تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

بصيرا ، لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصمودا إليه.

وصيغة (اللهُ الصَّمَدُ) صيغة قصر بسبب تعريف المسند فتفيد قصر صفة الصمدية على الله تعالى ، وهو قصر قلب لإبطال ما تعوّده أهل الشرك في الجاهلية من دعائهم أصنامهم في حوائجهم والفزع إليها في نوائبهم حتى نسوا الله. قال أبو سفيان ليلة فتح مكة وهو بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله : «لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا».

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣))

جملة : (لَمْ يَلِدْ) خبر ثان عن اسم الجلالة من قوله : (اللهُ الصَّمَدُ) ، أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة (اللهُ الصَّمَدُ) ، لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شئون الوالد وتدارك عجزه ، ولذلك استدل على إبطال قولهم : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) بإثبات أنه الغنيّ في قوله تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٦٨] فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال ، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله ، لأن المتولّد مساو لما تولّد عنه.

والتعدّد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] (وهو برهان التمانع) ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك ، لأن البنوّة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦].

وجملة (لَمْ يُولَدْ) عطف على جملة (لَمْ يَلِدْ) ، أي ولم يلده غيره ، وهي بمنزلة الاحتراس سدّا لتجويز أن يكون له والد ، فأردف نفي الولد بنفي الوالد. وإنما قدم نفي الولد لأنه أهم إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا إلى الله والدا. وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة ، وذلك محال لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم ، فحصل من مجموع جملة : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)

٥٤١

إبطال أن يكون الله والدا لمولود ، أو مولودا من والد بالصراحة. وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة (زرادشت) الثانوية القائلة بوجود إلهين : إله الخير وهو الأصل ، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير ، لأن إله الخير وهو المسمى عندهم (يزدان) فكّر فكرة سوء فتولد منه إله الشر المسمى عندهم (أهرمن) ، وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله :

قال أناس باطل زعمهم

فراقبوا الله ولا تزعمن

فكّر (يزدان) على غرة

فصيغ من تفكيره (أهرمن)

وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى عليه‌السلام بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الإله لا يكون إلّا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد فليس عيسى بابن لله ، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم. فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها فبطل أن يكون عيسى إلها.

فلما أبطلت الجملة الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة ، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق ، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية.

وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي ، لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى ، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

في معنى التذييل للجمل التي قبلها لأنها أعم من مضمونها لأن تلك الصفات المتقدمة صريحها وكنايتها وضمنيها لا يشبهه فيها غيره ، مع إفادة هذه انتفاء شبيه له فيما عداها مثل صفات الأفعال كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣].

والواو في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً) اعتراضية ، وهي واو الحال ، كالواو في قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] فإنها تذييل لجملة (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) [سبأ : ١٧] ، ويجوز كون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة فيكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث وتكون استفادة معنى التذييل تبعا للمعنى ، والنكت لا تتزاحم.

٥٤٢

والكفؤ : بضم الكاف وضم الفاء وهمزة في آخره. وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ، إلا أن الثلاثة الأولين حققوا الهمزة وأبو جعفر سهّلها ويقال : «كفء» بضم الكاف وسكون الفاء وبالهمز ، وبه قرأ حمزة ويعقوب ، ويقال : (كُفُواً) بالواو عوض الهمز ، وبه قرأ حفص عن عاصم وهي لغات ثلاث فصيحة.

ومعناه : المساوي والمماثل في الصفات.

و (أَحَدٌ) هنا بمعنى إنسان أو موجود ، وهو من الأسماء النكرات الملازمة للوقوع في حيّز النفي.

وحصل بهذا جناس تام مع قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

وتقديم خبر (كان) على اسمها للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بذكر الكفؤ عقب الفعل المنفي ليكون أسبق إلى السمع.

وتقديم المجرور بقوله : (لَهُ) على متعلّقه وهو (كُفُواً) للاهتمام باستحقاق الله نفي كفاءة أحد له ، فكان هذا الاهتمام مرجحا تقديم المجرور على متعلّقه وإن كان الأصل تأخير المتعلّق إذا كان ظرفا لغوا. وتأخيره عند سيبويه أحسن ما لم يقتض التقديم مقتض كما أشار إليه في «الكشاف».

وقد وردت في فضل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون. وثبت في الحديث الصحيح في «الموطأ» و «الصحيحين» من طرق عدة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن».

واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار لهذا الحديث ويجمعها أربعة تأويلات :

الأول : أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة ، أي تعدل ثلث القرآن إذا قرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله.

الثاني : أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سورة القرآن.

الثالث : أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني لأنّ معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد ، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها.

وأقول : إن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي ، أو لأنه لا توجد سورة

٥٤٣

واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص.

التأويل الرابع : أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة.

قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» (١) : أجمع العلماء على أن من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله ا ه. فيكون هذا التأويل قيدا للتأويل الأول ، ولكن في حكايته الإجماع على أن ذلك هو المراد نظر ، فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة.

قال ابن رشد : واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الإشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض.

وقال أبو عمر بن عبد البر السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها.

__________________

(١) في سماع ابن القاسم عن مالك من كتاب الصلاة الثاني.

٥٤٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١٣ ـ سورة الفلق

سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) روى النسائي عن عقبة بن عامر قال : اتّبعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت : أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف ، فقال : لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من «قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس».

وهذا ظاهر في أنه أراد سورة : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) لأنه كان جوابا عن قول عقبة : أقرئني سورة هود إلخ ، ولأنه عطف على قوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق : ١] قوله : و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١] ولم يتم سورة : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)

عنونها البخاري في «صحيحه» : سورة قل أعوذ برب الفلق» بإضافة سورة إلى أول جملة منها.

وجاء في كلام بعض الصحابة تسميتها مع سورة الناس «المعوّذتين». روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقرأ بالمعوذات (بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات ، أي آيات السورتين) وفي رواية : «بالمعوذتين في دبر كل صلاة». ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد ، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى ، فإضافة «سورة» إلى «المعوذة» من إضافة المسمى إلى الاسم ، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ.

وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير «سورة الفلق».

وفي «الإتقان» : أنها وسورة الناس تسميان «المشقشقتين» (بتقديم الشينين على

٥٤٥

القافين) من قولهم خطيب مشقشق ا ه. (أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب) ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.

وفي «تفسير القرطبي» و «الكشاف» أنها وسورة الناس تسميان «المقشقشتين» (بتقديم القافين على الشينين) زاد القرطبي : أي تبرّئان من النفاق ، وكذلك قال الطيبي ، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه ، وسورة الناس ، وسورة براءة ، وسورة الكافرون.

واختلف فيها أمكية هي أم مدنية ، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة : مكية ، ورواه كريب عن ابن عباس. وقال قتادة : هي مدنية ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.

والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلّم.

وقال الواحدي : قال المفسرون : إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس في «الصحاح» أنها نزلت بهذا السبب ، وبنى صاحب «الإتقان» عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) [الفلق : ٤] وقد قيل إن سبب نزولها والسورة بعدها : أن قريشا ندبوا ، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما ، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده.

وعدت العشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس.

وعدد آياتها خمس بالاتفاق.

واشتهر عن عبد الله بن مسعود في «الصحيح» أنه كان ينكر أن تكون «المعوّذتان» من القرآن ويقول : إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما ، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن. وقد جمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القراءة بهما في الصلاة وكتبتا في مصاحفهم ، وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في صلاته.

٥٤٦

أغراضها

والغرض منها تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتّقى شره من المخلوقات الشريرة ، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر ، والأحوال التي يستر أفعال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها ، فعلّم الله نبيئه هذه المعوذة ليتعوذ بها ، وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما ، فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين.

[١ ، ٢] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢))

الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتعوذ بها فإجابتها مرجوة ، إذ ليس هذا المقول مشتملا على شيء يكلف به أو يعمل حتى يكون المراد : قل لهم كذا كما في قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة.

وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المعوذتين فقال : «قيل لي قل فقلت لكم فقولوا». يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كلمة (قُلْ).

والخطاب ب (قُلْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذ قد كان قرآنا كان خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به ، فلذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضا كان يعوّذ بهما الحسن والحسين كما ثبت في «الصحيح» ، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنيي الخطاب من توجّهه إلى معيّن وهو الأصل ، ومن إرادة كلّ من يصح خطابه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن ، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.

واستعمال صيغة التكلم في فعل (أَعُوذُ) يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل (قُلْ) فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها.

وأما تعويذ قارئها غيره بها كما ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين، وما روي عن عائشة قالت : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوّذات ، فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها» ، فذلك

٥٤٧

على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات لعجز أو صغر أو عدم حفظ.

والعوذ : اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه ما يخافه ، يقال : عاذ بفلان ، وعاذ بحصن ، ويقال : استعاذ ، إذا سأل غيره أن يعيذه قال تعالى : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ٢٠٠]. وعاذ من كذا ، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨].

و (الْفَلَقِ) : الصبح ، وهو فعل بمعنى مفعول مثل الصّمد لأن الليل شبه بشيء مغلق ينفلق عن الصبح ، وحقيقة الفلق : الانشقاق عن باطن شيء ، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل ، وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) [النازعات : ٢٩] ، واستعارة السلخ له في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧].

وربّ الفلق : هو الله ، لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح ، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شرا كثيرا يحدث في الليل من لصوص ، وسباع ، وذوات سموم ، وتعذر السير ، وعسر النجدة ، وبعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى ، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر.

والمعنى : أعوذ بفالق الصبح منجاة من شرور الليل ، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجى أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح ، فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣))

عطف أشياء خاصة هي ممّا شمله عموم (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢] ، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور :

أحدها : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.

والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.

والثالث : صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.

٥٤٨

وأعيدت كلمة (مِنْ شَرِّ) بعد حرف العطف في هذه الجملة. وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء ، تعرضا للإجابة ، وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب.

والغاسق : وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال : غسق الليل يغسق ، إذا أظلم قال تعالى : (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء : ٧٨] ، فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفة مثل الجواري في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ) [الشورى : ٣٢] وتنكير (غاسِقٍ) للجنس لأن المراد جنس الليل.

وتنكير (غاسِقٍ) في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم.

ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة : «يا أهل ذا المعنى وقيتم ضرا» أي وقيتم كل ضر.

وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى (في) كقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣].

والليل : تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفا.

وتقييد ذلك بظرف (إِذا وَقَبَ) أي إذا اشتدت ظلمته لأن ذلك وقت يتحيّنه الشطّار وأصحاب الدعارة والعيث ، لتحقّق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه ، يقال : أغدر الليل ، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه ، فعبر عن ذلك بأنه أغدر ، أي صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي.

ومعنى (وَقَبَ) دخل وتغلغل في الشيء ، ومنه الوقبة : اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ، ووقبت الشمس غابت ، وخص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعا لحصول المكروه.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤))

هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢]. وعطف (شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد.

والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل ، يفعله السحرة

٥٤٩

إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها.

فالمراد ب (النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) : النساء الساحرات ، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة ، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتّكهن ونحو ذلك ، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن ، وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن. وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة بن الوليد بن المغيرة اتّهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش.

و (الْعُقَدِ) : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقد معقودة ، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه. أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة ، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور ، قال تعالى : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٨].

وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها.

وأمّا السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢].

وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث ، فلم يقل : إذا نفثن في العقد ، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر ، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعمله لأجله إلّا احتال على إيصاله إليه ، فربما وضع له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو بغير قصد ، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختلّ بها نشاط أعصابه أو إرادته ، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليري لمن يسألونه السحر أن سحره لا يتخلف ولا يخطئ.

وتعريف (النَّفَّاثاتِ) تعريف الجنس وهو في معنى النكرة ، فلا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ) [الفلق : ٣] وقوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ) [الفلق : ٥]. وإنما

٥٥٠

أوثر لفظ (النَّفَّاثاتِ) بالتعريف لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أن حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم : «أرسلها العراك» كما تقدم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في سورة الفاتحة [٢].

وتعريف (النَّفَّاثاتِ) باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب.

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل ، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرة وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته ، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل ، لأن الليل وقت الخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود.

والحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير مع تمني زوالها عنه لأجل غيرة على اختصاص الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها. وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازا.

والغبطة : تمنّي المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره ، وهو محمل

الحديث الصحيح : «لا حسد إلا في اثنتين» ، أي لا غبطة ، أي لا تحق الغبطة إلا في تينك الخصلتين ، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين.

فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكه رأسا. وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قربانه ولم يقبل قربان الآخر ، كما قصّه الله تعالى في سورة العقود.

وتقييد الاستعاذة من شره بوقت : (إِذا حَسَدَ) لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضرّ به. والمراد من الحسد في قوله : (إِذا حَسَدَ) حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته ، فلا إشكال في تقييد الحسد ب (حَسَدَ) وذلك كقول عمرو بن معد يكرب :

٥٥١

وبدت لميس كأنّها

بدر السماء إذا تبدّى

أي تجلى واضحا منيرا.

ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود ، وبعكسه الكناية عن سيّئ الحال بالحاسد ، وعليه قول أبي الأسود :

حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسدا وبغضا إنّه لمشوم

وقول بشار بن برد :

إن يحسدوني فإني غير لائمهم

قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا

فدام لي ولهم ما بي وما بهم

ومات أكثرنا غيظا بما يجد

٥٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١٤ ـ سورة الناس

تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمى سورة الناس : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)

وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان «المعوذتين» ، و «المشقشقتين» بتقديم الشينين على القافين ، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكر أنهما تسميان «المقشقشين» بتقديم القافين على الشينين ، وعنونها ابن عطية في «المحرر الوجيز» «سورة المعوذة الثانية» بإضافة «سورة» إلى «المعوذة» من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وعنونهما الترمذي «المعوذتين» ، وعنونها البخاري في «صحيحه» «سورة قل أعوذ برب الناس».

وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة «سورة الناس» وكذلك أكثر كتب التفسير.

وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مكية ، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق إنها مدنية. والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين ، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى.

وقال في «الإتقان» : إن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم ، وأنها نزلت مع «سورة الفلق» وقد سبقه إلى ذلك القرطبي والواحدي ، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق.

وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور ، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص.

وعدد آيها ست آيات ، وذكر في «الإتقان» قولا : إنها سبع آيات وليس معزوّا لأهل العدد.

٥٥٣

أغراضها

إرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإفساد إرشاده الناس ويلقي في نفوس الناس الإعراض عن دعوته. وفي هذا الأمر إيماء إلى أن الله تعالى معيذه من ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه ، ومتمم دعوته حتى تعمّ في الناس. ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك ، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم من قابلية التعرض إلى الوسواس ، ومع السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى.

[١ ـ ٦] (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوّذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس ، وسورة الناس تعوّذ من شرور مخلوقات خفيّة وهي الشياطين.

والقول في الأمر بالقول ، وفي المقول ، وفي أن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود شموله أمته ، كالقول في نظيرة من سورة الفلق سواء.

وعرّف (رب) بإضافته إلى (النَّاسِ) دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيضلّون ويضلون ، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس ، فناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب من يلقون الشر ومن يلقى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمولى العبد : يا مولى فلان كف عني عبدك.

وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبا مدرّجا فإن الله خالقهم ، ثم هم غير خارجين عن حكمة إذا شاء أن يتصرف في شئونهم ، ثم زيد بيانا بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضا وحاكمية بعضهم في بعض.

وفي هذا الترتيب إشعار أيضا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلم بادئ ذي بدء بأن له ربا يسبب ما يشعر به من وجود نفسه ، ونعمة تركيبه ، ثم يتغلغل في النظر فيشعر بأن ربه هو الملك الحقّ الغني عن الخلق ، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم.

٥٥٤

و (مَلِكِ النَّاسِ) عطف بيان من رب (النَّاسِ) وكذلك (إِلهِ النَّاسِ) فتكرير لفظ (النَّاسِ) دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم المبيّن (بكسر الياء) مستقلا بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم المبيّن (بالفتح).

و (النَّاسِ) : اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق.

و (الْوَسْواسِ) : المتكلم بالوسوسة ، وهي الكلام الخفيّ ، قال رؤبة يصف صائدا في قترته :

وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق

فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازا على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عروة بن أذينة :

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها

والتعريف في (الْوَسْواسِ) تعريف الجنس وإطلاق (الْوَسْواسِ) على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة ، قال تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) [طه : ١٢٠] ، ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى ، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به ، وهم الذين يتربصون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذيّته.

و (الْخَنَّاسِ) : الشديد الخنس والكثيرة. والمراد أنه صار عادة له. والخنس والخنوس: الاختفاء. والشيطان يلقب ب (الْخَنَّاسِ) لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنّه خنس فيه ، وأهل المكر والكيد والتختل خنّاسون لأنهم يتحينون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم.

فالتعريف في (الْخَنَّاسِ) على وزان تعريف موصوفه ، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها وتزجره النفس اللّوامة ، أو يزعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها ، فكأنّ الشيطان يبدو له ثم يختفي ، ثم يبدو ثم يختفي حتى

٥٥٥

يتمكن من تدليته بغرور.

ووصف (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) ب (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) لتقريب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها ، وذلك بأن بيّن أنّ مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبّر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وقال تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإثم ما حاك في الصدر وتردّد في القلب»، فغاية الوسواس من وسوسته بثّها في نفس المغرور والمشبوك في فخّه ، فوسوسة الشياطين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين. وقد قرّبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها : «أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان» وشبهها مرة بالنفث ، ومرة بالإبساس. وفي الحديث : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما».

وإطلاق فعل (يُوَسْوِسُ) على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان. وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة. وتعلّق المجرور من قوله : (فِي صُدُورِ النَّاسِ) بفعل (يُوَسْوِسُ) بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي ، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كلّ من فعل (يُوَسْوِسُ) ومتعلّقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز.

و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيانية بينت (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) بأنه جنس ينحلّ باعتبار إرادة حقيقته ، ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنّة وهو أصله ، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول ، وجمع الله هذين الصنفين في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢].

ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجرّ من وسوسة نوع الإنسان ، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان ، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين ، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا وهم بالتعوذ منهم أجدر ، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر ، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.

٥٥٦

ولا يستقيم أن يكون (مِنَ) بيانا للناس إذ لا يطلق اسم (النَّاسِ) على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبعد.

وقدم (الْجِنَّةِ) على (النَّاسِ) هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين ، لأن الله عصم أنبياءه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكّى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.

والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن ، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسيّ للواحد من الإنس.

وتكرير كلمة (النَّاسِ) في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧٨].

وأما تكريره المرة الثالثة بقوله : (فِي صُدُورِ النَّاسِ) فهو إظهار لأجل بعد المعاد.

وأما تكريره المرة الرابعة بقوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس ، وذلك غير ما صدق كلمة (النَّاسِ) في المرّات السابقة.

والله يكفينا شر الفريقين ، وينفعنا بصالح الثقلين.

تم تفسير «سورة الناس» وبه تم تفسير القرآن العظيم.

يقول محمد الطاهر ابن عاشور : قد وفيت بما نويت ، وحقق الله ما ارتجيت فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته ، مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة ، واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمّة ، وقد جئت بما أرجو أن أكون وفّقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها ، ودقائق ربما جلت وجوها ولم تجل كنها ، فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه ، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء

٥٥٧

دون مرامه (١).

وإن كلام رب الناس ، حقيق بأن يخدم سعيا على الرأس ، وما أدّى هذا الحقّ إلّا قلم المفسر يسعى على القرطاس ، وإن قلمي طالما استنّ بشوط فسيح ، وكم زجر عند الكلال والإعياء زجر المنيح ، وإذ قد أتى على التمام فقد حقّ له أن يستريح.

وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف. فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر. وهي حقبة لم تخل من أشغال صارفة ، ومؤلّفات أخرى أفنانها وارفة ، ومنازع بقريحة شاربة طورا وطورا غارقة ، وما خلا ذلك من تشتت بال ، وتطور أحوال ، مما لم تخل عن الشكاية منه الأجيال ، ولا كفران لله فإن نعمه أوفى ، ومكاييل فضله عليّ لا تطفّف ولا تكفا.

وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن ينجد ويغور ، وأن ينفع به الخاصة والجمهور ، ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور.

وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسي شرقيّ مدينة تونس ، وكتبه محمد الطاهر ابن عاشور.

__________________

(١) تضمين المصراع بيت المعري :

برومك والجوزاء دون مرامه

عدو بعيب البدر عند تمامه

٥٥٨

محتوى الجزء الثلاثين من تفسير التحرير والتنوير

٧٨ ـ سورة عم يتساءلون

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ) إلى (فِيهِ مُخْتَلِفُونَ).................................... ٦

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)............................................................. ١٠

(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)........................................................... ١١

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً)..................................................... ١٢

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً)............................................................. ١٣

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً)........................................................... ١٤

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً)........................................................ ١٧

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً).......................................................... ١٨

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)........................................................ ١٩

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً)................................................... ٢٠

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً)....................................................... ٢١

(وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً) إلى (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)............................... ٢٢

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) إلى (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً)............................... ٢٦

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً)................................................ ٢٩

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً)................................................ ٣٠

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) إلى (فِيها أَحْقاباً).................................... ٣٠

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) إلى (جَزاءً وِفاقاً)....................................... ٣٣

(إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ) إلى (بِآياتِنا كِذَّاباً)..................................... ٣٥

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً).................................................... ٣٧

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً)................................................ ٣٧

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ) إلى (عَطاءً حِساباً)................................. ٣٨

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ)................................... ٤٣

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)....................................................... ٤٤

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) إلى (وَقالَ صَواباً)................................ ٤٥

٥٥٩

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) إلى (إِلى رَبِّهِ مَآباً)........................................ ٤٨

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)...................................................... ٤٩

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ) إلى (كُنْتُ تُراباً)................................... ٥٠

٧٩ ـ سورة النازعات

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ) إلى (أَبْصارُها خاشِعَةٌ)............................ ٥٤

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) إلى (عِظاماً نَخِرَةً).................................... ٦١

(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ).................................................... ٦٣

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ)...................................... ٦٤

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) إلى (إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى).............................. ٦٥

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ) إلى (رَبُّكُمُ الْأَعْلى)............................... ٧٠

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ) إلى (لِمَنْ يَخْشى)......................................... ٧٢

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) إلى (وَأَخْرَجَ ضُحاها)............................. ٧٤

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) إلى (وَالْجِبالَ أَرْساها).............................. ٧٧

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)....................................................... ٧٩

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) إلى (هِيَ الْمَأْوى)................................ ٧٩

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ) إلى (مَنْ يَخْشاها)................................ ٨٤

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) إلى (أَوْ ضُحاها)......................................... ٨٧

٨٠ ـ سورة عبس

(عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ) إلى (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى).................................. ٩٠

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى).............................................. ٩٤

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى)......................................................... ٩٥

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) إلى (عَنْهُ تَلَهَّى)....................................... ٩٦

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) إلى (كِرامٍ بَرَرَةٍ)............................. ١٠١

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) إلى (شاءَ أَنْشَرَهُ).................................... ١٠٥

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ)..................................................... ١١١

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) إلى (لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)........................... ١١٣

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) إلى (الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).................................. ١١٨

٥٦٠