المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

بيانه.

ولعل في محكي كلام السكاكي في المفتاح إشارة إلى ما ذكرنا ، قال : «المراد بمتعلقات معاني الحروف ما يعبر عنها عند تفسير معانيها ، مثل قولنا : (من) معناها ابتداء الغاية ، (وفي) معناها الظرفية ، و (كي) معناها الغرض ، فهذه ليست معاني الحروف ، وإلا لما كانت حروفا ، بل أسماء ، لأن الاسمية والحروفية إنما هي باعتبار المعنى ، وإنما هي متعلقات لمعانيها. أي : إذا أفادت هذه الحروف معاني ترجع تلك المعاني إلى هذه بنوع استلزام».

ولعل ما سبق في حقيقة المعنى الحرفي أقرب ما قيل فيه ، وأنسب بملاحظة خصائصه ولوازمه. وإن كان للتأمل بعد مجال. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

تنبيهان

الأول : ربما تجعل ثمرة النزاع في كلية المعنى الحرفي وجزئيته قبوله للتقييد لو كان كليا وعدمه لو كان جزئيا ، لأن التقييد والإطلاق متقابلان تقابل العدم والملكة ، فلا يصح اعتبار كل منهما إلا في موضوع قابل لهما ، وحيث لا يقبل الجزئي الإطلاق لا يقبل التقييد.

ويترتب على ذلك الكلام في رجوع القيد في الواجب المشروط للهيئة ذات المعنى الحرفي ، أو للمادة ذات المعنى الاسمي.

ولذا تعرّضوا لهذا الأمر هناك ، إلا أن الأنسب ذكره في المقام ، لأنه من ثمراته من دون خصوصية لتلك المسألة.

وكيف كان فقد استشكل في الثمرة المذكورة بوجوه ..

الأول : ما ذكره المحقق الخراساني (قدس سره) في مبحث الواجب

١٢١

المشروط من أن جزئية الطلب المنشأ ـ لكونه معنى حرفيا ـ إنما تمنع من تقييده بعد إنشائه ، لا من إنشائه مقيدا من أول الأمر.

وكأنّ مراده بذلك أن التقييد المصطلح يبتني على كون المراد من موضوعه الذات القابلة للتقييد والإطلاق ، وجعلها طرفا لنسبة التقييد مع القيد ، فيختص بالكلي الصالح في نفسه للسريان والشمول ، دون الجزئي ، إلا أنه يمكن قصر الجزئي وتضييقه بوجه آخر ، بأن يراد منه ـ إبتداء ـ واجد القيد ، فلا يحتاج حينئذ للتقييد ، ويكون الشرط ـ في المقام ـ متمحضا في القرينية على إرادة واجد القيد من الطلب ، من دون أن يرجع للتقييد.

ويشكل ـ مضافا إلى ما هو المرتكز من عدم اختلاف مفاد الهيئة حال وجود القيد عنه حال عدمه وعدم تمحض الشرط في القرينية المذكورة ، بل هو مبتن على نحو من التقييد ، نظير القيود الواردة على الماهية القابلة لذلك ـ بأن امتناع تقييد الجزئي ليس من حيثية لحاظ التقييد ، كي لا يلزم في الوجه الذي ذكره ، بل لعدم شيوعه وسريانه ، وهو يقتضي امتناع التضييق فيه مطلقا ، سواء كان بالتضييق أم بإرادة المقيد ابتداء.

إلّا أن يرجع ما ذكره إلى إرادة جزئي آخر مباين للجزئي الذي لم يتضيق مفهوما وحقيقة ، يكون الاختلاف بينهما كالاختلاف بين الكبير والصغير. لكنه خروج عن مفروض الكلام من كون المقيّد من سنخ المطلق ، مؤدى بنفس أداته.

الثاني : ما ذكره بعض الأعيان المحققين (قدس سره) من أن الجزئي لا يقبل التقييد الإفرادي دون الأحوالي.

وفيه : أن الأحوال لما لم توجب تحصص الجزئي وتفريده امتنع كونها

١٢٢

قيودا له ، وإنما تكون قيودا للحكم الطارئ عليه ، فنجاسة الماء الخاص المتغير بقيد بقاء تغيره لا ترجع إلى أخذ التغير قيدا في الماء النجس ، بل إلى أخذه للحكم بنجاسته الذي هو مفاد الهيئة ، فيدخل في محل الكلام من امتناع تقييد المعنى الحرفي.

نعم ، لا بأس بتقييد الكلّي بالأحوال ، لأنها مخصصة ومفرّدة له ، كتقييد الانسان الذي تقبل شهادته بالعدالة.

الثالث : ما يظهر من سيدنا الأعظم (قدس سره) في مبحث الواجب المشروط ـ توجيها لما سبق من المحقق الخراساني (قدس سره) ـ من أن المعنى الحرفي وإن كان جزئيا ، ومنه النسبة الطلبية الخاصّة ، إلا أن تخصص النسب إنما هو بتخصص أطرافها ، فيجوز تخصيصها بخصوصية الشرط.

وفيه : أنه إن اريد أن الشرط طرف للنسبة الطلبية ، فمن الظاهر أن أطراف النسبة الطلبية في الواجب المشروط والمطلق ليس إلا الطالب والمطلوب منه والمطلوب ، وليس الشرط طرفا لها ، بل هو خارج عنها ، له نحو من الدخل فيها ، وإنّما يتجه ذلك في خصوص بعض النسب ، التي تقوم بأطراف قليلة تارة وكثيرة اخرى ، كنسبة التعاند التي تتضمنها القضية المنفصلة ، فكما يقال : (إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو) ، يقال : (إما أن يكون في الدار زيد أو عمرو أو خالد) ، من دون تبدل في حقيقة النسبة ، ولا يكون الطرف الزائد قيدا فيها ، بل مقوما لها كسائر أطرافها ، وليس هو كالشرط في النسبة الطلبية.

وإن اريد أن دخل الشرط في النسبة الطلبية موجب لنحو من التحديد لها فهو وإن كان مسلما في الجملة ، إلا أنه لا بد من توجيه دخله فيها ، بعد فرض عدم تقومها به ، لخروجه عن أطرافها ، لأن أخذه في النسبة نفسها راجع

١٢٣

إلى نحو من التقييد للمعنى الحرفي ، الذي هو محل الكلام ، وأخذه في المطلوب اعتراف بما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) مستدلا عليه بامتناع تقييد المعنى الحرفي لكونه جزئيا ، فلا يكون تخلّصا منه.

والذي ينبغي أن يقال : إن جزئية المعنى الحرفي إنما تمنع من نحو خاص من التقييد ، وهو الراجع إلى قصر المراد الجدي من الماهية على بعض أفرادها الخارجية ، ويقابله الإطلاق الراجع إلى إرسال الماهية وسريانها في تمام أفرادها ، وعدم خصوصية بعض الأفراد في المراد الجدّي منها ، وهو التقييد بمثل لسان التوصيف ، لوضوح أنّ الجزئيّة وعدم تكثّر الأفراد لا تناسب التقييد المذكور.

أمّا ما لا يرجع إلى ذلك من التقييد ، بل الى نحو من التضييق الراجع إلى قصور في وجود ما يطابق المعنى فالجزئية لا تمنع منه ، إذ كما تمكن السعة في الوجود الواحد يمكن فيه الضيق.

ومن الظاهر أن تقييد الهيئة بالشرط لا يرجع إلى الأول ، فهو لا يقتضي كون المراد بالهيئة ماهية الوجوب المقصورة على خصوص الواجد للشرط من أفرادها ، كما لا يقتضي إطلاقها ماهيته بتمام أفرادها ، بل ليس مقتضاه إلّا إناطة الوجوب الخاص المنشأ ، وتعليقه على الشرط بنحو يقصر عن حال فقده ، في قبال إطلاقها المقتضي لسعة الوجوب الواحد وسعة وجوده لكل حال ، فالفرق بينهما نظير الفرق بين الزوجية الدائمة والزوجية المنقطعة الذي لا يرجع إلى كثرة الأفراد وقلتها ، بل إلى سعة الوجود وضيقه.

ولعل هذا هو مراد بعض المحققين من دعوى الفرق بين التقييد بمعنى التعليق والتقييد بمعنى تضييق دائرة المعنى ، وأن الممتنع هو الثاني واللازم في المقام الأول.

١٢٤

ومن الغريب ما ذكره شيخنا الأعظم (قدس سره) من امتناع رجوع الشرط للهيئة لما تقدم من امتناع تقييد الجزئي ، مع اعترافه بأنه مقتضى القواعد العربية ، مع وضوح أن القواعد العربية ارتكازية يتبعها الظهور النوعي ، فكيف يكون مقتضى الارتكاز والظهور النوعي ممتنعا في نفسه؟! بل ينبغي جعل ذلك كاشفا عن خلل في بعض مقدمات المدّعى.

ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) ذكر وجها آخر لمنع رجوع الشرط للهيئة ، وهو : أن الإطلاق والتقييد إنما يعرضان على المفاهيم الاسمية الملحوظة بالاستقلال دون المفاهيم الحرفية التي هي آليّة يتعذر لحاظها استقلالا.

لكنه يندفع : بأن آلية المعنى الحرفي وإن ذكرت في كلماتهم بنحو قد يظهر في التسالم عليها ، إلا أن المراد بها لا يخلو عن غموض ، والمتيقّن منها ما سبق من عدم تقرر معنى الحرف في نفسه بنحو يستقل بالتصور ، بل هو قائم بأطرافه فلا يؤدّى به إلا عند إيجاده في ضمن الكلام في مقام الاستعمال ، وذلك إنما يقتضي امتناع التقييد الراجع إلى قصر الماهية على بعض أفرادها ، لأنه فرع تقرر المعنى في نفسه بنحو يوجد في ضمن أفراده ، ولذا كان امتناع التقييد المذكور مقتضى المرتكزات الاستعمالية أما التقييد بالنحو الآخر الراجع إلى محض التضييق ، كتضييق النسبة الطلبية بالشرط في المقام فالوجه المذكور لا ينهض بالمنع عنه ، بل هو كتحديد النسبة بأطرافها ، فلا مجال للمنع منه ، ولا سيّما مع ما عرفت من مطابقته للارتكاز ، حيث يصلح ذلك بنفسه للكشف إجمالا عن خلل في وجه المنع ، وإن خفي تفصيلا.

نعم ، لا يراد بذلك كون الشرط مضيقا للنسبة في الخارج ، لما سبق من تقوّم معاني الحروف ، وهي النسب الخاصة بالاستعمال ، وليس الخارج إلّا

١٢٥

مصححا لاعتبارها.

بل المراد كونه موجبا لنحو من التضييق لها في مقام الاستعمال ، ويكون أثره تضييق ما يطابقها في الخارج ، بخلاف ما لو لم يذكر الشرط ، فالوجوب الخارجي المصحح لاعتبار النسبة الطلبية ، والمتحقق بسببها كما يكون له نحو من السعة مع عدم تقييدها بالشرط يكون مضيقا ومختصا بحال وجود الشرط في الخارج مع تقييدها به.

التنبيه الثاني : سبق أن الحروف والهيات تارة : تتمحض في كونها موجدة لمعانيها من دون نظر للخارج ، كحروف التمني ، والاستفهام ، وهيئة الأمر ، وغيرها. واخرى : تكون مسوقة لإيجاد نحو من الربط والنسب الكلامية بداعي الحكاية عما يكون مصححا لاعتبارها في الخارج.

أما الاولى فهي متمحّضة في الإنشاء ، ولا تتصف بالصدق والكذب.

وأما الثانية فإن كانت نسبا ناقصة كانت قيودا للنسب التامة أو لموضوعاتها ، وإن كانت نسبا تامة صدق الخبر عليها ، واتصفت بالصدق والكذب بلحاظ مطابقتها للخارج المحكي بها ، وعدمها. إلّا أنها قد تخرج عن ذلك ويقصد بها الإنشاء وإيجاد مضمونها اعتبارا ، كما في صيغ العقود والإيقاعات ، وقد وقع الكلام في منشأ الفرق بين الأمرين.

وظاهر المحقق الخراساني (قدس سره) تعدد وضع الهيئة بلحاظ اختلاف الداعي للاستعمال ، مع وحدة المعنى الموضوع له والمستعمل فيه ، فالخبر موضوع للمعنى ليستعمل فيه بداعي الحكاية عنه ، والإنشاء موضوع له ليستعمل بداعي تحققه وثبوته.

لكنه يشكل : ـ مضافا إلى ما يأتي من اختلاف المعنى فيهما ـ بأن تعدد

١٢٦

الوضع يقتضي الاشتراك واحتياج كلّ من الأمرين للقرينة ، مع أن الظاهر استغناء الخبر عن القرينة وكونه الأصل في الكلام ، وأن الإنشاء مبني على نحو من العناية ومفتقر للقرينة.

ومن هنا قد يحمل كلامه (قدس سره) على أنه ليس بصدد بيان تعدد الوضع ، بل بصدد بيان أن الفرق بين الأمرين راجع إلى اختلاف الغرض من الاستعمال ، من دون أن يرجع إلى اختلاف المعنى المستعمل فيه ، بل هو واحد في كلا الحالين.

إلا أنه يشكل : ـ أيضا ـ بما هو المعلوم من استعمال صيغة الماضي والجملة الاسمية في الإنشاء ، مع تجرد الأولى عن الخصوصية الموجبة للدلالة على الماضي ، والثانية عن الخصوصية الدالة على الحال ، حيث لا يراد به إلا تحقق الأمر المنشأ بعد الكلام.

بل حتى استعمال صيغة المضارع لو لم يبتن على نحو من التصرّف في معناها لم يقتض تحقق المنشأ متصلا بالكلام والإنشاء ، لصلوح الفعل المضارع للحال وتمام أزمنة الاستقبال ، فإن ذلك كلّه كاشف عن اختلاف ما تستعمل فيه الهيئة حال الخبر عما تستعمل فيه حال الانشاء.

ومن هنا لا يبعد البناء على اختصاص الهيات المذكورة وضعا بإيجاد النسب التامّة بداعي الحكاية عما يصحح اعتبارها في الخارج ، ويكون استعمالها في مقام الانشاء مبنيا على نحو من التوسّع أو الادعاء بالنحو المناسب له.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك فيما لا يراد به إنشاء المادّة ، بل بيان مطلوبيتها أو مبغوضيتها أو عدمهما ، كاستعمال مثل : (يعيد) و (يغتسل)

١٢٧

لبيان مطلوبية الإعادة والغسل ، ومثل : (لا يقضي) لبيان عدم وجوب القضاء ، ومثل : (يأخذ الجنب من المسجد ولا يضع فيه) لبيان حرمة الوضع دون الأخذ.

وربما يأتي في مبحث دلالة الجملة الخبرية على الطلب توجيه مثل هذه الاستعمالات ، وبيان مبانيها.

الأمر الرابع : لما كان الجري على مقتضى الوضع التعييني والتعيني مقتضى سيرة أهل اللّسان المتبعة في مقام البيان ، التي جروا عليها بمقتضى ارتكازياتهم ، كان المعيار في صحة الاستعمال سيرتهم الارتكازية في مقام التفهيم والتفاهم ، وإن لم تستند للوضع ، بل لمقتضى أذواقهم وطبائعهم ، كما هو الظاهر في بعض الاستعمالات الشائعة بينهم ، والمألوفة لهم.

منها : الاستعمالات المجازية ، لو قلنا بابتنائها على استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، فإن الظاهر حينئذ ابتناؤها على استحسان الطبع ، لا على نقل اللفظ ووضعه وضعا شخصيّا لمعناه المجازي ، ك (الأسد) للرجل الشجاع في طول وضعه لمعناه الحقيقي ، بنحو يبتني على ملاحظة العلاقة مع المعنى الحقيقي ، ويحتاج استعماله فيه للقرينة ، ولا على نقل الألفاظ ووضعها وضعا نوعيا بلحاظ العلاقات المجازية المختلفة ، كعلاقة المشابهة والملازمة وغيرهما ، ولا على ترخيص الواضع في الاستعمال فيما يناسب المعنى من دون نظر إلى خصوصيات العلائق المجازية. فإن ذلك كله كالمقطوع بعدمه بالنظر لارتكازيات أهل البيان ، وسيرة المستعملين.

حيث يبطل الأول تعذّر حصر الموارد التي تصح الاستعمالات المجازية فيها عادة ، ليمكن الوضع لها تعيينا أو تعينا.

١٢٨

والثاني عدم اطراد استعمال كل لفظ بلحاظ كل علاقة مجازية.

ويبطلهما معا ما هو المعلوم من عدم توقف اختيارهم للعلاقة المجازية أو موردها على سبق الاستعمال عند أهل اللسان بنحو يتحقق معه الوضع ، بل كلما كانت المعاني مخترعة مبتدعة للمستعمل كان [مجليا].

ويبطل الثالث ما سبق من عدم وجود واضع خاص في غالب الألفاظ ، وعدم صدور الترخيص المذكور ممن يتصدى للوضع في مثل الأعلام الشخصية والماهيات المخترعة ، بل ليس المدار إلا على مقتضى طبع المستعملين وأذواقهم. ولذا اشترك في كثير من العلاقات أهل اللغات المختلفة.

نعم ، بناء على ابتناء الاستعمالات المجازية على ادعاء دخول المستعمل فيه في المعنى الموضوع له ـ كما عن السكاكي ـ تكون مبنية على الوضع للمعنى الحقيقي ، لا خروجا عليه ، ويكون الطبع والذوق مصححا للجري على الادعاء المذكور ، فيخرج عن محل الكلام.

ومنها : الاستعمالات التابعة لظروف خاصة بين بعض المتخاطبين ، التي يخرجون فيها عن قانون أهل الكلام لدواع تخصّهم ، وظروف تحيط بهم ، حيث لا يعاب ذلك بعد أن يتأدى به البيان ، ويحصل به الغرض الأعم ، وإن لم يجر على الوضع ولا على ملاحظة العلاقات المجازية.

ومنها : استعمال اللفظ وإرادة اللفظ دون المعنى في مثل قولنا : (ضرب) فعل ماض ، و (من) حرف جر ، فإنه لا يبتني على وضعها لذلك ، ولا على استعمالها فيه مجازا ، لعدم العلاقة المصححة لذلك ، بل محض الجري على مقتضى الإنسان في تأدية مقاصده بما يتيسر له من بيان. وإن كان الوقت يضيق عن تحقيق حاله وتفصيله.

١٢٩

وربما كانت هناك بعض الوجوه الأخر التي لا يبتني فيها الاستعمال على متابعة الوضع والجري عليه ، بل على مقتضى الطبع.

نعم ، لا ينبغي التأمّل في أن الاستعمالات المذكورة على خلاف مقتضى الأصل المعوّل عليه عند العقلاء وأهل اللسان ، فيحتاج إلى قرينة ، وبدونها يحمل استعمال اللفظ على إرادة معناه الموضوع له ، لأن ذلك هو مقتضى الطبع الأولي الذي يجري عليه أهل اللسان في تفهيم المقاصد وفهمها ، وإن أمكن الخروج عنه بالقرينة.

الأمر الخامس : حيث عرفت حقيقة الوضع وأقسامه ثبوتا يقع الكلام هنا في طريق إحرازه إثباتا ، ولا يراد بإحرازه إحرازه بالحجّة الظنية التي تكفي في مقام العمل ، لأن ذلك موكول لمباحث الحجج ، حيث وقع الكلام هناك في حجية قول اللغويين ، بل المراد هو العلم الوجداني بالنظر لبعض آثاره ولوازمه ، وقد ذكروا لذلك أمورا :

الأول : التبادر ، وهو عبارة عن انسباق المعنى من اللفظ بنفسه ، بحيث يكون اللفظ هو المؤدي له والموجب لحضوره في الذهن ، لوضوح أن العلاقة المذكورة بين اللفظ والمعنى لا تستند لغير الوضع ، فتدل عليه دلالة الأثر على المؤثر.

وقد يشكل : بأن مجرد الوضع لا يكفي في التبادر ما لم يكن معلوما ، فالتبادر موقوف على العلم بالوضع ، فإن كان مع ذلك موجبا للعلم بالوضع الذي هو علته لزم الدور ـ كما قرر في كلام جماعة ـ وإن كان موجبا لفرد آخر من العلم بالوضع لزم اجتماع فردين من العلم بالوضع ، لأن العلم الأول لا يزول بحصول التبادر ، وهو ـ مع استحالته في نفسه ، لامتناع اجتماع المثلين ـ

١٣٠

موجب للغوية علامية التبادر على الوضع ـ كما نبه له بعض الأعيان المحققين (قدس سره) ـ لكفاية العلم الأول بالوفاء بالغرض.

ويجاب عن ذلك بما في كلام جماعة : من أنه يكفي في حصول التبادر العلم الارتكازي بالمعنى بسبب الاطلاع على استعمالات اللفظ المختلفة ، وإن لم يلتفت إليه تفصيلا بنحو يعمل عليه ويرتب عليه الأثر ، ويتجلى مفاد الارتكاز المذكور بنحو يترتب عليه العمل بالتبادر ، فما يترتب على التبادر نحو من العلم مخالف لنحو العلم الذي يتوقف عليه التبادر ، لا عينه ولا مثله.

نعم ، لا بد من العلم باستناد التبادر لحاقّ اللفظ من دون دخل قرينة عامّة او خاصة فيه ، فلو لم يعلم بذلك لا مجال لاستكشاف الوضع منه.

ودعوى : أن الأصل عدم القرينة.

مدفوعة ـ مضافا إلى أن الكلام فيما يوجب العلم الوجداني بالوضع ، ولا ينهض به الأصل المذكور ، بل غايته لزوم العمل عليه تعبّدا ـ بأن الأصل المذكور إن رجع إلى الاستصحاب فهو مثبت ، لعدم كون الملازمة بين الأثر المطلوب ـ وهو حجية الكلام في المعنى المتبادر إليه ـ وعدم القرينة شرعيّة ، بل خارجيّة بتوسط الملازمة بين عدم القرينة واستناد التبادر لحاقّ اللفظ ، وبين استناده لحاق اللفظ وتحقق الوضع للمعنى ، وبين الوضع للمعنى وظهور الكلام فيه ، وبين ظهوره وحجيته فيه.

وإن كان أصلا عقلائيا مستقلا في نفسه مع قطع النظر عن الاستصحاب الشرعي فلم يثبت بناء العقلاء عليه في تشخيص حال التبادر أو الاستعمال مع الشك في الوضع ، بل غاية ما ثبت من أهل اللسان الاعتماد عليه في تشخيص حال الاستعمال مع العلم بالوضع لو احتمل خروج

١٣١

المستعمل عن المعنى الموضوع له اتكالا على قرينة غفل عنها السامع.

ولعل وجه الفرق : أن همّ أهل اللسان وعامة العقلاء معرفة مراد المتكلم للعمل عليه ، فلو بني على التوقف عن حمله على المعنى الموضوع له بمجرد احتمال قرينة مغفول عنها سقطت فائدة الكلام في كثير من الموارد ، لعدم الإحاطة بمحتملات القرينة حتى يتسنى للمتكلم سدّها بالطرق القطعية.

أما تحقيق كيفية التبادر أو الاستعمال بعد معرفة المعنى المتبادر إليه ، أو المستعمل فيه ، وأنه مستند لحاقّ اللفظ ليكشف عن الوضع أو للقرينة فلا يكشف عنه ، فهو همّ الخاصّة ممن استجدّت لهم الحاجة لتحقيق المعنى الموضوع له ، ولا غرض فيه لعامّة العقلاء وأهل اللسان ليتضح موقفهم فيه بما لهم من مرتكزات بيانية وسيرة عملية ، كي يعلم جري الشارع على سيرتهم.

ومنه يظهر عدم صحة الاستدلال على الوضع للمعنى باستعمال أهل اللغة فيه ، تحكيما لأصالة الحقيقة ، ودفعا لاحتمال المجاز والقرينة.

الثاني : صحة الحمل وعدم صحة السلب فقد ذكروا أن حمل اللفظ بما له من معنى على شيء ، وعدم صحة سلبه عنه علامة كونه حقيقة فيه ، كما أن عدم صحة حمله عليه ، وصحة سلبه عنه علامة عدم كونه حقيقة فيه ، بل مجازا لو كان مستعملا فيه.

وتوضيح ذلك : أنهم ذكروا أنه لا بد في حمل أحد الشيئين على الآخر من جهة اتحاد بينهما وجهة اختلاف ، إذ لو اتحدا من جميع الجهات كانا شيئا واحدا ، ولا يحمل الشيء على نفسه ، وإن كانا مختلفين من جميع الجهات كانا متباينين ، ولا يحمل أحد المتباينين على الآخر.

ومن هنا فالحمل عندهم قسمان :

١٣٢

أولهما : الحمل الأولي الذاتي ، وهو الذي يكون ملاكه الاتحاد مفهوما والتغاير بالاعتبار ، كحمل أحد اللفظين المترادفين بما له من المعنى على الآخر (١) ، في مثل قولنا : (الانسان هو البشر) ، وحمل الحد التام على الماهية كقولنا : (الانسان حيوان ناطق) ، أو العكس ، كقولنا : (الحيوان الناطق هو الإنسان) ، فإن صحّ الحمل المذكور بين الشيئين ، ولم يصح سلبه علم وضع أحد اللفظين لمعنى الآخر ، وكونه حقيقة فيه ، وإن صحّ سلبه عنه ، ولم يصح حمله علم عدم وضعه له ، وكونه مجازا فيه لو استعمل فيه بما له من خصوصية مفهومية.

وقد استشكل في ذلك بعض الأعيان المحققين (قدس سره) بأنه إنما يتم في المترادفين ، دون الحمل في الحدود التامة ، لأن اختلاف الحدّ عن المحدود بالإجمال والتفصيل مانع من كون أحدهما مفهوما للآخر ، لأن مفهوم كل لفظ مفرد بسيط مجمل.

ويندفع : بأن الإجمال والتفصيل لا يوجبان اختلاف المفهوم ، بل اختلاف نحو الحكاية عنه ، وهو لا يخلّ باتحاد المحكي مفهوما.

نعم ، لو اريد بشرح الحقيقة شرح الأجزاء الخارجية دون المفهومية ، كشرح السيارة ببيان أجزائها ، اتجه ما ذكره (قدس سره) لعدم التطابق المفهومي حينئذ بين طرفي الحمل ، لكنه خارج عن محل الكلام ، لعدم اختصاص الاختلاف بينهما بالإجمال والتفصيل.

كما استشكل فيه بعض مشايخنا : بأن مفاد الحمل الأوّلي هو اتحاد ذات

__________________

(١) بناء على ما يظهر من بعضهم من كونه من أفراد الحمل الأولي الذاتي. وربما أنكره بعضهم مدعيا أنه نحو آخر من الحمل ، وهو غير مهم بعد رجوعه لتحديد الاصطلاح ، وشمول محل الكلام لواقع الحمل المذكور وإن لم يكن من القسم المزبور اصطلاحا.

١٣٣

المحمول مع ذات الموضوع ، ولا نظر فيه إلى حال لفظ المحمول ، وأنه موضوع لذات الموضوع وحقيقة فيها أو لا ، لأن صحة الحمل من صفات المدلول والمنكشف ، والحقيقة والمجاز من صفات الدال والكاشف ، فلا يكون الأول دليلا على الثاني ، بل لا بدّ فيه من التبادر لتعيين معنى لفظ المحمول.

ويندفع : ـ أيضا ـ بأنه إذا كشف الحمل عن التطابق بين المعنيين كشف عن كون اللفظ المطابق لأحدهما والحاكي عنه مطابقا للآخر وحاكيا عنه ، للتلازم بين الأمرين. نعم ، لا بدّ فيه من كون لفظ المحمول حقيقة في معناه المراد به حين الحمل ، ليستلزم كونه حقيقة في مطابقه الذي صح حمله عليه.

وإليه يرجع ما سبق منا ـ تبعا لغير واحد ـ من تقييده بكون المحمول هو اللفظ بما له من المعنى ، وهو معناه الذي ينسب له دائما ، لكونه الموضوع له ، لا معناه المراد منه حين الحمل ولو كان مجازا.

ثانيهما : الحمل الشائع الصناعي ، وملاكه الاتحاد خارجا مع الاختلاف مفهوما ، إما لكون الموضوع من أفراد المحمول ، لأن المحمول ذاتي له ، كحمل الإنسان على زيد ، أو عرضي كحمل الأبيض على الثوب ، وإما لاتفاقهما في الأفراد ، كحمل النوع على الخاصة أو بالعكس في مثل قولنا : (الضاحك إنسان) ، أو (الإنسان ضاحك).

ولا يخفى أن الحمل المذكور لا يكشف عن معنى اللفظ الموضوع له ، ولا ينهض بتحديده ، بل عن سعة مفهوم اللفظ ، وانطباقه على ما حمل عليه بنحو يكون استعماله فيه حقيقة ، فهو لا يشرح المعنى إلا من الحيثية المذكورة. نعم ، لو كان المعنى معلوما من سائر الجهات كان الحمل المذكور متمما لمعرفته. كما أن عدم صحة حمله عليه وصحة سلبه عنه يكشف عن

١٣٤

عدم سعة مفهوم اللفظ له وعدم انطباقه عليه ، فلو صحّ استعماله فيه كان مجازا.

لكن ادعى بعض الأعيان المحققين (قدس سره) أن صحة السلب بلحاظ الحمل الشائع الصناعي لا تدل على عدم الوضع ، ولا على المجاز ، ولذا يصح سلب أحد المترادفين عن الآخر مع وضعه له وكون استعماله فيه حقيقة.

وكأن نظره في صحة السلب في المترادفين إلى أنه إذا كان مفاد الحمل المذكور هو الاتحاد خارجا مع الاختلاف مفهوما كفى في صحة السلب المقابل له عدم الاختلاف في المفهوم ، بل الاتفاق فيه ، كما في المترادفين.

ويشكل : بأن مفاد الحمل ليس إلا الاتحاد إما في المفهوم أو في الخارج ، وليس اعتبار التغاير بين طرفي الحمل اعتبارا أو مفهوما لكونه مفادا للحمل كالاتحاد ، بل لاستهجان حمل الشيء على نفسه ، ولذا لا يكون حمل الشيء على نفسه كاذبا ، وحيث كان مفاد السلب نقيضا لمفاد الحمل انحصر مفاده بعدم الاتحاد مفهوما أو خارجا ، ولا يكون مفاده عدم التغاير ، ليصحّ بين المترادفين بلحاظ عدم التغاير بينهما مفهوما ، ولذا لا يصح سلب الشيء عن نفسه بلحاظ الحمل الأولي ، لعدم التغاير بين الطرفين بالاعتبار.

فسلب أحد المترادفين عن الآخر ممتنع في نفسه ، لا أنه يصح ، كي لا تدل صحة السلب على عدم الحقيقة ـ كما ذكره ـ بل لا يصح السلب إلا بلحاظ عدم الاتحاد مفهوما أو خارجا ، فيدل في الأول على عدم وضع لفظ أحد الطرفين للآخر ، وفي الثاني على عدم سعة مفهومه له ، وعدم اتحادهما خارجا ، المستلزم لكون استعماله فيه ـ حتى بنحو التطبيق لو صح ـ مجازا.

أما بعض مشايخنا فقد استشكل بنظير ما سبق منه في الحمل الأولي

١٣٥

الذاتي ، وحاصله : أن الحمل الشائع الصناعي إنما يدل على الاتحاد خارجا بين الموضوع والمحمول بما هما معنيان قائمان بأنفسهما مدلولان للفظ ، ولا يدل على حال استعمال اللفظ.

ويظهر اندفاعه مما سبق ، لأنه بعد فرض المحمول معنى حقيقيا للفظه يكون اتحاده خارجا مع الموضوع المستكشف بالحمل راجعا لاتحاد الموضوع خارجا مع معنى اللفظ الحقيقي ، فيكون استعمال اللفظ فيه حقيقيا لا محالة.

ومن هنا كان الظاهر تمامية ما ذكروه من استلزام الحمل بأحد وجهيه للحقيقة ، إما لكون المحمول عليه عين معنى اللفظ ، أو لكونه من مصاديقه المتحدة معه خارجا. كما أن السلب مستلزم للمجاز بأحد الوجهين.

إلا أن الظاهر أنه لا يتجه جعلهما علامة في المقام ، لتوقفهما على العلم بتحقق النسبة المصححة لهما بين الطرفين ، ولا يكفي فيهما ثبوتها واقعا مع الجهل بها ، فلا يصح الحمل الأولي أو الشائع ممن لا يعلم بالاتحاد مفهوما أو خارجا بين الطرفين ، كما لا يصح السلب ممن لا يعلم بالتباين مفهوما أو خارجا بينهما ، ومع توقفهما على العلم لا يكونان سببا له ، وإلا لزم الدور أو اجتماع المثلين ، نظير ما سبق في التبادر.

وما ذكره غير واحد : من اندفاع ذلك بالاكتفاء في حصولهما بالعلم الارتكازي ، كما اكتفي به هناك.

غير متجه ، للفرق بينهما وبين التبادر بأن التبادر من سنخ الانفعال ، فتكفي فيه العلاقة الذهنية الارتكازية بين اللفظ والمعنى ، كسائر الانفعالات ، بخلاف الحمل والسلب ، لأنهما من سنخ الحكم ولا يتسنى صدور الحكم للحاكم بنحو يعلم بصحته ما لم يتوجه تفصيلا لطرفيه ، ولما يصححه ويطابقه

١٣٦

من النسبة بينهما ، ولا يكفي فيه الوجود الارتكازي الذهني من دون أن يتجلّى ويتضح له.

الثالث : الاطراد. فعن بعض المتأخرين عدّه من علامات الوضع. ويظهر من بعضهم أن المراد من ذلك : أن اطراد استعمال اللفظ في المعنى كاشف عن وضعه له.

وقد استشكل فيه المحقق الخراساني بأن المجاز وإن لم يطرد بلحاظ نوع العلاقة المجازية ، كالمشابهة والملازمة ونحوهما ، إلا أنه قد يطرد بلحاظ شخصها ، كالمشابهة للأسد في الشجاعة ، وللذئب في الخبث.

وتقييد الاستعمال الذي يكون اطراده علامة بما لا يكون بعناية مستلزم لابتناء علاميته على الدور أو اجتماع المثلين ، نظير ما تقدم في صحة الحمل ، إذ لا بد من العلم بالعلامة تفصيلا ، ومع العلم التفصيلي بعدم العناية في الاستعمال يعلم بالوضع للمعنى المستعمل فيه في رتبة سابقة على العلم بتحقق العلامة.

وقد ظهر من جميع ما تقدم انحصار علامة الوضع بالتبادر ، وأن صحة الحمل وعدم صحة السلب والاطراد لا تصلح لذلك.

نعم ، سبق أن علامية التبادر مشروطة بإحراز استناده لحاقّ اللفظ ، ولا يخلو إحراز ذلك عن صعوبة ، حيث يغافل عن دخل كثير من القرائن ، خصوصا العامة ، ككثرة الابتلاء بالمعنى الموجبة لاشتباه الانصراف بالتبادر ، ومقدمات الحكمة الموجبة لاشتباه مقتضى الإطلاق به ، وشيوع التلازم بين المعنيين الموجب لاشتباه معنى اللفظ بلازم معناه ، ونحو ذلك مما يحتاج معه إلى كثير من التأمل والتروي.

١٣٧

ومن أهم ما يستعان به لتمييز الحال الاطراد وصحة الحمل ، حيث يظهر بالاطراد عدم دخل كثير من القرائن التي يحتمل دخلها ويطرد الاستعمال بدونها ، وعدم دخل بعض الخصوصيات والقيود الزائدة على المعنى التي قد تنسبق من الإطلاق ويطرد الاستعمال بدونها ، كما يظهر بعدمه عدم الوضع للمعنى على إطلاقه ، أو عدم استناد التبادر لحاقّ اللفظ ، بل للقرائن التي يتخلف بتخلفها.

كما يظهر بصحة الحمل وعدم صحة السلب سعة المفهوم ، فلو تبادر لخصوص بعض أفراده انكشف دخل بعض القرائن في تبادره ، يظهر وبصحة سلب اللفظ عن بعض أفراد المعنى المتبادر إليه وعدم صحة حمله وجود خلل في تبادره إليه على إطلاقه. إلى غير ذلك مما يظهر بمزيد من التأمل في حدود المعنى وخصوصياته.

فالعلامات الثلاث كثيرا ما تشترك بمجموعها في تحديد معنى اللفظ ويستعين بها الفاحص المتثبت في الوصول إلى ما خفي من جهاته ، فلا ينبغي الاكتفاء بالتبادر والتسرع في الاستنتاج بسببه.

ولا يتضح حال التبادر غالبا بنحو لا يحتاج لغيره إلا في مورد وضوح الوضع ، الذي لا يحتاج فيه للعلامة عليه.

تنبيه :

لا يخفى أن ما ينكشف بالعلامات المذكورة هو معنى اللفظ الحالي عند حصولها ، لا في عصر صدور الاستعمال الذي يراد تشخيص مفاده ، كالاستعمال الوارد في الكتاب والسنة ، فاللازم الفحص عما لو كان هناك بعض الاستعمالات أو الأمارات الكاشفة عن تبدل المعنى ، فإن أحرز ذلك

١٣٨

لم يعمل على المعنى الحالي ، بل على الأول لو أمكن تشخيصه باستقصاء الاستعمالات ومراجعة كلمات أهل اللغة ونحو ذلك.

وإن شك في ذلك ، فقد صرّحوا بأن اللازم العمل على المعنى الحالي ، لأصالة تشابه الأزمان ، وعدم النقل المعوّل عليها عند العقلاء وأهل اللسان ، حيث لا إشكال عندهم في حمل الاستعمالات القديمة في الكتاب والسنة وكلام العلماء والمؤلفين والخطباء والشعراء والأوراق القديمة ونحوها على ما يفهمونه منها حين الاطلاع عليها ، ولا يعتنون باحتمال تبدل المعنى بحيث يكون المعنى الفعلي حادثا بعد الاستعمالات التي يراد تشخيص المراد منها.

نعم ، لو علم بحصول النقل وتبدل المعنى وشك في سبقة على الاستعمال الذي يراد تشخيص المراد منه أو تأخره عنه.

فالظاهر التوقف ، ولزوم الفحص عما يعيّن أحد المعنيين ، ومن قرائن داخلية أو خارجية. بل قد يظهر من بعضهم لزوم البناء على مقتضى المعنى الأول ، لأصالة تأخر النقل. لكنه لا يخلو عن إشكال فيما لو علم بتاريخ الاستعمال وشك في تاريخ النقل ، فضلا عن غيره ، لعدم رجوع أصالة تأخر النقل للاستصحاب الشرعي ، لأنها تكون أصلا مثبتا ، وعدم وضوح بناء العقلاء عليها ، لقلة الابتلاء بذلك فيما هو مورد الآثار العملية ، ليتضح قيام سيرة عملية لهم على ذلك ، وعدم وضوح ارتكازياتهم فيه مع قطع النظر عن عملهم.

بل الظاهر أنه لنظير ذلك يلزم التوقف عن العمل بأصالة تشابه الأزمان ، وعدم النقل عند الشك فيه ، إذا كان هناك من الاستعمالات القديمة أو تصريحات اللغويين أو نحوها ما يثير احتماله بوجه معتد به ، وإن لم يكن حجة عليه ، لأن المتيقن عملهم بها في مقابل الاحتمالات المجردة التي لا مثير معتد به

١٣٩

لها. فلاحظ.

الأمر السادس : حيث لا إشكال في إمكان تعدد معاني اللفظ الواحد ، إما بنحو الاشتراك ـ بناء على ما هو الظاهر من إمكانه ، بل وقوعه ـ أو مع كون بعضها أو تمامها مجازيا ، فقد وقع الكلام بينهم في إمكان استعمال اللفظ باستعمال واحد في أكثر من معنى واحد على أقوال.

ولا يخفى أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى على وجوه :

أولها : أن يستعمل في المجموع المركب من المعنيين بفرض وحدة اعتبارية بينهما ، ولا يكون لحاظ كل منهما بخصوصه استقلاليا ، بل ضمنيا ، كلحاظ سائر أجزاء المعنى المستعمل فيه ، كما لو استعمل (القرء) الذي قيل بوضعه لكل من الحيض والطهر في تمام الدورة الشهرية المركبة منهما ، نظير استعمال اليوم الموضوع للنهار في تمام الدورة اليومية المستوعبة له ولليل.

ثانيها : أن يستعمل في القدر المشترك بينهما بإلغاء خصوصية كل منهما ، ولا يلحظ إلا ما به الاشتراك بينهما ، وهو الكلي الجامع ، سواء كان مفهوميا مبنيا على تجريد كل منهما عن خصوصيته المميزة له عن الآخر ، كما لو استعمل (القرء) في حالة المرأة من حيثية الدم المشتركة بين الحيض والطهر ، أم منتزعا من أمر لاحق للمفهومين ، كما لو استعمل اللفظ في عنوان المسمى ، لوضوح أن التسمية من لواحق كل من المفهومين الخارجة عنه.

ثالثها : أن يستعمل في كل منهما بخصوصه وبما له من جهة امتياز عن الآخر ، ويلحظ بحدوده المفهومية مستقلا عن الآخر لا منضما إليه ، فتكون كل من الخصوصيتين محكية باللفظ ، كما لو استعمل اللفظ فيها وحدها.

والظاهر عدم الإشكال في جواز الاستعمال بأحد الوجهين الأولين ـ

١٤٠