تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

والصحف : الأوراق والقراطيس التي تجعل لأن يكتب فيها ، وتكون من رق أو جلد ، أو من خرق. وتسمية ما يتلوه الرسول (صُحُفاً) مجاز بعلاقة الأيلولة لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صحفا ، فهذا المجاز كقوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف : ٣٦]. وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاف الشاء والخرق والحجارة ، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابا في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١] لأجل هذا المعنى.

وتعدية فعل (يَتْلُوا) إلى (صُحُفاً) مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) [العنكبوت : ٤٨] ، وهو باعتبار كون المتلو مكتوبا ، وإنما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى (يَتْلُوا صُحُفاً) يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّيّا.

ووصف الصحف ب (مُطَهَّرَةً) وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية ، أي كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل ، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام.

ووصف الصحف التي يتلوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن فيها كتبا ، والكتب : جمع كتاب ، وهو فعال اسم بمعنى المكتوب ، فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل ، وهذا كما قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [البقرة: ٩٧] وقال : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ، ١٩] ، فالقرآن زبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها ، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية.

والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سوره فهي بمثابة الكتب.

والقيّمة : المستقيمة ، أي شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها بالقائم لاستعداده للعمل النافع ، وضده العوج قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] ، أي لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ ، فالقيّمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت للمائت.

٤٢١

وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفا لجمع.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤))

ارتقاء في الإبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلال لما ينافي ثبوت المدلول ، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، ولذلك أظهر فاعل (تَفَرَّقَ) ولم يقل : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، إذ لو أضمر لتوهّمت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير ، بعد أن أبطل زعمهم بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ٢] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالا مشوبا بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية.

فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالا على إبطال ، ويجوز أن تكون واو الحال.

والمعنى : كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيّا بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإسلام وهي بينة عيسى عليه‌السلام فتفرقوا في الإيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث ملتين اليهودية والنصرانية.

والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه‌السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثال إلياس واليسع وأشعياء. وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص ، فلما جاءهم عيسى كذبوه ، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى ، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة.

والمراد بالتفرق : تفرق بني إسرائيل بين مكذّب لعيسى ومؤمن به وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود.

وجعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافا في تصديق بينة عيسىعليه‌السلام ، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مذمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [آل عمران : ١٩].

فالتعريف في (الْبَيِّنَةُ) المذكورة ثانيا يجوز أن يكون للعهد الذهني ، أو للمعهود بين

٤٢٢

المتحدّث عنهم ، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعرف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة ، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفة مثلها ، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها.

وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام ، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين ، وجعلوا المراد ب (الْبَيِّنَةُ) الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين أتى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته ، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل (الْبَيِّنَةُ) الأولى ، إذ قال : «المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي لا يغمّنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة ، فهي عادة قديمة لهم» ، وهو معارض لأول كلامه ، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة.

(وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم.

وهو إبطال بطريق القول بالموجب في الجدل ، أي إذا سلمنا أنكم موصون بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة ، فليس في الإسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم لأن كتابكم يأمر بما أمر به القرآن ، وهو عبادة الله وحده دون إشراك ، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به ، فذلك دين الإسلام وذلك ما أمرتم به في دينكم.

فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤] إلخ.

٤٢٣

ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالا من الضمير في قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ١]. والمعنى والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإسلام بما صدّق قول الله تعالى لموسى عليه‌السلام : «أقيم لهم نبيئا من وسط أخواتهم وأجعل كلامي في فمه» ، وقول عيسى عليه‌السلام : «فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم».

والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين ، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإسلام. فالمعنى : وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره. فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام ، وأمرت بالصلاة ، وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدا مكررا. وتلك هي أصول دين الإسلام قبل أن يفرض صوم رمضان والحج ، والإنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم ، فلا معذرة لهم في الإعراض عن الإسلام على كلا التقديرين.

ونائب فاعل (أُمِرُوا) محذوف للعموم ، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله.

واللام في قوله : (لِيَعْبُدُوا اللهَ) هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦] وقوله: (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الأنعام [٧١] ، وسماها بعض النحاة لام (أن).

والإخلاص : التصفية والإنقاء ، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره.

والدين : الطاعة قال تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) [الزمر : ١٤].

وحنفاء : جمع حنيف ، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٦١].

وهذا الوصف تأكيد لمعنى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه‌السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هداه.

وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كلّ صباح ومساء.

وإيتاء الزكاة : مفروض في التوراة فرضا مؤكدا.

واسم الإشارة في قوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) متوجّه إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة (لام أن) المصدرية فهو في تأويل مفرد ، أي إلا بعبادة الله وإقامة

٤٢٤

الصلاة وإيتاء الزكاة ، أي والمذكور دين القيمة.

و (دِينُ الْقَيِّمَةِ) يجوز أن تكون إضافته على بابها فتكون (الْقَيِّمَةِ) مرادا به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيّمة أو دين الكتب القيمة. ويرجّح هذا التقدير أن دليل المقدّر موجود في اللفظ قبله. وهذا إلزام لهم بأحقية الإسلام وأنه الدين القيم قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [الروم : ٣٠ ـ ٣١].

ويجوز أن تكون الإضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال ، وأصله الدين القيم ، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة ، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علّامة والمآل واحد ، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإسلام.

والقيمة : الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفا.

فالمعنى : وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإسلام قال تعالى في إبراهيم : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧] وقال عنه وعن إسماعيل : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]. وحكى عنه وعن يعقوب قولهما : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] وقال سليمان : (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) [النمل : ٤٢].

وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في سورة البقرة [١٣٢].

والإشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإسلام ، أي هو الذي دعاهم إليه الإسلام فحسبوه نقضا لدينهم ، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] وقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٥٩].

والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعا لهم بأنهم أعرضوا

٤٢٥

عما هم يتطلبونه فإنهم جميعا مقرّون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية ، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية ، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقلّ منهم من تهودوا أو تنصروا ، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأميّة بن أبي الصّلت.

وخصّ الضمير ب «أهل الكتاب» لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإسلام قال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٦].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦))

بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معا ثم خصّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها. أعقبه بوعيد الفريقين جمعا بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة.

فالجملة استئناف ابتدائي ، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعا لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة ، ولأن معظم الرد كان موجها إلى أحوالهم من قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٤ ، ٥] ، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك.

و (مِنْ) بيانية مثل التي في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودة ، فإن الظرفية التي اقتضتها (فِي) تفيد أنهم غير خارجين منها ، وتأكد ذلك بقوله : (خالِدِينَ فِيها) ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأسا.

والإخبار عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول : زيد في نعمة.

٤٢٦

وجملة : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر ، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي.

والبريئة : فعيلة من برأ الله الخلق ، أي صورهم.

ومعنى كونهم (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أنهم أشد الناس شرا ، ف (شَرُّ) هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير ، فإضافة (شَرُّ) إلى (الْبَرِيَّةِ) على نية (مِنْ) التفضيلية.

وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى ، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتابا فيه هدى ونور فعدلوا عنه ، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصرّوا على دينهم بعد ما شاهدوا من دلائل صدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به القرآن من الإعجاز والإنباء بما في كتب أهل الكتاب ، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلا لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شرا من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب.

وأقحم اسم الإشارة بين اسم (إِنَ) وخبرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة كما في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]. وتوسيط ضمير الفصل لإفادة اختصاصهم بكونهم شر البريئة لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفا. ولا يرد أن الشياطين أشد شرا منهم لما علمت أن اسم البريئة اعتبر إطلاقه على البشر.

و (الْبَرِيَّةِ) قرأه نافع وحده وابن ذكوان عن ابن عامر بهمز بعد الياء فعلية من برأ الله ، إذا خلق.

وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفا.

وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز ، والتخفيف لغة بقية العرب ، كما تركوا الهمز في الدّريّة والنبيّ. قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول : تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم

٤٢٧

تركوا الهمز في النبيّ كما تركوه في : الدّريّة والبريّة إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك.

[٧ ، ٨] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ٧ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحال المشركين بحال الذين آمنوا بعد أن أشير إليهم بقوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٥] ، استيعابا لأحوال الفرق في الدنيا والآخرة وجريا على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم ، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور.

والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلا عن حالهم لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجة ، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة.

والقول في اسم الإشارة ، وضمير الفصل والقصر وهمز البريئة كالقول في نظيره المتقدم.

واسم الإشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم (إِنَ)

وجملة : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) إلى آخرها مبيّنة لجملة : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

و (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ظرف وقع اعتراضا بين (جَزاؤُهُمْ) وبين (جَنَّاتُ عَدْنٍ) للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدّخر لهم عند ربهم تكرمة لهم لما في (عِنْدَ) من الإيماء إلى الحظوة والعناية ، وما في لفظ ربهم من الإيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه (عِنْدَ) ، وما يناسب شأن من يرب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان.

٤٢٨

وإضافة : (جَنَّاتُ) إلى (عَدْنٍ) لإفادة أنها مسكنهم لأن العدن الإقامة ، أي ليس جزاؤهم تنزها في الجنات بل أقوى من ذلك بالإقامة فيها.

وقوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) بشارة بأنها مسكنهم الخالد.

ووصف الجنات ب (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لبيان منتهى حسنها.

وجري النهر مستعار لانتقال السيل تشبيها لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي.

والنهر : أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه. وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر.

وجعل جزاء الجماعة جمع الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع ، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩] وقولك : ركب القوم دوابّهم ، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحصر قال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

وجملة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) حال من ضمير (خالِدِينَ) ، أي خالدين خلودا مقارنا لرضى الله عنهم ، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضى الله عنهم ، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] ورضى الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده.

وأما الرضى في قوله : (وَرَضُوا عَنْهُ) فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار : «فشرب حتى رضيت» ، وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قباء : «رضي مخرمة». وزاده حسن وقع هنا ما فيه من المشاكلة.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ).

تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بيّن به سبب العطاء وسبب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها.

والإشارة إلى الجزاء المذكور في قوله : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من

٤٢٩

يقول لهم : إني رسول الله إليكم ، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا ، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم.

فما صدق : «من خشي ربه» هم المؤمنون ، واللام للملك ، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكا لهم لم يكن شيء منه ملكا لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل.

وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال : ذلك لمن خشي الله ، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذ لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء.

٤٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٩ ـ سورة الزلزال

سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة : (إِذا زُلْزِلَتِ) روى الواحدي في «أسباب النزول» عن عبد الله بن عمرو : «نزلت إذا زلزلت» وأبو كبر قاعد فبكى» الحديث (١). وفي حديث أنس بن مالك مرفوعا عند الترمذي : «إذا زلزلت» تعدل نصف القرآن»، وكذلك عنونها البخاري والترمذي.

وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير «سورة الزلزال».

وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان «زلزلت» وكذلك سماها في «الإتقان» في السور المختلف في مكان نزولها ، وكذلك تسميتها في «تفسير ابن عطية» ، ولم يعدها في «الإتقان» في عداد السور ذوات أكثر من اسم فكأنه لم ير هذه ألقابا لها بل جعلها حكاية بعض ألفاظها ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها.

واختلف فيها فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء والضحاك : هي مكية. وقال قتادة ومقاتل : مدنية ، ونسب إلى ابن عباس أيضا. والأصح أنها مكية واقتصر عليه البغوي وابن كثير ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم. وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية ولعله يعني : جابر بن عبد الله الصحابي لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية فإنها معدودة في نزول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد. وقال ابن عطية : آخرها وهو : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة

__________________

(١) تمامه : فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يبكيك يا أبا بكر؟ فقال : أبكاني هذه السورة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون ويستغفرون فيغفر لهم».

٤٣١

ا ه. وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك.

وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد ونظمه الجعبري وهو بناء على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء وقبل سورة الحديد.

وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد ، وعدّها أهل الكوفة ثماني للاختلاف في أن قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ٦] آيتان أو آية واحدة.

أغراضها

إثبات البعث وذكر أشراطه وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع.

وحضور الناس للحشر وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر وهو تحريض على فعل الخير واجتناب الشر.

[١ ـ ٦] (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦))

افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف تشويق إلى متعلّق الظّرف إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم بل الإخبار عن وقوع ذلك وهو البعث ، ثم الجزاء ، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطه فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت.

ومعنى (زُلْزِلَتِ) : حركت تحريكا شديدا حتى يخيل للناس أنها خرجت من حيزها لأن فعل زلزل مأخوذ من الزّلل وهو زلق الرّجلين ، فلما عنوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل كما قالوا : كبكبه ، أي كبّه ولملم بالمكان من اللّمّ.

والزلزال : بكسر الزاي الأولى مصدر زلزل ، وأما الزّلزال بفتح الزاي فهو اسم مصدر كالوسواس والقلقال ، وتقدم الكلام على الزلزال في سورة الحج.

وإنما بني فعل (زُلْزِلَتِ) بصيغة النائب عن الفاعل لأنه معلوم فاعله وهو الله تعالى.

وانتصب (زِلْزالَها) على المفعول المطلق المؤكّد لفعله إشارة إلى هول ذلك الزلزال

٤٣٢

فالمعنى : إذا زلزلت الأرض زلزالا.

وأضيف (زِلْزالَها) إلى ضمير الأرض لإفادة تمكّنه منها وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته إليها لكثرة اتصاله بها كقول النابغة :

أسائلتي سفاهتها وجهلا

على الهجران أخت بني شهاب

أي سفاهة لها ، أي هي معروفة بها ، وقول أبي خالد القناني :

والله أسماك سمى مباركا

آثرك الله به إيثاركا

يريد إيثارا عرفت به واختصصت به. وفي كتب السيرة أن من كلام خطر بن مالك الكاهن يذكر شيطانه حين رجم «بلبله بلباله» أي بلبال متمكن منه. وإعادة لفظ الأرض في قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) إظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل.

والأثقال : جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف وهو المتاع الثقيل ، ويطلق على المتاع النفيس.

وإخراج الأرض أثقالها ناشئ عن انشقاق سطحها فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر.

وذلك من تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل والعكس.

والتعريف في (الْإِنْسانُ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، أي وقال الناس ما لها ، أي الناس الذين هم أحياء ففزعوا وقال بعضهم لبعض ، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجبان والشجاع ، والطائش والحكيم ، لأنه زلزال تجاوز الحدّ الذي يصبر على مثله الصّبور.

وقول : (ما لَها) استفهام عن الشيء الذي ثبت للأرض ولزمها لأن اللام تفيد الاختصاص ، أي ما للأرض في هذا الزلزال ، أو ما لها زلزلت هذا الزلزال ، أي ما ذا ستكون عاقبته. نزلت الأرض منزلة قاصد مريد يتساءل الناس عن قصده من فعله حيث لم يتبين غرضه منه ، وإنما يقع مثل هذا الاستفهام غالبا مردفا بما يتعلق بالاستقرار الذي في الخبر مثل أن يقال : ما له يفعل كذا ، أو ما له في فعل كذا ، أو ما له وفلانا ، أي معه ، فلذلك وجب أن يكون هنا مقدّر ، أي ما لها زلزلت ، أو ما لها في هذا الزلزال ، أو ما لها

٤٣٣

وإخراج أثقالها.

وجملة : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) إلخ جواب (إِذا) باعتبار ما أبدل منها من قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) فيومئذ بدل من (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها)

واليوم يطلق على النهار مع ليله فيكون الزلزال نهارا وتتبعه حوادث في الليل مع انكدار النجوم وانتثارها وقد يراد باليوم مطلق الزمان.

و (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) هو العامل في (يَوْمَئِذٍ) وفي البدل ، والتقدير يوم إذ تزلزل الأرض وتخرج أثقالها ويقول الناس : ما لها تحدّث أخبارها إلخ.

و (أَخْبارَها) مفعول ثان لفعل (تُحَدِّثُ) لأنه مما ألحق بظن لإفادة الخبر علما ، وحذف مفعوله الأول لظهوره ، أي تحدث الإنسان لأن الغرض من الكلام هو إخبارها لما فيه من التهويل.

وضمير (تُحَدِّثُ) عائد إلى (الْأَرْضُ)

والتحديث حقيقته : أن يصدر كلام بخبر عن حدث. وورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم! قال : فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل كذا وكذا فهذه أخبارها» ا ه.

وجمع (أَخْبارَها) باعتبار تعدد دلالتها على عدد القائلين (ما لَها) وإنما هو خبر واحد وهو المبيّن بقوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)

وانتصب (أَخْبارَها) على نزع الخافض وهو باء تعدية فعل (تُحَدِّثُ)

وقوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) يجوز أن يتعلق بفعل (تُحَدِّثُ) والباء للسببيّة ، أي تحدث أخبارها بسبب أن الله أمرها أن تحدث أخبارها.

ويجوز أن يكون بدلا من (أَخْبارَها) وأظهرت الباء في البدل لتوكيد تعدية فعل (تُحَدِّثُ) إليه ، وعلى كلا الوجهين قد أجملت أخبارها وبينها الحديث السابق.

وأطلق الوحي على أمر التكوين ، أي أوجد فيها أسباب إخراج أثقالها فكأنه أسرّ إليها بكلام كقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [النحل : ٦٨] الآيات.

٤٣٤

وعدي فعل (أَوْحى) باللام لتضمين (أَوْحى) معنى قال كقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] ، وإلا فإن حق (أَوْحى) أن يتعدى بحرف (إلى).

والقول المضمّن هو قول التكوين قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

وإنما عدل عن فعل : قال لها إلى فعل (أَوْحى لَها) لأنه حكاية عن تكوين لا عن قول لفظي.

وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) بدل من جملة : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) والجواب هو فعل (يَصْدُرُ النَّاسُ) وقوله : (يَوْمَئِذٍ) يتعلق به ، وقدم على متعلقه للاهتمام. وهذا الجواب هو المقصود من الكلام لأن الكلام مسوق لإثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذارا بهذا الحشر.

وحقيقة (يَصْدُرُ النَّاسُ) الخروج من محل اجتماعهم ، يقال : صدر عن المكان ، إذا تركه وخرج منه صدورا وصدرا بالتحريك. ومنه الصدر عن الماء بعد الورد ، فأطلق هنا فعل (يَصْدُرُ) على خروج الناس إلى الحشر جماعات ، أو انصرافهم من المحشر إلى مآويهم من الجنة أو النار ، تشبيها بانصراف الناس عن الماء بعد الورد.

وأشتات : جمع شتّ بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق ، والمراد : يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عيّن لهم من منازلهم.

وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) ، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة : انظروا أعمالكم ، أو انظروا مآلكم.

وبني فعل (لِيُرَوْا) إلى النائب لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيين من يريهم إياها. وقد أجمع القراء على ضم التحتية.

فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء ، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال فإن الأعمال لا ترى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها.

٤٣٥

[٧ ، ٨] (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

تفريع على قوله : (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) [الزلزلة : ٦] تفريع الفذلكة ، انتقالا للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء ، والتفريع قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتا.

والمثقال : ما يعرف به ثقل الشيء ، وهو ما يقدّر به الوزن وهو كميزان زنة ومعنى.

والذّرة : النملة الصغيرة في ابتداء حياتها.

و (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) مثل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر ، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإيمان قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

وإنما أعيد قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ) دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإطناب.

وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجامعة الفاذة ففي «الموطأ» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل لثلاثة» الحديث. فسئل عن الحمر فقال : لم ينزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وعن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه أحكم آية في القرآن ، وقال الحسن : قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صعصعة : حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها. وقال كعب الأحبار : «لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

وإذ قد كان الكلام مسوقا للترغيب والترهيب معا أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويها بأهل الخير.

٤٣٦

وفي «الكشاف» : يحكى أن أعرابيا أخّر خيرا يره فقيل قدّمت وأخّرت فقال :

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه

كلا جانبي هرشى لهن طريق ا ه

وقد غفل هذا الأعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير.

روى الواحدي عن مقاتل : أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها ، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما.

ومن أجل هذه الرواية قال جمع : إن السورة مدنية. ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضيا

أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهدا يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة.

٤٣٧

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١٠٠ ـ سورة العاديات

سميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية «سورة العاديات» بدون واو ، وكذلك في بعض التفاسير فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه. وسميت في بعض كتب التفسير «سورة والعاديات» بإثبات الواو.

واختلف فيها فقال ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة : هي مكية.

وقال أنس بن مالك وابن عباس وقتادة : هي مدنية.

وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد بناء على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر.

وآيها إحدى عشرة.

ذكر الواحدي في «أسباب النزول» عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث خيلا سرية إلى بني كنانة وأمّر عليها المنذر بن عمرو الأنصاري فأسهبت أي أمعنت في سهب وهي الأرض الواسعة شهرا وتأخر خبرهم فأرجف المنافقون وقالوا : قتلوا جميعا ، فأخبر الله عنهم بقوله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) [العاديات : ١] الآيات ، إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات.

وهذا الحديث قال في «الإتقان» رواه الحاكم وغيره. وقال ابن كثير : روى أبو بكر البزار هنا حديثا غريبا جدا وساق الحديث قريبا مما للواحدي.

وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حفص بن جميع وهو ضعيف. فالراجح أن السورة مدنية.

٤٣٨

أغراضها

ذمّ خصال تفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة ، وهي خصال غالية على المشركين والمنافقين ، ويراد تحذير المسلمين منها.

ووعظ الناس بأن وراءهم حسابا على أعمالهم بعد الموت ليتذكره المؤمن ويهدد به الجاحد. وأكد ذلك كله بأن افتتح بالقسم ، وأدمج في القسم التنويه بخيل الغزاة أو رواحل الحجيج.

[١ ـ ٨] (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨))

أقسم الله ب (الْعادِياتِ) جمع العادية ، وهو اسم فاعل من العدو وهو السير السريع يطلق على سير الخيل والإبل خاصة.

وقد يوصف به سير الإنسان وأحسب أنه على التشبيه بالخيل ومنه عدّاءو العرب ، وهم أربعة : السّليك بن السّلكة ، والشّنفرى ، وتأبّط شرّا ، وعمرو بن أمية الضّمري. يضرب بهم المثل في العدو.

وتأنيث هذا الوصف هنا لأنه من صفات ما لا يعقل.

والضّبح : اضطراب النفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم وهو من أصوات الخيل والسباع. وعن عطاء : سمعت ابن عباس يصف الضبح أح أح.

وعن ابن عباس ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب ، وهذا قول أهل اللغة واقتصر عليه في «القاموس». روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال : «بينما أنا جالس في الحجر جاءني رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) فقلت له : الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم فسأله عنها ، فقال : سألت عنها أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عباس فقال : الخيل تغزو في سبيل الله ، قال : اذهب فادعه لي ، فلما وقفت عند رأسه. قال : تفتي الناس بما لا علم لك به والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد فكيف تكون

٤٣٩

العاديات ضبحا ، إنما العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى (يعني بذلك أن السورة مكية قبل ابتداء الغزو الذي أوله غزوة بدر) قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي».

وليس في قول علي رضي‌الله‌عنه تصريح بأنها مكية ولا مدنية وبمثل ما قال علي قال ابن مسعود وإبراهيم ومجاهد وعبيد بن عمير.

والضبح لا يطلق على صوت الإبل في قول أهل اللغة. فإذا حمل (الْعادِياتِ) على أنها الإبل ، فقال المبرد وبعض أهل اللغة : من جعلها للإبل جعل (ضَبْحاً) بمعنى ضبعا ، يقال : ضبحت الناقة في سيرها وضبعت ، إذا مدت ضبعيها في السير. وقال أبو عبيدة : ضبحت الخيل وضبعت ، إذا عدت وهو أن يمد الفرس ضبعيه إذا عدا ، أي فالضبح لغة في الضبع وهو من قلب العين حاء. قال في «الكشاف» : «وليس بثبت». ولكن صاحب «القاموس» اعتمده. وعلى تفسير (الْعادِياتِ) بأنها الإبل يكون الضبح استعير لصوت الإبل ، أي من شدة العدو قويت الأصوات المتردّدة في حناجرها حتى أشبهت ضبح الخيل أو أريد بالضبح الضبع على لغة الإبدال.

وانتصب (ضَبْحاً) فيجوز أن يجعل حالا من (الْعادِياتِ) إذا أريد به الصوت الذي يتردد في جوفها حين العدو ، أو يجعل مبينا لنوع العدو إذا كان أصله : ضبحا.

وعلى وجه أن المقسم به رواحل الحج فالقسم بها لتعظيمها بما تعين به على مناسك الحج. واختير القسم بها لأن السامعين يوقنون أن ما يقسم عليه بها محقق ، فهي معظمة عند الجميع من المشركين والمسلمين.

والموريات : التي توري ، أي توقد.

والقدح : حكّ جسم على آخر ليقدح نارا ، يقال : قدح فأورى. وانتصب (قَدْحاً) على أنه مفعول مطلق مؤكّد لعامله. وكل من سنابك الخيل ومناسم الإبل تقدح إذا صكّت الحجر الصّوّان نارا تسمى نار الحباحب ، قال الشنفري يشبّه نفسه في العدو ببعير :

إذا الأمعز الصّوّان لاقى مناسمي

تطاير منه قادح ومفلّل

وذلك كناية عن الإمعان في العدو وشدة السرعة في السير.

ويجوز أن يراد قدح النيران بالليل حين نزولهم لحاجتهم وطعامهم ، وجوز أن يكون الموريات (قَدْحاً) مستعار لإثارة الحرب لأن الحرب تشبّه بالنار. قال تعالى : (كُلَّما

٤٤٠