تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٧ ـ سورة القدر

سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة «سورة القدر» وسماها ابن عطية في «تفسيره» وأبو بكر الجصّاص في «أحكام القرآن» «سورة ليلة القدر».

وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي : هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.

وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس ، فأما قول من قالوا إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.

وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي ، وستّ في العدّ المكي والشامي.

أغراضها

التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى ...

والردّ على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.

ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله.

وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام.

ويستتبع ذلك تحريض المسلمين على تحيّن ليلة القدر بالقيام والتصدق.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١))

٤٠١

اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف (إنّ) وبالإخبار عنها بالجملة الفعلية ، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوّي.

ويفيد هذا التقديم قصرا وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.

وفي ضمير العظمة وإسناد الإنزال إليه تشريف عظيم للقرآن.

وفي الإتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم.

فيجوز أن يراد به القرآن كلّه فيكون فعل : «أنزلنا» مستعملا في ابتداء الإنزال لأن الذي أنزل في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجما ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة ، ولكن لما كان جميع القرآن مقررا في علم الله تعالى مقداره وأنه ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجّما حتى يتم ، كان إنزاله بإنزال الآيات الأول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه» الحديث فاتفق العلماء على أن الصلاة فيما ألحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل ، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصحّ كلما اتّسع المسجد.

ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقلّ عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها ، كأنه إماء إلى أن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق.

ويجوز أن يكون الضمير عائدا على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآيات الخمس من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآنا ، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل (أَنْزَلْناهُ) لا مجاز فيه. وقيل : أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازا بعلاقة البعضية.

والآية صريحة في أن الآيات الأول من القرآن نزلت ليلا وهو الذي يقتضيه حديث بدء الوحي في «الصحيحين» لقول عائشة فيه : «فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد» فكان تعبده ليلا ، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده ، وأما قول عائشة : «فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده» فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر

٤٠٢

بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) [آل عمران : ١٧].

وليلة القدر : اسم جعله الله للّيلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن. ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقا لمعرفتها ولذلك عقب بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر :٢].

والقدر الذي عرفت الليلة بالإضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان [٣] : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) ، أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفا فجعلها مظهرا لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتعريف في (الْقَدْرِ) تعريف الجنس. ولم يقل : في ليلة قدر ، بالتنكير لأنه قصد جعل هذا المركب بمنزلة العلم لتلك الليلة كالعلم بالغلبة ، لأن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإضافة أوغل في جعل ذلك المركب لقبا لاجتماع تعريفين فيه.

وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥]. ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية ، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليالي رمضان في كل سنة.

وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت ليلة سبع عشرة من رمضان. وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذه الكلام في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين؟ وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه؟ وهل هي مخصوصة بليلة وتر كما كانت أول مرّة أو لا تختص بذلك؟

والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره ، تنبيها على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتا شريفا مباركا لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يختار لإيقاعه فضل الأوقات والأمكنة ، فاختيار فضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علوّ قدره عند الله تعالى كقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة:

٤٠٣

٧٩] على الوجهين في المراد من المطهرين.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢))

تنويه بطريق الإبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمّة.

وكلمة (ما أدراك ما كذا) كلمة تقال في تفخيم الشيء وتعظيمه ، والمعنى : أيّ شيء يعرّفك ما هي ليلة القدر ، أي يعسر على شيء أن يعرّفك مقدارها ، وقد تقدمت غير مرة منها ، قوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) في سورة الانفطار [١٧] قريبا. والواو واو الحال.

وأعيد اسم (لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الذي سبق قريبا في قوله : (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإضمار ، فقصد الاهتمام بتعيينها ، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحا ، وحصلت كناية عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣))

بيان أول لشيء من الإبهام الذي في قوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر : ٢] مثل البيان في قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) [البلد : ١٢ ، ١٤] الآية. فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني ، أو لأنها كعطف البيان.

وتفضيلها بالخير على ألف شهر. إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها ، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حر أو برد ، أو مطر ، ولا بطولها أو بقصرها ، فإن تلك الأحوال غير معتدّ بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين. وقد قال في فضل الناس : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعدّه الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقربات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله : «واحد كألف» وعليه جاء قوله

٤٠٤

تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة : ٩٦] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء. وفي «الموطإ» : «قال مالك إنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ا ه.

وإظهار لفظ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) في مقام الإضمار للاهتمام ، وقد تكرر هذا اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالبا كقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) [آل عمران : ٧٨].

وقول عديّ :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

ومما ينبغي التنبه له ما وقع في «جامع الترمذي» بسنده إلى القاسم بن الفضل الحدّاني عن يوسف بن سعد قال : «قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال: سوّدت وجوه المؤمنين ، أو يا مسوّد وجوه المؤمنين فقال : لا تؤنبني رحمك الله فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر:١] يا محمّد يعني نهرا في الجنة ، ونزلت : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ١ ـ ٣] يملكها بنو أمية يا محمد قال القاسم : فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص». قال أبو عيسى الترمذي ، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويوسف بن سعد رجل مجهول ا ه.

قال ابن كثير في «تفسيره» ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال ، وعيسى بن مازن غير معروف ، وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث ، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل ، وعلى كل احتمال فهو مجهول.

وأقول : وأيضا ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسنرضي‌الله‌عنه. وفي «تفسير الطبري» عن عيسى بن مازن أنه قال : قلت للحسن : يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث. وعيسى بن مازن غير معروف أصلا فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصة

٤٠٥

تروى عن الحسن.

واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك ابن كثير وذكره عن شيخه المزي ، وأقول : هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة فالاحتجاج به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته ، وأيّة ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه ، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهرا أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نسب إلى القاسم الحدّاني من قوله : فعددناها فوجدناها إلخ كذب لا محالة. والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المزّي.

قال ابن عرفة وفي قوله : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) المحسن المسمّى تشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) [النور : ٣٥] ا ه. يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصل في الآي ، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية :

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة سقاها إلخ

[٤ ، ٥] (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

إذا ضم هذا البيان الثاني لما في قوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر : ٢] من الإبهام التفخيمي حصل منهما ما يدل دلالة بيّنة على أن الله جعل مثل هذه الفضيلة لكل ليلة من ليالي الأعوام تقع في مثل الليلة من شهر نزول القرآن كرامة للقرآن ، ولمن أنزل عليه ، وللدّين الذي نزل فيه ، وللأمة التي تتبعه ، ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر فما هو إلا للتحريض على تطلب العمل الصالح فيها ، فإن كونها خيرا من ألف شهر أومأ إلى ذلك وبينته الأخبار الصحيحة. والتعبير بالفعل المضارع في قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة.

وذكر نهايتها بطلوع الفجر لا أثر له في بيان فضلها فتعين أنه إدماج للتعريف بمنتهاها

٤٠٦

ليحرص الناس على كثرة العمل فيها قبل انتهائها.

لا جرم أن ليلة القدر التي ابتدئ فيها نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان قد تحنث فيها ، وأنزل عليه أول القرآن آخرها ، وانقلب إلى أهله في صبيحتها ، فلولا إرادة التعريف بفضل الليالي الموافقة لها في كل السنوات لاقتصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى ولما كانت حاجة إلى تنزّل الملائكة فيها ، ولا إلى تعيين منتهاها.

وهذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم ، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن.

وحكمة إخفاء تعيينها إرادة أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة توخيا لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة.

هذا محصّل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام ولم يبين أنها أيّة ليلة ، ولا من أي شهر ، وقد قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة ، فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدئ إنزال القرآن فيها لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السّنين ، وتعيين صفة المماثلة ، والمماثلة تكون في صفات مختلفة فلا جائز أن تماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء ، ولا في الفصل من شتاء أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين ، فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله. وقد اختلف في تعيين المماثلة اختلافا كثيرا وأصح ما يعتمد في ذلك : أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح : «تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان».

والوتر : أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث : «إن الله وتر يحب الوتر».

وأنّها ليست ليلة معينة مطّردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام ، وأنها في رمضان وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم قال ابن رشيد : وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب. وعلى أنها متنقلة في الأعوام فأكثر أهل العلم على أنها

٤٠٧

لا تخرج عن شهر رمضان. والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه ، وقال جماعة: لا تخرج عن العشر الأواسط ، والعشر الأواخر.

وتأوّلوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه.

ولم يرد في تعيينها شيء صريح يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة فلا نطيل به ، وقد أتى ابن كثير منه بكثير.

وحفظت عن الشيخ محي الدين بن العربي أنه ضبط تعيينها باختلاف السنين بأبيات ذكر في البيت الأخير منها قوله :

وضابطها بالقول ليلة جمعة

توافيك بعد النصف في ليلة وتر

حفظناها عن بعض معلمينا ولم أقف عليها. وجربنا علامة ضوء الشمس في صبيحتها فلم تتخلف.

وأصل (تَنَزَّلُ) تتنزل فحذفت إحدى التاءين اختصارا. وظاهر أن تنزل الملائكة إلى الأرض.

ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم.

و (الرُّوحُ) : هو جبريل ، أي ينزل جبريل في الملائكة.

ومعنى (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أن هذا التنزل كرامة أكرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حراء.

وفي هذا أصل لإقامة المواكب لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام وفضله وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق ب (تَنَزَّلُ) إما بمعنى السببية ، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول فالإذن بمعنى المصدر ، وإما بمعنى المصاحبة أي مصاحبين لما أذن به ربهم ، فالإذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول نحو : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١].

و (مِنْ) في قوله (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) يجوز أن تكون بيانية تبين الإذن من قوله : (بِإِذْنِ

٤٠٨

رَبِّهِمْ) ، أي بإذن ربهم الذي هو في كل أمر.

ويجوز أن تكون بمعنى الباء ، أي تتنزل بكل أمر مثل ما في قوله تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] أي بأمر الله ، وهذا إذا جعلت باء (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) سببية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، أي من أجل كل أمر أراد الله قضاءه بتسخيرهم.

و (كُلِ) مستعملة في معنى الكثرة للأهمية ، أي في أمور كثيرة عظيمة كقوله تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] وقوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) [الحج : ٢٧] وقوله : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الأنفال : ١٢]. وقول النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي

إلى كل رجّاف من الرمل فارد

وقد بينا ذلك عند قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) في سورة الحج [٢٧].

وتنوين (أَمْرٍ) للتعظيم ، أي بأنواع الثواب على الأعمال في تلك الليلة. وهذا الأمر غير الأمر الذي في قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤] مع أن (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) في سورة الدخان [٥] متحدة مع اختلاف شئونها ، فإن لها شئونا عديدة.

ويجوز أن يكون هو الأمر المذكور هنا فيكون هنا مطلقا وفي آية الدخان مقيدا.

واعلم أن موقع قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) إلى قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ، من جملة : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٣] موقع الاستئناف البياني أو موقع بدل الاشتمال فلمراعاة هذا الموقع فصلت الجملة عن التي قبلها ولم تعطف عليها مع أنهما مشتركتان في كون كل واحدة منهما تفيد بيانا لجملة : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر : ٢] ، فأوثرت مراعاة موقعها الاستئنافي أو البدلي على مراعاة اشتراكهما في كونها بيانا لجملة : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) لأن هذا البيان لا يفوت السامع عند إيرادها في صورة البيان أو البدل بخلاف ما لو عطفت على التي قبلها بالواو لفوات الإشارة إلى أن تنزل الملائكة فيها من أحوال خيريتها.

وجملة : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) بيان لمضمون (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وهو كالاحتراس لأنّ تنزّل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٨] وقال : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٢٢]. وجمع بين إنزالهم للخير والشر في قوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ

٤٠٩

فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الأنفال : ١٢] الآية ، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر ، فهذه بشارة.

والسلام : مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [الأنبياء : ٦٩]. ويطلق السلام على التحية والمدحة ، وفسر السلام بالخير ، والمعنيان حاصلان في هذه الآية ، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى ، فيشمل السلام الغفران وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

وتنكير (سَلامٌ) للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر.

وتقديم المسند وهو (سَلامٌ) على المسند إليه لإفادة الاختصاص ، أي ما هي إلا سلام. والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين ، ثم يجوز أن يكون (سَلامٌ هِيَ) مرادا به الإخبار فقط ، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر ، والتقدير : سلّموا سلاما ، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [الذاريات : ٢٥]. والمعنى : اجعلوها سلاما بينكم ، أي لا نزاع ولا خصام. ويشير إليه ما في الحديث الصحيح : «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».

و (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) غاية لما قبله من قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) إلى (سَلامٌ هِيَ).

والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة ، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول (لَيْلَةِ) [القدر : ١] لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» ، أي من قام بعضها ، فقد قال سعيد بن المسيب : من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد ، فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.

وجيء بحرف (حَتَّى) لإدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث

٤١٠

أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفطر بآخر جزء من الليل ، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر.

ويستفاد من غاية تنزّل الملائكة فيها ، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيرا من ألف شهر ، وغاية السلام فيها.

وقرأ الجمهور : (مَطْلَعِ) بفتح اللام على أنه مصدر ميمي ، أي طلوع الفجر ، أي ظهوره. وقرأه الكسائي وخلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر.

٤١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٨ ـ سورة لم يكن

وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكن الذين كفروا». روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : وسمّاني لك؟ قال : نعم. فبكى» فقوله : أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها ، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة (لَمْ يَكُنِ) بالاقتصار على أول كلمة منها ، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.

وسميت في أكثر المصاحف «سورة القيّمة» وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف «سورة البيّنة».

وذكر في «الإتقان» أنها سميت في مصحف أبيّ «سورة أهل الكتاب» ، أي لقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [البينة : ١] ، وسميت سورة «البرية» وسميت «سورة الانفكاك». فهذه ستة أسماء.

واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية : الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدينة.

وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام. وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبّة البدري قال : «لما نزلت : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيّا» الحديث ، أي وأبيّ من أهل المدينة. وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية ، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري ، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية. قال ابن عطية : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما دفع

٤١٢

إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة.

وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر ، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير ، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.

وعدد آياتها ثمان عند الجمهور ، وعدها أهل البصرة تسع آيات.

أغراضها

توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها.

وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.

ووعيدهم بعذاب الآخرة.

والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية.

والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم.

وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة.

[١ ـ ٣] (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣))

استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلا ينتزع من لفظها ونظمها ، فذكر الفخر عن الواحدي في «التفسير البسيط» له أنه قال : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الفخر : «ثم إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها.

وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عما ذا لكنه معلوم إذ المراد

٤١٣

هو الكفر والشرك اللذين كانوا عليهما فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إن كلمة (حَتَّى) لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم قال بعد ذلك : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر» ا ه كلام الفخر.

يريد أن الظاهر أن قوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) بدل من (الْبَيِّنَةُ) وأن متعلّق (مُنْفَكِّينَ) حذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم ، وأن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسّرة ب (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم ، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) [البينة : ٤] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر ، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤] إلخ كلاما متصلا بإعراضهم عن الإسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي.

ومما لم يذكره الفخر من وجه الإشكال : أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن ما ، وأن نصب المضارع بعد (حَتَّى) ينادي على أنه منصوب ب (أن) مضمرة بعد (حَتَّى) فيقتضي أنّ إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) وإتيان الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه : هؤلاء على كفرهم ، وهؤلاء على شركهم.

وإذ قد تقرر وجه الإشكال وكان مظنونا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالا أو تفصيلا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه ، فوجب صرفه عن ظاهره ، إما بصرف تركيب الخبر عن ظاهر الإخبار وهو إفادة المخاطب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب ، بأن يصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب. وإمّا بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية.

فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره. ومنهم من أبقوا الخبر على

٤١٤

ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ (مُنْفَكِّينَ) ومنهم من تأول معنى (حَتَّى) ومنهم من تأول (رَسُولٌ) ، وبعضهم جوز في (الْبَيِّنَةُ) وجهين.

وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعة عشر قولا ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي معظمها غير معزو ، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر.

ومراجع تأويل الآية تؤول إلى خمسة.

الأول : تأويل الجملة بأسرها بأن يؤوّل الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب ، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري.

الثاني : تأويل معنى (مُنْفَكِّينَ) بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم ، وهو لابن عطية.

الثالث : تأويل متعلّق (مُنْفَكِّينَ) بأنه عن الكفر وهو لعبد الجبّار ، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيّان. أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمن الملقب بالأصم ، أو منفكين عن الحياة ، أي هالكين ، وعزي إلى بعض اللغويين.

الرابع : تأويل (حَتَّى) أنها بمعنى (إن) الاتصالية. والتقدير : وإن جاءتهم البينة.

الخامس : تأويل (رَسُولٌ) بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) [النساء : ١٥٣] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم.

هذا والمراد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أنهم كفروا برسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١].

وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت ، فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين.

إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى

٤١٥

المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا ، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتازانيّ في «المطول» : إن بيان أنه من أيّ أنواع المجاز هو مما لم يحم أحد حوله. والذي تصدّى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة.

فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها ، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل : كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة ، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه ، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤] إذ عبّر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا)

فالخبر موجّه لكل سامع ، ومضمومه قول : «كان صدر من أهل الكتاب واشتهر عنهم وعرفوا به وتقرّر تعلّل المشركين به لأهل الكتاب حتى يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا : لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧].

وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإسلام ، قال تعالى : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣] الآية.

وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) مصادفا المحزّ فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقريب منه قوله تعالى في أهل الكتاب : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

٤١٦

وحاصل المعنى : أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة ، أي العلامة التي وعدنا بها.

وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) إلخ.

وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع إشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية.

فالانفكاك : الإقلاع ، وهو مطاوع فكّه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق (مُنْفَكِّينَ) محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة (الَّذِينَ كَفَرُوا) والتقدير : منفكين عن كفرهم وتاركين له ، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام. وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان ، ومن أفراد المتنصرين بمكة أو بالمدينة.

وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا : (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) [آل عمران : ١٨٣] ، وقال عنهم : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦]. وقال عن الفريقين : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] ، وحكى عن المشركين بقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وقولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥].

ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبيء ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية : «أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه». ثم قولها فيه : «وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو

٤١٧

الكلام الذي لم يتكلم به الرب (الإصحاح الثامن عشر). وقول الإنجيل : «وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر ليمكث معكم إلى الأبد (أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد) روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه (يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة ٦) «وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكّركم بكل ما قلته لكم (يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقرة ٢٦).

وقوله : ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ، (أي بعد عيسى) ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى (أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مؤول ببقاء دينه إذ لا يبقى أحد حيا إلى انقراض الدنيا) فهذا يخلّص ويكرر ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى» ، أي نهاية الدنيا (متّى الإصحاح الرابع والعشرون) ، أي فهو خاتم الرسل كما هو بين.

وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفّي وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذّبوا المبعوث إليهم.

و (الْبَيِّنَةُ) : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية.

ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متّى لفظ «شهادة لجميع الأمم» ، (ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية) وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه : ١٣٣].

والظاهر أن التعريف في (الْبَيِّنَةُ) تعريف العهد الذهني ، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم : ادخل السوق ، لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق ، ومنه قول زهير :

وما الحرب إلّا ما علمتم وذقتم

ولذلك قال علماء البلاغة : إن المعرّف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة.

٤١٨

ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم ، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم.

وأوثرت كلمة (الْبَيِّنَةُ) لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادّتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [طه : ١٣٣] وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الصف : ٦] وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] وقال عن القرآن : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥].

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية بيان للذين كفروا.

وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثّوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو أتقن من ترّهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع ، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردّون به تلك الدعوة وخاصة بعد ما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة.

فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب ، وأما المشركون فتبع لهم.

واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء ، أي هي رسول من الله ، يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة ، وهي جملة معترضة بين جملة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ... (مُنْفَكِّينَ) إلى آخرها وبين جملة : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤].

ويجوز أن يكون (رَسُولٌ) بدلا من (الْبَيِّنَةُ) فيقتضي أن يكون من تمام لفظ «بينة» فيكون من حكاية ما زعموه. أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلّت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وتنكير (رَسُولٌ) للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى : (أَيَّاماً

٤١٩

مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] وقول : (المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢].

وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل : فقد جاءتكم البينة ، على حد قوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩] ، وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) [الطلاق : ١٠ ، ١١].

فأسلوب هذا الردّ مثل أسلوب قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٤].

وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة : «وأجعل كلامي في فمه».

وقول الإنجيل : «ويذكّركم بكل ما قلته لكم» كما تقدم آنفا ، وهو ما أشار إليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) [المائدة : ٤٨] لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى ، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة ، وأنه يبلغ عن الله وينطلق بوحيه ، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا. قال حجة الإسلام في كتاب «المنقذ من الضلال» : «إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة».

و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (رَسُولٌ) ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين (رَسُولٌ) فيشعر بتعظيم هذا الرسول.

وجملة (يَتْلُوا صُحُفاً) إلخ صفة ثانية أو حال ، وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة.

والتلاوة : إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب ، ففعل (يَتْلُوا) مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدّل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه.

٤٢٠