تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) يجوز أن يكون الضمير المجرور عائدا إلى الكأس ، فتكون (في) للظرفية المجازية بتشبيه تناول الندامى للشراب من الكأس بحلولهم في الكأس على طريق المكنية ، وحرف (في) تخييل أو تكون (في) للتعليل كما في الحديث : «دخلت امرأة النار في هرة» الحديث ، أي من أجل هرة. والمعنى : لا يسمعون لغوا ولا كذّابا منها أو عندها ، فتكون الجملة صفة ثانية ل «كأسا». والمقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار العربدة من هذيان ، وكذب وسباب ، واللغو والكذب من العيوب التي تعرض لمن تدب الخمر في رءوسهم ، أي فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا.

وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر ، قال عمارة بن الوليد :

ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا

ثياب الندامى بينهم كالغنائم

ولكننا يا أم عمرو نديمنا

بمنزلة الريّان ليس بعائم

وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال :

فإن الخمر تفضح شاربيها

وتجنيهم بها الأمر العظيما

ويجوز أن يعود ضمير (فِيها) إلى (مَفازاً) باعتبار تأويله بالجنة لوقوعه في مقابلة (جَهَنَّمَ) من قوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) [النبأ : ٢١] أو لأنه أبدل (حَدائِقَ) من (مَفازاً) وهذا المعنى نشأ عن أسلوب نظم الكلام حيث قدم (حَدائِقَ وَأَعْناباً) إلخ ، وأخّر (وَكَأْساً دِهاقاً) حتى إذا جاء ضمير (فيها) بعد ذلك جاز إرجاعه إلى الكأس وإلى المفاز كما علمت. وهذا من بديع الإيجاز مع وفرة المعاني مما عددناه من وجوه الإعجاز من جانب الأسلوب في المقدمة العاشرة من هذا التفسير ، أي لا يسمعون في الجنة الكلام السافل ولا الكذب ، فلما أحاط بأهل جهنم أشدّ الأذى بجميع حواسهم من جراء حرق النار وسقيهم الحميم والغساق لينال العذاب بواطنهم كما نال ظاهر أجسادهم ، كذلك نفى عن أهل الجنة أقل الأذى وهو أذى سماع ما يكرهه الناس فإن ذلك أقل الأذى.

وكني عن انتفاء اللغو والكذّاب عن شاربي خمر الجنة بأنهم لا يسمعون اللغو والكذاب فيها لأنه لو كان فيها لغو وكذب لسمعوه وهذا من باب قول امرئ القيس :

٤١

على لاحب لا يهتدى بمناره

أي لا منار به فيهتدى به ، وهو نوع من لطيف الكناية ، والذي في الآية أحسن مما وقع في بيت امرئ القيس ونحوه لأن فيه إيماء إلى أن أهل الجنة منزهة أسماعهم عن سقط القول وسفل الكلام كما في قوله في سورة الواقعة [٢٥] (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً)

واللغو : الكلام الباطل والهذيان وسقط القول الذي لا يورد عن روية ولا تفكير.

والكذّاب : تقدم معناه آنفا.

وقرأ الجمهور : (كِذَّاباً) هنا مشددا ، وقرأه الكسائي هنا بتخفيف الذال ، وانتصب (جَزاءً) على الحال من (مَفازاً)

وأصل الجزاء مصدر جزى ، ويطلق على المجازى به من إطلاق المصدر على المفعول ، فالجزاء هنا المجازى به وهو الحدائق والجنات والكواعب والكأس.

والجزاء : إعطاء شيء عوضا على عمل. ويجوز أن يجعل الجزاء على أصل معناه المصدري وينتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعل مقدر. والتقدير : جزينا المتقين.

وإضافة ربّ إلى ضمير المخاطب مرادا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإيماء إلى أن جزاء المتقين بذلك يشتمل على إكرام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن إسداء هذه النعم إلى المتقين كان لأجل إيمانهم به وعملهم بما هداهم إليه.

و (مِنْ) ابتدائية ، أي صادرا من لدن الله ، وذلك تنويه بكرم هذا الجزاء وعظم شأنه.

ووصف الجزاء بعطاء وهو اسم لم يعطى ، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه ، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه جزاء شكرا لهم وعطاء كرما من الله تعالى وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافا.

و (حِساباً) : اسم مصدر حسب بفتح السين يحسب بضمها ، إذا عدّ أشياء وجميع ما تصرف من مادة حسب متفرع عن معنى العدّ وتقدير المقدار ، فوقع (حِساباً) صفة (جَزاءً) ، أي هو جزاء كثير مقدّر على أعمالهم.

٤٢

والتنوين فيه للتكثير ، والوصف باسم المصدر للمبالغة وهو بمعنى المفعول ، أي محسوبا مقدرا بحسب أعمالهم ، وهذا مقابل ما وقع في جزاء الطاغين من قوله (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦].

وهذا الحساب مجمل هنا يبينه قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) البقرة [٢٦١].

وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعيّن ، فذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيتين.

ويجوز أن يكون (حِساباً) اسم مصدر أحسبه ، إذا أعطاه ما كفاه ، فهو بمعنى إحسابا ، فإن الكفاية يطلق عليها حسب بسكون السين فإنه إذا أعطاه ما كفاه قال : حسبي.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧))

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ)

قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر برفع رب ورفع الرحمن ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بخفضهما ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بخفض (رَبِ) ورفع الرحمن ، فأما قراءة رفع الاسمين ف رب خبر مبتدأ محذوف هو ضمير يعود على قوله : (مِنْ رَبِّكَ) [النبأ : ٣٦] على طريقة حذف المسند إليه حذفا سماه السكاكي حذفا لاتباع الاستعمال الوارد على تركه ، أي في المقام الذي يجري استعمال البلغاء فيه على حذف المسند إليه ، وذلك إذا جرى في الكلام وصف ونحوه لموصوف ثم ورد ما يصلح أن يكون خبرا عنه أو أن يكون نعتا له فيختار المتكلم أن يجعله خبرا لا نعتا ، فيقدر ضمير المنعوت ويأتي بخبر عنه وهو ما يسمى بالنعت المقطوع.

والمعنى : إن ربك هو ربهم لأنه رب السماوات والأرض وما بينهما ولكن المشركين عبدوا غيره جهلا وكفرا لنعمته. والرحمن خبر ثان.

وأما قراءة جر الاسمين فهي جارية على أن (رَبِّ السَّماواتِ) نعت ل (رَبِّكَ) من قوله : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ) [النبأ : ٣٦] و (الرَّحْمنِ) نعت ثان.

٤٣

والرب : المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة ، والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) في سورة الحج [٤٥] ، فإن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها ، والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها ، فكان إطلاق القرية مرادا به كلا المعنيين.

والمراد بما بين السماوات والأرض : ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء.

و (ما) موصولة وهي من صيغ العموم ، وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات.

وأتبع وصف (رَبِّ السَّماواتِ) بذكر اسم من أسمائه الحسنى ، وهو اسم (الرَّحْمنِ) وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم.

وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠].

(لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)

يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من (ما بَيْنَهُمَا) لأن ما بين السماوات والأرض يشمل ما في ذلك من المخلوقات العاقلة ، أو المزعوم لها العقل مثل الأصنام ، فيتوهم أن من تلك المخلوقات من يستطيع خطاب الله ومراجعته.

ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لإبطال مزاعم المشركين أو للاحتراس لدفع توهم أن ما تشعر به صلة رب من الرفق بالمربوبين في تدبير شئونهم يسيغ إقدامهم على خطاب الرب.

والملك في قوله : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) معناه القدرة والاستطاعة لأن المالك يتصرف فيما يملكه حسب رغبته لا رغبة غيره فلا يحتاج إلى إذن غيره.

٤٤

فنفي الملك نفي للاستطاعة.

وقوله : (مِنْهُ) حال من (خِطاباً) وأصله صفة لخطاب فلما تقدم على موصوفه صار حالا.

وحرف (من) اتصالية وهي ضرب من الابتدائية فهي ابتدائية مجازية كقوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤] ف (من) الأولى اتصالية والثانية لتوكيد النص ، ومنه قولهم : لست منك ولست مني وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨] ، أي لا يستطيعون خطابا يبلغونه إلى الله.

وضمير (لا يَمْلِكُونَ) عائد إلى (ما) الموصولة في قوله : (وَما بَيْنَهُمَا) لأنها صادقة على جميعهم.

والخطاب : الكلام الموجّه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخبارا أو طلبا أو إنشاء مدح أو ذم.

وفعل (يَمْلِكُونَ) يعمّ لوقوعه في سياق النفي كما تعمّ النكرة المنفية. و (خِطاباً) عام أيضا وكلاهما من العام المخصوص بمخصص منفصل كقوله عقب هذه الآية (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] وقوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥] وقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

والغرض من ذكر هذا إبطال اعتذار المشركين حين استشعروا شناعة عبادتهم الأصنام التي شهّر القرآن بها فقالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨))

(يَوْمَ) متعلق بقوله : (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) [النبأ : ٣٧] ، أي لا يتكلم أحد يومئذ إلّا من أذن له الله.

وجملة (لا يَتَكَلَّمُونَ) مؤكدة لجملة (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أعيدت بمعناها لتقرير

٤٥

المعنى إذ كان المقام حقيقا ، فالتقرير لقصد التوصل به إلى الدلالة على إبطال زعم المشركين شفاعة أصنامهم لهم عند الله ، وهي دلالة بطريق الفحوى فإنه إذا نفي تكلمهم بدون إذن نفيت شفاعتهم إذ الشفاعة كلام من له وجاهة وقبول عند سامعه.

وليبنى عليها الاستثناء لبعد ما بين المستثنى والمستثنى منه بمتعلقات (يَمْلِكُونَ) [النبأ: ٣٧] من مجرور ومفعول به ، وظرف ، وجملة أضيف لها.

وضمير (يَتَكَلَّمُونَ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (يَمْلِكُونَ).

والقول في تخصيص (لا يَتَكَلَّمُونَ) مثل القول في تخصيص (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) [النبأ : ٣٧] وقوله : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [طه : ١٠٩] استثناء من ضمير (لا يَتَكَلَّمُونَ) وإذ قد كان مؤكدا لضمير (لا يَمْلِكُونَ) فالاستثناء منه يفهم الاستثناء من المؤكّد به.

والقيام : الوقوف وهو حالة الاستعداد للعمل الجد وهو من أحوال العبودية الحق التي لا تستحق إلا لله تعالى. وفي الحديث : «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار»، أي لأن ذلك من الكبرياء المختصة بالله تعالى.

والرّوح : اختلف في المراد منه اختلافا أثاره عطف الملائكة عليه فقيل هو جبريل.

وتخصيصه بالذكر قبل ذكر الملائكة المعطوف عليه لتشريف قدره بإبلاغ الشريعة ، وقيل المراد : أرواح بني آدم.

واللام لتعريف الجنس : فالمفرد معها والجمع سواء. والمعنى : يوم تحضر الأرواح لتودع في أجسادها ، وعليه يكون فعل (يَقُومُ) مستعملا في حقيقته ومجازه.

و (الْمَلائِكَةُ) عطف على (الرُّوحُ) ، أي ويقوم الملائكة صفّا.

والصف اسم للأشياء الكائنة في مكان يجانب بعضها بعضا كالخط. وقد تقدم في قوله تعالى : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) في سورة طه [٦٤] ، وفي قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) في سورة الحج [٣٦] ، وهو تسمية بالمصدر من إطلاق المصدر على اسم الفاعل ، وأصله للمبالغة ثم صار اسما ، وإنما يصطف الناس في المقامات التي يكون فيها أمر عظيم فصفّ الملائكة تعظيم لله وخضوع له.

والإذن : اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل للمأذون ، وهو مشتق من : أذن له ، إذا استمع إليه قال تعالى : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الانشقاق : ٢] ، أي استمعت وأطاعت لإرادة

٤٦

الله. وأذن : فعل مشتق من اسم الأذن وهي جارحة السمع ، فأصل معنى أذن له : أمال أذنه ، أي سمعه إليه يقال : أذن يأذن أذنا كفرح ، ثم استعمل في لازم السمع وهو الرضى بالمسموع فصار أذن بمعنى رضي بما يطلب منه أو ما شأنه أن يطلب منه ، وأباح فعله ، ومصدره إذن بكسر الهمزة وسكون الذال فكأنّ اختلاف صيغة المصدرين لقصد التفرقة بين المعنيين.

ومتعلق (أَذِنَ) محذوف دل عليه (لا يَتَكَلَّمُونَ) ، أي من أذن له في الكلام.

ومعنى أذن الرحمن : أن من يريد التكلم لا يستطيعه أو تعتريه رهبة فلا يقدم على الكلام حتى يستأذن الله فأذن له ، وإنما يستأذنه إذا ألهمه الله للاستئذان فإن الإلهام إذن عند أهل المكاشفات في العامل الأخروي فإذا ألقى الله في النفس أن يستأذن استأذن الله فأذن له كما ورد في حديث الشفاعة من إحجام الأنبياء عن الاستشفاع للناس حتى يأتوا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الحديث : «فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عزوجل ثم يفتح الله عليّ من محامد وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقول : ارفع رأسك واشفع تشفّع».

وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، أي لمن علموا أن الله ارتضى قبول الشفاعة فيه وهم يعلمون ذلك بإلهام هو من قبيل الوحي لأن الإلهام في ذلك العالم لا يعتريه الخطأ.

وجملة (وَقالَ صَواباً) يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول ، أي وقد قال المأذون له في الكلام (صَواباً) ، أي بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله.

ويجوز أن تكون عطفا على جملة (أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) ، أي وإلا من قال صوابا فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له.

وفعل (وَقالَ صَواباً) مستعمل في معنى المضارع ، أي ويقول صوابا ، فعبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك ، أي في علم الله.

وإطلاق صفة (الرَّحْمنُ) على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار.

٤٧

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩))

استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد ، إنذار وتبشير ، سيق مساق التنويه ب (يَوْمَ الْفَصْلِ) [النبأ : ١٧]. الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧]. والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض.

فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦] قوله آنفا : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) ، فيكون (الْحَقُ) بمعنى الثابت مثل ما في قوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) [الأنبياء : ٩٧].

ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل ، أي العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي إذ الحق يقع فيه واليوم ظرف له قال تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ٣].

ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل : يوم حليمة ، ويوم بعاث. والمعنى : ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال : يوم ، وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩] ، فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] ، أي التلاوة الحقيقة باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلوّ وأغراضه.

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى اليوم المتقدم في قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧]. ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شئونه كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] بعد قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى قوله : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٢ ـ ٤] ، فلأجل جميع ما وصف به (يَوْمَ الْفَصْلِ) كان حقيقا بأن يوصف بأنه (الْيَوْمُ الْحَقُ) وما تفرع عن ذلك من قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً)

وتعريف (الْيَوْمُ) باللام للدلالة على معنى الكمال ، أي هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما

٤٨

هو أهله من خير أو شر فكأنّ ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع.

وفرّع عليه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق. والتقدير : فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه ، أي فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم. والتقدير : مآبا فيه ، أي في اليوم.

وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عند ما تسنح الفرصة للواعظ من تهيّؤ النفوس لقبول الموعظة.

والاتخاذ : مبالغة في الأخذ ، أي أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن ، فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقة بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية.

والاتخاذ : الاكتساب والجعل ، أي ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله لأنّ المآب عنده لا يكون إلا خيرا.

فقوله : (إِلى رَبِّهِ) دل على أنه مآب خير لأن الله لا يرضى إلا بالخير.

والمآب يكون اسم مكان من آب ، إذا رجع فيطلق على المسكن لأن المرء يئوب إلى مسكنه ، ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب ، أي الرجوع كقوله تعالى : (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) [الرعد : ٣٦] ، أي رجوعي ، أي فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه ، أي أوبا حسنا.

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً).

اعتراض بين (مَآباً) [النبأ : ٣٩] وبين (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي.

والمقصود من هذه الجملة الإعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شبهة ولا خفاء.

فالخبر وهو (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) مستعمل في قطع العذر وليس مستعملا في

٤٩

إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذارا أمر معلوم للمخاطبين. وافتتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك.

وجعل المسند فعلا مسندا إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوّي الحكم ، مع تمثيل المتكلم في مثل المتبرئ من تبعه ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضرّ إن لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإنذار بالعدوّ «أنا النذير العريان».

والإنذار : الإخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب.

وعبر عنه بالمضي لأن أعظم الإنذار قد حصل بما تقدم من قوله : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) إلى قوله : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٢١ ـ ٣٠].

وقرب العذاب مستعمل مجازا في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد ، قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] ، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإنذار به ، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك. وعن مقاتل : هو قتل قريش ببدر. ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [التوبة : ١٤] وقوله : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) [الطور : ٤٧].

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)

يجوز أن يتعلق بفعل : (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) [النبأ : ٣٩] فيكون (يَوْمَ يَنْظُرُ) ظرفا لغوا متعلقا ب (أَنْذَرْناكُمْ)

ويجوز أن يكون بدلا من (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] لأن قيام الملائكة صفّا حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه ، أي ما عمله سالفا فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه.

وعلى كلا الوجهين فجملة (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه.

والمرء : اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثه امرأة.

والاقتصار على المرء جري على غالب استعمال العرب في كلامهم ، فالكلام خرج

٥٠

مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شئون ما كان خارج البيت.

والمراد : ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى ، ما قدمت يداه ، وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب.

وتعريف (الْمَرْءُ) للاستغراق مثل (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ٢ ـ ٣].

وفعل (يَنْظُرُ) يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر ، والمعنى : يوم يرى المرء ما قدمته يداه. ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه : حصول جزاء عمله له ، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئيا لصاحبه من خير أو شر ، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ونظيره قوله تعالى : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ٦] ، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠] الآية ، و (ما) موصولة صلتها جملة (قَدَّمَتْ يَداهُ)

ويجوز أن يكون من نظر الفكر ، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقة كما يقال: هو بخير النظرين. ومنه التنظّر : توقع الشيء ، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه ، وتكون (ما) على هذا الوجه استفهامية وفعل (يَنْظُرُ) معلقا عن العمل بسبب الاستفهام ، والمعنى : ينظر المرء جواب من يسأل : ما قدمت يداه؟

ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣].

وتعريف (الْمَرْءُ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق.

والتقديم : تسبيق الشيء والابتداء به.

و (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) هو ما أسلفه من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات فقد قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) [آل عمران : ٣٠] الآية.

وقوله : (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال وإما أن يكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات

٥١

بيديه كما قالوا في المثل : «يداك أوكتا» ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه.

ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيل.

وشمل (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) الخير والشر.

وخص بالذكر من عموم المرء الإنسان الكافر الذي يقول : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر ، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلا عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع ، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حسّاس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب ، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر.

وقد كانوا يقولون : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٩٨] فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب.

وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك لأن المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم وقد قال الله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠] وقال : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٦ ـ ٨] ، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب ، وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغى على ثواب حسناتهم ، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم ، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلا بقوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) [الأعراف : ٤٦] على ما في تفسيرها من وجوه.

وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عرّفوا بالطاغين وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع.

٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧٩ ـ سورة النازعات

سميت في المصاحف وأكثر التفاسير «سورة النازعات» بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو ، وجعل لفظ «النازعات» علما عليها لأنه لم يذكر في غيرها. وعنونت في كتاب التفسير في «صحيح البخاري» وفي كثير من كتب المفسرين بسورة «والنازعات» بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها.

وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي : إنها تسمّى «سورة الساهرة» لوقوع لفظ «الساهرة» في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور.

وقالا : تسمى سورة الطامة (أي لوقوع لفظ الطامّة فيها ولم يقع في غيرها). ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور التي لها أكثر من اسم.

ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها «سورة فالمدبّرات» وهو غريب ، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها.

وهي مكيّة بالاتفاق.

وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار.

وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور ، وعدّها أهل الكوفة ستا وأربعين آية.

أغراضها

اشتملت على إثبات البعث والجزاء ، وإبطال إحالة المشركين وقوعه.

وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل.

٥٣

وإبطال قول المشركين يتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.

وعرّض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادّا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه‌السلام وإن لهم في ذلك عبرة ، وتسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأنّ خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.

وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى.

وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب.

وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت ، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها ، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار.

[١ ـ ٩] (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩))

ابتدئت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قسما مرادا منه تحقيق ما بعده من الخبر وفي هذا القسم تهويل المقسم به.

وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة ، فهي جماعات ، نازعات ، ناشطات ، سابحات ، سابقات ، مدبّرات ، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلّ عليها الأوصاف الصالحة لها.

فيجوز أن تكون صفات لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميزها تلك الصفات.

ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصيّة من

٥٤

خواصّ نوع من الموجودات العظيمة قوامه بتلك الصفة.

والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف ، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة ، وأنّ المعطوفات بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عطفت عليه بالفاء ، فهي صفات متعددة متفرّع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قسما بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها.

وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف. وأحسن الوجوه على الجملة أن كلّ صفة مما عطف بالواو مرادا بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى ، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حالة أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم. وسنتعمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعة بصيرة.

وهذا الإجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كلّ مذهب ممكن ، فتكثر خطور المعاني في الأذهان ، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقع كل معنى في نفس له فيها أشدّ وقع وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ.

فالنازعات : وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز.

فيحتمل أن يكون (النَّازِعاتِ) جماعات من الملائكة وهم الموكّلون بقبض الأرواح ، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ، ومنهم قولهم في المحتضر هو في النزع. وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) [الحجرات : ١٤].

وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدّي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات ، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيرا للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت ، ولأنهم شديد تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لمّا ذكر اليهود : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [البقرة : ٩٦] فالمشركين مثل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة.

والقسم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن

٥٥

الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال.

وغرقا : اسم مصدر أغرق ، وأصله إغراقا ، جيء به مجردا عن الهمزة فعومل معاملة مصدر الثلاثي المتعدّي مع أنه لا يوجد غرق متعديا ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضا عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدّر فعله بعد حذف الزوائد متعديا.

ولو قلنا : إنه سكنت عينه تخفيفا ورعيا للمزاوجة مع (نَشْطاً) ، و (سَبْحاً) ، و (سَبْقاً) ، و (أَمْراً) لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون ، وهذا مصدر وصف به مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات ، أي نزعا غرقا ، أي مغرقا ، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.

ويجوز أن تكون (النَّازِعاتِ) صفة للنجوم ، أي تنزع من أفق إلى أفق ، أي تسير ، يقال : ينزع إلى الأمر الفلاني ، أي يميل ويشتاق.

وغرقا : تشبيه لغروب النجوم بالغرق في الماء وقاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش ، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غرق وأن تسكين عينه تخفيف.

والقسم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١].

ويحتمل أن تكون (النَّازِعاتِ) جماعات الرّماة بالسهام في الغزو يقال : نزع في القوس ، إذا مدّها عند وضع السهم فيها. وروي هذا عن عكرمة وعطاء.

والغرف : الإغراق ، أي استيفاء مدّ القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسما بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله ، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذ غزوات ولا كانوا يرجونها ، فالقسم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضد شوكتهم ، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (النَّاشِطاتِ) : يجوز أن تكون الموصوفات بالنشاط ، وهو قوة الانطلاق للعمل كالسير السريع ، وينطلق النشاط على سير الثور الوحشي وسير البعير لقوة ذلك ، فيكون الموصوف إما الكواكب السيارة على وجه التشبيه لدوام تنقلها في دوائرها وإما إبل الغزو ، وإما الملائكة التي تسرع إلى تنفيذ ما أمر الله به من أمر التكوين وكلاهما على وجه الحقيقة ، وأيّا ما كان فعطفها على (النَّازِعاتِ) عطف نوع على نوع أو عطف صنف على صنف.

٥٦

و (نَشْطاً) مصدر جاء على مصدر فعل المتعدي من باب نصر فتعين أن (النَّاشِطاتِ) فاعلات النشط فهو متعد.

وقد يكون مفضيا لإرادة النشاط الحقيقي لا المجازي. ويجوز أن يكون التأكيد لتحقيق الوصف لا لرفع احتمال المجاز.

وعن ابن عباس : (النَّاشِطاتِ) الملائكة تنشيط نفوس المؤمنين ، وعنه هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج.

و (السَّابِحاتِ) صفة من السبح المجازي ، وأصل السبح العوم وهو تنقل الجسم على وجه الماء مباشرة وهو هنا مستعار لسرعة الانتقال ، فيجوز أن يكون المراد الملائكة السائرين في أجواء السماوات وآفاق الأرض ، وروي عن علي بن أبي طالب.

ويجوز أن يراد خيل الغزاة حين هجومها على العدوّ سريعة كسرعة السابح في الماء كالسابحات في قول امرئ القيس يصف فرسا :

مسح إذا ما السابحات على الونى

أثرن الغبار بالكديد المركّل

وقيل : (السَّابِحاتِ) النجوم ، وهو جار على قول من فسر النازعات بالنجوم ، و (سَبْحاً) مصدر مؤكد لإفادة التحقيق مع التوسل إلى تنوينه للتعظيم ، وعطف (فَالسَّابِقاتِ) بالفاء يؤذن بأن هذه الصفة متفرعة عن التي قبلها لأنهم يعطفون بالفاء الصفات التي شأنها أن يتفرع بعضها عن بعض كما تقدم في قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات : ١ ـ ٣] قول ابن زيابة :

يا لهف زيّابة للحارث الصّ

ابح فالغائم فالآئب

فلذلك (فَالسَّابِقاتِ) هي السابقات من السابحات.

والسبق : تجاوز السائر من يسير معه ووصوله إلى المكان المسير إليه قبله. ويطلق السبق على سرعة الوصول من دون وجود سائر مع السابق قال تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) [البقرة : ١٤٨] وقال : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٦١].

ويطلق السبق على الغلب والقهر ، ومنه قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) [العنكبوت : ٤] وقول مرة بن عداء الفقعسي :

 كأنك لم تسبق من الدهر ليلة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

٥٧

فقوله تعالى : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) يصلح للحمل على هذه المعاني على اختلاف محامل وصف السابحات بما يناسب كل احتمال على حياله بأن يراد السائرات سيرا سريعا فيما تعلمه ، أو المبادرات. وإذا كان (السَّابِحاتِ) بمعنى الخيل كان (السابقات) إن حمل على معنى المسرعات كناية عن عدم مبالاة الفرسان بعدوّهم وحرصهم على الوصول إلى أرض العدوّ ، أو على معنى غلبهم أعداءهم.

وأكد بالمصدر المرادف لمعناه وهو (سَبْقاً) للتأكيد ولدلالة التنكير على عظم ذلك السبق.

(فَالْمُدَبِّراتِ) : الموصوفة بالتدبير.

والتدبير : جولان الفكر في عواقب الأشياء وبإجراء الأعمال على ما يليق بما توجد له فإن كانت السابحات جماعات الملائكة ، فمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعهدتها على أكمل ما أذنت به فعبر عن ذلك بالتدبير للأمور لأنه يشبه فعل المدبر المتثبت.

وإن كانت السابحات خيل الغزاة فالمراد بالتدبير : تدبير مكائد الحرب من كرّ ، وفر ، وغارة ، وقتل ، وأسر ، ولحاق للفارين ، أو ثبات بالمكان. وإسناد التدبير إلى السابحات على هذا الوجه مجاز عقلي لأن التدبير للفرسان وإنما الخيل وسائل لتنفيذ التدبير ، كما قال تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج : ٢٧] ، فأسند الإتيان إلى ضمير (كُلِّ ضامِرٍ) من الإبل لأن إتيان الحجيج من الفجاج العميقة يكون بسير الإبل.

وفي هذا المجاز إيماء إلى حذق الخيل وسرعة فهمها مقاصد فرسانها حتى كأنها هي المدبرة لما دبره فرسانها.

والأمر : الشأن والغرض المهم وتنوينه للتعظيم ، وإفراده لإرادة الجنس ، أي أمورا.

وينتظم من مجموع صفات (النَّازِعاتِ) ، و (النَّاشِطاتِ) ، و (السَّابِحاتِ) ، إذا فهم منها جماعات الرماة والجمّالة والفرسان أن يكون إشارة إلى أصناف المقاتلين من مشاة وهم الرماة بالقسي ، وفرسان على الخيل وكانت الرماة تمشي قدّام الفرسان تنضح عنهم بالنبال حتى يبلغوا إلى مكان الملحمة. قال أنيف بن زبّان الطائي :

وتحت نحور الخيل خرشف رجلة

تتاح لغرّات القلوب نبالها

ولتحمل الآية لهذه الاحتمالات كانت تعريضا بتهديد المشركين بحرب تشن عليهم

٥٨

وهي غزوة فتح مكة أو غزوة بدر مثل سورة (والعاديات) وأضرابها ، وهي من دلائل نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كانت هذه التهديدات صريحها وتعريضها في مدة مقامة صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة والمسلمون في ضعف فحصل من هذا القسم تعريض بعذاب في الدنيا.

وجملة (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) إلى (خاشِعَةٌ) جواب القسم وصريح الكلام موعظة. والمقصود منه لازمه وهو وقوع البعث لأن القلوب لا تكون إلا في أجسام. وقد علم أن المراد ب (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) هو يوم القيامة لأنه قد عرّف بمثل هذه الأحوال في آيات كثيرة مما سبق نزوله مثل قوله : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ) فكان في هذا الجواب تهويل ليوم البعث وفي طيه تحقيق وقوعه فحصل إيجاز في الكلام جامع بين الإنذار بوقوعه والتحذير مما يجري فيه.

و (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) ظرف متعلق ب (واجِفَةٌ) فآل إلى أن المقسم عليه المراد تحقيقه هو وقوع البعث بأسلوب أوقع في نفوس السامعين المنكرين من أسلوب التصريح بجواب القسم ، إذ دل على المقسم عليه بعض أحواله التي هي من أهواله فكان في جواب القسم إنذار.

ولم تقرن جملة الجواب بلام جواب القسم لبعد ما بين الجواب وبين القسم بطول جملة القسم ، فيظهر لي من استعمال البلغاء أنه إذا بعد ما بين القسم وبين الجواب لا يأتون بلام القسم في الجواب ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) إلى (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ١ ـ ٤]. ومثله كثير في القرآن فلا يؤتى بلام القسم في جوابه إلا إذا كان الجواب مواليا لجملة القسم نحو (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ* أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] ، ولأن جواب القسم إذا كان جملة اسمية لم يكثر اقترانه بلام الجواب ولم أر التصريح بجوازه ولا بمنعه ، وإن كان صاحب «المغني» استظهر في مبحث لام الجواب في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) [البقرة : ١٠٣] أن اللام لام جواب قسم محذوف وليست لام جواب (لو) بدليل كون الجملة اسمية ، والاسمية قليلة من جواب (لو) فلم ير جملة الجواب إذا كانت اسمية أن تقترن باللام. وجعل صاحب «الكشاف» تبعا للفراء وغيره جواب القسم محذوفا تقديره : لتبعثنّ.

وقدم الظرف على متعلقة لأن ذلك الظرف هو الأهمّ في جواب القسم لأنه المقصود إثبات وقوعه ، فتقديم الظرف للاهتمام به والعناية به فإنه لما أكد الكلام بالقسم شمل التأكيد متعلقات الخبر التي منها ذلك الظرف ، والتأكيد اهتمام ، ثم أكد ذلك الظرف في

٥٩

الأثناء بقوله : (يَوْمَئِذٍ) الذي هو يوم ترجف الراجفة فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر.

والرجف : الاضطراب والاهتزاز وفعله من باب نصر. وظاهر كلام أهل اللغة أنه فعل قاصر ولم أر من قال : إنه يستعمل متعديا ، فلذلك يجوز أن يكون إسناد (تَرْجُفُ) إلى (الرَّاجِفَةُ) حقيقيا ، فالمراد ب (الرَّاجِفَةُ) : الأرض لأنها تضطرب وتهتزّ بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي قال تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤] وقال : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) [الواقعة : ٤] وتأنيث (الرَّاجِفَةُ) لأنها الأرض ، وحينئذ فمعنى (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة لأن صفة (الرَّاجِفَةُ) تقتضي وقوع رجفة ، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى.

ويجوز أن يكون إسناد (تَرْجُفُ) إلى (الرَّاجِفَةُ) مجازا عقليا ، أطلق (الرَّاجِفَةُ) على سبب الرجف.

فالمراد ب (الرَّاجِفَةُ) الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة كقولهم : عيشة راضية ، وهذا هو المناسب لقوله : (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي تتبع تلك الراجفة ، أي مسبّبة الرجف رادفة ، أي واقعة بعدها.

ويجوز أن يكون الرجف مستعارا لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل.

وتأنيث (الرَّاجِفَةُ) على هذا لتأويلها بالواقعة أو الحادثة.

و (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : التالية ، يقال : ردف بمعنى تبع ، والرديف : التابع لغيره ، قال تعالى : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (١) [الأنفال : ٩] ، أي تتبع الرجفة الأولى ، ثانية ، فالمراد : رادفة من جنسها وهما النفختان اللتان في قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].

وجملة (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) حال من (الرَّاجِفَةُ)

وتنكير (قُلُوبٌ) للتكثير ، أي قلوب كثيرة ولذلك وقع مبتدأ وهو نكرة لإرادة النوعية.

__________________

(١) في المطبوعة : «يمددكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مردفين».

٦٠