تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

إشارة إلى مرويات في شق صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم شقّا قدسيا ، وهو المروي بعض خبره في «الصحيحين» ، والمروي مطولا في السيرة والمسانيد ، فوقع بعض الروايات في «الصحيحين» أنه كان في رؤيا النوم ورؤيا الأنبياء وحي ، وفي بعضها أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في «البخاري» ، وفي «صحيح مسلم» أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه ، وفي حديث مسلم عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت أثر الشق في جلد صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي بعض الروايات أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بين النائم واليقظان ، والروايات مختلفة في زمانه ومكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة. واختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع ، منها حين كان عند حليمة. وفي حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان وعمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين.

والذي في «الصحيح» عن أبي ذر أنه كان عند المعراج به إلى السماء ، ولعل بعضها كان رؤيا وبعضها حسا. وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية ، وإذ قد كان ذاك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مرادا وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في «الأحكام» ، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته وهو الباطن الحاوي للقلب. ومن العلماء فسر الصدر بالقلب حكاه عياض في «الشفا» ، يشير إلى ما جاء في خبر شق الصدر من إخراج قلبه وإزالة مقر الوسوسة منه ، وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إمّا مباشرة وإما باعتبار مغزاه كما لا يخفى.

واللام في قوله : (لَكَ) لام التعليل ، وهو يفيد تكريما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله فعل ذلك لأجله.

وفي ذكر الجار والمجرور قبل ذكر المشروح سلوك طريقة الإبهام للتشويق فإنه لما ذكر فعل (نَشْرَحْ) علم السامع أن ثمّ مشروحا ، فلما وقع قوله : (لَكَ) قوي الإبهام فازداد التشويق ، لأن (لَكَ) يفيد معنى شيئا لأجلك فلما وقع بعده قوله : «صدره» تعين المشروح المترقّب فتمكن في الذهن كمال تمكن ، وهذا ما أشار إليه في «الكشاف» وقفّي عليه صاحب «المفتاح» في مبحث الإطناب.

والوزر : الحرج ، ووضعه : حطّه عن حامله ، والكلام تمثيل لحال إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلا عن حامله ليريحه من عناء الثقل.

والمعنى : أن الله أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية التي لا

٣٦١

تلائم ما فطر الله عليه نفسه من الزكاة والسمو ولا يجد بدا من مسايرتهم عليه فوضع عنه ذلك حين أوحى إليه بالرسالة ، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسّره الله عليه بقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) إلى قوله : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) [الأعلى : ٦ ـ ٨].

و (أَنْقَضَ) جعل الشيء ذا نقيض ، والنقيض صوت صرير المحمل والرحل وصوت عظام المفاصل ، وفرقعة الأصابع ، وفعله القاصر من باب نصر ويعدّى بالهمزة.

وإسناد (أَنْقَضَ) إلى الوزر مجاز عقلي ، وتعديته إلى الظهر تبع لتشبيه المشقة بالحمل ، فالتركيب تمثيل لمتجشم المشاق الشديدة ، بالحمولة المثقلة بالإجمال تثقيلا شديدا حتى يسمع لعظام ظهرها فرقعة وصرير. وهو تمثيل بديع لأنه تشبيه مركب قابل لتفريق التشبيه على أجزائه.

ووصف الوزر بهذا الوصف تكميل للتمثيل بأنه وزر عظيم.

واعلم أن في قوله : (أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) اتصال حرفي الضاد والظاء وهما متقاربا المخرج فربما يحصل من النطق بهما شيء من الثقل على اللسان ولكنه لا ينافي الفصاحة إذ لا يبلغ مبلغ ما يسمى بتنافر الكلمات بل مثله مغتفر في كلام الفصحاء. والعرب فصحاء الألسن فإذا اقتضى نظم الكلام ورود مثل هذين الحرفين المتقاربين لم يعبأ البليغ بما يعرض عند اجتماعهما من بعض الثقل ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦] في اجتماع الحاء مع الهاء ، وذلك حيث لا يصح الإدغام. وقد أوصى علماء التجويد بإظهار الضاد مع الظاء إذا تلاقيا كما في هذه الآية وقوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ) [الفرقان : ٢٧] ولها نظائر في القرآن.

وهذه الآية هي المشتهرة ولم يزل الأئمة في المساجد يتوخون الحذر من إبدال أحد هذين الحرفين بالآخر للخلاف الواقع بين الفقهاء في بطلان صلاة اللحّان ومن لا يحسن القراءة مطلقا أو إذا كان عامدا إذا كان فذا وفي بطلان صلاة من خلفه أيضا إذا كان اللاحن إماما.

ورفع الذكر : جعل ذكره بين الناس بصفات الكمال ، وذلك بما نزل من القرآن ثناء عليه وكرامة. وبإلهام الناس التحدث بما جبله الله عليه من المحامد منذ نشأته.

وعطف (وَوَضَعْنا) و (رَفَعْنا) بصيغة المضي على فعل (نَشْرَحْ) بصيغة المضارع لأن (لم) قلبت زمن الحال إلى المضي فعطف عليه الفعلان بصيغة المضي لأنهما داخلان

٣٦٢

في حيز التقرير فلما لم يقترن بهما حرف (لم) صيّر بهما إلى ما تفيده (لم) من معنى المضي.

والآية تشير إلى أحوال كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرج منها أو من شأنه أن يكون في حرج ، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها أو هيّأ نفسه لعدم النوء بها.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمها كما أشعر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرّر بما قرر عليه ، ولعلّ تفصيلها فيما سبق في سورة الضحى فلعلها كانت من أحوال كراهيته ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوي الأعمال.

وكان في حرج من كونه بينهم ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه ولم يكن يترقب طريقها لأن يهديهم أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يودّ أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق مما كان باعثا له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله ، فكان يتحنث في غار حراء فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي كان ذلك شرحا مما كان يضيق به صدره يومئذ ، فانجلى له النور ، وأمر بإنقاذ قومه وقد يظنهم طلّاب حق وأزكياء نفوس فلما قابلوا إرشاده بالإعراض وملاطفته لهم بالامتعاض ، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثل قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه ربط جأشه بنحو قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحا لصدره ، وكان لحماية أبي طالب إياه وصده قريشا عن أذاه منفس عنه ، وأقوى مؤيد له لدعوته ينشرح له صدره. وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره ، وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره فكلما خلص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالا وغيره ، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحا وتعريضا نحو قوله في السورة قبلها : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] فذلك من الشرح المراد هنا. وجماع القول في ذلك أنّ تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله تعالى وبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخاطب بهذه الآية.

وأما وضع الوزر عنه فحاصل بأمرين : بهدايته إلى الحق التي أزالت حيرته بالتفكر في حال قومه وهو ما أشار إليه قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] وبكفايته مئونة كلف عيشه التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه ، وهو ما

٣٦٣

أشار إليه قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨].

ورفع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير ، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس ، استعير الرفع لحسن الذكر لأن الرفع جعل الشيء عاليا لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل. فقد فطر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكارم يعزّ وجود نوعها ولم يبلغ أحد شأو ما بلغه منها حتى لقب في قومه بالأمين. وقد قيل إن قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢١] مراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن عظيم رفع ذكره أن اسمه مقترن باسم الله تعالى في كلمة الإسلام وهي كلمة الشهادة.

وروي هذا التفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عند ابن حبان وأبي يعلى قال السيوطي : وإسناده حسن ، وأخرجه عياض في «الشفاء» بدون سند. والقول في ذكر كلمة (لَكَ) مع (وَرَفَعْنا) كالقول في ذكر نظيرها مع قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ)

وإنما لم يذكر مع (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) بأن يقال : ووضعنا لك وزرك للاستغناء بقوله : (عَنْكَ) فإنه في إفادة الإبهام ثم التفصيل مساو لكلمة (لَكَ) ، وهي في إفادة العناية به تساوي كلمة (لَكَ) ، لأن فعل الوضع المعدّى إلى الوزر يدل على أن الوضع عنه فكانت زيادة (عَنْكَ) إطنابا يشير إلى أن ذلك عناية به نظير قوله : (لَكَ) الذي قبله ، فحصل بذكر (عَنْكَ) إيفاء إلى تعدية فعل (وَضَعْنا) مع الإيفاء بحق الإبهام ثم البيان.

[٥ ـ ٦] (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦))

الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا ، أي إذا علمت هذا وتقرر ، تعلم أن اليسر مصاحب للعسر ، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبة اليسر للعسر مقتضيه نقض تأثير العسر ومبطلة لعمله ، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق ، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله.

وسياق الكلام وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ييسر الله له المصاعب كلّما عرضت له ، فاليسر لا يتخلف عن اللحاق بتلك المصاعب ، وذلك من خصائص كلمة (مَعَ) الدالة على المصاحبة.

٣٦٤

وكلمة (مَعَ) هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معا مستحيلة ، فتعين أن المعيّة مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره ، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعيّة. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) في سورة الطلاق [٧].

فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية سورة الطلاق عامة ، وللبعدية فيها مراتب متفاوتة.

فالتعريف في (الْعُسْرِ) تعريف العهد ، أي العسر الذي عهدته وعلمته وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن (ال) فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي فإن مع عسرك يسرا ، فتكون السورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ربه تعالى.

وعد الله تعالى نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق وعده له بقوله : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) [الأعلى : ٨].

وحرف (إن) للاهتمام بالخبر.

وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر : (إنّ) تغني غناء فاء التسبب ، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو اقتصر على حرف (إنّ) لفات معنى الفصيحة.

وتنكير (يُسْراً) للتعظيم ، أي مع العسر العارض لك تيسيرا عظيما يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته لأن ما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شئون دعوته للدين ولصالح المسلمين.

وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما نزلت هذه الآية: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل تعمّه وأمته. وفي «الموطإ» أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر : «أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين».

وروى ابن أبي حاتم والبزار في «مسنده» عن عائذ بن شريح قال : سمعت أنس بن

٣٦٥

مالك يقول : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا وحياله حجر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير : وقد قال أبو حاتم الرازي : في حديث عائذ بن شريح ضعف.

وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفا ، ويجوز أن تكون جملة : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) معترضة بين جملة (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] وجملة : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] تنبيها على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وأنه لو لا ذلك لهلك الناس قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [النحل : ٦١].

وروي عن ابن عباس : يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين ا ه.

والعسر : المشقة في تحصيل المرغوب والعمل المقصود.

واليسر ضده وهو : سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه.

وجملة : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) مؤكدة لجملة : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه لأنه خبر عجيب.

ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا وفي الجملة الثانية يسر الآخرة وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه لأنه متمحض لكون الثانية تأكيدا.

هذا وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن يغلب عسر يسرين» قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية. وصرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ وتضافر المفسّرون على انتزاع ذلك منها فوجب التعرض لذلك ، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة ومن تنكير كملة «يسر» وإعادتها منكّرة ، وقالوا : إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٥ ، ١٦].

وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس ، وهي أيضا في إعادة اللفظ في جملة أخرى والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان بل

٣٦٦

هي تكرير للجملة الأولى ، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ ، وقد أبطله من قبل أبو علي الحسين الجرجاني (١) في كتاب «النظم» كما في «معالم التنزيل». وأبطله صاحب «الكشاف» أيضا ، وجعل ابن هشام في «مغني اللبيب» تلك القاعدة خطأ.

والذي يظهر في تقرير معنى قوله : «لن يغلب عسر يسرين» أن جملة : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) تأكيد لجملة (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر. ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله ، فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر ، وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله : «يسرين» ، فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] أي ارجع البصر كثيرا لأن البصر لا ينقلب حسيرا من رجعتين. ومن ذلك قول العرب : لبّيك ، وسعديك ، ودواليك» والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر فكانت القوة لازم لازم التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية.

وليس ذلك مستفادا من تعريف (الْعُسْرِ) باللام ولا من تنكير «اليسر» وإعادته منكرا.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧))

تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون ملل ولا ضجر.

والفراغ : خلو باطن الظرف أو الإناء لأن شأنه أن يظرف فيه.

وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءا بشيء ، وفراغ الإنسان. مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله.

ولم يذكر هنا متعلق (فَرَغْتَ) وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها

__________________

(١) قال حمزة بن يوسف السهمي المتوفى سنة ٤٢٧ ه‍ في «تاريخ علماء جرجان» هو أبو علي الحسين بن يحيى بن نصر الجرجاني له تصانيف عدّة منها «في نظم القرآن» مجلدتان. كان من أهل السنة روى عن العباس بن يحيى (أو ابن عيسى) العقيلي ا ه.

٣٦٧

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها. فالمعنى إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قفوله من إحدى غزواته : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» ، فالمقصود بالأمر هو (فَانْصَبْ) وأما قوله : (فَإِذا فَرَغْتَ) فتمهيد وإفادة لإيلاء العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال. ومثله قول القائل : ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبتها أخرى.

واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروغ منه ، وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذف المتعلق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) إلى قوله : (كِتاباً مَوْقُوتاً) في سورة النساء [١٠٢ ، ١٠٣].

وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة.

وتقديم (فَإِذا فَرَغْتَ) على (فَانْصَبْ) للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال. وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

عطف على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله تعالى عليه كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].

والرغبة : طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب (في). ويقال : رغب عن كذا بمعنى صرف رغبته عنه بأن رغب في غيره وجعل منه قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ١٢٧] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف (أن) هو حرف (عن). وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء.

وأما تعدية فعل (فَارْغَبْ) هنا بحرف (إِلى) فلتضمينه معنى الإقبال والتوجه تشبيها

٣٦٨

بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩].

وتقديم إلى (رَبِّكَ) على (فَارْغَبْ) لإفادة الاختصاص ، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى.

وحذف مفعول «ارغب» ليعم كل ما يرغبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين.

واعلم أن الفاء في قوله : (فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] وقوله : (فَارْغَبْ) رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فإن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط ، وهو كثير في الكلام قال تعالى : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] وقال : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر : ٣ ـ ٥] ، وفي تقديم المجرور قال تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن سأل منه أن يخرج للجهاد : «ألك أبوان؟ قال : نعم : فقال ففيهما فجاهد». بل قد يعامل معاملة الشرط في الإعراب كما روي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولّ عليكم» بجزم الفعلين ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) في سورة يونس [٥٨].

وذكر الطيبي عن «أمالي السيد» (يعني ابن الشجري) أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبه الجواب بالاسم الناقص ، أو في صلة الموصول الفعلية (لشبهها بالجواب) ، وهي هنا خارجة عما وضعت له ا ه. ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه.

٣٦٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٥ ـ سورة التين

سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف «سورة والتين» بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها. وسماها بعض المفسرين «سورة التين» بدون واو لأن فيها لفظ «التين» كما قالوا : «سورة البقرة» وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف.

وهي مكية عند أكثر العلماء ، قال ابن عطية : لا أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين ، ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور المختلف فيها. وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية ، ونسب أيضا إلى ابن عباس ، والصحيح عن ابن عباس أنه قال : هي مكية.

وعدّت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف.

وعدد آياتها ثمان.

أغراضها

احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أنّ الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال ، ومتّبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة.

والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام.

والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام.

٣٧٠

والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه.

وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه.

[١ ـ ٥] (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥))

ابتداء الكلام بالقسم المؤكد يؤذن بأهمية الغرض المسوق له الكلام ، وإطالة القسم تشويق إلى المقسم عليه.

والتين ظاهرة الثمرة المشهورة بهذا الاسم ، وهي ثمرة يشبه شكلها شكل الكمثرى ذات قشر لونه أزرق إلى السواد ، تتفاوت أصنافه في قتومة قشره ، سهلة التقشير تحتوي على مثل وعاء أبيض في وسطه عسل طيّب الرائحة مخلوط ببزور دقيقة مثل السمسم الصغير ، وهي من أحسن الثمار صورة وطعما وسهولة مضغ فحالتها دالة على دقة صنع الله ومؤذنة بعلمه وقدرته ، فالقسم بها لأجل دلالتها على صفات إلهية كما يقسم بالاسم لدلالته على الذات ، مع الإيذان بالمنة على الناس إذ خلق لهم هذه الفاكهة التي تنبت في كل البلاد والتي هي سهلة النبات لا تحتاج إلى كثرة عمل وعلاج.

والزيتون أيضا ظاهرة الثمرة المشهورة ذات الزيت الذي يعتصر منها فيطعمه الناس ويستصبحون به. والقسم بها كالقسم بالتين من حيث إنها دالّة على صفات الله ، مع الإشارة إلى نعمة خلق هذه الثمرة النافعة الصالحة التي تكفي الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم.

وعلى ظاهر الاسمين للتّين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأوّلين ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة والنخعي وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم ، ولكن مناسبة ذكر هذين مع (طُورِ سِينِينَ) ومع (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة فروي عن ابن عباس أيضا تفسير التين بأنه مسجد نوح الذي بني على الجودي بعد الطوفان. ولعل تسمية هذا الجبل التين لكثرته فيه إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرئ القيس :

أمرخ ديارهم أم عشر

٣٧١

وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابات بقوله :

صهب الظّلال أتين في عرض

يزجين غيما قليلا ماؤه شبما

والزيتون يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون. وروي هذا عن ابن عباس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي. ويجوز عندي أن يكون القسم ب (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ) معنيا بهما شجر هاتين الثمرتين ، أي اكتسب نوعاهما شرفا من بين الأشجار يكون كثير منه نابتا في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير :

أتذكر حين تصقل عارضيها

بفرع بشامة سقي البشام (١)

فدعا لنوع البشام بالسّقي لأجل عود بشامة الحبيبة.

وأما (طُورِ سِينِينَ) فهو الجبل المعروف ب «طور سينا». والطور : الجبل بلغة النبط وهم الكنعانيون ، وعرف هذا الجبل ب (طُورِ سِينِينَ) لوقوعه في صحراء «سينين»، و «سينين» لغة في سين وهي صحراء بين مصر وبلاد فلسطين. وقيل : سينين اسم الأشجار بالنبطية أو بالحبشية ، وقيل : معناه الحسن بلغة الحبشة.

وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع ، مجاز في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة ، أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة ، وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب مثل : صفّين ويبرين وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) [الطور : ١ ، ٢].

و (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : مكة ، سمي الأمين لأن من دخله كان آمنا ، فالأمين فعيل بمعنى مفعل مثل : «الداعي السميع» في بيت عمرو بن معديكرب ، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول على وجه الإسناد المجازي ، أي المأمون ساكنوه قال تعالى : (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤].

والإشارة إليه للتعظيم ولأن نزول السورة في ذلك البلد فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين نظير قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ١].

وعلى ما تقدم ذكره من المحملين الثانيين للتين والزيتون تتم المناسبة بين الأيمان

__________________

(١) وفي رواية التبريزي في «شرح الحماسة» : أتنسى إذ توعدنا سليمى بعود ... إلخ ص ٥٠ ج ١.

٣٧٢

وتكون إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر ، فالتين إيماء إلى رسالة نوح وهي أول شريعة لرسول ، والزيتون إيماء إلى شريعة إبراهيم فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الحديث وقد تقدم في أول الإسراء ، و (طُورِ سِينِينَ) إيماء إلى شريعة التوراة ، و (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام ، ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى لأنها تكملة لشريعة التوراة.

وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه‌السلام لأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه‌السلام فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى ويكون قوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) إيماء إلى شريعة إبراهيم وشريعة الإسلام فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣] ، وبذلك يكون ترتيب الإيماء إلى شرائع نوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام غير جار على ترتيب ظهورها فتوجيه مخالفة الترتيب الذكري للترتيب الخارجي أنه لمراعاة اقتران الاسمين المنقولين عن اسمي الثمرتين ، ومقارنة الاسمين الدالين على نوعين من أماكن الأرض ، ليتأتى محسن مراعاة النظير ومحسن التورية ، وليناسب (سِينِينَ) فواصل السورة.

وفي ابتداء السورة بالقسم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعة استهلال لغرض السورة وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، أي خلقه على الفطرة السليمة مدركا لأدلة وجود الخالق ووحدانية. وفيه إيماء إلى أن ما خالف ذلك من النحل والملل قد حاد عن أصول شرائع الله كلها بقطع النظر عن اختلافها في الفروع ، ويكفي في تقوّم معنى براعة الاستهلال ما يلوح في المعنى من احتمال.

وجملة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) مع ما عطف عليه هو جواب القسم.

والقسم عليه يدل على أن التقويم تقويم خفي وأن الرد رد خفيّ يجب التدبر لإدراكه كما سنبينه في قوله : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فلذلك ناسب أن يحقق بالتوكيد بالقسم ، لأن تصرفات معظم الناس في عقائدهم جارية على حالة تشبه حالة من ينكرون أنهم خلقوا على الفطرة.

والخلق : تكوين وإيجاد لشيء ، وخلق الله جميع الناس هو أنه خلق أصول الإيجاد

٣٧٣

وأوجد الأصول الأولى في بدء الخليقة كما قال تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وخلق أسباب تولد الفروع من الأصول فتناسب منها ذرياتهم كما قال : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الأعراف : ١١].

وتعريف (الْإِنْسانَ) يجوز أن يكون تعريف الجنس ، وهو التعريف الملحوظ فيه مجموع الماهية مع وجودها في الخارج في ضمن بعض أفرادها أو جميع أفرادها.

ويحمل على معنى : خلقنا جميع الناس في أحسن تقويم.

ويجوز أن يكون تعريف (الْإِنْسانَ) تعريف الحقيقة نحو قولهم : الرجل خير من المرأة ، وقول امرئ القيس :

الحرب أول ما تكون فتية

فلا يلاحظ فيه أفراد الجنس بل الملحوظ حالة الماهية في أصلها دون ما يعرض لأفرادها مما يغير بعض خصائصها. ومنه التعريف الواقع في قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) ، وقد تقدم في سورة المعارج [١٩].

والتقويم : جعل الشيء في قوام (بفتح القاف) ، أي عدل وتسوية ، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان ، أي أحسن تقويم له ، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات ، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده ، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم.

وحرف (فِي) يفيد الظرفية المجازية المستعارة لمعنى التمكن والملك فهي مستعملة في معنى باء الملابسة أو لام الملك ، وإنما عدل عن أحد الحرفين الحقيقيين لهذا المعنى إلى حرف الظرفية لإفادة قوة الملابسة أو قوة الملك مع الإيجاز ولو لا الإيجاز لكانت مساواة الكلام أن يقال : لقد خلقنا الإنسان بتقويم مكين هو أحسن تقويم.

فأفادت الآية أن الله كوّن الإنسان تكوينا ذاتيا متناسبا ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته ، وليس تقويم صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله تعالى ولا جديرا بأن يقسم عليه إذ لا أثر له في إصلاح النفس ، وإصلاح الغير ، والإصلاح في الأرض ، ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسم بالتين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين. وإنما هو متمّم لتقويم النفس قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا

٣٧٤

إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(١) فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع.

فالمرضيّ عند الله هو تقويم إدراك الإنسان ونظره العقلي الصحيح لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد إذ الجسم آلة خادمة للعقل فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).

وأما خلق جسد الإنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة ويظهر هذا كمال الظهور في قوله : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نبوّه عن غرض السورة أشد ، وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم ويدل لذلك قوله بعده : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [التين : ٦] لأن الإيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم ، ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق فذلك هو الأصل في تكوين الإنسان إذا سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين ؛ إما من عاهة تلحقه لمرض أحد الأبوين ، أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله ، وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئا من فطرته كحماقة السوداويين والسّكريين أو خبال المختبلين ، ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات وتناول المخدرات مما يورثه على طول انثلام تعقله أو خور عزيمته.

والذي نأخذه من هذه الآية أنّ الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها ، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة ، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر ، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة ، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين ، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار ، أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب ، لجرى في جميع شئونه على الاستقامة ، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة

__________________

(١) رواه مسلم. ورواه غيره يزيد بعضهم على بعض.

٣٧٥

ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته ، فترمي به في الضلالات ، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها ، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد.

ويفسر هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه» الحديث ؛ ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه ، فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى ، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطا ثم هو بعد ذلك عرضة لعديد من المؤثرات فيه ، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ ، واقتصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما ، وأشد إلحاحا على ولدهما.

ولم يعرج المفسرون قديما وحديثا على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة. وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية ، أو على استقامة القامة. وروي عن ابن عباس ، أو على الشباب والجلادة ، وروي عن عكرمة وابن عباس.

ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين ، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر (١) أنه قال : «تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيّناه بالتمييز» ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم (٢) أن (أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان».

وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة ما يظنّه باطلا أو هلاكا ، ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف ، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره ، ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى ، ويغار على المستضعفين ، ويشمئزّ من الظلم ما دام مجردا عن روم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره ، تلك العوارض التي تحول بينه وبين

__________________

(١) لم أقف على تعيينه وليس يبعد أن يكون هو الأصم.

(٢) الأصم لقب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان من أصحاب هشام الفوطي من المعتزلة. وقال ابن حجر في «لسان الميزان» : إنه كان من طبقة أبي الهذيل العلاف المعتزلي.

٣٧٦

فطرته زمنا ، ويهش إلى كلام الوعّاظ والحكماء والصالحين ويكرمهم ويعظمهم ويودّ طول بقائهم.

فإذا ساورته الشهوة السيئة فزينت له ارتكاب المفاسد ولم يستطع ردها عن نفسه انصرف إلى سوء الأعمال ، وثقل عليه نصح الناصحين ، ووعظ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله.

ولهذا كان الأصل في الناس الخير والعدالة والرشد وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدّثين.

وجملة : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) معطوفة على جملة : (خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فهي في حيّز القسم.

وضمير الغائب في قوله : (رَدَدْناهُ) عائد إلى الإنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف.

و (ثُمَ) لإفادة التراخي الرّتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطا بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جبل عليه ، وتغيير الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن ، ولأنّ هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين.

والمعنى : ولقد صيرناه أسفل سافلين ، أو جعلناه في أسفل سافلين.

والرد حقيقته إرجاع ما أخذ من شخص أو نقل من موضع إلى ما كان عنده ، ويطلق الرد مجازا على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا.

و (أَسْفَلَ) : اسم تفضيل ، أي أشدّ سفالة ، وأضيف إلى (سافِلِينَ) ، أي الموصوفين بالسفالة. فالمراد : أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [التين :٦].

وحقيقة السفالة : انخفاض المكان ، وتطلق مجازا شائعا على الخسة والحقارة في النفس ، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه.

والسافلون : هم سفلة الاعتقاد ، والإشراك أسفل الاعتقاد فيكون (أَسْفَلَ سافِلِينَ)

٣٧٧

مفعولا ثانيا ل (رَدَدْناهُ) لأنه أجري مجرى أخوات صار.

والمعنى : أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين ، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السّمر ، أو من يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر ، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل ، فمن ملق إذا طمع ، ومن شحّ إذا شجع ، ومن جزع إذا خاف ، ومن هلع ، فكم من نفوس جعلت قرابين للآلهة ، ومن أطفال موءودة ، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن ، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفن الرأي.

وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكوّن الأسباب العالية ونظام تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية ، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مدّ وقبض الظل إليه تعالى في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) إلى قوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) [الفرقان : ٤٥ ، ٤٦] وعلى نحو الإسناد في قول الناس : بنى الأمير مدينة كذا.

ويجوز أن يكون (أَسْفَلَ سافِلِينَ) ظرفا ، أي مكانا أسفل ما يسكنه السافلون ، فإضافة (أَسْفَلَ) إلى (سافِلِينَ) من إضافة الظرف إلى الحالّ فيه ، وينتصب (أَسْفَلَ) ب (رَدَدْناهُ) انتصاب الظرف أو على نزع الخافض ، أي إلى أسفل سافلين ، وذلك هو دار العذاب كقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه ، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي.

وأحسب أن قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) انتزع منه مالك رحمه‌الله ما ذكره عياض في «المدارك» قال : قال ابن أبي أويس : قال مالك : أقبل عليّ يوما ربيعة فقال لي: من السّفلة يا مالك؟ قلت : الذي يأكل بدينه ، قال لي : فمن سفلة السفلة؟ قلت : الذي يأكل غيره بدينه. فقال : (زه) (١) وصدرني (أي ضرب على صدري يعني استحسانا). وأنّ المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ضلّلهم كبراؤهم وأئمتهم فسوّلوا لهم

__________________

(١) (زه) بكسر الزاي وهاء ساكنة كلمة تدل على شدة الاستحسان وهي معربة عن الفارسية ، ومنها تحت لفظ الزهرة. أي الاستحسان لأن (زه) تقال مكررة غالبا.

٣٧٨

عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦))

استثناء متصل من عموم الإنسان فلما أخبر عن الإنسان بأنه ردّ أسفل سافلين ثم استثني من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين.

والمعنى : أن الذين آمنوا بعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإشراك صاروا بالإيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم.

وعطف (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخا وينسحب الإيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها ، وفي الحديث : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

فكان عطف (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة.

وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) يأباه كل الإباية.

وفرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الإخبار بأن لهم أجرا عظيما لأن الاستثناء أفاد أنهم ليسوا بأسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعدلهم.

وتنوين (أَجْرٌ) للتعظيم.

والممنون : الذي يمنّ على المأجور به ، أي لهم أجر لا يشوبه كدر ، ولا كدر أن يمنّ على الذي يعطاه بقول : هذا أجرك ، أو هذا عطاؤك ، فالممنون مفعول منّ عليه ، ويجوز أن يكون مفعولا من منّ الحبل ، إذا قطعه فهو منين ، أي مقطوع أو موشك على التقطع.

[٧ ، ٨] (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين ، لأن ما بعد

٣٧٩

الفاء من الكلام مسبّب عن البيان الذي قبل الفاء ، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين ردّوا إلى أسفل سافلين ، فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان.

و (ما) يجوز أن تكون استفهامية ، والاستفهام توبيخي ، والخطاب للإنسان المذكور في قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] فإنه بعد أن استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب.

وضمير الخطاب التفات ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فما يكذبه. ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ.

ومعنى (يُكَذِّبُكَ) يجعلك مكذبا ، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين.

ومتعلق التكذيب : إمّا محذوف لظهوره ، أي يجعلك مكذّبا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّا المجرور بالباء ، أي يجعلك مكذبا بدين الإسلام ، أو مكذبا بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) مستأنفة للتهديد والوعيد.

و (الدين) يجوز أن يكون بمعنى الملة والشريعة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران : ٨٥].

وعليه تكون الباء للسببية ، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئت به من الدين فالله يحكم فيه. ومعنى (يُكَذِّبُكَ) : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء ، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين.

ويجوز أن يكون «الدين» بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] وقوله : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) [الانفطار : ١٥] وتكون الباء صلة (يكذب) كقوله : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ) [الأنعام : ٦٦] وقوله : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) (١) [الأنعام : ٥٧].

ويجوز أن تكون (ما) موصولة وما صدقها المكذب ، فهي بمعنى (من) ، وهي في محل مبتدإ ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير المستتر في (يُكَذِّبُكَ) عائد إلى (ما) وهو الرابط للصلة بالموصول ، والباء للسببية ، أي ينسبك إلى الكذب بسبب ما جئت به من

__________________

(١) في المطبوعة : (قل أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وكذبتم به) وهو خطأ.

٣٨٠