تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك. وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافدة من الصحابة على هذا المعنى وغاصب عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود ، فعن مقاتل : «لما نزلت قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا عم؟ قال : نعيت إليك نفسك.

فقال : إنه لكما تقول». وفي رواية : «نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما ، فقالا : فيه نعي رسول الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدقتما نعيت إليّ نفسي».

وفي «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عباس : «كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم. قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) فقالوا : أمر الله نبيئه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يا ابن عباس؟ قلت : ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيئه حضور أجله فقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، فذلك علامة موتك؟ فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول» فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه.

وقال في «الكشاف» : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عزوجل. فعلم أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا» ا ه.

قال ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» : الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة ا ه. ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية «الكشاف» والثانية عند خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه.

وعن ابن مسعود أن هذه السورة «تسمى سورة التوديع» أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب ، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه ، وهو أداء العبد ما يجب عليه لشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد ، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه.

٥٢١

ومقتضى الظاهر أن يقول : فسبح بحمده ، لتقدم اسم الجلالة في قوله : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) فعدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر وهو (رَبِّكَ) لما في صفة (رب) وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب ، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال.

وقد انتهى الكلام عند قوله : (وَاسْتَغْفِرْهُ) وقد روي : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في قراءته يقف عند (وَاسْتَغْفِرْهُ) ثم يكمل السورة».

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك.

وتوّاب : مثال مبالغة من تاب عليه. وفعل تاب المتعدي بحرف (على) يطلق بمعنى: وفّق للتوبة ، أثبته في «اللسان» و «القاموس» ، وهذا الإطلاق خاص بما أسند إلى الله.

وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي : إنّ ، وكان ، وصيغة المبالغة في التوّاب ، وتنوين التعظيم فيه.

وحيث كان توكيد ب (إنّ) هنا غير مقصود به ردّ إنكار ولا إزالة تردد إذ لا يفرضان في جانب المخاطب صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد تمحض (إنّ) لإفادة الاهتمام بالخبر بتأكيده. وقد تقرر أن من شأن (إنّ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء ، وقد تقدم غير مرة ، منها عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في سورة البقرة [٣٢] ، فالمعنى : هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها.

وإذ قد كان الكلام تذييلا وتعليلا للكلام السابق تعين أن حذف متعلق (تَوَّاباً) يقدر بنحو : على التائبين. وهذا المقدر مراد به العموم ، وهو عموم مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية ، ولما ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار أفاد أنه إذا استغفره غفر له دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب ، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار لأن الاستغفار طلب لغفر ، فالطالب يترقب إجابة طلبه ، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح

٥٢٢

والحمد فلا يحتاج إلى تعليل لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله.

ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعد بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي ، وهذا معنى كنائي لأن من عرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سعوا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة ، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب ، فالإخبار بأنه توّاب اقتضى أنه لا يخاف عتابا.

فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيدا للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفا لا يحتاجان إلى التعليل ، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ولكنهما باعتبار كونهما رمزا إلى مداناة وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون ما في قوله : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) من الوعد بحسن القبول تعليلا لمدلولهما الكنائي ، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائيّة ، أي إنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول ، شأن من عهد من الصفح والتكرم.

وفعل (كانَ) هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي. وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧].

ومقتضى الظاهر أن يقال : إنه كان غفّارا ، كما في آية : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] فيجرى الوصف على ما يناسب قوله : (وَاسْتَغْفِرْهُ) ، فعدل عن ذلك تلطفا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّ أمره بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب له لما علمت آنفا من أن وصف (تواب) جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى ، فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده ، لو لا تفضله بما بيّن لهم من مراده ، ولأن وصف (توّاب) أشد ملاءمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة (أَفْواجاً) لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة ، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرّخوة.

وروي في «الصحيح» عن عائشة قالت : «ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بعد أن نزلت

٥٢٣

عليه سورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلا يقول : سبحانك ربّنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي يتأول القرآن» أي يتأول الأمر في قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١١ ـ سورة المسد

سميت هذه السورة في أكثر المصاحف «سورة تبّت» وكذلك عنونها الترمذي في «جامعه» وفي أكثر كتب التفسير ، تسمية لها بأول كلمة فيها.

وسميت في بعض المصاحف وبعض التفاسير «سورة المسد». واقتصر في «الإتقان» على هذين.

وسماها جمع من المفسرين «سورة أبي لهب» على تقدير : سورة ذكر أبي لهب. وعنونها أبو حيان في «تفسيره» «سورة اللهب» ولم أره لغيره.

وعنونها ابن العربي في «أحكام القرآن» «سورة ما كان من أبي لهب» وهو عنوان وليس باسم.

وهي مكية بالاتفاق.

وعدّت السادسة من السور نزولا ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير.

وعدد آيها خمس.

روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة. وسبب نزولها على ما في «الصحيحين» عن ابن عباس قال : «صعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم على الصفا فنادى : «يا صباحاه» (كلمة ينادى بها للإنذار من عدوّ يصبّح القوم) فاجتمعت إليه قريش فقال : إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدوّ ممسيكم أو مصبّحكم أكنتم تصدقوني؟ قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، فقال أبو لهب : تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟! فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١]. ووقع في «الصحيحين» من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقومك منهم

٥٢٥

(الْمُخْلَصِينَ) خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صعد الصفا» إلى آخر الحديث المتقدم.

ومعلوم أن آية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) من سورة الشعراء [٢١٤] ، وهي متأخرة النزول عن سورة تبت ، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقومك منهم (الْمُخْلَصِينَ) (ولم يقل من سورة الشعراء) خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى صعد الصفا» فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب.

أغراضها

زجر أبي لهب على قوله : «تبا لك ألهذا جمعتنا؟ ووعيده على ذلك ، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها ، وبغضها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١))

افتتاح السورة بالتباب مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد ، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمن بن الحكم من شعراء «الحماسة» :

لحا الله قيسا قيس عيلان إنها

أضاعت ثغور المسلمين وولّت

وقول أبي تمام في طالعة هجاء :

النار والعار والمكروه والعطب

ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد :

مجشري فقد أنجز الإقبال ما وعد

والتّبّ : الخسران والهلاك ، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيئه بمثل اللفظ الذي شتم به أبو لهب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جزاء وفاقا.

وإسناد التبّ إلى اليدين لما روي من أن أبا لهب لما قال للنبي : «تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا» أخذ بيده حجرا ليرميه به. وروي عن طارق المحاربي قال : «بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول : أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله

٥٢٦

تفلحوا ، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : «يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه». فقلت : من هذا؟ فقالوا : هذا محمد يزعم أنه نبيء ، وهذا عمه أبو لهب ، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه : «بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث». وقول النابغة :

قعود الذي أبياتهم يثمدونهم

رمى الله في تلك الأكف الكوانع

ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاما حسنا : لا فضّ فوك ، وقال أعرابي من بني أسد:

دعوت لما نابني مسورا

فلبّى فلبّي يدي مسور

لأنه دعاه لما نابه من العدوّ للنّصر ، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن.

وأبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنيته أبو عتبة تكنية باسم ابنه ، وأمّا كنيته بأبي لهب في الآية فقيل : كان يكنّى بذلك في الجاهلية (لحسنه وإشراق وجهه) وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي ، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في «مسند أحمد» ، فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى ، وذلك لا يقره القرآن ، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العلم ، أو لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرا إلى النار ، وذلك كناية عن كونه جهنميا ، لأن اللهب ألسنة النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان. والأب : يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم : «أبوها وكيّالها» وكما كني إبراهيم عليه‌السلام : أبا الضيفان وكنّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الرحمن بن صخر الدّوسي : أبا هريرة لأنه حمل هرّة في كم قميصه ، وكني شهر رمضان : أبا البركات ، وكني الذئب : أبا جعدة والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها ، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميا لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف ، وهو أنه من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتازانيّ في مبحث العلميّة من «شرح المفتاح» وأنشد قول الشاعر :

قصدت أبا المحاسن كي أراه

لشوق كان يجذبني إليه

فلما أن رأيت رأيت فردا

ولم أر من بنيه ابنا لديه

وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة : «إن ابنة أبي

٥٢٧

لهب قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الناس يصيحون بي ويقولون إني ابنة حطب النار» الحديث.

وقرأ الجمهور لفظ (لَهَبٍ) بفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء وهو لغة لأنهم كثيرا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء ، وقد يكون ذلك لأن (لَهَبٍ) صار جزء علم والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا : شمس بضم الشين ، لشمس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شرا في قوله :

إنّي لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمّ الصدق شمس بن مالك

قال أبو الفتح بن جنّيّ في كتاب «إعراب الحماسة» : «يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو معد يكرب. وتهلك وموهب وغير ذلك مما غيّر عن حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه ا ه.

وكما قالوا : أبو سلمى بضم السين كنية والد زهير بن أبي سلمى لأنهم نقلوا اسم سلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبا. ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى : (ذاتَ لَهَبٍ) وقراءة ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه.

وجملة : (وَتَبَ) إما معطوفة على جملة : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي بالحجارة كما في خبر طارق المحاربي ، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظا له في الشتم والتقريع ، وتفيد بذلك تأكيدا لجملة : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) لأنها بمعناها ، وإنما اختلفتا بالكلية والجزئية ، وذلك الاختلاف هو مقتضي عطفها ، وإلا لكان التوكيد غير معطوف لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون.

وإمّا أن تكون في موضع الحال ، والواو واو الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دعي عليه به كقول النابغة :

جزى ربّه عني عديّ بن حاتم

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل

فيكون الكلام قبله مستعملا في الذم والشماتة به أو لطلب الازدياد ، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود «وقد تب» فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون

٥٢٨

معنى طلب حصول التبات له ، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مؤتة التي استشهد فيها :

حتّى يقولوا إذا مرّوا على جدثي

أرشدك الله من غاز وقد رشدا

يعني ويقولوا : وقد رشدا ، فيصير قوله : أرشدك الله من غاز ، لمجرد الثناء والغبطة بما حصّله من الشهادة.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢))

استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات ، ولا يغنيه ماله ، ولا كسبه ، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة.

والتعبير بالماضي في قوله : (ما أَغْنى) لتحقيق وقوع عدم الإغناء.

و (ما) نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإنكار.

والمال : الممتلكات المتمولة ، وغلب عند العرب إطلاقه على الإبل ، ومن كلام عمر: «لو لا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله» إلخ في اتقاء دعوة المظلوم ، من «الموطأ» وقال زهير :

صحيحات مال طالعات بمخرم

وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل ، وقد تقدم عند قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) في سورة النساء [٢٩] وفي مواضع.

(وَما كَسَبَ) موصول وصلته والعائد محذوف جوازا لأنه ضمير نصب ، والتقدير : وما كسبه ، أي ما جمعه. والمراد به : ما يملكه من غير النعم من نقود وسلاح وربع وعروض وطعام ، ويجوز أن يراد بماله : جميع ماله ، ويكون عطف (وَما كَسَبَ) من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، أي ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفه.

وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال : «إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي» فأنزل الله : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) وقال ابن

٥٢٩

عباس : (ما كَسَبَ) هو ولده فإن الولد من كسب أبيه.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣))

بيان لجملة : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم. ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب. وقد مات بعد ذلك كافرا ، فكانت هذه الآية إعلاما بأنه لا يسلم وكانت من دلائل النبوءة.

والسين للتحقيق مثل قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨].

و «يصلى نارا» يشوى بها ويحس بإحراقها. وأصل الفعل : صلاه بالنار ، إذا شواه ، ثم جاء منه صلي كأفعال الإحساس مثل فرح ومرض. ونصب (ناراً) على نزع الخافض.

ووصف النار ب (ذاتَ لَهَبٍ) لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب.

وهو ما تقدم الإيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفا ، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف لحقيقة النار وهو مثل التأكيد.

وبين لفضي (لَهَبٍ) الأول و (لَهَبٍ) الثاني الجناس التام.

[٤ ، ٥] (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

أعقب ذم أبي لهب ووعيده بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعينه عليه.

وامرأته : أي زوجه ، قال تعالى في قصة إبراهيم : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) [هود : ٧١] وفي قصة لوط : (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [الأعراف : ٨٣] وفي قصة نسوة يوسف : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) [يوسف : ٣٠].

وامرأة أبي لهب هي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب ، وقيل : اسمها العوراء ، فقيل هو وصف وأنها كانت عوراء ، وقيل : اسمها ، وذكر بعضهم : أن اسمها العوّاء بهمزة بعد الواو.

وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوك فتضعه في الليل في طريق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقر قدميه.

٥٣٠

فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جعل لامرأته وعيد مقتبس لفظه من فعلها وهو حمل الحطب في الدنيا ، فأنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقد به على زوجها ، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه ، وجعلها سببا لعذاب أعز الناس عليها.

فقوله : (وَامْرَأَتُهُ) عطف على الضمير المستتر في (سَيَصْلى) [المسد : ٣] أي وتصلى امرأته نارا.

وقوله : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قرأه الجمهور برفع (حَمَّالَةَ) على أنه صفة لامرأته فيحتمل أنها صفتها في جهنم أنها ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدّنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة التوجيه والإيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك.

وقرأه عاصم بنصب (حَمَّالَةَ) على الحال من (امْرَأَتُهُ) وفيه من التوجيه والإيماء ما في قراءة الرفع.

وجملة : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة ، أي جعل لها حبل في عنقها تحمل فيه الحطب في جهنم لإسعار النار على زوجها جزاء مماثلا لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها.

والجيد : العنق ، وغلب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فقلّ أن يذكر العنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عنقا موصوفا بالحسن وقد جمعهما امرؤ القيس في قوله :

وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل

قال السهيلي في «الروض» : «والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحلي أو الحسن فإنما حسن هنا ذكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي ذكر الجيد معه ، ألا ترى إلى قول الأعشى :

يوم تبدي لنا قتيلة عن جي

د أسيل تزينه الأطواق

ولم يقل عن عنق ، وقول الآخر :

وأحسن من عقد المليحة جيدها

٥٣١

ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثا من الكلام. ا ه.

قلت : وأما قول المعري :

الحجل للرّجل والتاج المنيف لما

فوق الحجاج وعقد الدرّ للعنق

فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماما للمجانسة التي بين الحجل والرجل ، والتاج والحجاج ، وهو مقصود الشاعر.

والحبل : ما يربط به الأشياء التي يراد اتصال بعضها ببعض وتقيد به الدابة والمسجون كيلا يبرح من المكان ، وهو ضفير من الليف أو من سيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتد أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره على بعد يراد ، وتربط به قلوع السفن وتشد به السفن في الأرض في الشواطئ ، وتقدم في قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ، وقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) كلاها في سورة آل عمران [١٠٣ ـ ١١٢] ، ويقال : حبله إذا ربطه.

والمسدّ : ليف من ليف اليمن شديد ، والحبال التي تفتل منه تكون قوية وصلبة.

وقدم الخبر من قوله : (فِي جِيدِها) للاهتمام بوصف تلك الحالة الفظيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط به إذ قد كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء ، وقد ماتت أم جميل على الشرك.

٥٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١٢ ـ سورة الإخلاص

المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها «سورة قل هو الله أحد».

روى الترمذي عن أبي هريرة ، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قل هو الله تعدل ثلث القرآن» وهو ظاهر في أنه أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله : «تعدل» فإنه على تأويلها بمعنى السورة.

وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك ، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.

ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الله الواحد الصمد» ثلث القرآن فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به ، ومحمله على إرادة التسمية. وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبّه.

وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي «جامع الترمذي» : «سورة الإخلاص» واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى ، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.

وسميت في بعض المصاحف التونسية «سورة التوحيد» لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.

وفي «الإتقان» أنها تسمى «سورة الأساس» لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس

٥٣٣

الإسلام. وفي «الكشاف» : روى أبي وأنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسّت السماوات السبع والأرضون السبع على (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١). يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.

وذكر في «الكشاف» : أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين ، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.

وسماها البقاعي في «نظم الدرر» «سورة الصمد» ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. وقد عقد الفخر في «التفسير الكبير» فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي : التفريد ، والتجريد (لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال) ، والتوحيد (كذلك) ، والإخلاص (لما ذكرناه آنفا) ، والنجاة (لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة) ، والولاية (لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله) والنّسبة (لما روي أنها نزلت لما قال المشركون : أنسب لنا ربك ، كما سيأتي) ، والمعرفة (لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها) والجمال (لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها ، ولما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله جميل يحب الجمال» فسألوه عن ذلك فقال : أحد صمد لم يلد ولم يولد» ، والمقشقشة (يقال : قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك ، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا) ، والمعوّذة (لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعثمان بن مظعون وهو مريض فعوّذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له : «تعوّذ بها». والصمد (لأن هذا اللفظ خص بها) ، والأساس (لأنها أساس العقيدة الإسلامية) والمانعة (لما روي : أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار) والمحضر (لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت). والمنفّرة (لأن الشيطان ينفر عند قراءتها) والبرّاءة (لأنها تبرّئ من الشرك) ، والمذكّرة (لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة) ، والنور (لما روي : أن نور القرآن قل هو الله أحد) ، والأمان (لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب).

وبضميمة اسمها المشهور : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين. وقال الفيروزآبادىّ في «بصائر التمييز» : إنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما.

__________________

(١) يقال أس البناء إذا أقامه وفي نسخة أسست ، وهذا الحديث ضعيف.

٥٣٤

وهي مكية في قول الجمهور ، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرظي : هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس.

ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبيّ بن كعب ، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود ، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله : «أن قريشا قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انسب لنا ربك» فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها» فتكون مكية.

وروى أبو صالح عن ابن عباس : «أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة (أخا لبيد) أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عامر : إلام تدعونا؟ قال : إلى الله ، قال : صفه لنا أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من حديد ، أم من خشب؟ (يحسب لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة) فنزلت هذه السورة ، فتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة.

وقال الواحدي : «إن أحبار اليهود (منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف) قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك ، فنزلت».

والصحيح أنها مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة ، ولعل تأويل من قال : إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد ، أو حينما سأل أحبار اليهود ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ عليهم هذه السورة ، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.

قال في «الإتقان» : وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في «أسباب النزول» ا ه.

وعلى الأصح من أنها مكية عدّت السورة الثانية والعشرين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.

وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع ، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار (لَمْ يَلِدْ) آية (وَلَمْ يُولَدْ) آية.

أغراضها

إثبات وحدانية الله تعالى.

وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات.

وإبطال أن يكون له ابن.

٥٣٥

وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه‌السلام.

والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن. وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح «الموطأ» و «الصحيحين».

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١))

افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١]

ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى ، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين: انسب لنا ربك ، فكانت جوابا عن سؤالهم فلذلك قيل له : (قُلْ) كما قال تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] فكان للأمر بفعل (قُلْ) فائدتان.

وضمير (هُوَ) ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده ، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده.

ويجوز أن يكون (هُوَ) أيضا عائدا إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا : انسب لنا ربك.

ومن العلماء من عدّ ضمير (هُوَ) في هذه السورة اسما من أسماء الله تعالى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في «شرح الأسماء الحسنى» نقله ابن عرفة عنه في «تفسيره» وذكر الفخر ذلك في «مفاتيح الغيب» ولا بد من المزج بين كلاميه.

وحاصلهما قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فيه ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيها على ثلاثة مقامات.

الأول : مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هي هي ، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم ، فقوله : (هُوَ) إشارة مطلقة. ولما كان المشار إليه معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله : (هُوَ) إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز فكانت لفظة (هُوَ) كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء.

المقام الثاني : مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة (هُوَ) تامة الإفادة في

٥٣٦

حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم (هُوَ اللهُ) والمقام الثالث : مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الإله فقرن لفظ (أَحَدٌ) بقوله : (هُوَ اللهُ) إبطالا لمقالتهم ا ه.

فاسمه تعالى العلم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلّها عند التخاطب بين المسلمين وعند المحاجّة بينهم وبين المشركين ، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تنزّه عنها.

أما (أَحَدٌ) فاسم بمعنى (واحد). وأصل همزته الواو ، فيقال : وحد كما يقال : أحد ، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة (بخلاف قلب واو وجوه) ومعناه منفرد ، قال النابغة :

كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد

أي كأني وضعت الرجل على ثور وحش أحسّ بأنسي وهو منفرد عن قطيعه.

وهو صفة مشبهة مثل حسن ، يقال : وحد مثل كرم ، ووحد مثل فرح.

وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتيّ له ، فلذلك أوثر (أَحَدٌ) هنا على (واحد) لأن (واحد) اسم فاعل لا يفيد التمكن. ف (واحد) و (أَحَدٌ) وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد.

هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ (أحد) ، أشهرها أنه يستعمل اسما بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) في البقرة [٢٨٥] ، وقوله : (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) في الكهف [٣٨] وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو : أحد عشر ، وأحد وعشرين ، ومؤنثه إحدى ، ومن العلماء من خلط بين (واحد) وبين (أَحَدٌ) فوقع في ارتباك.

فوصف الله بأنه (أَحَدٌ) معناه : أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم وهي الإلهية المعروفة ، فإذا قيل : (اللهُ أَحَدٌ) فالمراد أنه منفرد بالإلهية ، وإذا قيل : الله واحد ، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمن دونه ليس بإله. ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته.

فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليما للناس كلهم ، وإبطالا

٥٣٧

لعقيدة الشرك وصف الله في هذه السورة ب (أَحَدٌ) ولم يوصف ب (واحد) لأن الصفة المشبهة نهاية ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين.

وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة : إن (أَحَدٌ) دالّ على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول ، ولا كثرة حسيّة وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة. والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم ، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل ، والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء ، والأشكال ، والألوان ، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقّة اللائقة بكرم وجهه عزوجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وتبيينه : أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك ، والذي لا ينقسم بوجه أصلا أولى بالوحدانيّة مما ينقسم من بعض الوجوه ، والذي لا ينقسم انقساما عقليّا أولى بالوحدانية من الذي ينقسم انقساما بالحسّ بالقوة ثم بالفعل ، ف (أَحَدٌ) جامع للدلالة على الوحدانية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه ا ه.

قلت : قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالا كان إذا عذب على الإسلام يقول : أحد أحد ، وكان شعار المسلمين يوم بدر : أحد أحد.

والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن (أَحَدٌ) ليس ملحقا بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة».

وعدّها ولم يذكر فيها وصف أحد ، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب «الإرشاد» وكتاب «اللمع» والغزالي في «شرح الأسماء الحسنى».

وقال الفهري في «شرحه على لمع الأدلة» لإمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى «الواحد». وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم.

ودرج ابن برّجان الإشبيلي في «شرح الأسماء» (١) والشيخ محمد بن محمد الكومي

__________________

(١) هو عبد السلام بن عبد الرحمن شهر بابن برجان بفتح الباء وتشديد الراء المفتوحة اللخمي الإشبيلي المتوفى سنة ٥٣٦ ه‍ ، له «شرح على الأسماء الحسنى» وأبلغها إلى مائة واثنين وثلاثين اسما.

٥٣٨

(بالميم) التونسي ، ولطف الله الأرضرومي في «معارج النور» ، على عدّ (أحد) في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الواحد فقالا : الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين ، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتض حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين ، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه.

والمعنى : أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك ، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس ، وللعدد الذي لا يحصى عند البراهمة.

فقوله : (اللهُ أَحَدٌ) نظير قوله في الآية الأخرى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء: ١٧١]. وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون بهذه الآية السائلون عن نسبة الله ، أي حقيقته فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء.

ثم إن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدّهريين.

وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفردا بالإلهية كان مستغنيا عن المخصّص بالإيجاد لأنه لو افتقر إلى من يوجده لكان من يوجده إلها أوّل منه فلذلك كان وجود الله قديما غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص بالوجود بدلا عن العدم ، وكان مستعينا عن الإمداد بالوجود فكان باقيا ، وكان غنيا عن غيره ، وكان مخالفا للحوادث وإلا لاحتاج مثلها إلى المخصص فكان وصفه تعالى : ب (أَحَدٌ) جامعا للصفات السلبية. ومثل ذلك يقال في مرادفه وهو وصف واحد.

واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة ، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه ، وعلى كل التقادير فليس لكنه الله كثرة أصلا لا كثرة معنوية وهي تعدد المقوّمات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي ، ولا كثرة الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام. فأفاد وصف (أَحَدٌ) أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة ، والأعراض والأبعاض ، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما أشار إليه ابن سينا.

قال في «الكشاف» : «وفي قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اللهُ أَحَدٌ) بغير (قُلْ هُوَ) ا ه ، ولعله أخذه مما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قرأ : (اللهُ أَحَدٌ) كان بعدل ثلث القرآن ، كما ذكره

٥٣٩

بأثر قراءة أبيّ بدون (قُلْ) كما تأوله الطيبي إذ قال : وهذا استشهاد على هذه القراءة.

وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقوله ، وهذا كما كان يكثر أن يقول : «سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي» يتأول قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣].

(اللهُ الصَّمَدُ (٢))

جملة ثانية محكية بالقول المحكية به جملة : (اللهُ أَحَدٌ) ، فهي خبر ثان عن الضمير. والخبر المتعدد يجوز عطفه وفصله ، وإنما فصلت عن التي قبلها لأن هذه الجملة مسوقة لتلقين السامعين فكانت جديرة بأن تكون كل جملة مستقلة بذاتها غير ملحقة بالتي قبلها بالعطف ، على طريقة إلقاء المسائل على المتعلم نحو أن يقول : الحوز شرط صحة الحبس ، الحوز لا يتم إلا بالمعاينة ، ونحو قولك : عنترة من فحول الشعراء ، عنترة من أبطال الفرسان.

ولهذا الاعتبار وقع إظهار اسم الجلالة في قوله : (اللهُ الصَّمَدُ) وكان مقتضى الظاهر أن يقال : هو الصمد.

و (الصَّمَدُ) : السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات ، وهو سيد القوم المطاع فيهم.

قال في «الكشاف» : وهو فعل بمعنى مفعول من : صمد إليه ، إذا قصده ، فالصمد المصمود في الحوائج. قلت : ونظيره السّند الذي تسند إليه الأمور المهمة. والفلق اسم الصباح لأنه يتفلق عنه الليل.

و (الصَّمَدُ) : من صفات الله ، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم.

فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي. ومعناه : المفتقر إليه كلّ ما عداه ، فالمعدوم مفتقر وجوده إليه والموجود مفتقر في شئونه إليه.

وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد ، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع ، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولا. ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه تعالى حيّا ، عالما ، مريدا ، قادرا ، متكلما ، سميعا ،

٥٤٠