تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

والمعنى : يوم يذكّر الإنسان فيتذكر ، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره ، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤].

وتبريز الجحيم : إظهارها لأهلها. وجيء بالفعل المضاعف لإفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإرهاب.

والجحيم : جهنم. ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال ، أو هو بتأويل النار ، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة.

وبنى فعل (بُرِّزَتِ) للمجهول لعدم الغرض ببيان مبرّزها إذ الموعظة في الإعلام بوقوع إبرازها يومئذ.

و (لِمَنْ يَرى) ، أي لكل راء ، ففعل (يَرى) منزّل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر ، كقول البحتري :

أن يرى مبصر ويسمع واع

والفاء في قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) رابطة لجواب (إذا) لأن جملة (مَنْ طَغى) إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به (إذا) فلم يكن بين (إذا) وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ ، وأما في المعنى فيعلم أن (إذا) ظرف يتعلق بمعنى الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر.

و (أمّا) حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى : مهما يكن شيء.

والطغيان تقدم معناه آنفا. والمراد هنا : طغى على أمر الله ، كما دل عليه قوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ).

وقدّم ذكر الطغيان على إيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسببا عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي.

والإيثار : تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما.

ويعدّى فعل الإيثار إلى اسم المأثور بتعدية الفعل إلى مفعوله ، ويعدّى إلى المأثور عليه بحرف (على) قال تعالى حكاية (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) [يوسف : ٩١] ، وقد يترك ذكر

٨١

المأثور عليه إذا كان ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة.

وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الحشر : ٩] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء.

والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها ، أي التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة ، فالكلام على حذف مضاف ، تقديره : نعيم الحياة.

ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة. ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس ، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة.

وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله ، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا عن أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم.

وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) الآية. وبه يظهر أن مناط الذم في إيثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة ، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الأخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم ، وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٧].

وقوله : (مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) مقابل قوله : (مَنْ طَغى) لأن الخوف ضد الطغيان وقوله : (نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) مقابل قوله : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا)

ونهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى ، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة ، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد ، يقولون : قالت له نفسه كذا فعصاها ، ويقال : نهى قلبه ، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة :

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

والمراد ب (الْهَوى) ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق ، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع

٨٢

الكامل. وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] أن (بِغَيْرِ هُدىً) حال فمؤكدة ليست تقييدا إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى.

وتعريف (الْهَوى) تعريف الجنس.

والتعريف في (الْمَأْوى) الأول والثاني تعريف العهد ، أي مأوى من طغى ، ومأوى من خاف مقام ربه ، وهو تعريف مغن عن ذكر ما يضاف إليه (مأوى) ومثله شائع في الكلام كما في قوله : غضّ الطرف (١) ، أي الطرف المعهود من الأمر ، أي غض طرفك. وقوله : واملأ السمع ، أي سمعك (٢) وقوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] ، أي على أعراف الحجاب ، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة البصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة ، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضا عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها ، ويأبى ذلك البصريون ، وهو خلاف ضئيل ، إذ المعنى متفق عليه.

والمأوى : اسم مكان من أوى ، إذا رجع ، فالمراد به : المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شئونه ثم يرجع إلى مسكنة.

و (مَقامَ رَبِّهِ) مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه ، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه ، مثل ألفاظ : جناب ، وكنف ، وذرى ، قال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] وقال : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي) [إبراهيم : ١٤] وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يشمل التعلق بالمفعول.

وفي قوله : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) إلى قوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) محسن الجمع مع التقسيم.

__________________

(١) في قول الفرزدق :

فغض الطرف إنك من نمير

فلا كعبا بلغت ولا كلابا

(٢) في قول البوصيري :

واملأ السمع من محاسن يم

ليها عليها الإنشاد والإملاء

٨٣

وتعريف (النَّفْسَ) في قوله : (وَنَهَى النَّفْسَ) هو مثل التعريف في (الْمَأْوى) وفي تعريف «أصحاب الجحيم» و «أصحاب الجنة» بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين علتان في استحقاق ذلك المأوى.

[٤٢ ـ ٤٥] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥))

استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨].

وكان سؤالهم استهزاء واستخفافا لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان صادقا لحمي غضب الله مرسله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شئون الخالق كشئون الناس إذا غضب أحدهم عجّل بالانتقام طيشا وحنقا قال تعالى : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) [الكهف : ٥٨].

فلا جرم لما قضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال ، وعرض بعقاب الذين استحقوا بها في قوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) [النازعات : ٣٤] ، كان ذلك مثارا لسؤالهم أن يقولوا : هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم؟ فكان الحال مقتضيا هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجوابا عن سابق الكلام.

فضمير «يسألون» عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [النازعات : ١٠].

وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره.

والساعة : هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين (الطَّامَّةُ) [النازعات : ٣٤] و (السَّاعَةِ) و (أَيَّانَ مُرْساها) جملة مبينة للسؤال.

و (أَيَّانَ) اسم يستفهم به عن تعيين الوقت.

٨٤

والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كناية وهو أيضا كناية عن الاستحالة و (مُرْساها مصدر ميمي لفعل أرسى ، والإرساء : جعل السفينة عند الشاطئ لقصد النزول منها. واستعير الإرساء للوقوع والحصول تشبيها للأمر المغيّب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يعرف وصولها إلا إذا رست ، وعليه ف (أَيَّانَ) ترشيح للاستعارة ، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف.

وقوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء ، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك ، وهو مضمون قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم ، ونظيره ما روي في الصحيح أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الساعة فقال له : «ما ذا أعددت لها؟» ، أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعدادا ليوم الساعة.

والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبار جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال.

و (ما) في قوله : (فِيمَ) اسم استفهام بمعنى : أي شيء؟ مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم. و (في) للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة كأنهم جعلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محوطا بذكر وقت الساعة ، أي متلبسا به تلبس العالم بالمعلوم فدل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف.

وحذف ألف (ما) لوقوعها بعد حرف الجر مثل (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١]. و (فِيمَ) خبر مقدم و (أَنْتَ) مبتدأ ، و (مِنْ ذِكْراها) إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ.

و (مِنْ) : إما مبينة للإبهام الذي في (ما) الاستفهامية ، أي في شيء هو ذكراها ، أي في شيء هو أن تذكرها ، أي لست متصديا لشيء هو ذكرى الساعة ، وإما صفة للمبتدإ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي ، أي لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله ، أي ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة ، وعلى الثاني : ما أنت في صلة مع ذكر الساعة ، أي لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها.

٨٥

وتقديم (فِيمَ) على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإنكار بخلاف ما لو قيل : أأنت في شيء من ذكراها؟

والذكرى : اسم مصدر الذّكر ، والمراد به هنا الذكر اللساني.

وجملة (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) في موقع العلة للإنكار الذي اقتضاه قوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) ولذلك فصلت ، وفي الكلام تقدير مضاف ، والمعنى : إلى ربك علم منتهاها.

وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله : (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) لإفادة القصر ، أي لا إليك ، وهذا قصر صفة على موصوف.

والمنتهى : أصله مكان انتهاء السير ، ثم أطلق على المصير لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ثم توسّع فيه فأطلق على العلم ، أي لا يعلمها إلا الله ، فقوله : (مُنْتَهاها) هو في المعنى على حذف مضاف ، أي علم وقت حصولها كما دل عليه قوله : (أَيَّانَ مُرْساها).

ويجوز أن يكون (مُنْتَهاها) بمعنى بلوغ خبرها كما يقال : أنهيت إلى فلان حادثة كذا ، وانتهى إليّ نبأ كذا.

وقوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) استئناف بياني ناشئ عن جملة (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها وأنها قريبة ، فأجيب بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حظه التحذير من بغتتها ، وليس حظه الإعلام بتعيين وقتها ، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها لأنهم لجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك كما في قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) [الأنعام : ٥٠].

وأفادت (إِنَّما) قصر المخاطب على صفة الإنذار ، أي تخصيصه بحال الإنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي ، أي بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعا على الغيب.

وقوله : (مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) قرأه الجمهور بإضافة (مُنْذِرُ) إلى (مَنْ يَخْشاها) وقرأه أبو جعفر بتنوين منذر على أن (مَنْ يَخْشاها) مفعوله.

٨٦

وفي إضافة (مُنْذِرُ) إلى (مَنْ يَخْشاها) أو نصبه به إيجاز حذف تقديره : منذرها فينتذر من يخشاها ، وقرينة ذلك حاليّة للعلم المتواتر من القرآن بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينذر جميع الناس لا يخص قوما دون آخرين فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن إلا عامة. ولا يعرف من يخشى الساعة إلا بعد أن يؤمن المؤمن ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبدا لما وجهت إليه الدعوة ، فتعين أن المراد : أنه لا ينتفع بالإنذار إلا من يخشى الساعة ومن عداه تمرّ الدعوة بسمعه فلا يأبه بها ، فكان ذكر (مَنْ يَخْشاها) تنويها بشأن المؤمنين وإعلانا لمزيتهم وتحقيرا للذين بقوا على الكفر قال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٢ ، ٢٣].

وعلى هذا القانون يفهم لما ذا وجه الخطاب بالإيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون ، وكشف الواقع على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليب بدر مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة ، ولما ذا وجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل دعّار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش ، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصرّوا على منع الزكاة وقاتلهم أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة الموافاة.

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

جواب عما تضمنه قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [النازعات : ٤٢] باعتبار ظاهر حال السؤال من طلب المعرفة بوقت حلول الساعة واستبطاء وقوعها الذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها ، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم ، أي إن طال تأخر حصولها فإنها واقعة وأنهم يوم وقوعها كأنه ما لبثوا في انتظار إلا بعض يوم.

والعشية : معبر بها عن مدة يسيرة من زمان طويل على طريقة التشبيه ، وهو مستفاد من (كَأَنَّهُمْ) ، فهو تشبيه حالهم بحالة من لم يلبث إلا عشية ، وهذا التشبيه مقصود منه تقريب معنى المشبّه من المتعارف.

وقوله : (أَوْ ضُحاها) تخيير في التشبيه على نحو قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة [١٩]. وفي هذا العطف زيادة في تقليل المدة لأن حصة الضحى

٨٧

أقصر من حصة العشية.

وإضافة (ضحى) إلى ضمير (العشية) جرى على استعمال عربي شائع في كلامهم. قال الفراء : أضيف الضحى إلى العشية ، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون : آتيك الغداة أو عشيتها ، وآتيك العشية أو غداتها ، وأنشدني بعض بني عقيل :

نحن صبّحنا عامرا في دارها

جردا تعادى طرفي نهارها

عشيّة الهلال أو سرارها

أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية : فهو أشد من : آتيك الغداة أو عشيتها اه.

ومسوغ الإضافة أن الضحى أسبق من العشية إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحى ، فصار ضحى ذلك اليوم يعرّف بالإضافة إلى عشية اليوم لأن العشية أقرب إلى علم الناس لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى ، فالعشية أقرب والضحى أسبق.

وفي هذه الإضافة أيضا رعاية على الفواصل التي هي على حرف الهاء المفتوحة من (أَيَّانَ مُرْساها)

وبانتهاء هاته السورة انتهت سور طوال المفصل التي مبدؤها سورة الحجرات.

٨٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٠ ـ سورة عبس

سميت هذه الصورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة «سورة عبس».

وفي أ«حكام ابن العربي» عنونها «سورة ابن أم مكتوم». ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي : تسمى «سورة الصاخّة». وقال العيني في «شرح صحيح البخاري» تسمى

«سورة السفرة» ، وتسمى سورة «الأعمى» ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.

ولم يذكرها صاحب «الإتقان» في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.

وهي مكية بالاتفاق.

وقال في «العارضة» : لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقّق وقت إسلام ابن أم مكتوم ا ه. وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي.

وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة (والنجم) وقبل سورة (القدر).

وعدد آيها عند العادّين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنتان وأربعون ، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.

وهي أولى السور من أواسط المفصل.

وسبب نزولها يأتي ذكره عند قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١].

٨٩

أغراضها

تعليم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كيلا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه : إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.

والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.

وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسموّ درجتهم عند الله تعالى.

والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.

وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.

والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعو إلى المحال ، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان ، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.

وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.

والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.

والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلوّ قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية ، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس ، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم ، وأنهم أصحاب الكفر والفجور.

[١ ـ ٤] (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤))

٩٠

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما ، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم ، فأما الضمائر فيبين إبهامها قوله : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس : ٦] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومن استغنى.

وهذا الحادث سبب نزول هذه الآيات من أولها إلى قوله : (بَرَرَةٍ) [عبس : ١٦]. وهو ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يقول : يا محمد استدنِنِي ، وعند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنه (أي عن ابن أم مكتوم) ويقبل على الآخر ، ويقول : يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأسا فيقول : «لا والدّماء ما أرى بما تقول يأسا» ، فأنزلت : (عَبَسَ وَتَوَلَّى)

ورواه الترمذي مسندا عن عروة عن عائشة بقريب من هذا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وروى الطبري عن ابن عباس : «أن ابن أم مكتوم جاء يستقرئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن ومثله عن قتادة.

وقال الواحدي وغيره : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينئذ يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبيّ بن خلف ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يعرض عليهم الإسلام.

ولا خلاف في أن المراد ب (الْأَعْمى) هو ابن أم مكتوم. قيل : اسمه عبد الله وقيل: اسمه عمرو ، وهو الذي اعتمده في «الإصابة» ، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش.

وأمه عاتكة ، وكنيت أمّ مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى عنه بمكتوم. ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتا من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي. وهذا كما نسب عمرو بن المنذر ملك الحيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار زيادة في تشريفه بوراثة الملك من قبل أبيه وأمه.

ووقع في «الكشاف» : أن أم مكتوم هي أم أبيه. وقال الطيبي : إنه وهم ، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها ، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد

٩١

سنة أربع عشرة أو خمس عشرة.

وفيه نزلت هذه السورة وآية (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) من سورة النساء [٩٥].

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّه ويكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة ، وكان مؤذّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وبلال بن رباح.

والعبوس بضم العين : تقطيب الوجه وإظهار الغضب. ويقال : رجل عبوس بفتح العين ، أي متقطب ، قال تعالى : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان : ١٠]. وعبس من باب ضرب.

والتولي : أصله تحوّل الذات عن مكانها ، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقى إليه أو جليس يحلّ عنده ، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإقبال على الزائر.

وحذف متعلق (تَوَلَّى) لظهور أنه تولّ عن الذي مجيئه كان سبب التولي.

وعبر عن ابن أم مكتوم ب (الْأَعْمى) ترقيقا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضرارة فهو أجدر بالعناية به ، لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره.

و (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) مجرور بلام الجر محذوف مع (أَنْ) وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي (عَبَسَ وَتَوَلَّى) على طريقة التنازع.

والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود.

وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن ، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يشإ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام ، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعنيّ من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب ، وهذا تلطف من الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجا وذلك أهون وقعا ، ونظير هذا قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣].

قال عياض : قال عون بن عبد الله والسمرقندي : أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه ا ه. فكذلك توجيه العتاب إليه مسندا إلى ضمير الغائب ثم جيء

٩٢

بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة.

ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات.

ويظهر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجا من ذلك المجلس أن يسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعا لسلك الحديث وجعل يقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله استدنِنِي ، علمني ، أرشدني ، ويناديه ويكثر النداء والإلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون ، وفي رواية الطبري أنه استقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن.

وجملة (وَما يُدْرِيكَ) إلخ في موضع الحال.

(وما يدريك) مركبة من (ما) الاستفهامية وفعل الدّراية المقترن بهمزة التعدية ، أي ما يجعلك داريا أي عالما. ومثله : (ما أَدْراكَ) كقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة: ٣]. ومنه (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الأنعام [١٠٩].

والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو (ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ٣] ونحو قوله هنا : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) والمعنى أيّ شيء يجعلك داريا. وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل.

قال الراغب : ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده ا ه. قلت : فقد يبينه تفصيل مثل قوله هنا : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) وقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٢ ـ ٣] وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) [القارعة : ١٠] أي ما يعلمك حقيقتها وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣] أي أيّ شيء أعلمك جواب : (مَا الْحَاقَّةُ)

وفعل : (يُدْرِيكَ) معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف (لعلّ) بعده فإن (لعل) من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في «التذكرة» إلحاقا للترجي بالاستفهام في أنه طلب. فلما علق فعل (يُدْرِيكَ) عن العمل صار غير متعدّ إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعديا إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيه فصار ما بعده جملة مستأنفة.

والتذكر : حصول أثر التذكير ، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو

٩٣

مشتق من الذّكر بضم الذال.

والمعنى : انظر فقد يكون تزكّيه مرجوا ، أي إذا أقبلت عليه بالإرشاد زاد الإيمان رسوخا في نفسه وفعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكية ، فالمراد ب «يتزكى» تزكية زائدة على تزكية الإيمان بالتملّي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه ، كما

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة» إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالا في درجات الإيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة.

و (يَزَّكَّى) أصله : يتزكى ، قلبت التاء زايا لتقارب مخرجيهما قصدا ليتأتى الإدغام وكذلك فعل في (يَذَّكَّرُ) من الإدغام.

والتزكّي : مطاوع زكّاه ، أي يحصل أثر التزكية في نفسه. وتقدم في سورة النازعات.

وجملة (أَوْ يَذَّكَّرُ) عطف على (يَزَّكَّى) ، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم ، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لما كان في غفلة عنه.

والذكرى : اسم مصدر التذكير.

وفي قوله تعالى : (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) اكتفاء عن أن يقول : فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.

والذكرى : هو القرآن لأنّه يذكّر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [القلم : ٥٢] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.

وقرأ الجمهور : (فَتَنْفَعَهُ) بالرفع عطفا على «يذّكّر». وقرأه عاصم بالنصب في جواب : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [٥ ، ٦]

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦))

تقدم الكلام على (أَمَّا) في سورة النازعات أنها بمعنى : مهما يكن شيء ، فقوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدّى ، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له ، والمقصود : أنت تحرص على التصدي له ، فجعل مضمون الجواب وهو التصدّي له معلقا على وجود من استغنى وملازما له ملازمة التعليق الشرطي

٩٤

على طريقة المبالغة.

والاستغناء : عدّ الشخص نفسه غنيا في أمر يدل عليه السياق قول ، أو فعل أو علم ، فالسين والتاء للحسبان ، أي حسب نفسه غنيا ، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة.

فالمراد ب (مَنِ اسْتَغْنى) هنا : من عدّ نفسه غنيا عن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «هل ترى بما أقول بأسا ، بقوله : لا والدماء ...» كناية عن أنه لا بأس به يريد ولكني غير محتاج إليه.

وليس المراد ب (مَنِ اسْتَغْنى) من استغنى بالمال إذ ليس المقام في إيثار صاحب مال على فقير.

وهذا الذي تصدّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم.

والإتيان بضمير المخاطب مظهرا قبل المسند الفعلي دون استتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل : تتصدى له تصديا ، فمناط العتاب هو التصدي القوي.

ويجوز أن يكون مفيدا للاختصاص ، أي فأنت لا غيرك تتصدّى له ، أي ذلك التصدّي لا يليق بك. وهذا قريب من قولهم : مثلك لا يبخل ، أي لو تصدّى له غيرك لكان هونا ، فأما أنت فلا يتصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جليل قدره.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد. والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين.

والتصدّي : التعرض ، أطلق هنا على الإقبال الشديد مجازا.

(وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧))

جملة معترضة بين جملة (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) [عبس : ٥] وجملة : (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) [عبس : ٨] ، والواو اعتراضية.

و (ما) نافية و (عَلَيْكَ) خبر مقدم. والمبتدأ (أَلَّا يَزَّكَّى) ، والمعنى : عدم تزكّيه

٩٥

ليس محمولا عليك ، أي لست مؤاخذا بعدم اهتدائه حتى تزيد من الحرص على ترغيبه في الإيمان ما لم يكلفك الله به. وهذا رفق من الله برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٨ ـ ١٠] (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠))

عطف على جملة (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) [عبس : ٥] اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماما للتقسيم. والمراد : بمن جاء يسعى : هو ابن أم مكتوم ، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) [عبس : ١ ـ ٢].

والسعي : شدة المشي ، كنّي به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء الممتعض من التصدّي له.

وجملة (وَهُوَ يَخْشى) في موضع الحال ، وحذف مفعول (يَخْشى) لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى.

والمعنى : أنه جاء طلبا للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد. واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد.

والقول في (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) كالقول في : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس : ٦].

والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علما عظيما من الحكمة النبوية ، ورفع درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاة الأمم ، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحي صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها ، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم ، وأنّ ليس الإصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبه قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القويّ على الضعيف مما فيه صفة الصلاح ، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجا واحدا بل الأمر يختلف باختلاف الناس. وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة : إن المجتهد إذا لاح له دليل : «يبحث عن المعارض» والقاعدة القائلة : «إن لله تعالى حكما قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد».

فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوره هو اللائق

٩٦

بمرتبة أفضل الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لم يرد له فيه وحي ، فبحثه عن الحكم أوسع مدى من مدى أبحاث عموم المجتهدين ، وتنقيبه على المعارض أعمق غورا من تناوشهم ، لئلا يفوت سيد المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفا ، ما لم يكن إعماله يبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يوح إليه فيه.

فالتزكية الحق هي المحور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني ، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته ، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكّ بالإيمان.

وفي حاليهما حالان آخران سرّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما ، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإيمان حين لاح من لين نفسه لسماع القرآن ما أطمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه قد اقترب من الإيمان فمحّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإيمان أعظم غرض بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجله ، فالاشتغال به يبدو أهمّ وأرجح من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص ، وذلك ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

غير أن وراء ذلك الظاهر حالا آخر كامنا علمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوح لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير ، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا. وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللبن مصانعة أو حياء من المكابرة ، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته. وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها ، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص ، بيد أن الكافر صاحب هذه القضية تنبئ دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله ، وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها.

٩٧

وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية ، وليس الاهتداء مقتصرا على حصول الإيمان مراتب وميادين لسبق همم النفوس لا يغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإثمار ، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإيمان.

وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى. فعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع ، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠].

فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة.

والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحه لا يرجى منه صلاح ، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحا تفيد المبادرة به ، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشد استعدادا منه في حين آخر.

فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا ، وأن القرائن قد تستر الحقائق.

وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه ، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة. وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقوعه ، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر ، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى ، وأن اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة ، ولكنه قد يخالف ما في علم الله ، وأن الله لا يقر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر.

ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل.

وفي قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣] إيماء إلى عذر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في

٩٨

تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه ، والمعنى : لعله يزكّي تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشدا حريصا ، وهذه حالة خفية.

وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [عبس: ٧] إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإقبال على استجابة المؤمن المسترشد.

فإن قال قائل : فلما ذا لم يعلم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.

قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيّن غفلة ، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مزية كلا المقامين : مقام الاجتهاد ، ومقام الإفادة.

وحكمة ذلك كله أن يعلم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المهيع من عليّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.

ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه‌السلام من المثل في ملاقاة الخضر ، وما جرى من المحاورة بينهما ، وقول الخضر لموسى : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [الكهف : ٦٨] ثم قوله له : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢]. وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] وقوله لإبراهيم : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلا وتفصيلا ، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ، ومن العبوس له ، والتولّي عنه ، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه.

والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم : «مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله» إنما هو عتاب على العبوس والتولّي ، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة ، وتأخير إرشاد ، لأن ما سلكه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا إذ ما سلك إلا سبيل

٩٩

الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر ، هما : إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم ، وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.

وليس في حال المؤمن ما يفيت إيمانا وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يناكد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.

ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر ، فلم يسلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وهو القائل : «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار» ، وهو القائل : «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر» وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد. فلا قبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها ، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيئان له في كل وقت.

وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن. وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهر الله فيها غيب علمه إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان وتسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الإيمان ، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما علمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين. فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم ، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصة من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعا بين المعاتبة والتعليم ، على سنن هدي القرآن في المناسبات.

[١١ ـ ١٦] (كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

١٠٠