تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

ذكي قابل للتأنس والتربية ، ضخم الجثة أضخم من البعير ، وأعلى منه بقليل وأكثر لحما وأكبر بطنا. وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدافع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ، ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه. وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان ، وذنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة. ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخذ الناس منها العاج. وجلده أجرد مثل جلد البقر ، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد. وهو مركوب وحامل أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود. ولم يكن الفيل معروفا عند العرب فلذلك قلّ أن يذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة.

وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة. ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيما قويا ، قال لبيد :

ومقام ضيّق فرّجته

ببيان ولسان وجدل

لو يقوم الفيل أو فيّاله

زل عن مثل مقامي ورحل

وقال كعب بن زهير في قصيدته :

لقد أقوم مقاما لو يقوم به

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظلّ يرعد إلا أن يكون له

من الرسول بإذن الله تنويل

وكنت رأيت أنّ .... قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة.

وعن عائشة وعتاب بن أسيد : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.

والمعنى : ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل ، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده.

[٢ ـ ٥] (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

٤٨١

هذه الجمل بيان لما في جملة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) [الفيل : ١] من الإجمال. وسمى حربهم كيدا لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس. وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حجّ القليس في صنعاء فيتنصّروا.

أو أريد بكيدهم بناؤهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء.

والكيد : الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه.

والتضليل : جعل الغير ضالا ، أي لا يهتدي لمراده وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر.

وظرفية الكيد في التضليل مجازية ، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة الشديدة ، أي أبطل كيدهم بتضليل ، أي مصاحبا للتضليل لا يفارقه ، والمعنى : أنه أبطله إبطالا شديدا إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم. وهذا كقوله تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) [غافر : ٣٧] أي ضياع وتلف ، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حلّ بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب.

وجملة : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) يجوز أن تجعل معطوفة على جملة (فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١] ، أي وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت ، فبعد أن وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حلّ بهم من نقمة الله تعالى ، لقصدهم تخريب الكعبة ، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدينه في ذلك البلد ، إجابة لدعوة إبراهيم عليه‌السلام ، فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم ، كان فيه جزاء لهم ، ليعلموا أن الله مانع بيته ، وتكون جملة : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.

ويجوز أن تجعل (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ) عطفا على جملة (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل ، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطلا لكيدهم وكونه عقوبة لهم ، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف

٤٨٢

(لَمْ) كما تقدم في قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) في سورة الضحى [٦ ، ٧] ، فكأنه قيل : أليس جعل كيدهم في تضليل.

والطير : اسم جمع طائر ، وهو الحيوان الذي يرتفع في الجو بعمل جناحيه. وتنكيره للنوعية لأنه نوع لم يكن معروفا عند العرب. وقد اختلف القصّاصون في صفته اختلافا خياليا. والصحيح ما روي عن عائشة : أنها أشبه شيء بالخطاطيف ، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط.

و (أَبابِيلَ) : جماعات. قال الفراء وأبو عبيدة : أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري ، وقال الرّؤاسي والزمخشري : واحد أبابيل إبّالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة. ومنه قولهم في المثل : «ضغث على إبّالة» وهي الحزمة الكبيرة من الحطب. وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ.

وجملة (تَرْمِيهِمْ) حال من (طَيْراً) وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) [فاطر : ٩] الآية.

وحجارة : اسم جمع حجر. عن ابن عباس قال : طين في حجارة ، وعنه أن سجيل معرب سنك كل من الفارسية ، أي عن كلمة (سنك) وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة (كل) بكسر الكاف اسم الطين ومجموع الكلمتين يراد به الآجر.

وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمّدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف ، ولذلك تكون (مِنْ) بيانية ، أي حجارة هي سجيل ، وقد عد السبكي كلمة سجيل في «منظومته في المعرّب الواقع في القرآن».

وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات: ٣٣] مع قوله في آيات أخر (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) فعلم أنه حجر أصله طين.

وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود [٨٢] : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) وفي سورة الحجر [٧٤] : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ، أي ليست حجرا صخريا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها

٤٨٣

مخلوقة لعذابهم.

قال ابن عباس : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجدري (١). وقال عكرمة : إذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري.

وقد قيل : إن الجدري لم يكن معروفا في مكة قبل ذلك.

وروي أن الحجر كان قدر الحمّص. روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال : رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرا بحتمة (أي سواد) كأنها جزع ظفار. وعن ابن عباس : أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هاني نحو قفيز مخططة بحمرة بالجزع الظّفاري.

والعصف : ورق الزرع وهو جمع عصفة. والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا. وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين.

__________________

(١) بضم الجيم وفتح الدال المهملة ويقال بفتحهما لغتان : قروح إذا كثرت أهلكت وإذا أصابت الجلد بقي أثرها حفرا وتصيب العين فيعمى المصاب.

٤٨٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٦ ـ سورة قريش

سميت هذه السورة في عهد السلف : «سورة لإيلاف قريش» قال عمرو بن ميمون الأودي «صلّى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) و (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) وهذا ظاهر في إرادة التسمية ، ولم يعدّها في «الإتقان» في السور التي لها أكثر من اسم.

وسميت في المصاحف وكتب التفسير «سورة قريش» لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها ، وبذلك عنونها البخاري في «صحيحه».

والسورة مكية عند جماهير العلماء. وقال ابن عطية : بلا خلاف. وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية ، ولم يذكرها في «الإتقان» مع السور المختلف فيها.

وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.

وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة.

وجعلها أبيّ بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور ، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب. والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك.

وعدد آياتها أربع عند جمهور العادّين. وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات.

ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة.

٤٨٥

أغراضها

أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أنّ الله مكّن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم.

وبأنه أمنهم من المجاعات وأمّنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمّار الكعبة.

وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة.

وردّ القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت : ٦٧] فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم.

[١ ـ ٤] (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

افتتاح مبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور. وزاده الطول تشويقا إذ فصل بينه وبين متعلّقه (بالفتح) بخمس كلمات ، فيتعلق (لِإِيلافِ) بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا).

وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل «ليعبدوا».

وأصل نظم الكلام : لتعبد قريش ربّ هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فلما اقتضى قصد الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله ، تولّد من تقديمه معنى جعله شرطا لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط ، فالفاء الداخلة في قوله : (فَلْيَعْبُدُوا) مؤذنة بأن ما قبلها في قوة الشرط ، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه ، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه ، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع.

قال في «الكشاف» : دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إمّا لا فليعبدوه لإيلافهم ، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة ا ه.

٤٨٦

وقال الزجاج في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره ا ه. وهو معنى ما في «الكشاف». وسكتا عن منشإ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور ، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في سورة البقرة [٤٠] ، ومنه قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) في سورة يونس [٥٨] وقوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) في سورة الشورى [١٥]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي سأله عن الجهاد فقال له : «ألك أبوان؟ فقال : نعم. قال : ففيهما فجاهد».

ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل (اعجبوا) محذوفا ينبئ عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب ، يقال : عجبا لك ، وعجبا لتلك قضية ، ومنه قول امرئ القيس : «فيا لك من ليل» لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله : (فَلْيَعْبُدُوا) تفريعا على التعجيب.

وجوّز الفراء وابن إسحاق في «السيرة» أن يكون (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلقا بما في سورة الفيل [٥] من قوله : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال القرطبي : وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس. قال الزمخشري : وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلّا به ا ه. يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تلحق الآية بآية نزلت قبلها ، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها.

والإيلاف : مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان ، والأصل هو ألف ، وصيغة الإفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين ، فصارت تستعمل في إفادة قوة الفعل مجازا ، ثم شاع ذلك في بعض ذلك الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سافر ، وعافاه الله ، وقاتلهم الله.

وقرأه الجمهور في الموضعين (لِإِيلافِ) بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية. وقرأ ابن عامر «لإلاف» الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية ، وقرأه (إِيلافِهِمْ) بإثبات الياء مثل الجمهور. وقرأ أبو جعفر «ليلاف قريش» بحذف الهمزة الأولى. وقرأ «إلافهم» بهمزة مكسورة من غير ياء.

وذكر ابن عطية والقرطبي أن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في «لإألاف» وفي «إألافهم» ، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له.

٤٨٧

قلت : لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم. والمعروف أن عاصما موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء ، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم.

وقد كتب في المصحف «إلفهم» بدون ياء بعد الهمزة وأما الألف المدّة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدّات مثلها ، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارئ ، ورسم المصحف سنّة متّبعة سنّها الصحابة الذين عيّنوا لنسخ المصاحف وإضافة «إيلاف» إلى (قُرَيْشٍ) على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام.

وقريش : لقب الجد الذي يجمع بطونا كثيرة وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. هذا قول جمهور النّسابين وما فوق فهر فهم من كنانة ، ولقّب فهر بلقب قريش بصيغة التصغير وهو على الصحيح تصغير قرش (بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة) اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن.

وقال بعض النسابين : إن قريشا لقب النضر بن كنانة. وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه سئل من قريش؟ فقال : من ولد النضر». وفي رواية أنه قال : «إنّا ولد النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ولا ننتفي من أبينا». فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم وكانت بنو كنانة بخيف منى. ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النّسيء.

وقوله : (إِيلافِهِمْ) عطف بيان من «إيلاف قريش» وهو من أسلوب الإجمال ، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ومنه قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) [غافر : ٣٦] حكاية لكلام فرعون ، وقول امرئ القيس :

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

والرحلة بكسر الراء : اسم للارتحال ، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد ، ولذلك سمي البعير الذي يسافر عليه راحلة.

وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه فقد يكون الفعل مستغرقا لزمانه مثل قولك : سهر الليل ، وقد يكون وقتا لابتدائه مثل صلاة الظهر ، وظاهر

٤٨٨

الإضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة ، وهما رحلتان. فعطف (وَالصَّيْفِ) على تقدير مضاف ، أي ورحلة الصيف ، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين.

وجوز الزمخشري أن يكون لفظ (رِحْلَةَ) المفرد مضافا إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس. وقال أبو حيان : هذا عند سيبويه لا يجوز إلا في الضرورة.

و (الشِّتاءِ) : اسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول. وفصل الشتاء تسعة وثمانون يوما وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجدي ، ونهايتها خروج الشمس من برج الحوت ، وبروجه ثلاثة : الجدي ، والدّلو ، والحوت. وفصل الشتاء مدة البرد.

و (الصَّيْفِ) : اسم لفصل من السنة الشمسية ، وهو زمن الحرّ ومدته ثلاثة وتسعون ويوما وبضع ساعات ، مبدؤها حلول الشمس في برج السرطان ونهايته خروج الشمس من برج السّنبلة ، وبروجه ثلاثة : السرطان ، والأسد ، والسنبلة.

قال ابن العربي : قال مالك : الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا (يعني طلوع الثريا عند الفجر وذلك أول فصل الصيف) وهو اليوم التاسع عشر من (بشنس) وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس ا ه. وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهرا.

وشهر بشنس يبتدئ في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان (أبريل) وهو ثلاثون يوما ينتهي يوم ٢٥ من شهر (أيار ـ مايه).

وطلوع الثريا عند الفجر وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط. قال أئمة اللغة : فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر.

والسنة بالتحقيق أربعة فصول : الصيف : ثلاثة أشهر ، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع ، ويليه القيظ ثلاثة أشهر ، وهو شدة الحر ، ويليه الخريف ثلاثة أشهر ، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر. وهذه الآية صالحة للاصطلاحين. واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء ، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في

٤٨٩

برج الحمل ، وهاتان الرحلتان هما رحلتا تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير ، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام.

وكان الذين سنّ لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف ، وسبب ذلك أنهم كانوا تعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاما لقوتهم حمل ربّ البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعا ويسمى ذلك الاعتفار (بالعين المهملة وبالراء وقيل بالدال عوض الراء وبفاء) فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشما لأن أحد أبنائهم كان تربا لأسد بن هاشم ، فقام هاشم خطيبا في قريش وقال : إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعزّ العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبّع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم ، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم ، وفيه يقول مطرود الخزاعي :

يا أيها الرجل المحوّل رحله

هلا نزلت بآل عبد مناف

الآخذون العهد من آفاقها

والراحلون لرحلة الإيلاف

والخالطون غنيّهم بفقيرهم

حتى يصير فقيرهم كالكافي

ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإسلام وهم على ذلك.

والمعروف المشهور أن الذي سنّ الإيلاف هو هاشم ، وهو المروي عن ابن عباس ، وذكر ابن العربي عن الهروي : أن أصحاب الإيلاف هاشم ، وإخوته الثلاثة الآخرون عبد شمس ، والمطلب ، ونوفل ، وأن كان واحد منهم أخذ حبلا ، أي عهدا من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم ملك الشام ، وملك الحبشة ، وملك اليمن ، وملك فارس ، فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم ، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس ، فكانوا يجعلون جعلا لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضا يعطونهم شيئا من الربح ويحملون إليهم متاعا ويسوقون إليهم إبلا مع إبلهم ليكفوهم مئونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسمّون المجيرين.

وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة فزعم أن الرحل

٤٩٠

كانت أربعا ، قال ابن عطية : وهذا قول مردود ، وصدق ابن عطية ، فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعا ، فإن ذلك لم يقله أحد ، ولعل هؤلاء الأخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العير ، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تعرّض المسلمون لها يوم بدر عير أبي سفيان إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة.

ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وأن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها.

وعند القبائل التي تحرّم الأشهر الحرم والقبائل التي لا تحرّمها مثل طيئ وقضاعة وخثعم ، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها ، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم ، وأصحاب التجارات يحمّلونهم سلعهم ، وصارت مكة وسطا تجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد ، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بواد غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من برّ وشعير وذرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية ، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية ، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم ، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن الله عليهم نعما كثيرة لأن هذا الإيلاف كان سببا جامعا لأهم النعم التي بها قوام بقائهم.

وقد تقدم آنفا الكلام على معنى الفاء من قوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) على الوجوه كلها.

والعبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

٤٩١

وتعريف (رَبَ) بالإضافة إلى (هذَا الْبَيْتِ) دون أن يقال : فليعبدوا الله لما يومئ إليه لفظ (رَبَ) من استحقاقه الإفراد بالعبادة دون شريك.

وأوثر إضافة (رَبَ) إلى (هذَا الْبَيْتِ) دون أن يقال : ربهم للإيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سببا لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة : ٩٧] وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله.

والبيت معهود عند المخاطبين.

والإشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام على أن البيت بهذا التعريف باللام صار علما بالغلبة على الكعبة ، و «رب البيت» هو الله والعرب يعترفون بذلك.

وأجري وصف الرب بطريقة الموصول (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم ، وذلك مما جعلهم أهل ثراء ، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم. وهذا إشارة إلى ما يسّر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك. فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وكان أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام على الإبل إلى مكة فيباع الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم ، وكذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنّة ، وسوق ذي المجاز ، وسوق عكاظ ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش ، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف. وتلك دعوة إبراهيم عليه‌السلام إذ قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) [البقرة : ١٣٦] فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوته : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» ، فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أوّل الهجرة.

و (مِنْ) الداخلة على (جُوعٍ) وعلى (خَوْفٍ) معناها البدلية ، أي أطعمهم بدلا من الجوع وآمنهم بدلا من الخوف. ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامهم بدل من الجوع الذي تقتضيه البلاد ، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكّة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين

٤٩٢

لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضا عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧].

وتنكير (جُوعٍ) و (خَوْفٍ) للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحلّ بهم جوع وخوف من قبل ، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد :

زعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

أولئك أومنوا جوعا وخوفا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا

٤٩٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٧ ـ سورة الماعون

سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير «سورة الماعون» لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها.

وسميت في بعض التفاسير «سورة أرأيت» وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس ، وكذلك عنونها في «صحيح البخاري».

وعنونها ابن عطية ب «سورة أرأيت الذي». وقال الكواشي في «التلخيص» «سورة الماعون والدين وأ رأيت» وفي «الإتقان» : وتسمى «سورة الدين» وفي «حاشيتي الخفاجي وسعدي» تسمى «سورة التكذيب» وقال البقاعي في «نظم الدرر» تسمى «سورة اليتيم». وهذه ستة أسماء.

وهي مكية في قول الأكثر. وروي عن ابن عباس ، وقال القرطبي عن قتادة : هي مدنية. وروي عن ابن عباس أيضا. وفي «الإتقان» : قيل نزل ثلاث أولها بمكة إلى قوله : (الْمِسْكِينِ) [الماعون : ٣] وبقيتها نزلت بالمدينة ، أي بناء على أن قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) [الماعون : ٤] إلى آخر السورة أريد به المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير (١) وهو الأظهر.

وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية ، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون.

وعدت آياتها ستا عند معظم العادين. وحكى الآلوسي أن الذين عدّوا آياتها ستّا أهل

__________________

(١) هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم الضرير البغدادي المفسر له كتاب «الناسخ والمنسوخ» كانت له حلقة في جامع المنصور توفي سنة ٤١٠ «تاريخ بغداد» ونكت الهميان».

٤٩٤

العراق (أي البصرة والكوفة) ، وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في «غيث النفع» : وآيها سبع حمصي (أي شامي) وست في الباقي. وهذا يخالف ما قاله الآلوسي.

أغراضها

من مقاصدها التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين ، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه.

[١ ـ ٣] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣))

الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء ، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع. فالتعجيب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دعّ اليتيم وعدم الحضّ على طعام المسكين ، وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوّق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام ، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارا للتعجب فيترقب السامع ما ذا يرد بعده وهو قوله : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)

وفي إقحام اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كمال تمكّن.

وأصل ظاهر الكلام أن يقال : أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.

والإشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز حتى يتبصر السامع فيه وفي صفته ، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه.

والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام ، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدا مثل قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات : ١ ـ ٣].

فمعنى الآية عطف صفتي : دع اليتيم ، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين.

٤٩٥

وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنافيا لما تقتضيه الحكمة من التكليف ، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء.

وجيء في (يُكَذِّبُ) ، و (يَدُعُ) ، و (يَحُضُ) بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه.

وهذا إيذان بأن الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه ، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى آمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وآمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النّكراء.

والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد ، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة ، فنزّلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصر المشاهد.

وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من (أَرَأَيْتَ) ألفا. وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفا وهو الذي قرأنا به في تونس ، وهكذا في فعل (رأى) كلما وقع بعد همزة استفهام ، وذلك فرار من تحقيق الهمزتين ، وقرأه الجمهور بتحقيقهما.

وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل. واسم الموصول وصلته مراد بهما جنس من اتصف بذلك. وأكثر المفسرين درجوا على ذلك.

وقيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وقيل : في الوليد بن المغيرة المخزومي ، وقيل : في عمرو بن عائذ المخزومي ، وقيل : في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا. وقيل : في أبي جهل : كان وصيا على يتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا.

والذين جعلوا السورة مدنية قالوا : نزلت في منافق لم يسموه ، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصّصا حكمها بمن نزلت بسببه.

ومعنى (يَدُعُ) يدفع بعنف وقهر ، قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣].

٤٩٦

والحض : الحث ، وهو أن تطلب غيرك فعلا بتأكيد.

والطعام : اسم الإطعام ، وهو اسم مصدر مضاف إلى مفعوله إضافة لفظية. ويجوز أن يكون الطعام مرادا به ما يطعم كما في قوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) [البقرة : ٢٥٩] فتكون إضافة طعام إلى المسكين معنوية على معنى اللام ، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور ب (على) تقديره : على إعطاء طعام المسكين.

وكنى بنفي الحضّ عن نفي الإطعام لأن الذي يشحّ بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح كما تقدم في قوله : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) في سورة الفجر [١٨] وقوله : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) في سورة الحاقة [٣٤].

والمسكين : الفقير ، ويطلق على الشديد الفقر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) في سورة التوبة [٦٠].

[٤ ـ ٧] (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتب والتسبب. فيجيء على القول : إن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عين المراد بالذي يكذب بالدين ، ويدعّ اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، فقوله (لِلْمُصَلِّينَ) إظهار في مقام الإضمار كأنه قيل : فويل له على سهوه عن الصلاة ، وعلى الرياء ، وعلى منع الماعون ، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ستّ صفات لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإضافات الذي قيل إنه مناكد للفصاحة ، مع الإشارة بتوسط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو أهلها وهذا المعنى أشار إليه كلام «الكشاف» بغموض.

فوصفهم ب «المصلين» إذن تهكم ، والمراد عدمه ، أي الذين لا يصلون ، أي ليسوا بمسلمين كقوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر : ٤٣ ، ٤٤] وقرينة التهكم وصفهم ب (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ)

وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد

٤٩٧

بالمصلين (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) المنافقين. وروى هذا ابن وهب وأشهب عن مالك ، فتكون الفاء في قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) من هذه الجملة لربطها بما قبلها لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض.

وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد ب (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) : جنس المكذبين على أظهر الأقوال. فإن كان المراد به معينا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذييلا يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة ، وصفة الرياء ، وصفة منع الماعون.

وقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) صفة (لِلْمُصَلِّينَ) مقيّدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق.

فيكون قوله (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ترشيحا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم.

وعدي (ساهُونَ) بحرف (عَنْ) لإفادة أنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة.

وقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلّا رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة.

ويجوز أن يكون معناه : الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق (ساهُونَ) تهكما كما قال تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) في المنافقين في سورة النساء [١٤٢].

و (يراءون) يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسن ما هم بموصوفين بها ، ولذلك كثر أن تعطف السّمعة على الرياء فيقال : رياء وسمعة.

وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإراءة.

و (الْماعُونَ) : يطلق على الإعانة بالمال ، فالمعنى : يمنعون فضلهم أو يمنعون

٤٩٨

الصدقة على الفقراء. فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة.

وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب : الماعون : المال بلسان قريش.

وروى أشهب عن مالك : الماعون : الزكاة ، ويشهد له قول الراعي :

قوم على الإسلام لمّا يمنعوا

ماعونهم ويضيّعوا التهليلا

لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة.

ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشدّ وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطائه. وعن عائشة : الماعون الماء والنار والملح. وهذا ذم لهم بمنتهى البخل. وهو الشح بما لا يزرئهم.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (هُمْ يُراؤُنَ) لتقوية الحكم ، أي تأكيده.

فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلات بعدها : المنافقين ، فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤] أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي الصدقة أو الزكاة ، قال تعالى في المنافقين : (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فلما عرفوا بهذه الخلال مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدعّون اليتيم ولا يحضّون على طعام المسكين.

وحكى هبة الله بن سلامة في كتاب «الناسخ والمنسوخ» : أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول ، أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] أي الرسول إليهم.

والسهو حقيقته : الذهول عن أمر سبق علمه ، وهو هنا مستعار للإعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى : (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٤١] أي تعرضون عنهم ، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى : (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها

٤٩٩

غافِلِينَ) في سورة الأعراف [١٣٦] وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) في سورة يونس [٧] ، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة ، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون.

واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقا بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسبا لما هو متصل به ، فتكون الفاء للتفريع. وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك بملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقا بشيء نزل قبله منه.

٥٠٠