تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

السعادة فتعين أن يكون تيسيرا للعمل ، أي إعدادا وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها.

فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعقب كلامه بأن قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) الآية لأنه قرأها تبيينا واستدلالا لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومحلّ الاستدلال هو قوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ).

فالمقصود منه إثبات أن من شئون الله تعالى تيسرا للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلا للسعادة كالإيمان أو للشقاوة كالكفر ، أم كان للعمل مما يزيد السعادة وينقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمنا لأن ثبوت أحد معنيي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلا لثبوت التيسير من أصله.

أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله : «اعملوا» لأن الآية ذكرت عملا وذكرت تيسيرا لليسرى وتيسيرا للعسرى ، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنيا بها السعادة والعسرى معنيا بها الشقاوة ، وما صدق السعادة الفوز بالجنة ، وما صدق الشقاوة الهويّ في النار.

وإذ كان الوعد بتيسير اليسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات ، أي جزاء عن فعلها : فالمتيسر : تيسير الدوام عليها ، وتكون اليسرى صفة للأعمال ، وذلك من الإظهار في مقام الإضمار. والأصل : مستيسر له أعماله ، وعدل عن الإضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها ميسرة من الله كقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) في سورة الأعلى [٨].

وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها ، وبين تعلّق خطابه إياهم بشرائعه ، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله ، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على الجنة أو الوقوع في جهنم.

وإنما خص الإعطاء بالذكر في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) مع شمول (اتَّقى) لمفاده ، وخص البخل بالذكر في قوله : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) مع شمول (اسْتَغْنى) له ، لتحريض المسلمين على الإعطاء ، فالإعطاء والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين.

٣٤١

وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم ، ومحسن الطباق ، أربع مرات بين (أَعْطى) و (بَخِلَ) ، وبين (اتَّقى) ، و (اسْتَغْنى) ، وبين و (صَدَّقَ) و (كَذَّبَ) وبين «اليسرى» و «العسرى».

وجملة : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) عطف على جملة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي سنعجل به إلى جهنم. فالتقدير : إذا تردّى فيها.

والتردّي : السقوط من علوّ إلى سفل ، يعني : لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئا من عذاب النار.

و (ما) يجوز أن تكون نافية. والتقدير : وسوف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم ، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ. ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف. والمعنى : وما يغني عنه ماله الذي بخل به.

روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس : «أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمر أكله صبية لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة ، فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب النخلة أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة فلم يفعل ، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري (١) فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا رسول الله اشترها مني بنخلة في الجنة فقال : نعم والذي نفسي بيده ، فأعطاها الرجل صاحب الصبية ، قال عكرمة قال ابن عباس : فأنزل الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] إلى قوله : (لِلْعُسْرى) وهو حديث غريب ، ومن أجل قول ابن عباس : فأنزل الله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال جماعة : السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيرا ما يقع في كلام المتقدمين قولهم : فأنزل الله في كذا قوله كذا ، أنهم يريدون به أن القصّة ممّا تشمله الآية. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح» ولمح إليها بشار بن برد في قوله :

__________________

(١) أبو الدحداح : ثابت بن الدحداح البلوي ، حليف الأنصار ، صحابي جليل ، قتل في واقعة أحد ، وقيل : مات بعدها من جرح كان به حين رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، وصلى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة وهو الذي صاح يوم أحد لما أرجف المشركون بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الأنصار إليّ إليّ أنا ثابت بن الدحداح إن كان محمد قد قتل فإن الله حيّ لا يموت ، فقاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.

٣٤٢

إن النحيلة إذ يميل بها الهوى

كالعذق مال على أبي الدحداح

[١٢ ، ١٣] (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣))

استئناف مقرّر لمضمون الكلام السابق من قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) إلى قوله : (لِلْعُسْرى) [الليل : ٥ ـ ١٠] ، وذلك لإلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتساب السيئات ، فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات ، والتيسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات. وذلك الميل هو المعبّر عنه بالكسب عند الأشعري ، وسماه المعتزلة : قدرة العبد ، وهو أيضا الذي اشتبه على الجبرية فسمّوه الجبر.

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم ما دعاهم إليه لألجأهم إلى الإيمان. فقد حكي عنهم في الآية الأخرى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠].

وحرف (على) إذا وقع بين اسم وما يدل على فعل يفيد معنى اللزوم ، أي لازم لنا هدى الناس ، وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم ، فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلا للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رسلا مبينين لما قد يخفى أمره من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما علموه.

وعطف (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) على جملة : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) تتميم وتنبيه على أن تعهّد الله لعباده بالهدى فضل منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) [المائدة : ١٧] فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقا على الله تعالى إلا ما تفضل به.

وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده. وأن نظام أمور الدنيا وترتب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى ، فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه.

٣٤٣

[١٤ ـ ٢١] (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذكري إذا كان فعل : «أنذرتكم» مستعملا في ماضية حقيقة وكان المراد الإنذار الذي اشتمل عليه قوله : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) إلى قوله : (تَرَدَّى) [الليل : ٨ ـ ١١]. وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدلّ على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصّل على إنذار مجمل.

ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعل «أنذرتكم» مرادا به الحال وإنما صيغ في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في : قد قامت الصلاة ، وقولهم : عزمت عليك إلّا ما فعلت كذا ، أي أعزم عليك ، ومثل ما في صيغ العقود : كبعت ، وهو تفريع على جملة : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) [الليل : ١٢] والمعنى : هديكم فأنذرتكم إبلاغا في الهدى.

وتنكير (ناراً) للتهويل ، وجملة (تَلَظَّى) نعت. وتلظى : تلتهب من شدة الاشتعال. وهو مشتق من اللّظى مصدر : لظيت النار كرضيت إذا التهبت ، وأصل (تَلَظَّى) تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار.

وجملة (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) صفة ثانية أو حال من (ناراً) بعد أن وصفت.

وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] والقرينة على ذلك قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) الآية.

وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال : هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا : أن لا يدخل النار إلا كافر ، وليس الأمر كما ظنوا : هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى ، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ا ه.

والمعنى : لا يصلاها إلا أنتم.

وقد أتبع (الْأَشْقَى) بصفة (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) لزيادة التنصيص على أنهم

٣٤٤

المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتولوا ، أي أعرضوا عن القرآن ، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين : إما كافر وإما مؤمن تقي ، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإسلام بشراشرهم ، ولذلك عطف (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) إلخ تصريحا بمفهوم القصر وتكميلا للمقابلة.

و (الْأَشْقَى) و (الْأَتْقَى) مراد بهما : الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام.

وذكر القرطبي : أن مالكا قال : صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) فلما بلغ : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعدّاها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى».

ووصف (الْأَشْقَى) بصلة (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، ووصف (الْأَتْقَى) بصلة (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) للإيذان بأن للصلة تسببا في الحكم.

وبين (الْأَشْقَى) و (الْأَتْقَى) محسن الجناس المضارع.

وجملة (يَتَزَكَّى) حال في ضمير (يُؤْتِي) ، وفائدة الحال التنبيه على أنه يؤتي ماله لقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضا بالمشركين الذي يؤتون المال للفخر والرياء والمفاسد والفجور.

والتزكي : تكلف الزكاء ، وهو النماء من الخير.

والمال : اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها.

ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل.

وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم ، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله.

وقوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه لمّا أعتق بلالا قال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده. وهو قول من بهتانهم (يعللون به أنفسهم كراهية

٣٤٥

لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين) ، فأنزل الله تكذيبهم بقوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) مرادا به بعض من شمله عموم (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) ، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص للعموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) [البقرة : ١٧٧] ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩].

و (عِنْدَهُ) ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازا في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب ، قال الحارث بن حلّزة :

من لنا عنده من الخير آيا

ت ثلاث في كلهن القضاء

و (مِنْ نِعْمَةٍ) اسم (ما) النافية جر ب (مِنْ) الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي ، والاستثناء في (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) منقطع ، أي لكن ابتغاء لوجه الله.

والابتغاء : الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي.

والوجه مستعمل مرادا به الذات كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧]. ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله.

وقوله : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بالثواب الجزيل الذي يرضى صاحبه. وهذا تتميم لقوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات.

وحرف «سوف» لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨] أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد.

واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر.

وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون. وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصّل.

٣٤٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٣ ـ سورة الضحى

سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي «جامع الترمذي» «سورة الضحى» بدون واو.

وسميت في كثير من التفاسير وفي «صحيح البخاري» «سورة والضحى» بإثبات الواو.

ولما يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها.

وهي مكية بالاتفاق.

وسبب نزولها ما ثبت في «الصحيحين» يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال : «دميت إصبع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة (وهي) أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية) فقالت : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله : (وَالضُّحى * وَاللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ١ ـ ٣].

وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال : «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار فدميت إصبعه فقال : «هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت». قال فأبطأ عليه جبريل ، فقال المشركون : قد ودّع محمد فأنزل الله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)) وقال : حديث حسن صحيح.

ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب لأن جندبا كان من صغار الصحابة وكان يروي عن أبي بن كعب وعن حذيفة كما قال ابن عبد البر. ولعله أسلم بعد الهجرة فلم يكون قوله : «كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار» مقارنا لقول المشركين «وقد ودّع محمد». ولعل

٣٤٧

جندبا روى حديثين جمعهما ابن عيينة. وقيل : إن كلمة «في غار» تصحيف ، وأن أصلها: كنت غازيا. ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين.

وعدّت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح.

وعدد آيها إحدى عشرة آية.

وهي أول سورة في قصار المفصّل.

أغراضها

إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد انقطع عنه.

وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيظ المشركين.

ثم ذكّره الله بما حفّه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها من نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله.

[١ ـ ٣] (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣))

القسم لتأكيد الخبر ردّا على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصب على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.

ومناسبة القسم ب (الضُّحى وَاللَّيْلِ) أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به ، وأن الليل وقت قيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ، وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.

ولذلك قيد (اللَّيْلِ) بظرف (إِذا سَجى) فلعل ذلك وقت قيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [المزمل : ٢ ، ٣].

والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١].

٣٤٨

وكتب في المصحف (وَالضُّحى) بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها منقلبة الألف عن الياء ، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تميل الألف التي من شأنها أن لا تمال إذا وقعت مع ألف تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في «شرح كافيته».

ويقال : سجا الليل سجوا بفتح فسكون ، وسجوا بضمتين وتشديد الواو ، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء ، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة (الضُّحى).

وجملة : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) إلخ جواب القسم ، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام.

والتوديع : تحية من يريد السفر.

واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيها بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة ، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالا معهودا.

وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي.

وقد عطف عليه : (وَما قَلى) للإتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم:ودّعه ربه ، وقال بعضهم : قلاه ربه ، يريدون التهكم.

وجملة : (وَما قَلى) عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها.

والقلي (بفتح القاف مع سكون اللام) والقلى (بكسر القاف مع فتح اللام) : البغض الشديد ، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة.

والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر ، فعن ابن عباس وابن جريج : «احتبس الوحي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة عشر يوما أو نحوها. فقال المشركون : إن محمدا ودّعه ربه وقلاه ، فنزلت الآية».

واحتباس الوحي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقع مرتين :

أولاهما : قبل نزول سورة المدثر أو المزمل ، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر ، وتلك الفترة هي التي خشي

٣٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي ، وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر ، وقد قيل : إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن ليلا.

وثانيتهما : فترة بعد نزول نحو من ثمان سور ، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور ، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.

والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة ، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما وأنه ما كان إلا للرفق بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم كي تستجمّ نفسه وتعتاد قوته تحمّل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما ثم كانت الثانية اثني عشر يوما أو نحوها ، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث ، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثا ، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر.

وحذف مفعول (قَلى) لدلالة (وَدَّعَكَ) عليه كقوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) [الأحزاب : ٣٥] وهو إيجاز لفظيّ لظهور المحذوف ومثله قوله : (فَآوى) [الضحى : ٦] ، (فَهَدى) [الضحى : ٧] (فَأَغْنى) [الضحى : ٨].

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤))

عطف على جملة : (وَالضُّحى) [الضحى : ١] فهو كلام مبتدأ به ، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشّر بأن آخرته خير من أولاه ، وأن عاقبته أحسن من بدأته ، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد إعطاء في الدنيا وفي الآخرة.

وما في تعريف «الآخرة» و (الْأُولى) من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير.

والآخرة : مؤنث الآخر ، و (الْأُولى) : مؤنث الأوّل ، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة

٣٥٠

الناس التي قبل انخرام هذا العالم ، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية ، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها ، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف ، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.

ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت ، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.

فاللام في «الآخرة» و (الْأُولى) لام الجنس ، أي كلّ آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.

واللام في قوله : (لَكَ) لام الاختصاص ، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذاته وفي دينه وفي أمته ، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكّن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم. وقد روى الطبراني والبيهقي في «دلائل النبوءة» عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني فأنزل الله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى)

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))

هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سورة يوسف [٩٨] وقوله : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) في سورة الليل [٢١].

وحذف المفعول الثاني ل (يُعْطِيكَ) ليعمّ كل ما يرجوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خير لنفسه ولأمته فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة.

وجيء بفاء التعقيب في (فَتَرْضى) لإفادة كون العطاء عاجل النفع بحيث يحصل به رضى المعطى عند العطاء فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص.

وتعريف (رَبُّكَ) بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ (رب) من الرأفة واللطف ، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رب إلى ضميره.

٣٥١

وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة ، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا.

واعلم أن اللام في (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ) [الضحى : ٤] وفي (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ) جزم صاحب «الكشاف» بأنه لام الابتداء وقدر مبتدأ محذوفا. والتقدير : ولأنت سوف يعطيك ربك. وقال : إن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد وحيث تعين أن اللام لام الابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على جملة من مبتدأ وخبر تعين تقدير المبتدأ. واختار ابن الحاجب أن اللام في (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) لام التوكيد (يعني لام جواب القسم). ووافقه ابن هشام في «مغني اللبيب» وأشعر كلامه أن وجود حرف التنفيس مانع من لحاق نون التوكيد ولذلك تجب اللام في الجملة. وأقول في كون وجود حرف التنفيس يوجب كون اللّام لام جواب قسم محلّ نظر.

[٦ ـ ٨] (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨))

استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد ، أي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.

والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياسا على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع هذا المقصود امتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.

والاستفهام تقريري ، وفعل (يَجِدْكَ) مضارع وجد بمعنى ألفى وصادف ، وهو الذي يتعدى إلى مفعول واحد ومفعوله ضمير المخاطب. و (يَتِيماً) حال ، وكذلك (ضَالًّا) و (عائِلاً) والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع للذي تعسرت عليه بحالة من وجد شخصا في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه.

واليتيم : الصبي الذي مات أبوه وقد كان أبو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي وهو جنين أو في أول

٣٥٢

المدة من ولادته.

والإيواء : مصدر أوى إلى البيت ، إذا رجع إليه ، فالإيواء : الإرجاع إلى المسكن ، فهمزته الأولى همزة التعدية ، أي جعله آويا ، وقد أطلق الإيواء على الكفالة وكفاية الحاجة مجازا أو استعارة ، فالمعنى أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة وكنت على تربية كاملة مع أن شأن الأيتام أن ينشئوا على نقائص لأنهم لا يجدون من يعنى بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الخلقية. وفي الحديث «أدبني ربي فأحسن تأديبي» فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين.

والضّلال : عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى مكان مقصود سواء سلك السائر طريقا آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائرا لا يعرف أيّ طريق يسلك ، وهو المقصود هنا لأن المعنى : أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرّهه إليك ولا تدري ما ذا تتبع من الحق ، فإن الله لما أنشأ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان ، ألهمه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.

وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل ، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باتفاق علمائنا ، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبين الخلوّ عن وجود شريعة قبل النبوءة ، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافيا في قبح الفواحش على إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل. ولم يختلف أصحابنا أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته ، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦] وقوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [المؤمنون : ٦٩] ، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا.

والعائل : الذي لا مال له ، والفقر يسمى عيلة ، قال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) [التوبة : ٢٨] وقد أغناه الله غناءين : أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا ، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها.

٣٥٣

وحذفت مفاعيل (فَآوى) ، (فَهَدى) ، (فَأَغْنى) للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها ، وحذفها إيجاز ، وفيه رعاية على الفواصل.

[٩ ـ ١١] (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

الفاء الأولى فصيحة.

و (أما) تفيد شرطا مقدرا تقديره : مهما يكن من شيء ، فكان مفادها مشعرا بشرط آخر مقدر هو الذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة ، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك ، وبيّن له الشكر بقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) إلخ.

وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير : إذا أردت الشكر ، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس ، وصدر الكلام ب (أما) التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.

ولما كانت (أمّا) بمعنى : ومهما يكن شيء ، قرن جوابها بالفاء.

واليتيم مفعول لفعل (فَلا تَقْهَرْ) وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعا وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب (أما) أن يكون مفصولا عن (أما) بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط. ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين (أما) وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع (أما) لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماما يرتكز في بعض أجزاء الكلام ، فاجتلاب (أما) في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلّقات الجملة ، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم (السَّائِلَ) وتقديم (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) على فعليهما.

وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها. فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف والنشر المرتب. وذلك ما درج عليه الطيبي ، ويجري على تفسير سفيان بن عيينة (السَّائِلَ) عن الدين والهدى ، فقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) مقابل لقوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) [الضحى : ٦] لا محالة ، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم ، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم ، فجمع ذلك في النهي عن قهره ، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم

٣٥٤

مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] وقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) [الإسراء : ٢٨].

والقهر : الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا ، وتكون هذه المعاني بالفعل كالدّعّ والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى : (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [النساء : ٥] ، وتكون بالإشارة مثل عبوس الوجه ، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى: (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) [البقرة : ٢٢٠].

وقوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) مقابل قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق ، فالضال معتبر من نصف السائلين. والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسئول كما قال كعب :

وقال كل خليل كنت آمله :

لا ألهينّك أني عنك مشغول

فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين.

فلا يختص السائل بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإرشاد المسترشدين ، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عيينة. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا» قال هارون العبدي : كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول : مرحبا بوصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتعريف في (السَّائِلَ) تعريف الجنس فيعم كل سائل ، أي عمّا يسال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مثله.

ويكون النشر على ترتيب اللف.

فإن فسر (السَّائِلَ) بسائل معروف كان مقابل قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨] وكان من النشر المشوش ، أي المخالف لترتيب اللف ، وهو ما درج عليه «الكشاف».

والنهر : الزجر بالقول مثل أن يقول : إليك عني. ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجا

٣٥٥

وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإسلام.

وقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) مقابل قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨].

فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها.

وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي ، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم ، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء ، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا.

فإن جعل قوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) مقابل قوله (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) مقابل قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى : ٧] على طريقة اللف والنشر المشوش أيضا.

وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق.

والتحديث : الإخبار ، أي أخبر بما أنعم الله عليك اعترافا بفضله ، وذلك من الشكر ، والقول في تقديم المجرور وهو (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) على متعلّقه كالقول في تقديم (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ* وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ).

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به ، وأصل الأمر الوجوب ، فيعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجب عليه ما أمر به ، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدلّ دليل على الخصوصية ، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة.

وأما مساواة الأمة له في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شتّى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر ، ونعمة الرب في الآية مجملة.

فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يعلم الناس الإسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.

٣٥٦

ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له : «اعدل يا رسول الله فقال : أيأمنني الله على وحيه ولا تأمنوني» ، ومنها ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالص من عروض المعارض لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت.

وأما الأمة فقد يكون التحديث بالنعمة منهم محفوفا برياء أو تفاخر. وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها. وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع ، وطريقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما. وفي «تفسير الفخر» : سئل أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه عن الصحابة فأثنى عليهم فقالوا له : فحدثنا عن نفسك فقال : مهلا فقد نهى الله عن التزكية ، فقيل له : أليس الله تعالى يقول : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) فقال : فإني أحدّث كنت إذا سئلت أعطيت. وإذا سكت ابتديت ، وبين الجوانح علم جم فاسألوني. فمن العلماء من خص النعمة في قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بنعمة القرآن ونعمة النبوءة وقاله مجاهد. ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة. رواه الطبري عن أبي نضرة (١).

وقال القرطبي : الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحكم عام له ولغيره. قال عياض في «الشفاء»: «وهذا خاص له عام لأمته».

وعن عمرو بن ميمون (٢) : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا ، وعن عبد الله بن غالب (٣) : أنه كان إذا أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة كذا ، قرأت كذا ، صليت كذا ، ذكرت الله كذا ، فقلنا له : يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا ، قال : يقول الله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة الله. وذكر ابن العربي عن أيوب قال : دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال : لقد رزق الله البارحة : صليت كذا ، وسبحت كذا ، قال أيوب : فاحتملت ذلك لأبي رجاء. وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به قال ابن

__________________

(١) أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي البصري من صغار التابعين توفي سنة ١٠٨ ه‍.

(٢) كذا قال القرطبي فيحتمل أنه عمرو بن ميمون الرقي المتوفى سنة ١٤٥ ه‍ ويحتمل أنه الأودي الكوفي المتوفى سنة ٧٤ ه‍.

(٣) وصفه ابن عطية ببعض الصالحين ولعله عبد الله بن غالب الحداني البصري العابد توفي سنة ٨٣ ه‍.

٣٥٧

العربي : إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وإساءة الظن بصاحبه. وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي : إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك. قال الفخر : إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به.

٣٥٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٤ ـ سورة الشرح

سميت في معظم التفاسير وفي «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي» «سورة ألم نشرح» ، وسميت في بعض التفاسير «سورة الشرح» ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وفي بعض التفاسير تسميتها «سورة الانشراح».

وهي مكية بالاتفاق.

وقد عدّت الثانية عشرة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.

وعن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان : «ألم نشرح من سورة الضحى». وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.

وعدد آيها ثمان.

أغراضها

احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه ، وتفسير ما عسر عليه ، وتشريف قدره لينفس عنه ، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله ، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعمله النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرا كدأب الله تعالى في

٣٥٩

معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه.

[١ ـ ٤] (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)).

استفهام تقريري على النفي. والمقصود التقرير على إثبات المنفي كما تقدم غير مرة.

وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي هذه المنة عند ما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحهم وإنقاذهم من النار ورفع شأنهم بين الأمم ، ليدوم على دعوته العظيمة نشيطا غير ذي أسف ولا كمد.

والشرح حقيقته : فصل أجزاء اللحم بعضها عن بعض ، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم ، والتشريح في الطب ، ويطلق على انفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها. وظاهر كلام «الأساس» أن هذا إطلاق حقيقي. ولعله راعى كثرة الاستعمال ، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم ، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) [هود : ١٢] الآية. فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥].

وتقدم قوله : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) في سورة طه [٢٥].

فالصدر مراد به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك. وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدّين الّذي جاء به من النصر.

هذا تفسير الآية بما يفيده نظمها واستقلالها عن المرويات الخارجية ، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإسلام ، وعن الحسن قال : شرح صدره أن ملئ علما وحكما ، وقال سهل بن عبد الله التستري : شرح صدره بنور الرسالة ، وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور.

ويجوز أن يجعل الشرح شرحا بدنيا. وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شقّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة فتكون الآية

٣٦٠