تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٨ ـ سورة الكوثر

سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها وفي جميع التفاسير أيضا «سورة الكوثر» وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من «جامعه». وعنونها البخاري في «صحيحه» سورة : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ولم يعدّها في «الإتقان» مع السور التي لها أكثر من اسم. ونقل سعد الله الشهير بسعدي في «حاشيته على تفسير البيضاوي» عن البقاعي أنها تسمى «سورة النحر».

وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا ، فهي مكية عند الجمهور واقتصر عليه أكثر المفسرين ، ونقل الخفاجي عن كتاب «النشر» قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.

وعن الحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة : هي مدنية ويشهد لهم ما في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك : «بينا رسول الله ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت عليّ آنفا سورة فقرأبسم الله الرحمن الرحيم : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر : ١ ـ ٣] ثم قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنه نهر وعدنيه ربّي عزوجل ، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة» الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ «آنفا» في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب ، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.

ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أن تكون السورة مكية ، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى : (وَانْحَرْ) من أن النحر في الحج أو يوم

٥٠١

الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ليس ردّا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.

والأظهر أن هذه السورة مدنية ، وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.

وعلى القول بأنها مكية عدّوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية.

وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.

وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف ، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتهما أكثر.

أغراضها

اشتملت على بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.

وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة.

وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله ، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.

وأن انقطاع الولد الذكر ليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كمال الإنسان.

[١ ، ٢] (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢))

افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر. والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم في (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١]. والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق.

وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم.

و (الْكَوْثَرَ) : اسم في اللغة للخير الكثير صيغ على زنة فوعل ، وهي من صيغ

_________________

(١) الجورب : ثوب يجعل في صورة خف وتلف فيه الرجل ، والحوشب : المنتفخ الجنبين وعظم في باطن الحافر ، واسم للأرنب الذكر ، والثعلب الذكر ، والدوسر : الضخم الشديد.

٥٠٢

الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب ، والجورب ، والحوشب والدوسر (١) ، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها ، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى ، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة ، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه ، ونظيره : جوهر ، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوّه ، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها.

ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي :

وصاحب ملحوب فجعنا بفقده

وعند الرّداع بيت آخر كوثر

(ملحوب والرداع) كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة ، فوصف البيت بكوثر ولاحظ الكميت هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان :

وأنت كثير يا ابن مروان طيب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفا.

وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعمها أنه الخير الكثير ، وروي عن ابن عباس ، قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس : إن ناسا يقولون هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير. وعن عكرمة : الكوثر هنا : النبوءة والكتاب ، وعن الحسن : هو القرآن ، وعن المغيرة : أنه الإسلام ، وعن أبي بكر بن عيّاش : هو كثرة الأمة ، وحكى الماوردي : أنه رفعة الذكر ، وأنه نور القلب ، وأنه الشفاعة ، وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.

وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه : هو أبتر ، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر ، إبطالا لقولهم.

وقوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها ، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.

وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء : إنه أبتر ، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠] لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم ، وكذلك النحر لله.

٥٠٣

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) دون : فصلّ لنا ، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه.

وإضافة (رب) إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريبه ، وفيه تعريض بأنه يربّه ويرأف به.

ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له ، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) في سورة الحجر [٩٧ ، ٩٨].

ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صدّ المشركين إيّاه عن البيت في الحديبية ، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا ، أي قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب : أفتح هذا؟ قال : نعم.

وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير : أن قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرف من الحديبية.

وأفادت اللام من قوله : (لِرَبِّكَ) أنه يخص الله بصلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض بالمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها.

وعطف (وَانْحَرْ) على (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) يقتضي تقدير متعلّقه مماثلا لمتعلّق (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : ٣٨] أي وأبصر بهم ، فالتقدير : وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانا للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبل البعثة وبعدها قد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته ، وهو يود أن يطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين ، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله.

وإن كانت السورة مدنية ، وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادا به الضحايا يوم عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) مراد به صلاة العيد،

٥٠٤

وروي ذلك عن مالك في تفسير الآية وقال : لم يبلغني فيه شيء.

وأخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالة على أن الضحية تكون بعد الصلاة ، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضّأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يضحّ إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يوم النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفا. ويرشح إيثار النحر رعي فاصلة الراء في السورة. وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير «انحر» تجعله لفظا غريبا.

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

استئناف يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا. ويجوز أن تكون الجملة تعليلا لحرف (إِنَ) إذا لم يكن لرد الإنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في سورة البقرة [٣٢].

واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به ردّ كلام صادر من معيّن ، وحكاية لفظ مراد بالرد ، قال الواحدي : قال ابن عباس : إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناس من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له : من الذي كنت تتحدث معه فقال : ذلك الأبتر ، وكان قد توفّي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبل عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكور من ولدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ، وكانوا يصفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة ، فحصل القصر في قوله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قصر المسند على المسند إليه ، وهو قصر قلب ، أي هو الأبتر لا أنت.

و (الْأَبْتَرُ) : حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيها بالدّابة المقطوع ذنبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» يقال : بتر شيئا إذا قطع بعضه وبتر بالكسر كفرح فهو أبتر ، ويقال للذي لا عقب له ذكورا ، هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قطع أثره في تخيّل

٥٠٥

أهل العرف.

ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أبتر ، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب ، فابنه عمرو الصحابي الجليل ، وابن ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير. قال ابن حزم في «الجمهرة» عقبه بمكة وبالرهط (١).

فقوله تعالى : (هُوَ الْأَبْتَرُ) اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفيها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه.

ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل : «محمد أبتر» إبطالا لقوله ذلك ، وكان عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لا عقب له تعيّن أن يكون هذا الإبطال ضربا من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحقّ غير ما عناه من كلامه كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩]. وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو الناقص حظّ الخير ، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله. وهب أنه لم يولد له البتة ، وإنما اصطلح الناس على اعتباره نقصا لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض ، وقد لا يعرض أو لمحبة ذكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أغناه الله بالقناعة ، وأعزّه بالتأييد ، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه ، فتمحض أن كماله الذاتي بما علمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته ، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر في قوله : (هُوَ الْأَبْتَرُ) نفي وصف الأبتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن بمعنى غير المعنى الذي عناه شانئه

__________________

(١) كذا في طبعة «جمهرة ابن حزم». وقال ياقوت : الرهط موضع في شعر هذيل.

وأقول : لعله تحريف راهط وراهط موضع بغولة دمشق.

٥٠٦

فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصرا في استعمال الضمير في غير معنى معاده ، على ما حققه أستاذنا العلامة سالم أبو حاجب وجعله وجها في واو العطف من قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) [الفجر : ٢٢] لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال : وجاء الملك وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى ، قال : وقد سبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في «طراز المجالس» في قول محمد الصالحي من شعراء الشام :

وحديث حبّي ليس بال

منسوخ إلّا في الدّفاتر

والشانئ : المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه : الشنآن ، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما من أسلموا منهم فقد انقلب بعضهم محبة له واعتزازا به.

٥٠٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٩ ـ سورة الكافرون

عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير «سورة الكافرون» بإضافة «سورة» إلى (الْكافِرُونَ) وبثبوت واو الرفع في (الْكافِرُونَ) على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.

ووقع في «الكشاف» و «تفسير ابن عطية» و «حرز الأماني» «سورة الكافرين» بياء الخفض في لفظ «الكافرين» بإضافة «سورة» إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين ، أو نداء الكافرين. وعنونها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحة» سورة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١].

قال في «الكشاف» و «الإتقان» : وتسمى هي وسورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) المقشقشتين لأنهما تقشقشان من الشرك أي تبرئان منه يقال : قشقش : إذا أزال المرض.

وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)

وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش ، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.

وقال سعد الله المعروف بسعدي عن «جمال القراء» أنها تسمى «سورة العبادة» وفي «بصائر ذوي التمييز» للفيروزآباديّ تسمى «سورة الدين».

وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير ، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.

وقد عدت الثامنة عشرة في عداد الثامنة عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.

وعدد آياتها ست.

٥٠٨

أغراضها

وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في «أسباب النزول» وابن إسحاق في «السيرة» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يطوف بالكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا : يا محمد هلمّ فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال : معاذ الله أن أشرك به غيره ، فأنزل الله فيهم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) السورة كلها ، فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك (وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستنزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم).

وعن ابن عباس : فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه.

وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك.

[١ ـ ٣] (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣))

افتتاحها ب (قُلْ) للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه ، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواب عن سؤال منها : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) في سورة الجمعة [٦] والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور : (قُلْ أُوحِيَ) [الجن : ١] ، وسورة الكافرون ، وسورة الإخلاص ، والمعوّذتان ، فالثلاث الأول لقول يبلّغه ، والمعوّذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه.

والنداء موجه إلى الأربعة الذين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) كما سيأتي.

وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم ، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقى

٥٠٩

عليهم.

ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم. قال القرطبي : قال أبو بكر بن الأنباري : إن المعنى : قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : يا أيها الكافرون ، وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر.

فقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) إخبار عن نفسه بما يحصل منها.

والمعنى : لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه (لا) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في «الكشاف» ، وهو قول جمهور أهل العربية. ومن أجل ذلك كان حرف (لن) مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على مطلق النفي ، ولذلك قال الخليل : أصل (لن) : لا أن ، فلما أفادت (لا) وحدها نفي المستقبل كان تقدير (أن) بعد (لا) مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا إن (لن) تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن (لا) كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل. وخالفهم ابن مالك كما في «مغني اللبيب» ، وأبو حيان كما قال في هذه السورة ، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في «الروض الأنف».

ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب ، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة.

ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) ، أي ما أنتم بمغيّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدءوا هم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ.

وهذا إخباره إياهم بأنه يعلم أنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نظير قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] فإن أولئك النفر الأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم.

وما صدق (ما أَعْبُدُ) هو الله تعالى وعبر ب (ما) الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص (من) بالعاقل ، فلا مانع من إطلاق (ما) على العاقل إذا

٥١٠

كان اللبس مأمونا. وقال السهيلي في «الروض الأنف» : إن (ما) الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب : سبحان ما سبّح الرعد بحمده ، وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) كما تقدم في سورة الشمس [٥].

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤))

عطف على (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] عطف الجملة على الجملة لمناسبة نفي أو يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم ، وعطفه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيد (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فجاء به على طريقة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) بالجملة الاسمية. للدلالة على الثبات ، وبكون الخبر اسم فاعل دالا على زمان الحال ، فلما نفى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) كما تقدم آنفا ، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال ، بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان ، فاقتضى الاعتماد على دلالة المنطوق إطنابا في الكلام ، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات. وحصل من ذلك تقرير المعنى السابق وتأكيده ، تبعا لمدلول الجملة لا لموقعها ، لأن موقعها أنها عطف على جملة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وليست توكيدا لجملة : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) بمرادفها لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يعيّن أنها معطوفة إذ ليس في جملة : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكدا لها.

ولا يجوز الفصل بين الجملتين بالواو لأن الواو لا يفصل بها بين الجملتين في التوكيد اللفظي. والأجود الفصل ب (ثم) كما في «التسهيل» مقتصرا على (ثم). وزاد الرضي الفاء ولم يأت له بشاهد ولكنه قال : «وقد تكون (ثم) والفاء لمجرد التدرج في الارتقاء وإن لم يكن المعطوف مترتبا في الذكر على المعطوف عليه وذلك إذا تكرر الأول بلفظه نحو : بالله ، فالله ، ونحو والله ثم والله».

وجيء بالفعل الماضي في قوله : (ما عَبَدْتُّمْ) للدلالة على رسوخهم في عبادة الأصنام من أزمان مضت ، وفيه رمز إلى تنزهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عبادة الأصنام من سالف الزمان وإلا لقال : ولا أنا عابد ما كنا نعبد.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥))

٥١١

عطف على جملة : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) [الكافرون : ٤] لبيان تمام الاختلاف بين حاله وحالهم وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخبارا ثانيا تنبيها على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله ، وتقوية لدلالة هذين الإخبار على نبوءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فمات أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوءة.

وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيدا للمعنى الأصلي منها ، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفا في قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ)

ولذلك فالواو في قوله هنا : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) من المناسبة.

ويجوز أن تكون جملة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) تأكيدا لفظيا لنظيرتها السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) معترضة بين التأكيد والمؤكد.

والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عرضهم أنهم يعبدون رب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

تذييل وفذلكة للكلام السابق بما فيه من التأكيدات ، وقد أرسل هذا الكلام إرسال المثل وهو أجمع وأوجز من قول قيس بن الخطيم :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

ووقع في «تفسير الفخر» هنا : «جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبّر فيه ثم يعمل بموجبه»اه.

وهذا كلام غير محرر لأن التمثل به لا ينافي العمل بموجبه وما التمثل به إلا من تمام بلاغته واستعداد للعمل به. وهذا المقدار من التفسير تركه الفخر في المسودة.

وقدم في كلتا الجملتين المسند على المسند إليه ليفيد قصر المسند إليه على المسند ، أي دينكم مقصور على الكون بأنه لكم لا يتجاوزكم إلى الكون لي ، وديني مقصور على الكون بأنه لا يتجاوزني إلى كونه لكم ، أي لأنهم محقق عدم إسلامهم. فالقصر قصر إفراد ، واللام في الموضعين لشبه الملك وهو الاختصاص أو الاستحقاق.

٥١٢

والدين : العقيدة والملة ، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها ، فلذلك سمي دينا لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء.

وقرأ الجمهور (دِينِ) بدون ياء بعد النون على أن ياء المتكلم محذوفة للتخفيف مع بقاء الكسرة على النون. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف بدون ياء اعتمادا على حفظ الحفاظ لأن الذي يثبت الياء مثل يعقوب يشبع الكسرة إذ ليست الياء إلا مدّة للكسرة فعدم رسمها في الخط لا يقتضي إسقاطها في اللفظ.

وقرأ نافع والبزي عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر وحفص عن عاصم بفتح الياء من قوله : (وَلِيَ) وقرأه قنبل عن ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بسكون الياء.

٥١٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١١٠ ـ سورة النصر

سميت هذه السورة في كلام السلف «سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) روى البخاري : «أن عائشة قالت : لما نزلت سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) الحديث.

وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير «سورة النصر» لذكر نصر الله فيها ، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا.

وهي معنونة في «جامع الترمذي» «سورة الفتح» لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين سورة : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)

وعن ابن مسعود أنها تسمى «سورة التوديع» في «الإتقان» لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه. يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة.

وهي مدنية بالاتفاق. واختلف في وقت نزولها فقيل : نزلت منصرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر (أي في سنة سبع) ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن» فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية» اه ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وقد الأشعريين عام غزوة خيبر.

ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة ، وعليه فالفتح مستقبل ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال (إذا) ويحمل قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاء نصر الله والفتح» على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع

٥١٤

لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة.

وعن قتادة : نزلت قبل وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسنتين. وقال الواحدي عن ابن عباس : «نزلت منصرفه من حنين» ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا ، وهو في سنة الوفود سنة تسع ، وعليه تكون (إذا) مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين.

وروى البزار والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها نزلت أواسط أيام التشريق (أي عام حجة الوداع). وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل : لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا.

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش بعد نزولها نحوا من ثلاثة أشهر وعليه تكون (إذا) مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا.

وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت بمجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف.

وفي حديث ابن عباس في «صحيح البخاري» : هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه له قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] وذلك علامة أجلك : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣].

وفي هذا ما يؤوّل ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في «دلائل النبوة» والدّارمي وابن مردويه : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاطمة وقال : إنه قد نعيت إليّ نفسي فبكت» إلخ ، فإن قوله : «لما نزلت» مدرج من الراوي ، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في «الصحيحين» فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن.

وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور ، وقال : نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور. وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر.

وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى.

٥١٥

وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدّة كلمات ، وأقصر من سورة العصر. وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات. وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث : «طعن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] و (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١].

أغراضها

والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة ، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر كما قال ابن عباس في أحد قوليه.

والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الآخرة.

ووعده بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحدّ الذي لا يفي بما تطلبه همّته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠].

[١ ـ ٣] (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ).

(إِذا) اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو. ف (إِذا) اسم زمان مطلق ، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا. ولذلك يضمّن معنى الشرط غالبا ، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق ، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [الشورى : ٢٩].

ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي ، ولا تضمن (إِذا) معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١].

٥١٦

و (إِذا) هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء في قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت.

والنصر : الإعانة على العدوّ. ونصر الله يعقبه التغلب على العدو. و (الْفَتْحُ) : امتلاك بلد العدوّ وأرضه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) [المائدة : ٢٣] ، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد :

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد ، وهو المعهود في قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً* وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) [الفتح : ١ ـ ٣].

فإضافة (نَصْرُ) إلى (اللهِ) تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها.

و (جاءَ) مستعمل في معنى : حصل وتحقق مجازا.

والتعريف في «الفتح» للعهد وقد وعد الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] وقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ٢٧]. وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) على جميع الأقوال.

وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور ، يعنون الحصون. وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد به وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ما ذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون : إن ظهر محمد على قومه فهو نبيء. وتكرر أن صدّ بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك.

٥١٧

أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال : «لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبيء».

وعن الحسن : لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا : أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يدان فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا. فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها.

ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود.

وعلى ما روي عن ابن عمر : «أنها نزلت في حجة الوداع» يكون تعليق جملة : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل ، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب فسبح بحمد ربك ، وهو مراد من قال من المفسرين (إِذا) بمعنى (قد) ، فهو تفسير حاصل المعنى ، وليست (إِذا) مما يأتي بمعنى (قد).

والرؤية في قوله : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ) يجوز أن تكون علمية ، أي وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم. فيكون جملة (يَدْخُلُونَ) في محل المفعول الثاني ل (رَأَيْتَ).

ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع ، وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة (يَدْخُلُونَ) في موضع الحال من الناس.

و (دِينِ اللهِ) هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠].

والدخول في الدين : مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن

٥١٨

تلك الشهادة. فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول ، على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف ، ففيه استعارة أخرى تصريحية.

و (النَّاسَ) : اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في سورة البقرة [٨]. وإذا عرّف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) [آل عمران : ١٧٣] ، واحتملت الجنس نحو : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣] واحتملت الاستغراق نحو : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة : ٨] ونحو : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) [الناس : ١].

والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي ، أي جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينني ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل المشاهدة ، فالمعنى : ورأيت ناسا كثيرين أو ورأيت العرب.

قال ابن عطية : «قال أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه‌الله في كتاب «الاستيعاب» في باب خراش الهذلي : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف ، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده» ا ه. وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام ، وهم : تغلب وغسان في مشارف الشام والشام ، وكذلك لخم وكلب من العراق فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلون في دين الله رؤية بصرية.

ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك إن جعلنا الرؤية علمية.

والأفواج : جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة ، وتقدم عند قوله تعالى : (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) في سورة ص [٥٩] ، أي يدخلون في الإسلام قبائل ، وانتصب (أَفْواجاً) على الحال من ضمير (يَدْخُلُونَ)

وجملة : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) جواب (إِذا) باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط ، وفعل (فَسَبِّحْ) هو العامل في (إِذا) النصب على الظرفية ، والفاء رابطة للجواب لأنه فعل إنشاء.

وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد لأن باء

٥١٩

المصاحبة بمعنى (مع) فهي مثل (مع) في أنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه لأن شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد فعله ، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره.

ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك ، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى :

قد قلت لما جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرضه الثناء

فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام.

وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيّز جواب (إِذا) ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قال : «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل ، وهو التهيّؤ للقاء الله ، وأن حياته الدنيوية أو شكت على الانتهاء ، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه ، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتب عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧] الآية ، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية.

٥٢٠