة الشخصية ، بمعنى أن اللفظ موضوع للمعنى بقيد تشخصه خارجا في فرد واحد ، فيمتنع الاستعمال في معان متعددة لأنه يتوقف على إرادة أفراد بعددها.

ولعلّ ذلك هو مراد صاحب المعالم ، لأنه خصّ ذلك بالمفرد دون المثنى والجمع.

فهو غير بعيد في الجملة ، لتبادر الوحدة عرفا منه ، ومن ثمّ كان المفرد مقابلا للمثنى والجمع لا أعم منهما.

لكنه يختص ببعض الأسماء مما يختص بالواحد ، مما يفرق فيه بين الجنس والواحد بالتاء ، كتمرة وكمأة ، والمفرد النكرة ، حيث يختص أو ينصرف للواحد ، دون ما يراد منه الجنس الصادق على القليل والكثير ، كاسم الجنس المعرف باللام ، والمواد الاشتقاقية التي تقع موردا للأحكام التكليفية ، كمادة : (اضرب) و (صل) وكذا الأعلام والحروف والهيئات ونحوها مما لا يدل إلا على المعاني بحدودها المفهومية.

مع أن الوحدة لما كانت قيدا في المعنى ومن شئونه لا أمرا مقابلا له فلا يخل بها الاستعمال في أكثر من معنى ، حيث لا يراد بكل منهما إلا المقيد بها ، فيكون المراد واحد من كل من المعنيين.

١٥٠

بل لا ينبغي التوقّف في ذلك لو تصادق المعنيان في فرد واحد ، كالسيّد بالمعنى الأصلي اللغوي ، وبمعنى الهاشمي الذي هو مشهور عرفا.

ثم إن أخذ الوحدة المذكورة في المعنى لو منع من الاستعمال في أكثر من معنى منع منه حتى مجازا ، لاستهجان استعمال المفرد في المثنى أو الجمع عرفا ، إلا بعناية تنزيلهما منزلة المفرد ، ولا بد في المجاز من عدم الاستهجان.

الثاني : ربما يدعى جواز استعمال المثنى والجمع في أكثر من معنى ، بأن يراد منهما المتعدد من أفراد معان متعددة لا من أفراد معنى واحد ، فيراد من مثل : (عينين) عين جارية وعين نابعة ، بل ذهب في المعالم إلى أن الاستعمال المذكور حقيقي لا مجازي.

بدعوى : أنهما في قوة تكرار المفرد ، فكما يجوز استعمال المفردات مع التكرار في المعاني المتعددة ، كل منها في معنى واحد ، يجوز فيما هو بقوتها.

واستدل على ذلك في المعالم بتثنية الأعلام وجمعها ، كالزيدين والهندات ، مع وضوح تباين معاني الأعلام ومفاهيمها بنحو الاشتراك.

وتندفع بما اشير إليه في كلام غير واحد : من أن دلالتهما على التعدد إنما هو بهيئتهما ، وشأن الهيئة إفادة معنى قائم بمدلول المادة لا في قباله ، وحيث كان المراد بمادتهما معنى واحدا ، لوحدة الاستعمال الملزمة بوحدة المعنى ـ كما سبق ـ كان التعدد المستفاد من الهيئة من شئون ذلك المعنى ، وهو تعدد فرده ووجوده ، من دون أن يرجع إلى إرادة معنى آخر في قباله.

ولا وجه لقياسه بتعدد المفردات التي يكون التعدد فيها للمادة والتي يصلح كل منها لإرادة معنى في نفسه باستعمال مستقلّ به ، ولا تستعمل بمجموعها باستعمال واحد ، كما في المقام.

١٥١

ولا يراد بكونهما في قوة تكرار المفرد إلا كونهما مثله في إفادة التعدد الشخصي ، لا ما يعمّ تعدد المعنى.

وإنما جازت تثنية الأعلام وجمعها مع تباين معانيها لتأويلها بالمسمّى الذي هو معنى واحد جامع بين تلك المعاني ، والذي لا إشكال في جواز الاستعمال في أكثر من معنى بلحاظه ، كما تقدّم في صدر المسألة.

ويشهد بالتأويل المذكور خروج الأعلام بالتثنية والجمع عن التعريف إلى التنكير والشيوع ، فتجري عليها أحكام النكرات من قبول أداة التعريف والوصف بالنكرة وعدم جواز الابتداء بها إلا لمسوغ ، ولو بقيت على معانيها لبقيت على التعريف.

فهما نظير إضافة الأعلام التي لا تصح لو لا تأويلها بما يوجب شيوعها ، وهو المسمى.

ولذا كان ظاهر قولنا : (هذان زيدان) ـ مثلا ـ بيان اسمهما لا ذاتيهما ، بخلاف قولنا : (هذا زيد).

فلا وجه لما في المعالم من أن التأويل المذكور تعسّف لا دليل عليه.

الثالث : أن بعض المفاهيم الإضافية أو نحوها قد يختلف صدقها باختلاف منشأ انتزاعها ، كعنوان الكبير والأكبر اللذين يصدقان تارة : بلحاظ العمر. واخرى : بلحاظ الجسم والجثة. وثالثة : بلحاظ الشأن والشرف.

ومثل ذلك وإن لم يوجب الاختلاف في المفهوم ، بل في معيار الصدق ، الذي هو نحوهن الاختلاف المصداقي ، إلا أن الظاهر دخوله في محلّ الكلام ، فيمتنع استعمال اللفظ في الإضافة بلحاظ أكثر من منشأ انتزاع واحد ، لأن

١٥٢

ما هو موضوع الأثر والغرض ليس هو الإضافة ، بل منشأ انتزاعها ، فلا بد من ملاحظته في مقام استعمال اللفظ فيها عند الحكم عليها قيدا فيها ، ويمتنع ملاحظة أكثر من منشأ واحد بخصوصيته وأخذه قيدا في الاستعمال الواحد ، بعين امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

إلا أن يكون بين مناشئ الاستعمال المختلفة قدر جامع ، فيمكن الاكتفاء بملاحظته ، ويتجه عموم الحكم لها ، لكنه ليس نظيرا لمحل الكلام ، بل نظير الاستعمال في القدر المشترك بين المعاني الذي سبق خروجه عن محل الكلام.

هذا كله إذا كان استعمال اللفظ في الإضافة في مقام يتعلّق بمنشإ انتزاعها ، كالأحكام العملية التابعة للغرض والأثر المتعلقين بمنشإ الانتزاع ، والقضايا التي موطنها الخارج ونحوها ، أما لو لم يتعلّق به فيمكن العموم تبعا لوحدة المفهوم ، كما في موارد شرح مفهوم الإضافة ، حيث لا ملزم بالنظر للخارج المصحح لانتزاعها وأخذه قيدا فيها ، بل لا ينظر إلا إليها ، والمفروض وحدة مفهومها ، وعدم اختلافه باختلاف منشأ الانتزاع.

الرابع : بناء على رجوع المجاز للتصرّف في مفهوم اللفظ ، يكون الجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي وبين المعنيين المجازيين في استعمال واحد من صغريات الاستعمال في معنيين ، ويلحقه ما سبق. أما بناء على رجوعه إلى ادعاء دخول الفرد المجازي في المعنى الموضوع له اللفظ فلا مانع من الجمع بين الأفراد الحقيقية والمجازية ، لدخولها في المعنى الواحد الذي استعمل فيه اللفظ.

نعم ، الظاهر أن مبنى هذا القول على التصرف في المعنى الموضوع له اللفظ بنحو يشمل الأفراد المجازية جهة العلاقة المجازية ، فاستعمال أسد في

١٥٣

الرجل الشجاع بادعاء كونه أسدا إنما هو لادعاء أن أسدية الأسد بشجاعته الحاصلة في الرجل الشجاع.

وحينئذ يمتنع استعماله في مجازات متعددة بعلاقات مختلفة لا جامع عرفي بينها ، لتوقف استعماله في كل منها على ادعاء كون الموضوع له شاملا له ، وأن ملاك التسمية هو جهة العلاقة المصححة له ، فيلزم من الجمع بين المجازيين لحاظ كلتا الجهتين بخصوصيتهما ملاكا للتسمية ، ومناطا للمعنى المستعمل ، وهو راجع للاستعمال في المعنيين بخصوصيتهما.

وعليه لا يمكن الاستعمال إلا في مجاز واحد وحده أو مع المعنى الحقيقي.

الخامس : في بعض النصوص : أن للقرآن المجيد ظهرا وبطنا (١) ، وفي آخر : أن له ظاهرا وباطنا (٢) ، وفي ثالث : أن له بطنا وللبطن ظهر (٣) ، وفي رابع : أن له بطنا وظهرا وللظهر ظهر (٤).

وحيث كان الاستعمال في أكثر من معنى ممتنعا عند غير واحد فقد حاولوا توجيه النصوص المذكورة ونحوها بحملها ..

تارة : على ما يعم لوازم المعنى مما أريد بيانه بتبع الملزوم وإن لم يكن اللفظ مستعملا فيه ، نظير الكنايات.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٧ / تفسير العياشي ١ : ١١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٣٩.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ، ص ١٢.

(٤) الوسائل ج ١٨ ، باب : ١٣ من أبواب صفات القاضي ، حديث : ٤١.

١٥٤

واخرى : بما يراد من اللفظ بمحض العلامية التي أشرنا إليها عند الكلام في المختار من وجه المنع ، لا بنحو الإرادة الاستعمالية.

ولعله مراد المحقق الخراساني من حمله على ما يراد بنفسه حين استعمال اللفظ في المعنى من دون أن يكون مرادا من اللفظ.

إذ لا وجه لنسبته للقرآن لو لم يكن مرادا بالبيان منه ، بل لا معنى لتعلق الإرادة به بنفسه ما لم ترجع إلى إرادة بيانه ونحوها.

ولعل الأقرب الأول ، وقد يناسبه مرسلة العياشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال : «ظهر القرآن الذين نزل فيهم ، وبطنه الذين عملوا بمثل أعمالهم» (١). وما في مرسلته الاخرى عن الفضيل عنه عليه السلام قال : «ظهره وبطنه تأويله منه ما مضى ، ومنه ما لم يكن بعد ، يجري كما يجري الشمس والقمر ، كلما جاء منه شيء وقع ...» (٢).

هذا وحيث سبق أن وجه امتناع الاستعمال في أكثر من معنى تعذره عادة لقصور في المستعمل كان قاصرا عن المنع في القرآن فلا ملزم بتأويل النصوص المذكورة لو كان ظاهرها الاستعمال في أكثر من معنى.

الأمر السابع : لا ريب في أن الألفاظ التي يحكى بها عند المتشرعة عن الوظائف الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والصوم والخمس والأذان وغيرها صارت حقائق فيها بنحو تتبادر منها من دون قرينة دون معانيها القديمة بحسب أصل اللغة ، وإنما وقع الكلام بينهم في أن مبدأ صيرورتها كذلك في

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ، ص ١١.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ، ص ١١.

١٥٥

عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلامه وكلام تابعيه أو بعده ، وهو المراد بالكلام في ثبوت الحقيقة الشرعية.

ولا يخفى أن الثمرة لذلك تعيين مداليل الألفاظ المذكورة لو وقعت في الكتاب العزيز أو في كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وكلام معاصريه مجردة عن القرينة ، فبناء على ثبوت الحقيقة الشرعية تحمل على الوظائف الشرعية المذكورة ، وبناء على عدمه تحمل على المعاني اللغوية.

وتوهم أنه بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية يتعين الإجمال ، لاشتراك الألفاظ المذكورة بين المعاني الجديدة والمعاني القديمة اللغوية.

مدفوع : بأن محل الكلام ليس هو مجرد الوضع للمعاني المذكورة ، بل النقل لها بنحو يقتضي هجر المعنى القديم واحتياج إرادته للعناية والقرينة ، ولو في عرف الشارع الأقدس في لسانه ولسان تابعيه ، كما هو الحال في العصور المتأخرة ، ونظير النقل في سائر الأعراف الخاصّة للمعاني المستحدثة لهم ، حيث يجب حمل الكلام الصادر من أهل عرف خاص من حيثية كونهم من أهل ذلك العرف على ما هو المعنى عندهم ، لا بحسب أصل اللغة.

ومثله ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من عدم فعلية الثمرة المذكورة ، إذ لا مورد يشك في المراد الاستعمالي فيه ، لأن هذه الألفاظ قد صارت في زمان الصادقين (عليهما السلام) حقائق في المعاني المستحدثة. وما يرد عن النبي (صلى الله عليه وآله) بحكم ما يرد منهم عليهم السلام إذا كان بطريقهم ، وما كان بطريق غيرهم خارج عن الابتلاء.

لاندفاعه : بأن ما ينقل عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طريقهم عليهم السلام إنما يكون بحكم ما ينقل عنهم إذا نقلوه في مقام بيان التشريع ،

١٥٦

حيث يتعيّن تنبيههم عليهم السلام إلى اختلاف المعنى عما عليه في زمانهم لو كان ، أما إذا كان نقلهم له لمحض بيان ألفاظه (صلى الله عليه وآله) كما في موارد نقل الخطب ونحوها فلا يلزمهم التنبيه للاختلاف.

وما ينقل من طريق غيرهم إنما يخرج عن الابتلاء إذا لم يكن النقل موثوقا به ، والجزم بكون تمام ما نقل عنه (صلى الله عليه وآله) من غير طريق الأئمة عليهم السلام غير موثوق بنقله محتاج إلى فحص. على أنه يكفي نقل غير الثقة بناء على قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

مع أنه يكفي في الثمرة ما ينقل عن الأئمة السابقين قبل الصادقين عليهما السلام فالجزم بعدم فعلية الثمرة غير حاصل.

وكذا ما ذكره سيدنا الأعظم (قدس سره) من أنه قد قيل : إن هذه المعاني يعلم بإرادة الشارع لها في جميع الاستعمالات ، لشهادة التتبع بعدم الاستعمال في غيرها.

إذ فيه : أنه لا مجال لدعوى الاستقراء التام ، ولا سيما مع صراحة بعض نصوص الصلاة على المدفون بإرادة الدعاء منها (١).

وكذا دعوى : احتفاف جميع الاستعمالات بالقرينة.

إلا أن يراد منها القرينة العامة ، وهي مألوفية المعاني المستحدثة ذهنا ، بسبب الابتلاء بها.

لكن يأتي أن ذلك شاهد بتحقق الوضع لها وسبب له.

ثم إنهم وإن خصوا الكلام في تحقق الوضع بعصر النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) الوسائل ج ٢ ، باب : ١٨ من أبواب صلاة الجنازة ، حديث : ٤.

١٥٧

وآله) إلا أن الثمرة لا تختص به ، بل تجري في عصور الأئمة المعصومين عليهم السلام فكلما ثبت الوضع للمعنى الجديد في زمان إمام منهم عليهم السلام لزم الحمل عليه في الكلام الصادر منه وممن بعده من الأئمة ومن أتباعهم ، وذلك مهمّ أيضا بناء على ما عليه الإمامية من أن كلامهم عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم سنة تتّبع كسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذا عرفت هذا فالظاهر تحقق الوضع التعيني في غالب الألفاظ المذكورة ، وأنها استعملت أولا في المعاني الجديدة إما مجازا لمناسبتها للمعاني الأصلية ، كالزكاة التي هي في الأصل النماء والطهارة وسمي الحق الخاص بها بلحاظ كون أدائه سببا لها ، أو لأنها من أفراد المعنى الأصلي ، كالصوم والأذان ، ثم اشتهرت فيها حتى انصرفت إليها في زمن قريب في عرف الشارع وتابعيه ، بسبب تتابع الاستعمال منهم ، ولمألوفية المعاني الجديدة في أذهانهم بسبب الابتلاء بها ، والحاجة للحكاية عنها دون المعاني الأصلية ، حتى يبعد مع ذلك عدم تحقق النقل للمعاني المذكورة ، بحيث يحتاج للقرينة الخاصة على إرادتها من الألفاظ ، كما هو المشاهد في جميع أهل الأعراف الخاصة بالإضافة إلى ما يختصّون به من معاني.

غاية الأمر أن يبقى المعنى الأصلي معروفا عند غيرهم ممن لا يبتلي بالمعاني الجديدة. بل ربما يسري ذلك الكل بسبب أهمية العرف الجديد ، وانتشاره ، وكثرة أتباعه ، خصوصا فيما له أهمية من المعاني بين أهل ذلك العرف ، حيث قد يكون له مزيد ظهور وانتشار بين غيرهم بسببهم.

وأما الوضع التعييني ، بتصريح الشارع بتعين هذه الألفاظ لهذه المعاني بنحو يتفرع عليه الاستعمال ، فالظاهر أنه لا مجال لاحتماله في المقام ، لما في

١٥٨

ذلك من العناية والكلفة غير المألوفة في تلك العصور ، لأن الغرض الفعلي تفهيم المعاني ولو بالاستعمال فيها مع القرينة التي يسهل إقامتها مع أنه لو صدر ذلك منه صلى الله عليه وآله لظهر وبان ، لأهميته جدا ، وتوفر الدواعي لنقله ، من دون موجب لإخفائه.

نعم ، قرّب المحقق الخراساني (قدس سره) تحقق الوضع التعييني بنفس استعمال اللفظ في المعنى بنحو استعماله فيه لو كان موضوعا له ، ولو بضميمة القرينة الدالة على أن الغرض منه الحكاية عن المعنى ، والدلالة عليه بنفس اللفظ على أنه معناه ، لا بالقرينة.

وهو وإن كان ممكنا بناء على أن الوضع عبارة عن الالتزام بتعيين اللفظ بإزاء المعنى ، وإبراز الالتزام المذكور إما بإنشاء ذلك المضمون ، أو بفعل ما هو من شئونه وتوابعه وهو الاستعمال الخاص ، نظير إبراز الالتزام العقدي بإنشاء مضمونه تارة ، وبالمعاطاة اخرى.

إلا أن الظاهر عدم وقوعه ، لما فيه من العناية والخروج عن الوضع الطبيعي في الوضع ، بل قصد ذلك وإقامة القرينة عليه اشد مئونة من إنشاء الوضع قبل الاستعمال صريحا.

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن ديدن العقلاء في العلوم والفنون التي يخترعونها ويدونونها والصناعات التي يزاولونها على تعيين الألفاظ المناسبة للمعاني المستحدثة ليسهل تفهيمها ، وحيث امتنع الوضع التعييني بالوجه الأول تعيّن هذا الوجه.

فهو ممنوع ، بل تكوّن المصطلحات للعلوم والفنون والصناعات تدريجي ، ولا همّ للمؤسّسين إلا تفهيم المعاني بالطرق غير المتكلفة بالاستعانة بالقرائن

١٥٩

الميسورة ، ثم تتكوّن المصطلحات بتكرر الاستعمال ، ولا تدون وتضبط إلا بعد تكامل العلم أو الفن أو الصناعة وثبوت مصطلحاتها.

على أن الوجه الذي ذكره لامتناع الوضع التعييني بالوجه الأول ، وهو أنه لو صدر من الشارع لظهر وبان ، جار في هذا الوجه أيضا.

وما ذكره من أن كون الوضع فيه من توابع الاستعمال من دون تصريح به موجب لعدم الالتفات إليه ، كي يهتم بنقله. كما ترى! لأن ترتب الغرض على الاستعمال بالنحو المذكور موقوف على إقامة القرينة على حاله ، ومع قيام القرينة عليه يتوجه إليه ، ويتعلّق الغرض بنقله لما ذكرنا من توفر الدواعي لذلك.

فالعمدة ما عرفت من تقريب الوضع التعييني.

هذا ، والظاهر أن تلك الالفاظ موضوعة للمعاني الشرعية بحسب أصل اللغة ، كالحج والعمرة ، لمعروفيتهما باسميهما في الجاهلية على ما هو المعهود منهما في الإسلام ، تبعا لشريعة إبراهيم (عليه السلام) وليس الاختلاف بين ما عندهم وما في الإسلام إلا في بعض الخصوصيات من باب التخطئة في المصداق ، نظير الاختلاف بيننا وبين العامّة ، من دون أن يرجع للاختلاف في المفهوم أو التشريع.

بل ادعى المحقق الخراساني (قدس سره) ذلك في كثير من الوظائف الشرعية ، كالصلاة والزكاة والصوم ، وسبقه إلى ذلك في الفصول ، لما تضمنته كثير من الآيات ـ وكذا النصوص ـ من تشريعها في الأديان السابقة.

لكن الظاهر أن ذلك إنما يشهد بثبوت الوظائف في تلك الأديان لا على تسميتها بالأسماء المخصوصة ، بل هو مقطوع بعدمه بعد اختلاف اللغة.

١٦٠