المحكم في أصول الفقه - ج ١

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٨

الباب الأول

في مباحث الألفاظ

وهي التي يبحث فيها عن تشخيص الظهورات الكلامية ، لتنقيح صغريات كبرى حجية الظهور التي يأتي الكلام فيها في القسم الثاني من علم الاصول إن شاء الله تعالى ، ولا يترتب عليها العمل إلا بضميمة الكبرى المذكورة.

مقدمة

حيث كان تشخيص الظهورات متفرعا على دلالة اللفظ على المعنى ، كان المناسب التعرض لبعض المباحث اللغوية الدخيلة في الدلالة والمناسبة لها مقدمة للكلام في هذا المقام ، لمسيس الحاجة لذلك ، ولا سيما بعد عدم استيفاء البحث عنها في العلوم الأدبية ، ليستغني به الباحث في الاصول عن ذكرها في المقام.

وقد بحثها الأصحاب في مقدمة علم الاصول من دون أن يقسموا مباحثه بالوجه الذي جرينا عليه.

وهي تكون في ضمن امور :

الأمر الأول : من الظاهر أن دلالة اللفظ على المعنى تارة : تبتني على أداء اللفظ له بنفسه بحيث يكون قالبا له. واخرى : تبتني على قرينة خارجة

١٠١

عنه لمناسبة صححت ذلك عرفا.

والاستعمال في الثاني مجازي أو نحوه مما قد يجري عليه أهل الاستعمال ، وليس هو فعلا محل الكلام.

أما في الأول فهو حقيقي ، وهو متفرع على علاقة خاصة بين اللفظ والمعنى ونحو من الملازمة الذهنية بينهما ، بحيث يكون اللفظ قالبا للمعنى ، ويكون سماعه موجبا للانتقال إليه ، حتى يصح عرفا أن ينسب أحدهما للآخر ، فيقال : هذا معنى اللفظ ، وهذا اللفظ لهذا المعنى.

ولا إشكال في عدم تبعية الملازمة المذكورة لخصوصية ذاتية في اللفظ والمعنى ، وإن كان قد يوهمه المحكي عن بعضهم من أن دلالة اللفظ على المعنى طبعية ، إذ لا يظن بأحد الالتزام بظاهر ذلك ، مع ظهور وهنه باختلاف اللغات ، وتوقف فعلية الدلالة على العلم بها.

بل الظاهر أن منشأ الملازمة المذكورة أمران :

أحدهما : كثرة الاستعمال في المعنى بنحو يكون للفظ نحو اختصاص به ، حتى لا يحتاج معه للقرينة ، وإن كان مبدأ الاستعمال مبنيا عليها ، حيث قد يظهر من حال المستعملين اتكالهم على الاستعمالات المبنية على القرينة وجريهم على طبقها حتى يبلغ حدا يوجب الملازمة المذكورة والعلاقة الخاصة ، فيستغنى عن القرينة.

ثانيهما : الوضع ممن يتعارف قيامه به ، كولي الطفل ، ومخترعي المفاهيم ، كأصحاب الفنون في مصطلحاتهم المتعلقة بفنونهم. وهو المسمى بالوضع التعييني ، في قبال الأول الذي يطلق عليه الوضع التعيني ، تغليبا ، أو لمناسبته للوضع التعييني ، لاشتراكهما في الفائدة. وإلا فالوضع الذي هو من مقولة

١٠٢

الفعل مختص بالتعييني.

نعم ، لو اريد من الوضع ما يعم فعل سبب الاختصاص بين اللفظ والمعنى ـ وهو الاستعمال ـ وإن لم يقصد حصوله به ـ كما قد يظهر من بعضهم ـ لا جعل نسبة الاختصاص المذكورة بالمباشرة ، صح إطلاقه على الأول ، لكنه بعيد ، والأمر سهل.

ثم إن الظاهر أن الوضع التعييني يتضمن جعل نسبة الاختصاص بين اللفظ والمعنى وإنشاءها المستلزم لاعتبارها عرفا ، وهي مسانخة للنسبة الحاصلة عرفا بسبب كثرة الاستعمال. فكما يرى العرف صحة إضافة اللفظ للمعنى بسبب كثرة الاستعمال بالنحو الخاص يرى صحة إضافته بسبب جعلها ممن بيده جعلها ، فيتابع عليها ، ويكون البناء على إطلاق اللفظ من دون قرينة عند إرادة المعنى متفرعا عليها ، كما يكون الاستعمال نفسه جريا على طبقها ، لا مقوما لها ، كالتصرف المتفرع على الملكية.

وقد تقدم عند الكلام في حقيقة الأمر الانتزاعي من المقدمة أن الإضافة إذا كان منشأ انتزاعها موجودا تكوينا لم يمكن جعلها اعتبارا ، كالفوقية ، أما إذا لم يكن منشأ انتزاعها موجودا فقد تكون قابلة للجعل ، كالملكية.

غايته أن الإضافة في المقام ليست على نهج واحد ، بل تختلف باختلاف الموارد ، فهي في موارد الوضع التعيني غير مجعولة ، لتحقق منشأ انتزاعها تكوينا ، وهو حضور المعنى عند سماع اللفظ بسبب شيوع استعماله فيه بالنحو الخاص ، وفي موارد الوضع التعييني لا وجود لمنشا انتزاعها ، فيمكن جعلها اعتبارا بنحو تترتب عليها الآثار عرفا ، كما تترتب في الأول.

ولعل هذا هو مراد بعض الأعيان المحققين (قدس سره) ، وإن لم يكن

١٠٣

مجال للتعرض لكلامه وكلام غيره ممن ذكر وجوها أخر في حقيقة الوضع ، لضيق المجال عن النقض والإبرام في ذلك بعد عدم ظهور الثمرة له. فراجع.

هذا والظاهر أن الوضع التعييني مختص بمثل الأعلام الشخصية والمفاهيم المخترعة المستحدثة ، حيث يتدرج الابتلاء بها ، ويلتفت من بيده أمرها إلى الحاجة لتعيين اللفظ الدال عليها ، فيختار لها لفظا خاصا لمناسبة ما ، ولو كانت مثل التبرك.

وأما المفاهيم العامة التي لا تخص طائفة مخصوصة والتي بها تقوم اللغة فمن البعيد جدا ابتناؤها على الوضع التعييني ، لتعذره عادة من شخص واحد أو أشخاص معدودين لكثرة المعاني الافرادية والتركيبية وتشعبها ، وعدم معروفية من له تلك الأهلية ، ليوكل إليه ذلك ويتابعه فيه الكل. ولذا لم ينقل ذلك في التواريخ مع أهميته جدا.

ومثله التصدي من كل من يبتلي بمعنى لوضع لفظ يخصه فيتابع فيه ، حتى تكاملت اللغة تدريجا.

فإن الالتفات للوضع ولفائدته بعيد عما عليه عامة الناس ـ في أول ابتلائهم بالمعنى ـ من سذاجة ، خصوصا مع عدم مألوفية الوضع لهم سابقا ، حيث لا همّ لهم إلا بيان المعنى بأي وجه أمكن من إشارة أو استعمال مجازي أو غيرهما.

على أنه لا يتيسر تبليغ الكل بالوضع الأول ، وتعدده يستلزم كثرة الاشتراك بالنحو الموجب لارتباك اللغة وعدم تحقق غرض الوضع.

ومن هنا فقد قرب شيخنا الاستاذ (قدس سره) كون جميع تلك الأوضاع تعينية وأن مبدأها الاستعمال غير المسبوق بالوضع تبعا للحاجة

١٠٤

وإعمالا لملكة البيان التي أودعها الله في الإنسان ولو مع الغافلة عن وجه مناسبة اللفظ للمعنى والجهة الموجبة لاختياره في أدائها ، بل ولو مع عدم تحديد طبيعة استعمال اللفظ في المعنى جريا من الإنسان على مقتضى غريزته بصورة بدائية ، من دون تحديد تفصيلي للفظ ولا للمعنى ، نظير تعابير الطفل في أول نطقه ، ثم يتكامل بمرور الزمن ويتكامل الإنسان ويدخله التطوير والتحسين بعد التنبه لفائدته وتحسسها.

لكن ذلك وإن كان قريبا لمقتضى طبع الإنسان في التدرج ، إلا أنه يحتاج لمدة طويلة ، وهو لا يناسب ما تضمنته الآيات والأخبار المستفيضة من كلام آدم أبي البشر في مبدأ الخلقة مع الله تعالى ، ومع الملائكة والشيطان ، وكلامهم معه ، حيث يظهر منه التوجه في أول الأمر للبيان بصورة منظمة ووجود لغة كافية في أداء المقاصد وعملية التفاهم.

ومن هنا كان من القريب جدا أن الله تعالى قد ساعد الإنسان في مبدأ الخلقة فألهمه فعلية البيان كما أودع فيه ملكته ، وهداه لمجموعة من الألفاظ تفي بأغراضه فتكلم بها بطبعه ، من دون أن تكون مسبوقة بالوضع ، وجرى عليها حتى تكونت اللغة الأولى ، ثم خضعت بعد ذلك لنظام التطوير والتغيير والتبديل تبعا لتجدد الحاجة وتشعبها ، كما هو الحال في سائر شئون حياته. وربما تشعبت اللغات منها ، كما ربما يكون تعدد اللغات بفيض منه تعالى دفعي إعجازي ، كحدوث اللغة الأولى ، كما قد يظهر من بعض الأخبار.

ولعل هذا مراد من يقول إن الواضع هو الله تعالى. وربما يكون مرادهم أمرا آخر. ولا مجال لإطالة الكلام فيه ولا في بقية المباني المذكورة في مبدأ الوضع بعد عدم ظهور الثمرة لذلك.

١٠٥

الأمر الثاني : ما سبق من تقسيم الوضع إلى التعييني والتعيني إنما هو بلحاظ اختلاف خصوصيته في نفسه ، وقد قسموه تقسيمين آخرين بلحاظ متعلقه من دون أن يرجع إلى اختلاف فيه في نفسه.

التقسيم الأول : تقسيمه إلى الوضع الشخصي والنوعي.

وتوضيحه : أن من الظاهر أن الموضوع ليس هو اللفظ الجزئي ، وهو شخص اللفظ الملفوظ للواضع ـ في الوضع التعييني ـ وللمستعمل ـ في التعيني ـ لتصرمه فلا فائدة في حدوث العلاقة بينه وبين المعنى الذي يحتاج لبيانه باستمرار ، بل الموضوع هو الكلي منه المنطبق على ما لا نهاية له من الأفراد ، وإرادته من اللفظ الملفوظ للواضع تبتني على استعماله في نوعه.

فلا بد من ابتناء هذا التقسيم على نحو من التوسع.

والذي يظهر من المحقق الخراساني (قدس سره) عند الكلام في وضع المركبات أن الوضع النوعي هو وضع هيئات المركبات ـ كهيئات الجمل والإعراب والتأكيد والحصر والإضافة وغيرها ـ لخصوصيات النسب المحكية بها ، والشخصي هو وضع مواد المركبات ومفرداتها.

وكأنه بلحاظ أن هيئات المركبات لم تؤخذ فيها خصوصية مادة ، بل تجري في سائر المواد المناسبة مع انحفاظها ، فهي تشبه النوع المحفوظ في أفراده الساري فيها.

لكن ذلك يقتضي تعميم الوضع النوعي لسائر الهيئات حتى هيئات المفردات الاشتقاقية ، كهيئات الأفعال وأسماء الفاعلين والمفعولين.

لوضوح أنها ـ كهيئات المركبات ـ محفوظة في المواد المختلفة ولذا عممه له غير واحد ، بل ذكر بعض المحققين أنه المعروف. فليكن هو المعول

١٠٦

عليه تبعا لهم.

بل عممه بعض الأعيان المحققين (قدس سره) لمواد المشتقات ، لعدم أخذ هيئة خاصة فيها ، بل تنحفظ في سائر الهيئات كانحفاظ هيئات المشتقات في موادها.

لكن لما كان هذا التقسيم محض اصطلاح ـ لما ذكرنا من كون الموضوع كليا دائما ـ فلا ينبغي الخروج عما هو المعروف.

وقد تكون المناسبة المصححة له أن نسبة الهيئة للمادة ـ لفظا ومعنى ـ لما كانت نسبة العرض للموضوع كان المعيار في التعدد هو تعدد المادة عرفا ، وكان تعددها في الهيئة موجبا لكون وضع الهيئة نوعيا ، بخلاف تعدد الهيئات في المادة الواحدة ، فلا يلتفت إليه ، ليكون وضع المادة نوعيا ، بل هو كتوارد الهيات التركيبية على المفردات ، حيث لا ينافي كون وضعها شخصيا ، ولو لا الفرق المذكور لكان نوعيا أيضا حتى في الجوامد والحروف.

وقد أجاب بعضهم بوجه آخر غير ظاهر في نفسه ، ولا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ما ذكرنا من كون التقسيم محض اصطلاح لا مشاحة فيه.

التقسيم الثاني : تقسيمه بلحاظ عموم المعنى المتصور حين الوضع وخصوصه ، وعموم المعنى الموضوع له وخصوصه ، إلى أقسام ثلاثة : الوضع الخاص والموضوع له خاص ، والوضع العام والموضوع له عام ، والوضع العام والموضوع له خاص.

وذلك أن الواضع لا بد له من تصور المعنى الموضوع له ، إما تفصيلا بملاحظة ذاته بخصوصياتها ، أو إجمالا بملاحظة عنوان يخصه سيق لمحض الحكاية عنه ، كما لو سمى ولده زيدا ، ولا يعرفه إلا بأنه أول مولود له.

١٠٧

وحينئذ فإن تصور معنى خاصا ووضع اللفظ له فالوضع خاص ـ لخصوص المعنى المتصور حينه ـ والموضوع له خاص ، كوضع الأعلام الشخصية.

وإن تصور معنى عاما ، فإن وضع اللفظ له على عمومه ، فالوضع عام ـ لعموم المعنى المتصور حينه ـ والموضوع له عام ، كوضع أسماء الأجناس. والأمر في هذين القسمين ظاهر.

وإن وضع اللفظ لأفراد المعنى المتصور بخصوصياتها المتباينة فالوضع عام والموضوع له خاص.

والفرق بينه وبين القسم الثاني : أن الموضوع له في القسم الثاني ليس إلا العام بما له من مفهوم جامع بين الخصوصيات من دون أن تكون الخصوصيات دخيلة في الموضوع له ولا محكية باللفظ حتى في مورد استعماله فيها ، حيث لا يحكى عنها حينئذ إلا من حيثية دخولها في القدر المشترك ، لا بما به امتيازها ، بل هو مقارن لا غير ، بخلاف هذا القسم حيث يبتني على دخل كل خصوصية فردية في الموضوع له بنحو البدلية ، بحيث يحكي اللفظ عنها بما به امتيازها عن غيرها ، ولا يحكي عن القدر المشترك بنفسه مع قطع النظر عن خصوصيات أفراده ، لعدم وضعه له ، فهو يشارك القسم الثاني في سعة الموضوع له بنحو يصح استعمال اللفظ في جميع الأفراد بدلا ، كما يشارك القسم الأول في الحكاية عن خصوصية الفرد.

ثم إن توضيح بعض الجهات المتعلقة بهذا التقسيم يكون ببيان امور :

أولها : أنه صرح غير واحد بامتناع الوضع الخاص والموضوع له العام الذي يكون بتصور المعنى الخاص عند الوضع مع عدم الوضع له بل للعام بما

١٠٨

له من معنى شائع واسع الانطباق.

وأن الفرق بينه وبين الوضع العام والموضوع له الخاص ـ الذي هو القسم الثالث المتقدم ـ هو أن العام وجه من وجوه الخاص ، بخلاف الخاص ، فإنه لا يكون وجها للعام ، لأن العنوان العام كما قد يؤخذ بنفسه موضوعا للحكم ، فيكون تقييديا ، كذلك قد يجعل عبرة لأفراده حاكيا عنها ، بحيث يكون موضوع الحكم هو الأفراد بما لها من واقع.

أما الخاص فتصوره لا يكون إلا بتصور خصوصيته غير القابلة للسريان والشيوع ، فلا يكون حاكيا عن العام الشامل له والساري في غيره.

نعم ، قد يكون تصوره مقدمة لتجريد جهة فيه منه تقبل السريان يكون الوضع لها بعد تجريدها.

لكنه راجع إلى تصورها تفصيلا ، كما لو مر به حيوان فأدرك ماهيته ووضع الاسم لها ، أو إجمالا ، كما لو علم بوجود شيء في الصندوق فوضع اللفظ لماهيته المتصورة إجمالا.

فيكون الوضع للعام بعد تصوره بنفسه بسبب تصور الخاص ـ كما في القسم الثاني ـ لا بمجرد تصور الخاص ، ليكون من القسم الرابع.

ومنه يظهر اندفاع ما عن المحقق الرشتي من إمكان هذا القسم وأنه كمنصوص العلة ، حيث يكون الحكم فيه شخصيا ومع ذلك يسري إلى كل ما فيه العلة.

كما ظهر أن الوضع العام والموضوع له خاص يبتني على الإشارة للخاص من طريق العام الراجعة لنحو من التصور الإجمالي له ، فيشبه الوضع الخاص والموضوع له خاص ، وإن افترقا في وحدة الموضوع له في الوضع

١٠٩

الخاص ، وتعدده في العام بسبب كثرة الأفراد المحكية بالعنوان العام المتصور حين الوضع.

ثانيها : أن الموضوع العام والموضوع له الخاص تارة : يرجع إلى الوضع للخصوصيات بما هي مشتركة في مفهوم العام ، بحيث يكون العام مأخوذا في الموضوع له مقيدا بإحدى الخصوصيات الفردية على البدل ، فتكون الخصوصية قيدا في الموضوع له ، لا تمامه ، فدلالة اللفظ عليها نظير دلالة المعرف بلام العهد عليها.

واخرى : يرجع إلى الوضع للخصوصيات بأنفسها من دون ملاحظة اشتراكها في مفهوم العام ، وليس لحاظ العام إلا لأجل حصر الخصوصيات المذكورة وتعيينها ، فدلالة اللفظ على كل من الخصوصيات المتباينة كدلالة المشترك اللفظي عليها ، وليس الخلاف بينهما إلا في وحدة الوضع في المقام وتعدده في المشترك. وكلماتهم في المقام لا تخلو عن إجمال وتردد بين الوجهين ، وإن لم يبعد كونها للأول أقرب.

ثالثها : لا يخفى أن الجمود على ما تقدم في بيان الأقسام المذكورة يقضي باختصاصها بالوضع التعييني المبتني على وضع اللفظ للمعنى بعد تصور الواضع له ، دون التعيني الذي عرفت خروجه عن حقيقة الوضع ، إلا أنه يمكن جريان نظائرها فيه من حيثية خصوصية المعنى التي هي الغرض الملحوظ في التقسيم.

فإن المعنى الذي يختص به اللفظ ويكون قالبا له بسبب كثرة الاستعمال تارة : يكون جزئيا لا يصلح اللفظ لنظائره مما يجمعه معه مفهوم واحد ، كما

١١٠

في القسم الأول. واخرى : يكون كليا مجردا عن خصوصيات أفراده ، كما في القسم الثاني. وثالثة : يكون جزئيا تتبادل فيه خصوصيات أفراد مفهوم واحد كلي ، بحيث يحكي عن الخصوصيات بأنفسها أو بما هي قيود بدلية في المفهوم الكلي المذكور ، كما في القسم الثالث بأحد وجهيه المتقدمين آنفا.

الأمر الثالث : بعد أن عرفت أنحاء الوضع الممكنة فلا إشكال في وقوع القسم الأول في الأعلام الشخصية ، والثاني في أسماء الأجناس ، وإنما الكلام في الثالث ، حيث قد يدعى أنه عليه يبتني وضع الحروف وما الحق بها من أسماء الإشارة والموصولات والضمائر والهيئات ونحوها ، وليس التقسيم المذكور إلا مقدمة لتحقيق الحال فيها.

وقد أطال أهل الفن في ذلك خصوصا المتأخرين منهم ، حيث كثرت أقوالهم وتشعبت وابتنت على كثير من الدقة والتعمق ، واحتيج في توضيح كل منها أو في ردها إلى مقدمات كثيرة ، مع اعتمادهم على البداهة فيما يذهبون إليه على اختلافهم.

ولعل ذلك ناشئ من أن استعمال الحروف ونحوها يجري على البديهة والفطرة حسبما أودعه الله تعالى في الإنسان من قوة البيان ، كما أن ما يراد بها يدرك بالارتكاز بلا كلفة ، وتوضيح البديهيات والارتكازيات وبيان حقائقها وتفاصيل معانيها من اشكل المشكلات ، حيث يبتني على التعمق والتكلف والتعمل التي لا يصل بها الإنسان غالبا كما يصل بفطرته وارتكازه.

ومن هنا يضيق الوقت والصدر معا من متابعتهم وتعقيب كلماتهم ، بل قد تضعف الطاقة عن ذلك.

ولا سيما مع عدم وضوح ترتب ثمرة عملية مهمّة عليه ، وإن ادعى

١١١

بعضهم ترتبها ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

كما أنه لا يحسن إهمال ذلك رأسا ، لعدم خلوه عن الفائدة.

فلنقتصر على بيان ما يتضح لنا فعلا بعد النظر في كلماتهم ، مع التوكل على الله سبحانه وطلب العون والتسديد منه.

فنقول : الظاهر أن جملة من الحروف لم توضع للحكاية عن معان متقررة في عالم الخارج أو الاعتبار أو الانتزاع ، ليقع الكلام في أن معانيها كلية أو جزئية ، بل هي موضوعة لإيجاد معانيها في عالم الكلام والتلفظ ، فمعانيها ـ كما قيل ـ إيجادية ، لا إخطارية ذات وجود ذهني مطابق لوجودها الحقيقي في عالمه.

كما هو الحال في مثل أدوات التمني والترجي والنداء والاستفهام والطلب والنهي ونحوها ، فكما يكون لهذه الامور واقع نفسي في الجملة ، يكون لها وجود كلامي بأدواتها المعهودة.

وليس الواقع النفسي محكيا بهذه الأدوات على أن يكون هو المدلول المطابقي لها ، بل هو داع لإيجاد مضامينها في عالم اللفظ والكلام ، كما قد يكون داعيا لوجودها بالإشارة ، فكما يشير الإنسان بيده مستفهما بداعي حث المخاطب على الإعلام والإفهام يتكلم بأدوات الاستفهام بالداعي المذكور.

ولذا لا يكون الإتيان بها من دون تحقق ما يناسبها في النفس كذبا وإن قصد إظهاره بها ، بل لا يكون حينئذ إلا إيهاما وتغريرا.

كما لا يكون الإتيان بها بداع آخر بقرينة مجازا ، لعدم انسلاخها عما سيقت له بحسب وضعها ، وهو الوجود الكلامي للمعاني المذكورة ، كما في الاستفهام بداعي الإنكار ، والنداء بداعي التواجد.

١١٢

نعم ، قد تنسلخ عما وضعت له عرفا ، فتكون موجدة لمعنى آخر ، كإنشاء التأسف بأداة النداء في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١) حيث لا يتضمن جعل النداء عرفا.

والحاصل : أن هذه الحروف لم توضع للحكاية عن معنى له تقرر في واقعة بنحو تكون قالبا له ، وإن كانت قد تكشف عن معنى كذلك لملازمة ذهنية أو عرفية ، وإنما وضعت لإيجاد معانيها إيجادا كلاميا ، فنسبة وضعها للمعاني المذكورة كنسبة وضع المطرقة للطرق والسكين للقطع ، لا كنسبة وضع الأسماء للمعاني الذي يراد به وضعها لبيانها والحكاية عنها بنحو تكون قالبا لها. وكذا الحال في نسبة المعاني لها.

ويلحق بالحروف المذكورة في ذلك أسماء الإشارة والضمائر والموصولات ونحوها ، فانها أدوات لإحداث نحو من الإشارة للشيء ـ كلام التعريف ـ إما مطلقا ـ كأسماء الإشارة ـ أو من حيثية معهوديته في الذهن ـ كضمائر الغيبة ـ أو من حيثية ما يتعلق به ـ كالأسماء الموصولة ـ فإن الإشارة في الجميع لا تقرر لها في نفسها مع قطع النظر عن الاستعمال ، بل تتحقق به ، كما هو الحال في الإشارة باليد التي تتحقق بالحركة الخاصة بقصدها.

نعم ، لما كانت الإشارة تتعلق بمشار إليه له تقرر في نفسه مع قطع النظر عنها ، وتبتني على التنبيه له ، كان لهذه الأسماء نحو من الحكاية عنه وكانت مستلزمة بطبعها لحضوره في الذهن.

وبهذا قد يدعى أن لها معاني إخطارية ، ولذا عدت من الأسماء وشاركتها في وقوعها طرفا للنسب المختلفة. فيتجه الكلام حينئذ في عمومها

__________________

(١) سورة يس : ٣٠.

١١٣

وخصوصها.

لكن الظاهر عدم كون المشار إليه معنى مطابقا لها وضعا ، ومحكيا بها حكاية المعنى باللفظ الموضوع له ، بل هو يحضر بسببها في الذهن تبعا لتحقق الإشارة بها ، كما هو الحال في الإشارة الخارجية المبنية على مقتضى طبع الإنسان من دون وضع وتعيين ، وبعد حضوره في الذهن يحسن جعله طرفا للنسبة ، كما يجعل المحكي باللفظ طرفا لها.

ولذا لا يكون المشار إليه معنى لها ولا مصداقا لمعناها ، مع قطع النظر عن مقام الاستعمال الخاص ، كما تكون ذات زيد معنى للفظه ومصداقا لمعنى لفظ (رجل) مع قطع النظر عن استعمالهما فيه.

وهذا نفسه يجري في الموصولات ، كما قد يظهر بالتأمل.

ومثلها في ذلك بعض الهيئات ، كهيئة الأمر ، فإنها مستعملة في إيجاد النسبة البعثية وإيجادها. ودلالتها على الطلب النفسي الواقعي بالملازمة العرفية ، لكونه الداعي لإنشاء النسبة المذكورة عرفا.

وكذا أسماء الأفعال ، حيث كان الظاهر ابتناءها على انشاء المعنى ، فمفاد (هيهات) ليس هو الحكاية عن البعد ، بل ادعاؤه وانشاء الاستبعاد الذي لا وجود له إلا بالاستعمال. كما أن مفاد (أفّ) إنشاء التضجر ، لا الإخبار عن الضجر النفسي.

وبالجملة : كون معاني جملة من الحروف والأسماء والهيات الملحقة بها إيجادية أمر لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في ما يتضمن النسب التي لها ما بإزاء خارج عن الكلام ، له نحو تقرر في نفسه مع قطع النظر عنه ، يكون المعيار في صدق الكلام

١١٤

وكذبه مطابقته للخارج بتحققه في عالمه وعدمها ، كأكثر حروف الجر وحروف الشرط والحصر ونحوها ، والهيات الكلاميّة الدالة على النسب التامة ، كهيئة الجملة الاسمية والفعلية غير الطلبية ـ والناقصة ـ كالإضافة والحال والتمييز وغيرها ـ وهيئات المفردات الاشتقاقية ، لأنها وإن لم تتصف بنفسها بالصدق والكذب ، إلا أنها لما كانت قيودا في النسب التامة المتصفة بهما ، كان وجود المطابق الخارجي لها وعدمه دخيلين في مطابقة تلك النسب للخارج وعدمه وفي صدقها وكذبها ، وهو يستلزم تقرر مفاد تلك النسب مع قطع النظر عن الكلام ـ.

ومن ثم قد تتجه دعوى : أن معاني تلك الحروف والهيات إخطارية.

ويقع الكلام حينئذ في أنها كلية أو جزئية ، وأن وضعها من القسم الثاني أو الثالث ، بعد معلومية عدم كونه من القسم الأول.

وقد يستدل على كلّيتها : بصلوحها للحكاية عمّا لم يقع من النسب في القضايا المستقبلة ونحوها مع وضوح انطباقه على أكثر من وجه واحد وعدم أخذ خصوصية فردية فيه ، لتبعية التشخص للوجود ، وذلك راجع إلى كلية مفاهيمها وانطباقها على كثيرين ، فكما يكون السير في قولنا : سر من البصرة إلى الكوفة ، كليا فلتكن نسبته للبصرة المستفادة من (من) ونسبته لفاعله المستفادة من هيئة الفعل كليتين أيضا.

وتشخص مؤداها من النسب وجزئيته فيما لو كان موجودا في القضايا الحالية والماضية ـ كما في قولنا : سرت من البصرة ـ إنما هو لملازمة الوجود للتشخص ، لا لأخذ الخصوصية الشخصية في المفهوم ، لوضوح عدم اختلاف مفادها في القضايا المذكورة مع مفادها في القضايا المستقبلة ونحوها.

١١٥

فالخصوصية من مقارنات مفادها لا مقومة له.

كما هو الحال في المفاهيم الاسمية الكلية التي قد يراد المتشخص لقرينة مع أخذ الخصوصية في مفهومها.

وقد أصر غير واحد على جزئية المعنى مع بنائهم على كونه إخطاريا له نحو من التقرر مع قطع النظر عن الكلام ، ولم يتضح لنا من كلماتهم ما يصلح للجواب عما سبق ، فلا مجال لإطالة الكلام فيه.

كما لا مجال لإطالته في حقيقة المعنى الحرفي وأنه متحد مع المعنى الاسمي مفهوما ، أو مباين له حقيقة ، وإن أطالوا في ذلك ، لعدم وضوح الثمرة لذلك.

والمهم إنما هو الكلام في كونه إيجاديا أو إخطاريا الذي يترتب عليه الكلام في كليته وجزئيته ، ومقتضى ما سبق كونه إخطاريا كليا.

هذا ، ولكن التأمل في حال بعض النسب الكلامية شاهد بأن انتزاع الصدق والكذب لا يتوقف على كون الحرف حاكيا عن واقع متقرر مع قطع النظر عنه ، بل قد يكون مع حدوث نحو من النسبة به لا تقرر لها لولاه ، ولا وجود لها بدونه ، فهي إيجادية لا إخطارية ، كما هو الحال في نسبة الاستثناء ، حيث لا تقرر لها في نفسها ، بل هي محض اعتبار قائم بالكلام متفرع على اعتبار عموم الحكم ، فليس في الواقع مع قطع النظر عن الكلام إلا ثبوت الأمر المحكوم به لما عدا المستثنى من أفراد المستثنى منه وانتفاؤه ، عن المستثنى ، ولا يختلف في واقعة ، سواء كان بإثبات الحكم لموضوعه ونفيه عما عداه ، بأن يقال مثلا : تقبل شهادة العادل ولا تقبل شهادة غيره ، أم بإثبات الحكم للكل ثم الاستثناء منه ، بأن يقال : لا تقبل شهادة أحد إلّا العادل.

١١٦

فإن ذلك يكشف عن عدم المطابق للنسبة الاستثنائية المؤداة بأدواته وعدم التقرر لها بواقع محكي بالأداة حكاية المعنى باللفظ.

وإنما يكون الواقع معيارا في الصدق والكذب بلحاظ كونه مصححا لاعتبار النسبة عند أهل اللسان في مقام البيان ، بحيث تساق النسبة لبيانه ويكون بيانه داعيا لاعتبارها ، لا أن الداعي مجرد وجوده ، كما سبق في مثل الاستفهام النفسي مع الاستفهام اللفظي.

فليس الفرق بين أدوات الاستفهام ـ مثلا ـ وأدوات الاستثناء في أن الاولى موجدة لمعانيها والثانية حاكية عنها ، بل ينحصر الفرق بينهما ـ بعد اشتراكهما في كون معانيهما إيجادية ـ في أن الثانية موجدة لمعانيها بداعي بيان أمر له نحو من التقرر مصحح لاعتبارها عرفا ، بخلاف الاولى ، حيث لا يكون هناك ما يصحح انتزاعها ويكون مقصودا بها ، وإن كان لا بد من غرض مصحح لجعلها واعتبارها غير البيان ، كرفع الجهل بالأمر المستفهم عنه. وبهذا افترقا في قبول الاتصاف بالصدق والكذب وعدمه.

ولعل مثل أدوات الاستثناء في ذلك بعض أدوات العطف والإضراب ، فإن مفادها ـ وهو التشريك في الحكم أو التفريق فيه ـ نحو من النسبة القائمة بالكلام ، والتي هي من شئون الكلام ولواحقه المتقوّمة به ، من دون أن يكون له مطابق خارجي محكي عنه به حكاية المعنى بلفظه ، بل ليس في الواقع إلّا ثبوت الأمر المحكوم به أو عدمه في موردهما ، وإن اتصف الكلام المشتمل عليهما بالصدق أو الكذب بلحاظ الواقع المذكور.

كما لعلّه الحال ـ أيضا ـ في بعض الأدوات الاخرى المتضمّنة للنسب الواقعة في الكلام القابل للاتصاف بالصدق والكذب ، كما قد يظهر بمزيد من

١١٧

التأمل في موارد استعمالها ، وإن ضاق الوقت عن استقصائها.

واذا ثبت عدم ملازمة اتصاف الكلام بالصدق والكذب لكون معاني الأدوات إخطارية ، بل يمكن مع كونها إيجادية ، فلا طريق لإثبات إخطارية المعنى في جميع الحروف والهيات ، بل ربما تكون إيجادية ، بأن تكون جميعا أدوات لتحقيق نحو من النسبة الكلامية اعتبارا ، وإيجاد الربط الكلامي في مقام البيان ، وإن كان الغرض منها بيان الواقع الخارجي ، وحال أطراف القضية بعضها مع بعض في الخارج ، الذي هو المصحح لاعتبار النسبة الكلامية المجعولة بالأدوات عند أهل البيان بمقتضى ارتكازياتهم ، ومعيارا في الصدق والكذب بنظرهم.

وعلى هذا أصرّ بعض الأعاظم (قدس سره).

ولعله الأقرب ، كما يناسبه ما هو المعلوم من إمكان بيان الواقع الواحد بصور مختلفة ، وبأكثر من نسبة واحدة مختلفة المفاد ، من دون اختلاف فيما يبين بها من واقع ، فكما يصح أن يقال : (سرت من البصرة) ـ مثلا ـ يصحّ أن يقال : (كان سيري من البصرة) و (مبدأ سيري البصرة) و (بدأت بالسير من البصرة) ، وكما تقول : (سافر زيد) ، تقول : (تحقق السفر من زيد) و (تحقق سفر زيد).

فلولا أنّ النسب اعتبارات محضة لا تتقيد بواقع واحد لكان المناسب عدم الحكاية عن الواقع الواحد إلا بنسبة واحدة ، وإن اختلفت ألفاظها من باب الترادف ، لا بنسب مختلفة ، كما تقدم.

كما يناسب ما ذكرنا ـ أيضا ـ ما هو المحسوس بالوجدان من عدم أداء الحروف والهيات لمعانيها إلا في مقام استعمالها في تركيب كلامي ، بخلاف

١١٨

الأسماء ، فإنها لما كانت قالبا لمعانيها بما لها من واقع قائم بنفسه ، متقرر في عالمه ، أمكن تصور مسمياتها ، وحكايتها عنها وإن لم تكن في ضمن تركيب كلامي.

فهي بملاحظة المرتكزات أدوات للبيان ، يتحقق بها الربط البياني بين أطراف الكلام المتشتتة ، يجري الإنسان فيها بمقتضى المرتكزات البيانية التي أودعها الله جلت قدرته فيه ، فكما أدرك بهذه المرتكزات الحاجة في البيان للأسماء للحكاية بها عن مسمياتها المتقررة في عالمها ، كذلك أدرك بها الحاجة للحروف لجعل النسب ، لترتبط تلك المعاني بعد تفرقها وتنتظم بعد تشتتها ، كي يتم بيان حال بعضها مع بعض ، وإن لم تتمحض في بيان ذلك.

ولعل هذا هو منشأ الالية التي تمتاز بها الحروف ، وتسالموا عليها تبعا للفارق الارتكازي بينها وبين الأسماء ، لأنها آلات لإيجاد معان لا استقلال لها بنفسها ، بل هي قائمة بغيرها ، فلا مجال لتصورها وإيجادها إلّا في ظرف تصوره والحكاية عنه ، حسبما يقتضيه تركيب الكلام ، وإلا خفي وجه كون المعنى الذي له تقرر مفهومي وخارجي في نفسه آليا ، لا يتصور ولا يؤدّى إلّا في ضمن الكلام ، مع ما هو المعلوم من سعة الذهن ، وانطلاقه في مقام التصور والتعقل.

وقد قيل في الالية غير ذلك ، ممّا يضيق الوقت عن التعرض له ، وتعقيبه.

وعلى هذا يتعين البناء على أن المعاني الحرفية التي كانت الحروف أدوات لإيجادها جزئية ، لأن الأمر القابل للإيجاد هو الجزئي لا الكلي ، وإن كان الكلي معيارا في تحديد تلك الجزئيات التي اعدت الحروف لإيجادها ، نظير الوضع العام والموضوع له الخاص ، وإن خالفه في كون الوضع هنا لإيجاد

١١٩

الخاص ، لا للحكاية عنه.

ولا يفرق في جزئيته بين كون القضايا التي وردت فيها واقعة وكونها غير واقعة ، ف (من) ـ مثلا ـ في كل من قولنا : (سرت من البصرة) و (أسير من البصرة) و (سر من البصرة) لا تقتضي إلّا جعل نسبة خاصة بين السير والبصرة ، بداعي بيان حال السير والبصرة في الخارج ، إلّا أنها في الأول حيث كانت حاكية عن حال واقع فلا بد من كونه جزئيا ، متشخصا ، أما في الثاني فهي حاكية عن حال يقع ولم يتشخّص بعد ، بل هو كلي قابل للانطباق على كثيرين ، كما أنها في الثالث حاكية عن حال يطلب وقوعه فلم يتشخص أيضا. من دون أن يستلزم ذلك اختلافا في معناها ، بل هو جزئي لا غير.

وبهذا يمكن الجمع بين ما هو المرتكز من جزئية المعاني الحرفية ، وورودها في ضمن قضايا غير واقعة ، الذي سبق تعذره ، بناء على أن معانيها إخطارية.

ومنه يظهر أن ذلك المعنى الجزئي الحاصل بها ليس مصداقا للمفاهيم الكلية المذكورة في بيان معاني هذه الحروف ، كالابتداء والانتهاء والظرفية ونحوها ، لأن جزئيات تلك المفاهيم لها نحو من التقرر ، من دون أن تكون تابعة للكلام ولا مسببة عنه ، وإنما هو المنشأ الخارجي المصحح لاعتبارها وجعلها في مقام البيان ، والمقصود بالحكاية منها.

وأما ما اشتهر من تفسير معاني الحروف بالامور المذكورة ، فليس لكون هذه الامور بمفاهيمها أو بمصاديقها مدلولة لها ومحكية بها حكاية المعنى بلفظه ، بل لضيق التعبير ، حيث يصعب بيان حقيقة الاعتباريات ، مع عدم الغرض في معرفتها ، بل المهم معرفة الخارج المستفاد منها الملازم لها ، فعدل إلى

١٢٠