تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

الإسلام أو من إثبات البعث والجزاء.

وحذف ما أضيف إليه (بَعْدُ) فبنيت بعد على الضم والتقدير : بعد تبيّن الحق أو بعد تبيّن ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين.

وجملة : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) يجوز أن تكون خبرا عن (ما) والرابط محذوف تقديره : بأحكم الحاكمين فيه.

ويجوز أن تكون الجملة دليلا على الخبر المخبر به عن (ما) الموصولة وحذف إيجازا اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له فالتقدير فالذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه أليس الله بأحكم الحاكمين.

والاستفهام تقريري.

و «أحكم» يجوز أن يكون مأخوذا من الحكم ، أي أقضى القضاة ، ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ.

ويجوز أن يكون مشتقا من الحكمة. والمعنى : أنه أقوى الحاكمين حكمة في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ونوط الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتقّ منه الوصف فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون ، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته ، وهي : إصابة الحق ، وقطع دابر الباطل ، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه.

روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ منكم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين : ١] فانتهى إلى قوله : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».

٣٨١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٦ ـ سورة العلق

اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم «سورة اقرأ باسم ربك». روي في «المستدرك» عن عائشة : «أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك» فأخبرت عن السورة ب (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١]. وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري ، وبذلك عنونها الترمذي.

وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير «سورة العلق» لوقوع لفظ «العلق» في أوائلها ، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.

وعنونها البخاري : «سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق».

وتسمى : «سورة اقرأ» ، وسماها الكواشي في «التخليص» «سورة اقرأ والعلق».

وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي : «سورة القلم» وهذا اسم سميت به : «سورة ن». ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور ذات أكثر من اسم.

وهي مكية باتفاق.

وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة ، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبع عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٥]. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة. وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.

وعن جابر أول سورة المدثر ، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة

٣٨٢

نزلت بعد فترة الوحي كما في «الإتقان» كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.

وعدد آيها في عدّ أهل المدينة ومكة عشرون ، وفي عدّ أهل الشام ثمان عشرة ، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة.

أغراضها

تلقين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.

والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء.

وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.

وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر.

وتهديد من كذّب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.

وإعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله عالم بأمر من يناوئنه وأنه قامعهم وناصر رسوله.

وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله.

وأن لا يعبأ بقوة أعدائه لأن قوة الله تقهرهم.

[١ ـ ٥] (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ٢ اقْرَأْ)

هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ثبت عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما سيأتي قريبا.

وافتتاح السورة بكلمة (اقْرَأْ) إيذان بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيكون قارئا ، أي تاليا كتابا بعد أن لم يكن قد تلا كتابا قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) [العنكبوت :

٣٨٣

٤٨] ، أي من قبل نزول القرآن ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل حين قال له اقرأ : «ما أنا بقارئ».

وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.

وقوله تعالى : (اقْرَأْ) أمر بالقراءة ، والقراءة نطق بكلام معيّن مكتوب أو محفوظ على ظهر قلب.

وتقدم في قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) في سورة النحل [٩٨].

والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال ، فالمطلوب بقوله : (اقْرَأْ) أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال ، أي أن يقول ما سيملى عليه ، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم يتقدم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته ، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها ، فهو كما يقول المعلم للتلميذ : اكتب ، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه.

وفي حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي‌الله‌عنها قولها فيه : «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال : اقرأ. قال : فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى (ما لَمْ يَعْلَمْ)

فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقولها قال : «فقلت : ما أنا بقارئ». وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه : «فرجع بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده» أي فرجع بالآيات التي أمليت عليه ، أي رجع متلبسا بها ، أي بوعيها.

وهو يدل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلقى ما أوحي إليه. وقرأه حينئذ ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث : «فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك» ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه وهذا ينبئ بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما قيل له بعد الغطة الثالثة : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في

٣٨٤

المرات الثلاث (اقْرَأْ) إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل.

ولم يذكر لفعل (اقْرَأْ) مفعول ، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة ، وإما لظهور المقروء من المقام ، وتقديره : اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن.

وقوله (بِاسْمِ رَبِّكَ) فيه وجوه :

أولها : أن يكون افتتاح كلام بعد جملة (اقْرَأْ) وهو أول المقروء ، أي قل : باسم الله ، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره : ابتدئ ويجوز أن يتعلق ب (اقْرَأْ) الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله. ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة ، وإقحام كلمة (اسم) لأن الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة ، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (بِسْمِ اللهِ) حين تلقّى هذه الجملة.

الثاني : أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير (اقْرَأْ) الثاني مقدّما على عامله للاختصاص ، أي اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك (اسم ربك). فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله ، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون : باسم اللات ، باسم العزى ، كما تقدم في البسملة. فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي.

الثالث : أن تكون الباء بمعنى (على) كقوله تعالى : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) [آل عمران : ٧٥] ، أي على قنطار. والمعنى : اقرأ على اسم ربك ، أي على إذنه ، أي أن الملك جاءك على اسم ربك ، أي مرسلا من ربك ، فذكر (اسم) على هذا متعين.

وعدل عن اسم الله العلم إلى صفة (رَبِّكَ) لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به ، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده ردا على الذين جعلوا لأنفسهم أربابا من دون الله فكانت هذه الآية أصلا للتوحيد في الإسلام.

وجيء في وصف الربّ بطريق الموصول (الَّذِي خَلَقَ) ولأن في ذلك استدلالا على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء

٣٨٥

أي علة الخبر ، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق ، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى ، وكون الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] فلما كان المقام مقام ابتداء كتاب الإسلام دين التوحيد كان مقتضيا لذكر أدلّ الأوصاف على وحدانيته.

وجملة (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) يجوز أن تكون بدلا من جملة (الَّذِي خَلَقَ) بدل مفصّل من مجمل إن لم يقدر له مفعول ، أو بدل بعض إن قدّر له مفعول عام ، وسلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداء لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام. ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل.

ويجوز أن تكون بيانا من (الَّذِي خَلَقَ) إذا قدر لفعل (خَلَقَ) الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام : اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق.

وعدم ذكر مفعول لفعل (خَلَقَ) يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم ، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم ، أي خلق كل المخلوقات ، وأن يكون تقديره : الذي خلق الإنسان اعتمادا على ما يرد بعده من قوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ، فهذه معان في الآية.

وخص خلق الإنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطّرد في مقام الاستدلال إذ لا يغفل أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده ولذلك قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم.

وفي قوله : (مِنْ عَلَقٍ) إشارة إلى ما ينطوي في أصل خلق الإنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطان هذا العالم الأرضي.

والعلق : اسم جمع علقة وهي قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبا لم يجفّ ، سمي بذلك تشبيها لها بدودة صغيرة تسمّى علقة ، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة ، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة

٣٨٦

وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها.

ومعنى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة فإذا صارت علقة فقد أخذت في أطوار التكوّن ، فجعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة.

ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبّرة أضعافا تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق كما قال تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) [الحج : ٥] ، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي سابحة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة ، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة.

ومعنى حرف (مِنْ) الابتداء.

وفعل (اقْرَأْ) الثاني تأكيد ل (اقْرَأْ) الأول للاهتمام بهذا الأمر.

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

جملة معطوفة على جملة : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فلها حكم الاستئناف ، و (رَبُّكَ) مبتدأ وخبره إما (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) وإما جملة : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) وهذا الاستئناف بياني.

فإذا نظرت إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئا عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : كيف أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة ، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم ، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم.

وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جوابا عن قوله لجبريل : «ما أنا بقارئ» فالمعنى : لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالما بالقراءة إذ

٣٨٧

العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإملاء والتلقين والإلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئا.

ومقتضى الظاهر : وعلّم بالقلم. فعدل عن الإضمار لتأكيد ما يشعر به (رَبُّكَ) من العناية المستفادة من قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وأن هذه القراءة شأن من شئون الرب اختص بها عبده إتماما لنعمة الربوبية عليه.

وليجري على لفظ الرب وصف الأكرم.

ووصف (الْأَكْرَمُ) مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغا للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة.

والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطى ، ونعم الله عظيمة لا تحصى ابتداء من نعمة الإيجاد ، وكيفية الخلق ، والإمداد.

وقد جمعت هذه الآيات الخمس من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوصف الرب يتضمن الوجود والوحدانية ، ووصف (الَّذِي خَلَقَ) ووصف (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) يقتضيان صفات الأفعال ، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها. ووصف (الْأَكْرَمُ) يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص.

ومفعولا (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) محذوفان دل عليهما قوله : (بِالْقَلَمِ) وتقديره : علّم الكاتبين أو علّم ناسا الكتابة ، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النّميري :

كما خطّ الكتاب بكفّ يوما

يهوديّ يقارب أو يزيل

ويتفاخر من يعرف الكتابة بعلمه وقال الشاعر :

تعلّمت باجاد وآل

مرامر وسوّدت أثوابي ولست بكاتب

وذكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار ، وأدخل الكتابة إلى الحجاز حرب بن أمية تعلمه من أسلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مرامر بن مرة وكان الخط سابقا عند حمير باليمن ويسمى المسند.

وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلها معترضة بين المبتدإ والخبر للإيماء إلى إزالة ما

٣٨٨

خطر ببال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة فكيف القراءة إذ قال للملك: «ما أنا بقارئ» ثلاث مرات ، لأن قوله : «ما أنا بقارئ» اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله : (اقْرَأْ) ؛ فالمعنى أن الذي علّم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة.

والقلم : شظيّة من قصب ترقق وتثقّف وتبرى بالسكين لتكون ملساء بين الأصابع ويجعل طرفها مشقوقا شقا في طول نصف الأنملة ، فإذا بلّ ذلك الطرف بسائل المداد يخط به على الورق وشبهه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) في سورة آل عمران [٤٤].

وجملة : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) خبر عن قوله : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) وما بينهما اعتراض.

وتعريف (الْإِنْسانَ) يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم.

وقد حصلت من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة :

أحدها : الأخذ عن الغير بالمراجعة ، والمطالعة ، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية.

والثاني : التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء.

والثالث : ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات. وهذان داخلان تحت قوله تعالى : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)

وفي ذلك اطمئنان لنفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم ، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة.

وأشعر قوله : (ما لَمْ يَعْلَمْ) أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يعلم من قبل ، أي فلا يؤيسنّك من أن تصير عالما بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف

٣٨٩

قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا للوحي من مبدإ بعثته.

وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّها وصف مكمّل لإعجاز القرآن قال تعالى :(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].

وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار حراء.

[٦ ـ ١٠] (كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠))

استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله.

وحرف (كَلَّا) ردع وإبطال ، وليس في الجملة التي قبله ما يحتمل الإبطال والردع ، فوجود (كَلَّا) في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) الآية.

وحقّ (كَلَّا) أن تقع بعد كلام لإبطاله والزجر عن مضمونه ، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإبطال وبردع قائله ، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإبطال ، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يلي الحرف كما في قول امرئ القيس :

فلا وأبيك ابنة العامر

يّ لا يدّعي القوم أنّي أفرّ

روى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : «قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه (أي يسجد في الصلاة) بين أظهركم؟ فقيل : نعم ، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته فأتى رسول الله وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتّقي بيده. فقيل له : ما لك يا أبا الحكم؟ قال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا قال : فأنزل الله ، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) الآيات ا ه.

٣٩٠

وقال الطبري : ذكر أن آية (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا : لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن رقبته.

فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءا بقوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى)

ووجه الجمع بين الروايتين : أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوّله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) إلخ ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) إلى (الرُّجْعى)

واختلفوا في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذكر الصلاة فيها. وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناء على أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء وكان الإسراء بعد البعثة بسنين ، فقال بعضهم : إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة ، ونزل بينهن قرآن آخر ثم نزلت هذه الآيات ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإلحاقها ، وقال بعض آخر : ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن.

وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عقبه من الحوادث أن الوحي فتر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى ، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة. وقال السهيلي : كانت المدة سنتين ، وفيه بعد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبريل ويتلقى منه وحيا ليس من القرآن. وقال السهيلي في «الروض الأنف» : ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس (أي العصر) وصلاة قبل طلوعها (أي الصبح) ، وقال يحيى بن سلام مثله ، وقال : كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام ا ه. فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.

فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول

٣٩١

السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن ، جريا على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بيّن ، وجريا على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت.

فموقع قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) موقع المقدمة لما يرد بعده من قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله : (لا تُطِعْهُ) [العلق : ١٩] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) [العلق : ١٧].

والمعنى : أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإنسان.

والتعريف في (الْإِنْسانَ) للجنس ، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء ، واللام مفيدة الاستغراق العرفي ، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خلقه أو دينه.

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه.

والطغيان : التعاظم والكبر.

والاستغناء : شدة الغنى ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر.

و (أَنْ رَآهُ) متعلق ب «يطغى» بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع (أن) كثير شائع ، والتقدير : إنّ الإنسان ليطغى لرؤيته نفسه مستغنيا.

وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقا حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لأمة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء فهو في عزة عند نفسه.

فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس. ونبهت على

٣٩٢

الحذر من تغلغلها في النفس.

وضمير (رَآهُ) المستتر المرفوع على الفاعلية وضميره البارز المنصوب على المفعولية كلاهما عائد إلى الإنسان ، أي أن رأى نفسه استغنى.

ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد : أحدهما فاعل ، والآخر مفعول في كلام العرب ، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في هذه الآية ، ومنه قوله تعالى : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) في سورة الإسراء [٦٢]. قال الفراء : والعرب تطرح النفس من هذا الجنس (أي جنس أفعال الظن والحسبان) تقول : رأيتني وحسبتني ، ومتى تراك خارجا ، ومتى تظنك خارجا ، وألحقت (رأى) البصرية ب (رأى) القلبية عند كثير من النحاة كما في قول قطري بن الفجاءة :

فلقد أراني للرّماح دريئة

من عن يميني مرة وأمامي

ومن النادر قول النّمر بن تولب :

قد بتّ أحرسني وحدي ويمنعني

صوت السباع به يضبحن والهام

وقرأ الجميع (أَنْ رَآهُ) بألف بعد الهمزة ، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن ابن كثير «رأه» بدون ألف بعد الهمزة ، قال ابن مجاهد : هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل ، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجها غريبا عن قنبل.

وألحق بهذه الأفعال : فعل فقد وفعل عدم إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل : فقدتني وعدمتني.

وجملة : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي مرجع الطاغي إلى الله ، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة ، وتعليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت له ، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فإن مرجعه إليّ ، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ : ٢١ ، ٢٢] وهي موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت ، والموت : رجوع إلى الله كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦].

وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ما ذا يصيّره إليه ربّه من العواقب فلا يزده بغنى زائف في هذه الحياة فيكون :

٣٩٣

(الرُّجْعى) مستعملا في مجازه ، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه ، وتأكيد الخبر ب (إن) مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسون هذه الحقيقة بحيث ينزّلون منزلة من ينكرها.

و (الرُّجْعى) : بضم الراء مصدر رجع على زنة فعلى مثل البشرى.

وتقديم (إِلى رَبِّكَ) على (الرُّجْعى) للاهتمام بذلك.

وجملة : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف (كَلَّا) ، فهذه الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا متصلا باستئناف جملة: (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى)

و (الَّذِي يَنْهى) اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولا يريد به نهي النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه : لئن رأيت محمدا يصلي في الكعبة لأطأنّ على عنقه. فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلغ إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يرو أنه نهاه مشافهة.

و (أَرَأَيْتَ) كلمة تعجيب من حال ، تقال للذي يعلم أنه رأى حالا عجيبة. والرؤية علمية ، أي أعلمت الذي ينهى عبدا والمستفهم عنه هو ذلك العلم ، والمفعول الثاني ل «رأيت» محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤].

والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لنبئها إذ لا يكاد يصدق به ، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب. ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١].

والرؤية علمية ، والمعنى : أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهى عبدا إذا صلى. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج والخطاب في (أَرَأَيْتَ) لغير معيّن.

والمراد بالعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإطلاق العبد هنا على معنى الواحد من عباد الله أيّ شخص كما في قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء : ٥] ، أي رجالا. وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلّي. فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوقع ، وصيغة

٣٩٤

المضارع في قوله : (يَنْهى) لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضى.

والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل (يَنْهى) أي نهاه عن صلاته.

[١١ ـ ١٢] (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢))

تعجيب آخر من حال مفروض وقوعه ، أي أتظنه ينهى أيضا عبدا متمكنا من الهدى فتعجب من نهيه. والتقدير : أرأيته إن كان العبد على الهدى أينهاه عن الهدى ، أو إن كان العبد آمرا بالتقوى أينهاه عن ذلك.

والمعنى : أن ذلك هو الظن به فيعجّب المخاطب من ذلك لأن من ينهى عن الصلاة وهي قربة إلى الله فقد نهى عن الهدى ، ويوشك أن ينهى عن أن يأمر أحد بالتقوى.

وجواب الشرط محذوف وأتى بحرف الشرط الذي الغالب فيه عدم الجزم بوقوع فعل الشرط مجاراة لحال الذي ينهى عبدا.

والرؤية هنا علمية ، وحذف مفعولا فعل الرؤية اختصارا لدلالة (الَّذِي يَنْهى) [العلق : ٩] على المفعول الأول ودلالة (يَنْهى) على المفعول الثاني في الجملة قبلها.

و (عَلَى) للاستعلاء المجازي وهو شدّة التمكن من الهدى بحيث يشبه تمكن المستعلي على المكان كما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [لقمان : ٥].

فالضميران المستتران في فعلي (كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) عائدان إلى (عَبْداً) وإن كانت الضمائر الحافّة به عائدة إلى (الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠] فإن السياق يرد كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

والمفعول الثاني لفعل «رأيت» محذوف دل عليه قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) [العلق : ١٤] أو دل عليه قوله : (يَنْهى) المتقدم. والتقدير : أرأيته.

وجواب : (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) محذوف تقديره : أينهاه أيضا.

وفصلت جملة : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) لوقوعها موقع التكرير لأن فيها تكرير التّعجيب من أحوال عديدة لشخص واحد.

[١٣ ، ١٤] (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤))

٣٩٥

جملة مستأنفة للتهديد والوعيد على التكذيب والتولي ، أي إذا كذب بما يدعى إليه وتولى أتظنه غير عالم بأن الله مطلع عليه.

فالمفعول الأول ل «رأيت» محذوف وهو ضمير عائد إلى (الَّذِي يَنْهى) [العلق : ٩] والتقدير : أرأيته إن كذب ... إلى آخره.

وجواب (إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) هو (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) كذا قدر صاحب «الكشاف» ، ولم يعتبر وجوب اقتران جملة جواب الشرط بالفاء إذا كانت الجملة استفهامية. وصرح الرضي باختيار عدم اشتراط الاقتران بالفاء ونظّره بقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٤٧] فأما قول جمهور النحاة والزمخشري في «المفصّل» فهو وجوب الاقتران بالفاء ، وعلى قولهم يتعين تقدير جواب الشرط بما يدل عليه : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) والتقدير : إن كذب وتولى فالله عالم به ، كناية عن توعده ، وتكون جملة : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) مستأنفة لإنكار جهل المكذب بأن الله سيعاقبه ، والشرط وجوابه سادّان مسدّ المفعول الثاني.

وكني بأن الله يرى عن الوعيد بالعقاب.

وضمن فعل (يَعْلَمْ) معنى يوقن فلذلك عدي بالباء.

وعلق فعل (أَرَأَيْتَ) هنا عن العمل لوجود الاستفهام في قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ)

والاستفهام إنكاري ، أي كان حقه أن يعلم ذلك ويقي نفسه العقاب.

وفي قوله : (إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إيذان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن أبا جهل سيكذبه حين يدعوه إلى الإسلام وسيتولى ، ووعد بأن الله ينتصف له منه.

وضمير (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عائد إلى (الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠] ، وقرينة المقام ترجّع الضمائر إلى مراجعها المختلفة.

وحذف مفعول (كَذَّبَ) لدلالة ما قبله عليه. والتقدير : إن كذبه ، أي العبد الذي صلى ، وبذلك انتظمت الجمل الثلاث في نسبة معانيها إلى الذي ينهى عبدا إذا صلى وإلى العبد الذي صلى ، واندفعت عنك ترددات عرضت في التفاسير.

وحذف مفعول (يَرى) ليعمّ كل موجود ، والمراد بالرؤية المسندة إلى الله تعالى تعلق علمه بالمحسوسات.

٣٩٦

[١٥ ، ١٦] (كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦))

(كَلَّا)

أكّد الردع الأول بحرف الردع الثاني في آخر الجملة وهو الموقع الحقيق لحرف الردع إذ كان تقديم نظيره في أول الجملة ، لما دعا إليه لمقام من التشويق.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ١٥ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ١٦)

أعقب الردع بالوعيد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه.

واللام موطئة للقسم ، وجملة «لنسفعن» جواب القسم ، وأما جواب الشرط فمحذوف دل عليه جواب القسم.

والسفع : القبض الشديد بجذب.

والناصية مقدّم شعر الرأس ، والأخذ من الناصية أخذ من لا يترك له تمكّن من الانفلات فهو كناية عن أخذه إلى العذاب ، وفيه إذلال لأنهم كانوا لا يقبضون على شعر رأس أحد إلّا لضربه أو جرّه. وأكد ذلك السفع بالباء المزيدة الداخلة على المفعول لتأكيد اللصوق.

والنون نون التوكيد الخفيفة التي يكثر دخولها في القسم المثبت ، وكتبت في المصحف ألفا رعيا للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف.

والتعريف في «الناصية» للعهد التقديري ، أي بناصيته ، أي ناصية الذي ينهى عبدا إذا صلى وهذه اللام هي التي يسميها نحاة الكوفة عوضا عن المضاف إليه. وهي تسمية حسنة وإن أباها البصريون فقدروا في مثله متعلّقا لمدخول اللام.

و (ناصِيَةٍ) بدل من الناصية وتنكيرها لاعتبار الجنس ، أي هي من جنس ناصية كاذبة خاطئة.

و (خاطِئَةٍ) اسم فاعل من خطئ من باب علم ، إذا فعل خطيئة ، أي ذنبا ، ووصف الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي. والمراد : كاذب صاحبها خاطئ صاحبها ، أي آثم. ومحسّن هذا المجاز أنّ فيه تخييلا بأن الكذب والخطء باديان من ناصيته فكانت

٣٩٧

الناصية جديرة بالسفع.

[١٧ ـ ١٩] (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ١٧ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ١٨ كَلَّا)

تفريع على الوعد. ومناسبة ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل فقال : يا محمد ألم أنهك عن هذا ، وتوعّده ، فأغلظ له رسول الله ، فقال أبو جهل : يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا ، فأنزل الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) يعني أن أبا جهل أراد بقوله ذلك تهديد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يغري عليه أهل ناديه.

والنادي : اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم. يقال : ندا القوم ندوا ، إذ اجتمعوا. والنّدوة (بفتح النون) الجماعة ، ويقال : ناد ونديّ ، ولا يطلق هذا الاسم على المكان إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه فإذا تفرقوا عنه فليس بناد ، ويقال النادي لمجلس القوم نهارا ، فأما مجلسهم في الليل فيسمى المسامر قال تعالى : (سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧].

واتخذ قصي لندوة قريش دارا تسمى دار الندوة حول المسجد الحرام وجعلها لتشاورهم ومهماتهم وفيها يعقد على الأزواج ، وفيها تدرّع الجواري ، أي يلبسونهن الدروع ، أي الأقمصة إعلانا بأنهن قاربن سن البلوغ ، وهذه الدار كانت اشترتها الخيزران زوجة المنصور أبي جعفر وأدخلتها في ساحة المسجد الحرام ، وأدخل بعضها في المسجد الحرام في زيادة عبد الملك بن مروان وبعضها في زيادة أبي جعفر المنصور ، فبقيت بقيتها بيتا مستقلا ونزل به المهدي سنة ١٦٠ في مدة خلافة المعتضد بالله العباسي لما زاد في المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجدا متصلا بالمسجد الحرام فاستمر كذلك ثم هدم وأدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبد العزيز ملك الحجاز ونجد سنة ١٣٧٩.

ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه وهو معنى قول أبي جهل : إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا ، أي ناسا يجلسون إليّ يريد أنه رئيس يصمد إليه ، وهو المعني هنا.

وإطلاق النادي على أهله نظير إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى : (وَسْئَلِ

٣٩٨

الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ونظير إطلاق المجلس على أهله في قول ذي الرمة :

لهم مجلس صهب السّبال أذلة

سواسة أحرارها وعبيدها

وإطلاق المقامة على أهلها في قول زهير :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

أي أصحاب مقامات حسان وجوههم.

وإطلاق المجمع على أهله في قول لبيد :

إنّا إذا التقت المجامع لم يزل

منّا لزاز عظيمة جسامها

الأبيات الأربعة.

ولام الأمر في (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) للتعجيز لأن أبا جهل هدّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكثرة أنصاره وهم أهل ناديه فردّ الله عليه بأن أمره بدعوة ناديه فإنه إن دعاهم ليسطوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الله ملائكة فأهلكوه. وهذه الآية معجزة خاصة من معجزات القرآن فإنه تحدى أبا جهل بهذا وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن الكلام يلهب حميته.

وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه قالت أعرابية : «سيد ناديه ، وثمال عافيه».

وقوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) جواب الأمر التعجيزي ، أي فإن دعا ناديه دعونا لهم الزبانية ففعل (سَنَدْعُ) مجزوم في جواب الأمر ، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل.

والزبانية : بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة ، أو جمع زبنية بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة ، أو جمع زبنيّ بكسر فسكون فتحتية مشددة. وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل وعباديد. وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشدة يقال : ناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها ، وحرب زبون يدفع بعضها بعضا بتكرر القتال.

فالزبانية الذين يزبنون الناس ، أي يدفعونهم بشدة. والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشّرطة.

و (كَلَّا) ردع لإبطال ما تضمنه قوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، أي وليس بفاعل ، وهذا تأكيد

٣٩٩

للتحدّي والتعجيز.

وكتب (سَنَدْعُ) في المصحف بدون واو بعد العين مراعاة لحالة الوصل ، لأنها ليست محل وقف ولا فاصلة.

(لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)

هذا فذلكة للكلام المتقدم من قوله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠] ، أي لا تترك صلاتك في المسجد الحرام ولا تخش منه.

وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل ، والمعنى : لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يضرك.

وأكد قوله : (لا تُطِعْهُ) بجملة (وَاسْجُدْ) اهتماما بالصلاة.

وعطف عليه (وَاقْتَرِبْ) للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلّي مقتربا من الله تعالى.

والاقتراب : افتعال من القرب ، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب ، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة.

٤٠٠