تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤] ، فيكون (قَدْحاً) ترشيحا لاستعارة (الموريات) ومنصوبا على المفعول المطلق ل (الموريات) وجوز أن يكون (قَدْحاً) بمعنى استخراج المرق من القدر في القداح لإطعام الجيش أو الركب ، وهو مشتق من اسم القدح ، وهو الصحفة فيكون (قَدْحاً) مصدرا منصوبا على المفعول لأجله.

والمغيرات : اسم فاعل من أغار ، والإغارة تطلق على غزو الجيش دارا وهو أشهر إطلاقها فإسناد الإغارة إلى ضمير (الْعادِياتِ) مجاز عقلي فإن المغيرين راكبوها ولكن الخيل أو إبل الغزو أسباب للإغارة ووسائل.

وتطلق الإغارة على الاندفاع في السير.

و (صُبْحاً) ظرف زمان فإذا فسر «المغيرات» بخيل الغزاة فتقييد ذلك بوقت الصبح لأنهم كانوا إذا غزوا لا يغيرون على القوم إلا بعد الفجر ولذلك كان منذر الحيّ إذا أنذر قومه بمجيء العدوّ نادى : يا صباحاه ، قال تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) [الصافات : ١٧٧].

وإذا فسر «المغيرات» بالإبل المسرعات في السير ، فالمراد : دفعها من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر وكانوا يدفعون بكرة عند ما تشرق الشمس على ثبير ومن أقوالهم في ذلك : «أشرق ثبير كيما نغير».

«وأثرن به نقعا» : أصعدن الغبار من الأرض من شدة عدوهن ، والإثارة : الإهاجة ، والنقع : الغبار.

والباء في (بِهِ) يجوز أن تكون سببية ، والضمير المجرور عائد إلى العدو المأخوذ من (الْعادِياتِ) ويجوز كون الباء ظرفية والضمير عائدا إلى (صُبْحاً) ، أي أثرن في ذلك الوقت وهو وقت إغارتها.

ومعنى : «وسطن» : كنّ وسط الجمع ، يقال : وسط القوم ، إذا كان بينهم.

و (جَمْعاً) مفعول : «وسطن» وهو اسم لجماعة الناس ، أي صرن في وسط القوم المغزوون. فأما بالنسبة إلى الإبل فيتعين أن يكون قوله : (جَمْعاً) بمعنى المكان المسمى (جَمْعاً) وهو المزدلفة فيكون إشارة إلى حلول الإبل في مزدلفة قبل أن تغير صبحا منها إلى عرفة إذ ليس ثمة جماعة مستقرة في مكان تصل إليه هذه الرواحل.

٤٤١

ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات «العاديات وضبحا والموريات وقدحا ، والمغيرات وصبحا ، ووسطن وجمعا» دون غيرها لأنها برشقاتها تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو ورواحل الحج.

وعطفت هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بالفاء لأن أسلوب العرب في عطف الصفات وعطف الأمكنة أن يكون بالفاء وهي للتعقيب ، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول كما في هذه الآية ، وكما في قول ابن زيّابة :

يا لهف زيّابة للحارث الصّ

ابح فالغانم فالآئب (١)

وقد يكون لمجرد تعقيب الذّكر كما في سورة الصافات.

والفاء العاطفة لقوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) عاطفة على وصف «المغيرات». والمعطوف بها من آثار وصف المغيرات. وليست عاطفة على صفة مستقلة مثل الصفات الثلاث التي قبلها لأن إثارة النقع وتوسط الجمع من آثار الإغارة صبحا ، وليسا مقسما بهما أصالة وإنما القسم بالأوصاف الثلاثة الأولى.

فلذلك غير الأسلوب في قوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإشارة إلى أن الكلام انتقل من القسم إلى الحكاية عن حصول ما ترتّب على تلك الأوصاف الثلاثة ما قصد منها من الظفر بالمطلوب الذي لأجله كان العدو والإيراء والإغارة عقبه وهي الحلول بدار القوم الذين غزوهم إذا كان المراد ب (الْعادِياتِ) الخيل ، أو بلوغ تمام الحج بالدفع عن عرفة إذا كان المراد ب (الْعادِياتِ) رواحل الحجيج ، فإن إثارة النقع يشعرون بها عند الوصول حين تقف الخيل والإبل دفعة ، فتثير أرجلها نقعا شديدا فيما بينهما ، وحينئذ تتوسطن الجمع من الناس. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المراد بقوله : (جَمْعاً) اسم المزدلفة حيث المشعر الحرام.

ومناسبة القسم بهذه الموصوفات دون غيرها إن أريد رواحل الحجيج وهو الوجه الذي فسر به علي بن أبي طالب هو أن يصدّق المشركون بوقوع المقسم عليه لأن القسم بشعائر الحج لا يكون إلا بارا حيث هم لا يصدقون بأن القرآن كلام الله ويزعمونه قول

__________________

(١) يعني : زيابة أمه. واسمه سلمة بن ذهل التّيمي. والحارث هو ابن همام الشيباني الذي هدد ابن زيابة فأجابه ابن زيابة متهكما.

٤٤٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإن أريد ب (الْعادِياتِ) وما عطف عليها خيل الغزاة ، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإشعار المشركين بأنّ غارة تترقبهم وهي غزوة بدر ، مع تسكين نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المنذر بن عمرو إذا صحّ خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجا للاطمئنان.

وجملة : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) جواب القسم.

والكنود : وصف من أمثلة المبالغة من كند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعة : الكفور بالنعمة ، وبلغة كنانة : البخيل ، وفي لغة كندة وحضرموت : العاصي. والمعنى : لشديد الكفران لله.

والتعريف في (الْإِنْسانَ) تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ، أي أن في طبع الإنسان الكنود لربه ، أي كفران نعمته ، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوت فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكمّل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر في الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة النفسية وتذكّر حق غيره. وبذلك قد يذهل أو ينسى حق الله ، والإنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته ، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخلق منها ، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته.

وهذا ما أشار إليه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) فلذلك كان الاستغراق عرفيا أو عامّا مخصوصا ، فالإنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة ، بالقول والقصد ، أو بالفعل والغفلة ، فالإشراك كنود ، والعصيان كنود ، وقلة ملاحظة صرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود ، وهو متفاوت ، فهذا خلق متأصل في الإنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] وقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧] وقد تقدمت قريبا.

وعن ابن عباس : تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي.

وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده» وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله

٤٤٣

وحده ، أي عدم إطعامه أحدا معه ، أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة ، وكذلك منعه الرفد ، ومثله : ضربه عبده فإن فيه نسيانا لشكر الله الذي جعل العبد ملكا له ولم يجعله ملكا للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكنود.

وقيل التعريف في (الْإِنْسانَ) للعهد ، وأن المراد به الوليد بن المغيرة ، وقيل : قرطة بن عبد عمرو بن نوفل القرشي.

واللام في (لِرَبِّهِ) لام التقوية لأن (كنود) وصف ليس أصيلا في العمل ، وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية ، ومع تأخيره عن معموله.

وتقديم (لِرَبِّهِ) لإفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه كنود للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين ، ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر (إنّ) للتعجيب من هذا الخبر.

وتقديم (لِرَبِّهِ) على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف ، وابن هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر (إنّ) ليست بذات صدارة.

وضمير (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) عائد إلى الإنسان على حسب الظاهر الذي يقتضيه انتساق الضمائر واتحاد المتحدث عنه وهو قول الجمهور.

والشهيد : يطلق على الشاهد وهو الخبر بما يصدّق دعوى مدع ، ويطلق على الحاضر ومنه جاء إطلاقه على العالم الذي لا يفوته المعلوم ، ويطلق على المقر لأنه شهد على نفسه.

والشهيد هنا : إما بمعنى المقر كما في «أشهد أن لا إله إلا الله».

والمعنى : أن الإنسان مقر بكنوده لربه من حيث لا يقصد الإقرار ، وذلك في فلتات الأقوال مثل قول المشركين في أصنامهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣]. فهذا قول يلزمه اعترافهم بأنهم عبدوا ما لا يستحق أن يعبد وأشركوا في العبادة مع المستحق للانفراد بها ، أليس هذا كنودا لربهم ، قال تعالى : (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) [الأنعام : ١٣٠] ، وفي فلتات الأفعال كما يعرض للمسلم في المعاصي.

٤٤٤

والمقصود من هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان بأنه معلوم لصاحبه بأدنى تأمل في أقواله وأفعاله. وعلى هذا فحرف (عَلى) متعلق ب «شهيد» واسم الإشارة مشار به إلى الكنود المأخوذ من صفة «كنود».

ويجوز أن يكون «شهيد» بمعنى (عليم) كقول الحارث بن حلّزة في عمرو بن هند :

وهو الربّ والشهيد على يو

م الخيارين والبلاء بلاء

ومتعلق «شهيد» محذوفا دلّ عليه المقام ، أي عليم بأن الله ربه ، أي بدلائل الربوبية ، ويكون قوله : (عَلى ذلِكَ) بمعنى : مع ذلك ، أي مع ذلك الكنود هو عليم بأنه ربه مستحق للشكر والطاعة لا للكنود ، فحرف (عَلى) بمعنى (مع) كقوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧] و (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] وقول الحارث بن حلزة :

فبقينا على الشّناءة تنم

نا حصون وعزة قعساء

والجار والمجرور في موضع الحال وذلك زيادة في التعجيب من كنود الإنسان.

وقال ابن عباس والحسن وسفيان : ضمير (وَإِنَّهُ) عائد إلى «ربه» ، أي وأن الله على ذلك لشهيد ، والمقصود أن الله يعلم ذلك في نفس الإنسان ، وهذا تعريض بالتحذير من الحساب عليه. وهذا يسوغه أن الضمير عائد إلى أقرب مذكور ونقل عن مجاهد وقتادة كلا الوجهين فلعلهما رأيا جواز المحملين وهو أولى.

وتقديم (عَلى ذلِكَ) على «شهيد» للاهتمام والتعجيب ومراعاة الفاصلة.

والشديد : البخيل. قال أبو ذؤيب راثيا :

حذرناه بأثواب في قعر هوة

شديد على ما ضمّ في اللحد جولها

والجول بالفتح والضّم : التراب ، كما يقال للبخيل المتشدد أيضا قال طرفة :

عقيلة مال الفاحش المتشدد

واللام في (لِحُبِّ الْخَيْرِ) لام التعليل ، والخير : المال قال تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨].

والمعنى : إن في خلق الإنسان الشّحّ لأجل حبه المال ، أي الازدياد منه قال تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩].

وتقديم (لِحُبِّ الْخَيْرِ) على متعلّقه للاهتمام بغرابة هذا المتعلق ولمراعاة الفاصلة ،

٤٤٥

وتقديمه على عامله المقترن بلام الابتداء ، وهي من ذوات الصدر لأنه مجرور كما علمت في قوله : (لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)

وحب المال يبعث على منع المعروف ، وكان العرب يعيّرون بالبخل وهم مع ذلك يبخلون في الجاهلية بمواساة الفقراء والضعفاء ويأكلون أموال اليتامى ولكنهم يسرفون في الإنفاق في مظان السمعة ومجالس الشرب وفي الميسر قال تعالى : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر : ١٨ ـ ٢٠].

[٩ ، ١٠] (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠))

فرع على الإخبار بكنود الإنسان وشحه استفهام إنكاري عن عدم علم الإنسان بوقت بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور فإنه أمر عجيب كيف يغفل عنه الإنسان. وهمزة الاستفهام قدمت على فاء التفريع لأن الاستفهام صدر الكلام.

وانتصب (إِذا) على الظرفية لمفعول (يَعْلَمُ) المحذوف اقتصارا ، ليذهب السامع في تقديره كلّ مذهب ممكن قصدا للتهويل.

والمعنى : ألا يعلم العذاب جزاء له على ما في كنوده وبخله من جناية متفاوتة المقدار إلى حد إيجاب الخلود في النار.

وحذف مفعولا (يَعْلَمُ) ولا دليل في اللفظ على تعيين تقديرهما فيوكل إلى السامع تقدير ما يقتضيه المقام من الوعيد والتهويل ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف الاقتصاري ، وحذف كلا المفعولين اقتصارا جائز عند جمهور النحاة وهو التحقيق وإن كان سيبويه يمنعه.

و (بُعْثِرَ) : معناه قلب من سفل إلى علوّ ، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) في سورة الانفطار [٤].

و (حُصِّلَ) : جمع وأحصي. و (ما فِي الصُّدُورِ) : هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق ، أي جمع عدّه والحساب عليه.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

٤٤٦

جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإنكار ، أي كان شأنهم أن يعلموا اطلاع الله عليهم إذا بعثر ما في القبور ، وأن يذكروه لأن وراءهم الحساب المدقق ، وتفيد هذه الجملة مفاد التذييل.

وقوله : (يَوْمَئِذٍ) متعلق بقوله : (لَخَبِيرٌ) ، أي عليم.

والخبير : مكنّى به عن المجازى بالعقاب والثواب ، بقرينة تقييده بيومئذ لأن علم الله بهم حاصل من وقت الحياة الدنيا ، وأما الذي يحصل من علمه بهم يوم بعثرة القبور ، فهو العلم الذي يترتب عليه الجزاء.

وتقديم (بِهِمْ) على عامله وهو (لَخَبِيرٌ) للاهتمام به ليعلموا أنهم المقصود بذلك. وتقديم المجرور على العامل المقترن بلام الابتداء مع أن لها الصدر سائغ لتوسعهم في المجرورات والظرف كما تقدم آنفا في قوله : (لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) [العاديات : ٦] وقوله : (عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) [العاديات : ٧] وقوله : (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨]. وقد علمت أن ابن هشام ينازع في وجوب صدارة لام الابتداء التي في خبر (إِنَ)

٤٤٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠١ ـ سورة القارعة

اتفقت المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة على تسمية هذه السورة «سورة القارعة» ولم يرو شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين.

واتّفق على أنها مكية.

وعدت الثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة.

وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهل مكة ، وثمان في عد أهل الشام والبصرة ، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.

أغراضها

ذكر فيها إثبات وقوع البعث وما يسبق ذلك من الأهوال.

وإثبات الجزاء على الأعمال وأن أهل الأعمال الصالحة المعتبرة عند الله في نعيم ، وأهل الأعمال السيئة التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم.

[١ ـ ٣] (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))

الافتتاح بلفظ (الْقارِعَةُ) افتتاح مهول ، وفيه تشويق إلى معرفة ما سيخبر به.

وهو مرفوع إما على الابتداء و (مَا الْقارِعَةُ) خبره ويكون هناك منتهى الآية.

فالمعنى : القارعة شيء عظيم هي. وهذا يجري على أن الآية الأولى تنتهى بقوله : (مَا الْقارِعَةُ) وإمّا أن تكون (الْقارِعَةُ) الأول مستقلا بنفسه ، وعدّ آية عند أهل الكوفة فيقدر خبر

٤٤٨

عنه محذوف نحو : القارعة قريبة ، أو يقدر فعل محذوف نحو أتت القارعة ، ويكون قوله : (مَا الْقارِعَةُ) استئنافا للتهويل ، وجعل آية ثانية عند أهل الكوفة ، وعليه فالسورة مسمطة من ثلاث فواصل في أولها وثلاث في آخرها وفاصلتين وسطها.

وإعادة لفظ (الْقارِعَةُ) إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال : القارعة ماهية ، لما في لفظ القارعة من التهويل والترويع ، وإعادة لفظ المبتدأ أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر.

والقارعة : وصف من القرع وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق القرع مجازا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثّر خوف أو اتعاظ ، يقال : قرع فلانا ، أي زجره وعنّفه بصوت غضب. وفي المقامة الأولى : «ويقرع الأسماع بزواجر وعظه».

وأطلقت (الْقارِعَةُ) على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) [الرعد : ٣١] وقيل : تقول العرب : قرعت القوم قارعة ، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقف عليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن.

وتأنيث (الْقارِعَةُ) لتأويلها بالحادثة أو الكائنة.

و (مَا) استفهامية ، والاستفهام مستعمل في التهويل على طريقة المجاز المرسل المركب لأن هول الشيء يستلزم تساؤل الناس عنه.

ف (الْقارِعَةُ) هنا مراد بها حادثة عظيمة. وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة ، وقيل : أريد بها صيحة النفخة في الصّور ، وعن الضحاك : القارعة النار ذات الزفير ، كأنه يريد أنها اسم جهنم.

وهذا التركيب نظير قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٣] وقد تقدم.

ومعنى (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) زيادة تهويل أمر القارعة و (ما) استفهامية صادقة على شخص ، والتقدير : وأي شخص أدراك ، وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وهولها لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفه. وأدراك : بمعنى أعلمك.

و (مَا الْقارِعَةُ) استفهام آخر مستعمل في حقيقته ، أي ما أدراك جواب هذا الاستفهام. وسدّ الاستفهام مسدّ مفعولي (أَدْراكَ)

٤٤٩

وجملة : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) عطف على جملة (مَا الْقارِعَةُ)

والخطاب في (أَدْراكَ) لغير معين ، أي وما أدراك أيها السامع.

وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ـ ٣] وتقدم بعضه عند قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) في سورة الانفطار [١٧].

[٤ ، ٥] (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥))

(يَوْمَ) مفعول فيه منصوب بفعل مضمر دل عليه وصف القارعة لأنه في تقدير : تقرع ، أو دل عليه الكلام كله فيقدر : تكون ، أو تحصل ، يوم يكون الناس كالفراش.

وجملة : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) مع متعلقها المحذوف بيان للإبهامين اللذين في قوله : (مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ٢] وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ٣].

وليس قوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) خبرا عن (الْقارِعَةُ) إذ ليس سياق الكلام لتعيين يوم وقوع القارعة.

والمقصود بهذا التوقيت زيادة التهويل بما أضيف إليه (يَوْمَ) من الجملتين المفيدتين أحوالا هائلة ، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم ، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مداه. كان التوقيت له إطماعا في تعيين وقت حصوله إذ كانوا يسألون متى هذا الوعد ، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاما آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته ، وأبرز في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره ، فإذا باء الباحث بالعجز عن أخذ بحيطة الاستعداد لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرعت به الأسماع في آي كثيرة.

فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق : وهي الابتداء باسم القارعة ، المؤذن بأمر عظيم ، والاستفهام المستعمل في التهويل ، والإظهار في مقام الإضمار أول مرة ، والاستفهام عما ينبئ بكنه القارعة ، وتوجيه الخطاب إلى غير معين ، والإظهار في مقام الإضمار ثاني مرة ، والتوقيت بزمان مجهول حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة.

والفراش : فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضا وهو ما في قوله تعالى : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧]. وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلا وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسير لفظ

٤٥٠

الآية هنا به.

و (الْمَبْثُوثِ) : المتفرق على وجه الأرض.

وجملة : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) معترضة بين جملة (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) وجملة : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] إلخ. وهو إدماج لزيادة التهويل.

ووجه الشبه كثرة الاكتظاظ على أرض المحشر.

والعهن : الصوف ، وقيل : يختص بالمصبوغ الأحمر ، أو ذي الألوان ، كما في قول زهير :

كأنّ فتات العهن في كل منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم

لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) [فاطر : ٢٧].

والمنفوش : المفرق بعض أجزائه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا ، ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندكّ بالزلازل ونحوها فتتفرق أجزاء.

وإعادة كلمة (تَكُونُ) مع حرف العطف للإشارة إلى اختلاف الكونين فإن أولهما كون إيجاد ، والثاني كون اضمحلال ، وكلاهما علامة على زوال عالم وظهور عالم آخر.

وتقدم قوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) في سورة المعارج [٩].

[٦ ـ ١١] (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

تفصيل لما في قوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] من إجمال حال الناس حينئذ ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيلة بحالين : حال حسن وحال فظيع.

وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضى من الله تعالى لكثرة حسناته ، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها ، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه ، وبضد ذلك يقولون :

٤٥١

فلان لا يقام له وزن ، قال تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] ، وقال النابغة :

وميزانه في سورة المجد ماتع

أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في الآية بذكر ما يثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح.

وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيرا في القرآن ، قال ابن العربي في «العواصم» : لم يرد حديث صحيح في الميزان. والمقصود عدم فوات شيء من الأعمال ، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك.

والعيشة : اسم مصدر العيش كالخيفة اسم للخوف. أي في حياة.

ووصف الحياة ب (راضِيَةٍ) مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى.

وقوله : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال ، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها. وهاوية : هالكة ، والكلام تمثيل لحال من خفّت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سرورا بسروره وأشد حزنا بما يحزنه. صلّى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥] فقال الأعرابي : «لقد قرّت عين أمّ إبراهيم» ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همّام الشيباني :

يا لهف زيّابة للحارث الصا

بح فالغانم فالآئب

ويقولون في الشر : هوت أمه ، أي أصابه ما تهلك به أمه ، وهذا كقولهم : ثكلته أمه ، في الدعاء ، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار :

هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا

وما ذا يردّ الليل حين يئوب

أي ما ذا يبعث الصبح منه غاديا وما يردّ الليل حين يئوب غانما ، وحذف منه في الموضعين اعتمادا على قرينة رفع الصبح والليل وذكر : غاديا ويئوب و (من) المقدّرة تجريدية فالكلام على التجريد مثل : لقيت منه أسدا.

٤٥٢

فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحالة المشبهة بحال الهلاك ، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب ، كما تضرب الأمثال السائرة.

ويجوز أن يكون «أمه» مستعارا لمقره ومآله لأنه يأوي إليه كما يأوي الطفل إلى أمه.

و (هاوِيَةٌ) المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك ، يقال : سقط في الهاوية.

وأريد بها جهنم ، وقيل : هي اسم لجهنم ، أي فمأواه جهنم.

ويجوز أن يكون «أمه» على حذف مضاف ، أي أم رأسه ، وهي أعلى الدماغ ، و (هاوِيَةٌ) ساقطة من قولهم سقط على أم رأسه ، أي هلك.

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) : تهويل كما تقدم آنفا.

وضمير (هِيَهْ) عائد إلى (هاوِيَةٌ) ، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام ، إذ معاد الضمير وصف هالكة ، والمراد منه اسم جهنم كما في قول معاوية بن مالك الملقّب معوّذ الحكماء :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى (هاوية) وفسرت بأنها قعر جهنم.

وعلى الوجه الثالث يكون في (هِيَهْ) استخدام أيضا كالوجه الأول.

والهاء التي لحقت ياء (هي) هاء السكت ، وهي هاء تجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه ، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوما ، وبعضه حسن ، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل : هو ، وهي ، وكيف ، وثم ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) في سورة الحاقة [١٩].

وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل ، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل.

وجملة : (نارٌ حامِيَةٌ) بيان لجملة : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) ، والمعنى : هي نار حامية. وهذا من حذف المسند إليه الذي اتّبع في حذفه استعمال أهل اللغة.

٤٥٣

ووصف (نارٌ) ب (حامِيَةٌ) من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحمي فوصفها به وصف بما هو من معنى لفظ (نارٌ) فكان كذكر المرادف كقوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) [الهمزة : ٦].

٤٥٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٢ ـ سورة التكاثر

قال الألوسي : أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمونها «المقبرة» ا ه.

وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير «سورة التكاثر» وكذلك عنونها الترمذي في «جامعه» وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان. وسميت في بعض المصاحف «سورة ألهاكم» وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه».

وهي مكية عند الجمهور ، قال ابن عطية : هي مكية لا أعلم فيها خلافا.

وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل : أنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم في الإسلام كما يأتي قريبا وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة.

وفي «الإتقان» : المختار أنها مدنية. قال : ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا ، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحبّ أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب». قال أبي : كنا نرى هذا في القرآن حتى نزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) [التكاثر : ١] ا ه. يريد المستدل بهذا أن أبيّا أنصاري وأن ظاهر قوله : حتى نزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) ، أنها نزلت بعد أن كانوا يعدّون : «لو أن لابن آدم واديا من ذهب إلخ من القرآن» وليس في كلام أبيّ دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير (كنا) المسلمين ، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبيّن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن.

٤٥٥

والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ.

وسبب نزولها فيما قاله الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبيّ عنهما وعن ابن عباس : أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادّوا السادة والأشراف من أيّهم أكثر عددا فكثر بنو عبد مناف بني سهم ، ثم قالوا نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدوا القبور فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرميّ قال : نزلت في قبيلين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ، تشير إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)

وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية.

وعدد آياتها ثمان.

أغراضها

اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك.

وحثهم على التدبر فيما ينجيهم من الجحيم.

وأنهم مبعوثون ومسئولون عن إهمال شكر المنعم العظيم.

[١ ـ ٤] (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤))

(أَلْهاكُمُ) أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغال به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمر مهم.

و (التَّكاثُرُ) : تفاعل في الكثر أي التباري في الإكثار من شيء مرغوب في كثرته.

٤٥٦

فمنه تكاثر في الأموال ، ومنه تكاثر في العدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم. وقد فسرت الآية بهما قال تعالى : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥].

وقال الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى

وإنما العزة للكاثر

روى مسلم عن عبد الله بن الشّخّير قال : «انتهيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال : يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» فهذا جار مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمله الآية.

والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وقوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٦] إلى آخر السورة ، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.

والمراد بالخطاب : سادتهم وأهل الثراء منهم لقوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر : ٨] ، ولأن سادة المشركين هم الذين أثاروا ما هم فيه من النعمة على التهمّم بتلقي دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتصدّوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإصغاء له. فلم يذكر الملهى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه ، والإنصاف بتصديقه. وهذا الإلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.

وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله ، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير ، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لاهون عن الخير ، قال تعالى يخاطب المؤمنين : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [الحديد : ٢٠] الآية.

وقوله : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) غاية ، فيحتمل أن يكون غاية لفعل (أَلْهاكُمُ) كما في قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه : ٩١] ، أي دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر ، أي استمرّ بكم طول حياتكم ، فالغاية مستعملة في الإحاطة

٤٥٧

بأزمان المغيّا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.

ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها ، أي قبور المقابر. وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولا غير مستمر ، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضا بهم بأن حلولهم في القبور يعقبه خروج منها.

والتعبير بالفعل الماضي في (زُرْتُمُ) لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١].

ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر به الدالّ عليه التكاثر ، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها. وهذا يجري على ما روى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم ، كما تقدم في سبب نزولها آنفا ، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي ، أي زرتم المقابر لتعدّوا القبور ، والعرب يكنّون بالقبر عن صاحبه قال النابغة :

لئن كان للقبرين قبر بجلّق

وقبر بصيداء الذي عند حارب

وقال عصام بن عبيد الزّمّاني ، أو همّام الرّقاشي :

لو عدّ قبر وقبر كنت أقربهم

قبرا وأبعدهم من منزل الذّام

أي كنت أقربهم منك قبرا ، أي صاحب قبر.

و (الْمَقابِرَ) : جمع مقبرة بفتح الموحدة وبضمها. والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.

والتوبيخ الذي استعمل فيه الخبر أتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت ، وبحرف الزجر والإبطال بقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) فأفاد (كَلَّا) زجرا وإبطالا لإنهاء التكاثر.

و (سَوْفَ) لتحقيق حصول العلم. وحذف مفعول (تَعْلَمُونَ) لظهور أن المراد : تعلمون سوء مغبّة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام.

وأكد الزجر والوعيد بقوله : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) فعطف عطفا لفظيّا بحرف التراخي أيضا للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله ، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف (ثُمَ) اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.

٤٥٨

فجملة : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) توكيد لفظي لجملة : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعن ابن عباس : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما ينزل بكم من عذاب في القبر : (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند البعث أن ما وعدتم به صدق ، أي تجعل كلّ جملة مرادا بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكلّ من فعلي (تَعْلَمُونَ) ، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام. ومفاد التكرير حاصل على كل حال.

(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥))

أعيد الزجر ثالث مرة زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم على التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد. وحذف مفعول (تَعْلَمُونَ) للوجه الذي تقدم في (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وجواب (لَوْ) محذوف.

وجملة : (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) تهويل وإزعاج لأن حذف جواب (لَوْ) يجعل النفوس تذهب في تقديره كلّ مذهب ممكن. والمعنى : لو تعلمون علم اليقين لتبيّن لكم حال مفظع عظيم ، وهي بيان لما في (كَلَّا) من الزجر.

والمضارع في قوله : (لَوْ تَعْلَمُونَ) مراد به زمن الحال. أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمرا عظيما. ولفعل الشرط مع (لَوْ) أحوال كثيرة واعتبارات ، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه. وقد يكون منزّلا منزلة غير معناه ، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل.

وإضافة (عِلْمَ) إلى (الْيَقِينِ) إضافة بيانية فإن اليقين علم ، أي لو علمتم علما مطابقا للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركّب من أوهام وتخيلات ، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح. وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطابا للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين. واعلم أنّ هذا المركب هو (عِلْمَ الْيَقِينِ) نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقبا لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) في سورة الحاقة [٥١] فارجع إليه.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧))

٤٥٩

استئناف بياني لأن ما سبقه من الزجر والردع المكرر ومن الوعيد المؤكّد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالا عما يترقب من هذا الزجر والوعيد فكان قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جوابا عما يجيش في نفس السامع.

وليس قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) جواب (لو) على معنى : لو تعلمون علم اليقين لكنتم كمن ترون الجحيم ، أي لترونّها بقلوبكم ، لأن نظم الكلام صيغة قسم بدليل قرنه بنون التوكيد ، فليست هذه اللام لام جواب (لو) لأن جواب (لو) ممتنع الوقوع فلا تقترن به نون التوكيد.

والإخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها ، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيته فيكنى بالرؤية عن الحضور كقول جعفر بن علبة الحارثي :

لا يكشف الغمّاء إلا ابن حرة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها

وأكد ذلك بقوله : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) قصدا لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي. وقد عطف هذا التأكيد ب (ثُمَ) التي هي للتراخي الرتبي على نحو ما قررناه آنفا في قوله: (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٤] ، وليس هنالك رؤيتان تقع إحداهما بعد الأخرى بمهلة.

و (عَيْنَ الْيَقِينِ) : اليقين الذي لا يشوبه تردد. فلفظ عين مجاز عن حقيقة الشيء الخالصة غير الناقصة ولا المشابهة.

وإضافة (عَيْنَ) إلى (الْيَقِينِ) بيانية كإضافة (حَقُ) إلى (الْيَقِينِ) في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [الواقعة : ٩٥].

وانتصب (عَيْنَ) على النيابة عن المفعول المطلق لأنه في المعنى صفة لمصدر محذوف ، والتقدير. ثم لترونها رؤية عين اليقين.

وقرأه الجمهور : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بفتح المثناة الفوقية ، وقرأه ابن عامر والكسائي بضم المثناة من (أراه)

وأمّا (لَتَرَوُنَّها) فلم يختلف القراء في قراءته بفتح المثناة.

وأشار في «الكشاف» إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣] والمنتهية بقوله : (عَيْنَ الْيَقِينِ) ، اشتملت على وجوه من تقوية الإنذار والزجر ،

٤٦٠