تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

والمراد : قلوب المشركين الذين كانوا يجحدون البعث فإنهم إذا قاموا فعلموا أن ما وعدهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به حق توقّعوا ما كان يحذرهم منه من عقاب إنكار البعث والشرك وغير ذلك من أحوالهم.

فأما قلوب المؤمنين فإن فيها اطمئنانا متفاوتا بحسب تفاوتهم في التقوى.

والخوف يومئذ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أن أشدّه خوف الذين يوقنون بسوء المصير ، ويعلمون أنهم كانوا ضالين في الحياة الدنيا.

والواجفة : المضطربة من الخوف ، يقال : وجف كضرب وجفّا ووجيفا ، ووجوفا ، إذا اضطرب.

و (واجِفَةٌ) خبر (قُلُوبٌ).

وجملة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) خبر ثان عن (قُلُوبٌ) وقد زاد المراد من الوجيف بيانا قوله (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) ، أي أبصار أصحاب القلوب.

والخشوع حقيقته : الخضوع والتذلل ، وهو هيئة للإنسان ، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي من شدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المعاملة قال تعالى : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) في سورة اقتربت الساعة [٧]. ومثله قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) [القيامة : ٢٤].

وإضافة (أبصار) إلى ضمير القلوب لأدنى ملابسة لأن الأبصار لأصحاب القلوب وكلاهما من جوارح الأجساد مثل قوله : (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦].

[١٠ ، ١١] (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١))

استئناف إمّا ابتدائيّ بعد جملة القسم وجوابه ، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة.

وإما استئناف بياني لأن القسم وما بعده من الوعيد يثير سؤالا في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) ، أي منكرون البعث ، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأن المتحدّث عن غير حاضر.

وضمير (يَقُولُونَ) عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث.

٦١

والمساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم.

ويجوز أن يكون الكلام مسوقا إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف.

وحكي مقالهم بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه.

وللإشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى.

وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير (يَقُولُونَ) بعائد إلى (قُلُوبٌ) من قوله تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) [النازعات : ٨].

وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهارا لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه. والمقصود : التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة.

وجعل الاستفهام التعجيبي داخلا على جملة اسمية مؤكدة ب (إنّ) وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإفادة أنهم أتوا بما يفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به ، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلا عن تحقيقه والإيقان به.

والمردود : الشيء المرجّع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية وردّ ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقابل ، أي لمرجعون إلى الحياة ، أي إنا لمبعوثون من قبورنا.

والمراد ب (الْحافِرَةِ) : الحالة القديمة ، يعني الحياة.

وإطلاقات (الْحافِرَةِ) كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز ، والأظهر ما في «الكشاف» : يقال رجع فلان إلى حافرته ، أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها ، أي أثّر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا أي لأن قدميه جعلتا فيها أثرا مثل الحفر ، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر ، وجوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم : عيشة راضية ، أي راض عائشها ، ويقولون : رجع إلى الحافرة ، تمثيلا لمن كان في حالة ففارقها ، ثم رجع إليها فصار : رجع في الحافرة ، وردّ

٦٢

إلى الحافرة ، جاريا مجرى المثل.

ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطّان حسبما ظن ابن السيّد البطليوسي في شرح «أدب الكتاب» :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

ومن الأمثال قولهم : «النقد عند الحافرة» ، أي إعطاء سبق الرهان للسابق عند وصوله إلى الأمد المعين للرّهان. يريد : أرجوعا إلى الحافرة.

وظرف (إذا) في قوله : (إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) هو مناط التعجب وادعاء الاستحالة ، أي إذا صرنا عظاما بالية فكيف نرجع أحياء.

و (إِذا) متعلق ب (مردودون).

و (نَخِرَةً) صفة مشتقة من قولهم : نخر العظم ، إذا بلي فصار فارغ الوسط كالقصبة.

وتأنيث (نَخِرَةً) لأن موصوفه جمع تكسير ، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال.

هي همزة (إذا). وقرأ بقية العشرة (أَإِذا) بهمزتين إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة (إذا).

وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة جديرة بزيادة إنكار الإرجاع إلى الحياة بعد الموت ، فهما إنكاران لإظهار شدة إحالته.

وقرأ الجمهور (نَخِرَةً) بدون ألف بعد النون. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب وخلف ناخرة بالألف.

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢))

(قالُوا) بدل اشتمال من جملة (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [النازعات : ١٠].

وأعيد فعل القول لمقاصد منها الدلالة على أن قولهم هذا في غرض آخر غير القول الأول فالقول الأول قصدهم منه الإنكار والإبطال ، والقول الثاني قصدوا منه الاستهزاء والتورك لأنهم لا يؤمنون بتلك الكرة فوصفهم إيّاها ب (خاسِرَةٌ) من باب الفرض والتقدير ، أي لو حصلت كرّة لكانت خاسرة ومنها دفع توهم أن تكون جملة (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ

٦٣

خاسِرَةٌ) استئنافا من جانب الله تعالى.

وعبر عن قولهم هذا بصيغة الماضي دون المضارع على عكس (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [النازعات : ١٠] لأن هذه المقالة قالوها استهزاء فليست مما يتكرر منهم بخلاف قولهم : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) فإنه حجة ناهضة في زعمهم ، فهذا مما يتكرر منهم في كل مقام. وبذلك لم يكن المقصود التعجيب من قولهم هذا لأن التعجيب يقتضي الإنكار وكون كرّتهم ، أي عودتهم إلى الحياة عودة خاسرة أمر محقق لا ينكر لأنهم يعودون إلى الحياة خاسرين لا محالة.

و (تِلْكَ) إشارة إلى الرّدة المستفادة من (مردودون) والإشارة إليه باسم الإشارة للمؤنث للإخبار عنه ب (كَرَّةٌ)

و (إذن) جواب للكلام المتقدم ، والتقدير : إذن تلك كرة خاسرة ، فقدم (تِلْكَ) على حرف الجواب للعناية بالإشارة.

والكرة : الواحدة من الكرّ ، وهو الرجوع بعد الذهاب ، أي رجعة.

والخسران : أصله نقص مال التجارة التي هي لطلب الربح ، أي زيادة المال فاستعير هنا لمصادفة المكروه غير المتوقع.

ووصف الكرّة بالخاسرة مجاز عقلي للمبالغة لأن الخاسر أصحابها. والمعنى : إنا إذن خاسرون لتكذيبنا وتبيّن صدق الذي أنذرنا بتلك الرجعة.

[١٣ ، ١٤] (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

الفاء فصيحة للتفريع على ما يفيده قولهم (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ* أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [النازعات : ٩ ، ١٠] من إحالتهم الحياة بعد البلى والفناء.

فتقدير الكلام : لا عجب في ذلك فما هي إلا زجرة واحدة فإذا أنتم حاضرون في الحشر.

وضمير (هي) ضمير القصة وهو ضمير الشأن. واختير الضمير المؤنث ليحسن عوده إلى زجرة. وهذا من أحسن استعمالات ضمير الشأن. والقصر حقيقي مراد منه تأكيد الخبر بتنزيل السامع منزلة من يعتقد أن زجرة واحدة غير كافية في إحيائهم.

٦٤

وفاء (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) للتفريع على جملة (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) و (إذا) للمفاجأة ، أي الحصول دون تأخير فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة.

والزّجرة : المرّة من الزجر ، وهو الكلام الذي فيه أمر أو نهي في حالة غضب ، يقال : زجر البعير ، إذا صاح له لينهض أو يسير ، وعبر بها هنا عن أمر الله بتكوين أجساد الناس الأموات تصويرا لما فيه من معنى التسخير لتعجيل التكوّن. وفيه مناسبة لإحياء ما كان هامدا كما يبعث البعير البارك بزجرة ينهض بها سريعا خوفا من زاجره. وقد عبر عن ذلك بالصيحة في قوله تعالى : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) [ق : ٤٢] وهو الذي عبّر عنه بالنفخ في الصّور.

ووصفت الزجرة بواحدة تأكيدا لما في صيغة المرة من معنى الوحدة لئلا يتوهم أن إفراده للنوعية ، وهذه الزجرة هي النفخة الثانية التي في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] فهي ثانية للتي قبلها ، وهي (الرَّادِفَةُ) التي تقدم ذكرها آنفا وإنما أريد بكونها واحدة أنها لا تتبع بثانية لها ، وقد وصفت بواحدة في صورة الحاقة بهذا الاعتبار.

و (الساهرة) : الأرض المستوية البيضاء التي لا نبات فيها يختار مثلها لاجتماع الجموع ووضع المغانم. وأريد بها أرض يجعلها الله لجمع الناس للحشر.

والإتيان ب (إذا) الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث.

وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته (إذا) لأن الجمع بين المفاجأة والتفريع أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ.

والمعنى : أن الله يأمر بأمر التكوين بخلق أجساد تحلّ فيها الأرواح التي كانت في الدنيا فتحضر في موقف الحشر للحساب بسرعة.

[١٥ ـ ١٩] (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩))

هذه الآية اعتراض بين جملة (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) [النازعات : ١٣] وبين جملة (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [النازعات : ٢٧] الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإنذار بما بعده

٦٥

دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البعث لتماثل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال فرعون وقومه وتماثل حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه بحال موسى عليه‌السلام مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وموعظة للمشركين وأئمتهم مثل أبي جهل وأمية بن خلف وأضرابهما لقوله في آخرها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢٦].

و (هَلْ أَتاكَ) استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطب عن سابق علمه بذلك الخبر ، فسواء في ذلك علمه من قبل أو لم يعلمه ، ولذلك لا ينتظر المتكلم بهذا الاستفهام جوابا عنه من المسئول بل يعقّب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه.

ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غير (هَلْ) لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهم عنه ، فهي في الاستفهام مثل (قد) في الإخبار ، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام ، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر ، ومن قبيله قولهم في الاستفهام : أليس قد علمت كذا فيأتون ب (قد) مع فعل النفي المقترن باستفهام إنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققا عند المتكلم.

والخطاب لغير معيّن فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (أَتاكَ) معناه : بلغك ، استعير الإتيان لحصول العلم تشبيها للمعقول بالمحسوس كأنّ الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية ، أو كأنّ الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإتيان على طريقة الاستعارة المكنية ، قال النابغة :

أتاني أبيت اللعن أنّك لمتني

والحديث : الخبر ، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان ، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث ، أي خبر الحادث.

و (إِذْ) اسم زمان ، واستعمل هنا في الماضي وهو بدل من (حَدِيثُ مُوسى) بدل اشتمال لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك.

وكما جاز أن تكون (إذ) بدلا من المفعول به في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ

٦٦

عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) [آل عمران : ١٠٣] يجوز أن يكون بدلا من الفاعل وغيره. واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولا به أو بدلا من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية ، فقد جوز في «الكشاف» وقوع (إذ) مبتدأ في قراءة من قرأ : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) في سورة آل عمران [١٦٤].

وأضيف (إِذْ) إلى جملة (ناداهُ رَبُّهُ) والمعنى : هل أتاك خبر زمان نادى فيه موسى ربّه.

والواد : المكان المنخفض بين الجبال.

والمقدّس : المطهّر. والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملك يبلغ الكلام إلى موسى عليه‌السلام ، وذلك تقديس خاص ، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) [طه : ١٢].

وطوى : اسم مكان ولعله هو نوع من الأودية يشبه البئر المطوية ، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذا طوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها. وتقدم في سورة طه. وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي.

وقرأ الجمهور (طُوىً) بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ، أو للعدل عن طاو ، أو للعجمة. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف منونا باعتباره اسم واد مذكّر اللفظ.

وجملة (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) بيان لجملة (ناداهُ رَبُّهُ)

وجملة (إِنَّهُ طَغى) تعليل للأمر في قوله : (اذْهَبْ) ، ولذلك افتتحت بحرف (إنّ) الذي هو للاهتمام ويفيد مفاد التعليل.

والطغيان إفراط التكبر وتقدم عند قوله (لِلطَّاغِينَ مَآباً) في سورة النبأ [٢٢].

وفرعون : لقب ملك القبط بمصر في القديم ، وهو اسم معرّب عن اللغة العبرانية ولا يعلم هل هو اسم للملك في لغة القبط ولم يطلقه القرآن إلا على ملك مصر الذي أرسل إليه موسى ، وأطلق على الذي في زمن يوسف اسم الملك ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) في سورة الأعراف [١٠٣].

٦٧

و (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) عرض وترغيب قال تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وقوله : (هَلْ لَكَ) تركيب جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا التركيب لأنه قصد به الإيجاز يقال : هل لك إلى كذا؟ وهل لك في كذا؟ وهو كلام يقصد منه العرض بقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل؟ ومنه قول كعب :

ألا بلّغا عني بجيرا رسالة

فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا

بضم تاء (قلت). وقول بجير أخيه في جوابه عن أبياته :

من مبلغ كعبا فهل لك في التي

تلوم عليها باطلا وهي أحزم

و (لَكَ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هل لك رغبة في كذا؟ فحذف (رغبة) واكتفي بدلالة حرف (في) عليه ، وقالوا : هل لك إلى كذا؟ على تقدير : هل لك ميل؟ فحذف (ميل) لدلالة (إلى) عليه.

قال الطيبي : «قال ابن جني : متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه فيعوّل به في الاستعمال إليه (كذا) ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضده مأخذه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وأنت إنما تقول : هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى : آخذ بك إلى كذا أو أدعوك إليه ، قال : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] لا يقال : رفثت إلى المرأة ، إنما يقال : رفثت بها ، ومعها ، لكن لما كان الرفث في معنى الإفضاء عدّي ب (إلى) وهذا من أسدّ مذاهب العربية ، لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه» ا ه. قيل : ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة.

و (تَزَكَّى) قرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله : تتزكى ، بتاءين ، فقلبت التاء المجاورة للزاي زايا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي. وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حذفت إحدى التاءين اقتصارا للتخفيف.

وفعل (تَزَكَّى) على القراءتين أصله : تتزكى بتاءين مضارع تزكّى مطاوع زكاه ، أي جعله زكيا.

والزكاة : الزيادة ، وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ

٦٨

زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ، ١٠] وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة.

والمعنى : حثّه على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس فيقبل إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فاعل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه.

ولذلك أعقبه بعطف (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى ، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعى فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريع ، إذ كثيرا ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة ، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى (أي) التفسيرية فإنّ (أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ) في قوة المفرد. والتقدير : هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى.

والهداية الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المهدي.

وتفريع (فَتَخْشى) على (أَهْدِيَكَ) إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، أي العلماء به ، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير.

قال الطيبي : وعن الواسطي : أوائل العلم الخشية ، ثم الإجلال ، ثم التعظيم ، ثم الهيبة ، ثم الفناء.

وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير. وفي «جامع الترمذي» عن أبي هريرة قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» (١).

وذكر له الإله الحق بوصف (رَبِّكَ) دون أن يذكر له اسم الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافا في الدعوة إلى التوحيد وتجنبا لاستطارة نفسه نفورا ، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم لله تعالى ، ولو عرّفه له باسمه في لغة إسرائيل لنفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة ، فكان في قوله : (إِلى رَبِّكَ) وفرعون يعلم أن له ربا إطماع له أن يرشده

__________________

(١) الإدلاج : مخففا : السير في أول الليل ، ومشدّدا السير في آخر الليل ، والمراد هنا الأول.

٦٩

موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخله الإيمان الحق مدرّجا ، ففي هذا الأسلوب استنزال لطائره.

والخشية : الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ، ولهذا نزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإيمان في لسان الشرع يقال : آمن فلان ، وفلان مؤمن ، أي مؤمن بالله ووحدانيته.

[٢٠ ـ ٢٤] (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤))

الفاء في قوله : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) فصيحة وتفريع على محذوف يقتضيه قوله (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) [النازعات : ١٧]. والتقدير : فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى ، وذلك لأن قوله : (إِنَّهُ طَغى) [النازعات : ١٧] يؤذن بأنه سيلاقي دعوة موسى بالاحتقار والإنكار ، لأن الطغيان مظنّة ذينك ، فعرض موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى : (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) [الشعراء : ٣٠ ـ ٣٢] ، فتلك هي الآية الكبرى المرادة هنا.

والآية : حقيقتها العلامة والأمارة ، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق ، وتطلق على معجزة الرسول لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا.

وأعقب فعل (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) بفعل (فَكَذَّبَ) للدلالة على شدة عناده ومكابرته حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظر في الدلالة ، بل بادر إلى التكذيب والعصيان.

والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده.

وعطف (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) ب (ثُمَ) للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، فأفادت (ثُمَ) أن مضمون الجملة المعطوفة بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها ، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإدبار والسعي وادعاء الإلهية لنفسه ، أي بعد أن فكّر مليا لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذير الناس منها.

والإدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين فإن حقيقة الإدبار هو المشي إلى

٧٠

الجهة التي هي خلف الماشي بأن يكون متوجها إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها. وهو هنا مستعار للإعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمسيلمة لما أبى الإيمان : «ولئن أدبرت ليعقرنك الله».

وأما السعي فحقيقته : شدة المشي ، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناس بعدم الإصغاء لكلام موسى ، وجمع السحرة لمعارضة معجزته إذ حسبها سحرا كما قال تعالى : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ) [طه : ٦٠].

والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى : (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فثلاثتها مرتبة على (يَسْعى)

فجملة (فَحَشَرَ) عطف على جملة (يَسْعى) لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الربّ الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق.

ويجوز أن يكون (أَدْبَرَ) على حقيقته ، أي ترك ذلك المجمع بأن قام معرضا إعلانا بغضبه على موسى ويكون (يَسْعى) مستعملا في حقيقته أيضا ، أي قام يشتدّ في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض.

والحشر : جمع الناس ، وهذا الحشر هو المبيّن في قوله تعالى : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) [الشعراء : ٣٦ ، ٣٧].

وحذف مفعول (حشر) لظهوره لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف.

وعطف (فَنادى) بالفاء لإفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم.

والنداء : حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب (أدعو) فنصبت الاسم الواقع بعدها. ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم كقول الحريري في «المقامة الثلاثين» «فحين جلس كأنه ابن ماء السماء ، نادى مناد من قبل الأحماء» إلخ.

وحذف مفعول (نادى) كما حذف مفعول (حشر).

وإسناد الحشر والنداء إلى فرعون مجاز عقلي لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ولكن يأمر أتباعه وجنده ، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به كقولهم : بنى المنصور بغداد.

٧١

والقول الذي نادى به هو تذكير قومه بمعتقدهم فيه فإنهم كانوا يعتبرون ملك مصر إلها لأن الكهنة يخبرونهم بأنه ابن (آمون رع) الذي يجعلونه إلها ومظهره الشمس.

وصيغة الحصر في (أَنَا رَبُّكُمُ) لردّ دعوة موسى.

وقوله : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) بدل من جملة (فَنادى) بدلا مطابقا بإعادة حرف العطف ، وهو الفاء لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) وتقدم في سورة الأنعام [٩٩].

ويجوز أن تكون جملة : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ) عطفا على جملة (يَسْعى) على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته ، وليس قاصرا على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره.

فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن (أمون رع) وهو الرّب الأعلى ، فابنه هو القائم بوصفه ، أو لأنه كان في عصر اعتقاده : أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة (الْأَعْلى) صفة كاشفة.

[٢٥ ، ٢٦] (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

جملة (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) مفرعة عن الجمل التي قبلها ، أي كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سببا لأن أخذه الله ، وهذا هو المقصود من سوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم ، مع تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته.

وحقيقة الأخذ : التناول باليد ، ويستعار كثيرا للمقدرة والغلبة كما قال تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] وقال : (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) [الحاقة : ١٠]. والمعنى : فلم يفلت من عقاب الله.

والنكال : اسم مصدر نكّل به تنكيلا وهو مثل : السّلام ، بمعنى التسليم.

ومعنى النكال : إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث ينكّل ، أي يرد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكّل به ، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب ، قال تعالى : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) في سورة البقرة [٦٦].

وانتصب (نَكالَ) على المفعولية المطلقة لفعل «أخذه» مبين لنوع الأخذ بنوعين منه لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة.

٧٢

وإضافة (نَكالَ) إلى (الْآخِرَةِ وَالْأُولى) على معنى (في).

فالنكال في الأولى هو الغرق ، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم.

وقد استعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكال يوم القيامة.

وورود فعل «أخذه» بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مراعى فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيئول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث.

وتقديم (الْآخِرَةِ) على (الْأُولى) في الذكر لأنّ أمر الآخرة أعظم.

وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) فهو في معنى البيان لمضمون جملة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) [النازعات : ١٥]. الآيات.

والإشارة بقوله : (فِي ذلِكَ) إلى (حَدِيثُ مُوسى) [النازعات : ١٥].

والعبرة : الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها وعاقبة أمثالها ، وهي مشتقة من العبر ، وهو الانتقال من ضفة واد أو نهر إلى ضفته الأخرى.

والمراد بالعبرة هنا الموعظة.

وتنوين (عبرة) للتعظيم لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مثلات للأعمال وعواقبها ، ومراقبة الله وخشيته ، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة.

وجعل ذلك عبرة لمن يخشى ، أي من تخالط نفسه خشية الله لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣]. والخشية تقدمت قريبا في قوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٩].

وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه.

٧٣

وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر ، وقد علم المسلمون مضرب هذا المثل فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة.

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) ولام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ.

[٢٧ ـ ٢٩] (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩))

انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [النازعات : ١٠] وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث. وإذ قد فرضوا استحالة عود الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) [النازعات : ١٠] جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) ، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل : آلإنسان أشدّ خلقا ، وما هم إلا من الإنسان ، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفا بضمائر الغيبة من قوله : (يَقُولُونَ) إلى قوله : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٠ ـ ١٤] ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.

فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم ب (يَقُولُونَ أَإِنَّا) إلى آخره ، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإيماء إليه عند قوله : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) [النازعات : ١٠].

والاستفهام تقريري ، والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإقرار بأنّ خلق السماء أعظم من خلقهم ، أي من خلق نوعهم وهو نوع الإنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإنسان مرة ثانية ، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ، ذلك أن نظرهم العقلي غيّمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه محالا ، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة.

٧٤

و (أَشَدُّ) : اسم تفضيل ، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله (أَمِ السَّماءُ) ومعنى (أَشَدُّ) أصعب ، و (خَلْقاً) مصدر منتصب على التمييز لنسبة الأشديّة إليهم ، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء ، فالتمييز محوّل عن المبتدأ.

و (السَّماءُ) يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس ، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلا للمعقول منزل المحسوس.

ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد ، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويبدو فيها ضوء النهار وظلمة الليل ، فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشاهد لهم. وهذا أنسب بقوله : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) لعدم احتياجه إلى التأويل.

وجملة (بَناها) يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان شدة خلق السماء ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال في قوله : (أَمِ السَّماءُ) ، لأنه في تقدير : أم السماء أشد خلقا. وقد جعلت كلمة (بَناها) فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن (بَناها) جملة و (أَمِ) المعادلة لا يقع بعدها إلا اسم مفرد.

والبناء : جعل بيت أو دار من حجارة ، أو آجر أو أدم ، أو أثواب من نسيج الشعر ، مشدودة شققه بعضها إلى بعض بغرز أو خياطة ومقامة على دعائم ، فما كان من ذلك بأدم يسمى قبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء.

وبناء السماء : خلقها ، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع.

وجملة (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) مبنية لجملة (بَناها) أو بدل اشتمال منها وسلك طريق الإجمال ثم التفصيل لزيادة التصوير.

والسّمك : بفتح السين وسكون الميم : الرّفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سمك.

والرّفع : جعل جسم معتليا وهو مرادف للسمك فتعدية فعل (رَفَعَ) إلى «السمك» للمبالغة في الرفع ، أي رفع رفعها أي جعله رفيعا ، وهو من قبيل قولهم : ليل أليل ، وشعر شاعر ، وظل ظليل.

٧٥

والتسوية : التعديل وعدم التفاوت ، وهي جعل الأشياء سواء ، أي متماثلة وأصلها أن تتعلق بأشياء وقد تتعلق باسم شيء واحد على معنى تعديل جهاته ونواحيه ومنه قوله هنا: (فَسَوَّاها) ، أي عدّل أجزاءها وذلك بأن أتقن صنعها فلا ترى فيها تفاوتا.

والفاء في (فَسَوَّاها) للتعقيب.

وتسوية السماء حصلت مع حصول سمكها ، فالتعقيب فيه مثل التعقيب في قوله : (فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٣ ، ٢٤].

وجملة (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) معطوفة على جملة (بَناها) وليست معطوفة على (رَفَعَ سَمْكَها) لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء.

والإغطاش : جعله غاطشا ، أي ظلاما يقال : غطش الليل من باب ضرب ، أي أظلم.

والمعنى : أنه خصّ الليل بالظلمة وجعله ظلاما ، أي جعل ليلها ظلاما ، وهو قريب من قوله : (رَفَعَ سَمْكَها) من باب قولهم : ليل أليل.

وإخراج الضحى : إبراز نور الضحى ، وأصل الإخراج النقل من مكان حاو واستعير للإظهار استعارة شائعة.

والضحى : بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها ، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه : ٥٩] يدل لذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] ، أي نورها الواضح.

وإنما جعل إظهار النور إخراجا لأن النور طارئ بعد الظلمة ، إذ الظلمة عدم وهو أسبق ، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره.

وإضافة (ليل) و (ضحى) إلى ضمير (السَّماءُ) إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جوّ السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحلّ محلّ ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلا حالكا محيطا بقسم من الكرة الأرضية.

٧٦

وإن كان السماء جنسا للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها.

[٣٠ ـ ٣٢] (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢))

وانتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإجمال القريب من التفصيل.

ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه قدم اسم (الْأَرْضَ) على فعله وفاعله فانتصب على طريقة الاشتغال ، والاشتغال يتضمن تأكيدا باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعل الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم.

والدّحو والدّحي يقال : دحوت ودحيت. واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو : البسط والمدّ بتسوية.

والمعنى : خلقها مدحوّة ، أي مبسوطة مسوّاة.

والإشارة من قوله : (بَعْدَ ذلِكَ) إلى ما يفهم من (بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) [النازعات : ٢٧ ، ٢٨] ، أي بعد خلق السماء خلق الأرض مدحوّة.

والبعدية ظاهرها : تأخر زمان حصول الفعل ، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدّي ، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) في سورة البقرة [٢٩] ، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح.

ويجوز أن تكون البعدية مجازا في نزول رتبة ما أضيف إليه (بَعْدَ) عن رتبة ما ذكر قبله كقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١٣].

وجملة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) بدل اشتمال من جملة (دَحاها) لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها.

ولا يصح جعل جملة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) إلى آخرها بيانا لجملة (دَحاها)

٧٧

لاختلاف معنى الفعلين.

والمرعى : مفعل من رعى يرعى ، وهو هنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق ، أي أخرج منها ما يرعى.

والرعي : حقيقته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل.

فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب ، والقرينة على الاكتفاء قوله بعده (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٣٣].

وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتا للناس وللحيوان حتى ما تعالج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض ، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض.

ونصب (وَالْجِبالَ) يجوز أن يكون على طريقة نصب (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ويجوز أن يكون عطفا على (ماءَها وَمَرْعاها) ويكون المعنى : وأخرج منها جبالها ، فتكون (ال) عوضا عن المضاف إليه مثل (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي مأوى من خاف مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض.

وإرساء الجبال : إثباتها في الأرض ، ويقال : رست السفينة ، إذا شدّت إلى الشاطئ فوقفت على الأنجر ، ويوصف الجبل بالرّسو حقيقة كما في «الأساس» ، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم :

رسا أصله فوق الثرى وسما به

إلى النجم فرع لا ينال طويل

وإثبات الجبال : هو رسوخها بتغلغل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولو لا ذلك لزعزعتها الرياح ، وخلقت تتخلّلها الصخور والأشجار ولو لا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة.

ومن معنى إرسائها : أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة.

٧٨

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

(المتاع) يطلق على ما ينتفع به مدة ، ففيه معنى التأجيل ، وتقدم عند قوله (وَأَمْتِعَتِكُمْ) في سورة النساء [١٠٢] ، وهو هنا اسم مصدر متّع ، أي إعطاء للانتفاع زمانا ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤].

وانتصب (مَتاعاً) على النيابة عن الفعل. والتقدير : متّعناكم متاعا.

ولام (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل ، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال ، وذلك في الأرض ظاهر ، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوّهم ، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها على غرة. وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره.

وفي قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] إلى (وَلِأَنْعامِكُمْ) محسّن الجمع ثم التقسيم.

[٣٤ ـ ٤١] (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١))

يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) [النازعات : ٢٧] الآيات ، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته. وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه ، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين ، وإرشاد إلى النجدين.

وإذ قد قدّم قبل الاستدلال تحذير إجماليّ بقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) [النازعات : ٦] الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل ، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداء بالراجفة لأنها مبدؤه ، ثم بالزجرة ، وأخيرا بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة

٧٩

وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره.

ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوعه عقب التذكير بخلق الأرض ، والامتنان بما هيّأ منها للإنسان متاعا به ، للإشارة إلى أن ذلك ينتهي عند ما يحين يوم البعث والجزاء.

ويجوز أن يجعل قوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) مفرعا على قوله : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ، ١٤] فإن الطامة هي الزجرة.

ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) إلخ إذ لا يلتئم تفريع الشيء على نفسه.

(وإذا) ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صرف إلى الاستقبال ، وإنما يؤتى بعد (إذا) بفعل الماضي لزيادة تحقيق ما يفيده (إذا) من تحقق الوقوع.

والمجيء : هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقّت المؤجل بأجل يشبه شخصا سائرا إلى غاية ، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائر إلى ، إذا بلغ المكان المقصود.

والطامة : الحادثة ، أو الوقعة التي تطمّ ، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها ، مأخوذ من طمّ الماء ، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت ب (الْكُبْرى) فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن هذه الحادثة من الأهوال.

والمراد بالطامة الكبرى : القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل الصاخّة والقارعة والراجفة ووصفت بالكبرى.

و (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) بدل من جملة إذا (جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) بدل اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب.

وتذكّر الإنسان ما سعاه : أن يوقف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكّره.

والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة.

٨٠