تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

فلما قضي حق ذلك ثني العنان إلى ذلك الإنسان فحصل من هذا النظم البديع محسّن ردّ العجز على الصدر ، ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة.

وقد عرف آنفا أن المشأمة منزلة الإهانة والغضب ، ولذلك أتبع بقوله : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)

وضمير الفصل في قوله : (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) لتقوية الحكم وليس للقصر ، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ)

و (مُؤْصَدَةٌ) اسم مفعول من أوصد الباب بالواو. ويقال : أأصد بالهمز وهما لغتان ، قيل : الهمز لغة قريش وقيل : معناه جعله وصيدة. والوصيدة : بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل. فقرأ الجمهور : موصدة بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو ، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم منءاصد الباب ، بهمزتين بمعنى وصده.

وجملة : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) بدل اشتمال من جملة (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أو استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة.

و (عَلَيْهِمْ) متعلق ب (مُؤْصَدَةٌ) ، وقدم على عامله للاهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلا للترهيب.

وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١].

وإسناد الموصديّة إلى النار مجاز عقلي ، والموصد هو موضع النار ، أي جهنم.

٣٢١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩١ ـ سورة الشمس

سميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير «سورة الشمس» بدون واو وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحه من «جامع الترمذي» ومن «عارضة الأحوذي» لابن العربي.

وعنونها البخاري سورة «والشمس وضحاها» بحكاية لفظ الآية ، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كوّرت المسمّاة سورة التكوير.

ولم يذكرها في «الإتقان» مع السور التي لها أكثر من اسم.

وهي مكية بالاتفاق.

وعدّت السادسة والعشرين في عدد نزول السور نزلت بعد سورة القدر ، وقبل سورة البروج.

وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار ، وعدّها أهل مكة ست عشرة آية.

أغراضها

تهديد المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوّهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دعاهم إلى التوحيد.

وقدّم لذلك تأكيد الخبر بالقسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو دليل على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلهية والذي لا يستحق غيره الإلهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة

٣٢٢

والشقاء.

[١ ـ ٨] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨))

القسم لتأكيد الخبر ، والمقصود بالتأكيد هو ما في سوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال.

والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قسم.

وكل من الشمس ، والقمر والسماء والأرض ، ونفس الإنسان ، من أعظم مخلوقات الله ذاتا ومعنى الدالة على بديع حكمته وقويّ قدرته.

وكذلك كل من الضحى ، وتلو القمر الشمس والنهار ، والليل من أدق النظام الذي جعله الله تعالى.

والضحى : وقت ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها ، وظهور شعاعها ، وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رمح.

ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح ، وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران.

والتلوّ : التبع وأريد به خلف ضوئه في الليل ضوء الشمس ، أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها ، وهذا تلو مجازي. والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله ، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليال ، وهو أيضا يتلو الشمس حين يقارب الابتدار وحين يصير بدرا فإذا صار بدرا صار تلوّه الشمس حقيقة لأنه يظهر عند ما تغرب الشمس ، وقريبا من غروبها قبله أو بعده ، وهو أيضا يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضا عن الشمس في عدة ليال في الإنارة ، ولذلك قيّد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلوّ للناظرين ، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به ، فكان بمنزلة قسم بوقت تلوه الشمس ، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس.

وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس ، أي من توجه أشعة

٣٢٣

الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر ، وليس نيّرا بذاته ، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العاشرة.

وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا ، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق ، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك ، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي.

ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر ، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل ، واضحة ، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود.

والضمير المؤنث في قوله : (جَلَّاها) ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار بالشمس وقت ظهور الشمس.

فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقسم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي. وقيل : الضمير عائد إلى الأرض ، أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر «أرسلت» يعنون أرسلت السماء ماءها.

وقيد القسم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجا للمنة في القسم.

وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض ، ولما في حالها وحال أضوائها من الإيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تمثّل بالظلمة والإيمان والطاعات تمثّل بالضياء قال تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) [المائدة : ١٦].

وأعقب القسم بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقت النهار فهو وقت الإظلام.

والغشي : التغطية وليس الليل بمغطّ للشمس على الحقيقة ولكنه مسبّب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي. فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمنه أو إلى مسببه (بفتح الباء).

٣٢٤

والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية ، وقيل : ضمير المؤنث في (يَغْشاها) عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها)

و (إِذا) في قوله : (إِذا تَلاها) وقوله : (إِذا جَلَّاها) وقوله : (إِذا يَغْشاها) في محل نصب على الظرفية متعلقة بكون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر ، أي مقسما بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدها دلالة على عظيم صنع الله تعالى.

وبناء السماء تشبيه لرفعها فوق الأرض بالبناء. والسماء آفاق الكواكب قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [المؤمنون : ١٧] وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيرا بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور.

وطحو الأرض : بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع ، يقال : طحا يطحو ويطحي طحوا وطحيا وهو مرادف «دحا» في سورة النازعات [٣٠].

و «النفس» : ذات الإنسان كما تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧] وتنكير «نفس» للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموما بالقرينة على نحو قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار :٥].

وتسوية النفس : خلقها سواء ، أي غير متفاوتة الخلق ، وتقدم في سورة الانفطار [٧] عند قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ)

و (ما) في المواضع الثلاثة من قوله : (وَما بَناها) ، أو (ما طَحاها) ، (وَما سَوَّاها) ، إمّا مصدرية يؤوّل الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعة السماء وطحوه الأرض وتسويته الإنسان.

وعطف (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على (سَوَّاها) ، فهو مقسم به ، وفعل «ألهمها» في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة (ما) المصدرية ، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية ، فضمير الرفع في «ألهمها» عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من (سَوَّاها) ويجوز أن تكون (ما) موصولة صادقة على فعل الله تعالى ، وجملة (بَناها) صلة الموصول ، أي والبناء الذي بنى السماء ، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس.

٣٢٥

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإلهام

والإلهام : مصدر ألهم ، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجرد منه ممات والإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهدا له من كلام العرب.

ويطلق الإلهام إطلاقا خاصا على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانيا كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية ، وما كان منه عن دليل كالتجربيات والأمور الفكرية والنظرية.

وإيثار هذا الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان ، قال الراغب : الإلهام : إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى ا ه. ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب ، وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة ، يقال : لهم كفرح ، وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية.

والمعنى هنا : أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإدراك الضروري المدرّج ابتداء من الانسياق الجبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة ، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره ، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي ، وكل ذلك إلهام.

وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لو لا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية ، فلولا العقول لما تيسّر إفهام الإنسان الفجور والتقوى ، والعقاب والثواب.

وتقديم الفجور على التقوى مراعى فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون ، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم ، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ.

ومجيء فعل : «ألهمها» بصيغة الإسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر

٣٢٦

التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ (ما) إن جعلتها موصولة.

[٩ ، ١٠] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

يجوز أن تكون الجملة جواب القسم ، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخيبة المشركين كما جعل في سورة الليل [٤ ، ٥] جواب القسم قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى* فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) إلخ.

ويجوز أن تكون جملة معترضة بين القسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى ، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى ، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإدراك والإرشاد الإلهي.

وهذه الجملة توطئة لجملة : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١] فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دسّوا أنفسهم بالطغوى.

وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبة للتقوى ، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية.

و (مَنْ) صادقة على الإنسان ، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها ، فالإنسان والنفس شيء واحد ، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإرادة والاكتساب.

والتزكية : الزيادة من الخير.

ومعنى : (دَسَّاها) حال بينها وبين فعل الخير. وأصل فعل دسّى : دسّ ، إذا أدخل شيئا تحت شيء فأخفاه ، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلبا للتخفيف كما قالوا : تقضّى البازي أو تقضض ، وقالوا : تظنيت ، أي من الظن.

وإن كانت جملة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) جواب القسم فجملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١] في موقع الدليل لمضمون جملة (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي خاب كخيبة ثمود.

والفلاح : النجاح بحصول المطلوب ، والخيبة ضده ، أي أن يحرم الطالب مما طلبه.

فالإنسان يرغب في الملائم النافع ، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال

٣٢٧

الدائمان ، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف ، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح ، والثاني يحصّل نفعا عارضا زائلا وكمالا موقتا ينقلب انحطاطا فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب ، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة.

والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها.

وفي هذه الآيات محسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما ، ومثل النهار والليل ، والتجلية والغشي ، والسماء والأرض ، والبناء والطحو ، والفجور والتقوى ، والفلاح والخيبة ، والتزكية والتدسية.

[١١ ـ ١٥] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها ١١ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها ١٢ فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها ١٣ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها)

إن كانت جملة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] إلخ معترضة كانت هذه جوابا للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي حقا لقد كان ذلك لذلك ، ولام الجواب محذوف تخفيفا لاستطالة القسم ، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) إلى قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ١ ـ ٤].

والمقصود : التعريض بتهديد المشركين الذين كذّبوا الرسول طغيانا هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغيانا ، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقسم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم ، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإنكار لعدم جري أمرهم على موجب العلم ، فكأنه قيل : أقسم ليصيبكم عذاب كما أصاب ثمود ، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادوهم وآذوهم وأخرجوهم ، وذلك أقسى عليهم وأنكى.

٣٢٨

فمفعول (كَذَّبَتْ) محذوف لدلالة قوله بعده : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) والتقدير : كذبوا رسول الله.

وتقدم ذكر ثمود ورسولهم صالح عليه‌السلام في سورة الأعراف.

وباء (بِطَغْواها) للسببية ، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم.

والطغوى : اسم مصدر يقال : طغا طغوا وطغيانا ، والطغيان : فرط الكبر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في سورة البقرة [١٥] ، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلا عليهم : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١].

و (إِذِ) ظرف للزمن الماضي يتعلق ب (طغواها) لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جعلت لهم آية وذلك منتهى الجرأة.

و (انْبَعَثَ) : مطاوع بعث ، فالمعنى : إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك. و (إِذِ) مضاف إلى جملة : (انْبَعَثَ أَشْقاها).

وقدم ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ) لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقا بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال ، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه ، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله ، ويستفاد أيضا من قوله : (فَعَقَرُوها).

و (أَشْقاها) : أشدها شقوة ، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قدار (بضم القاف وتخفيف الدال المهملة) بن سالف ، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء.

والفاء من قوله : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) عاطفة على (كَذَّبَتْ) فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها ، ويكون معنى الكلام : كذبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذّرهم من التعرض لها بسوء ومن منعهم شربها في نوبتها من السّقيا ، وعطف على (فَكَذَّبُوهُ) ، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور

٣٢٩

ثانيا. وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل ، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود.

ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦] فإن إزلالهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإخراج لا قبله. وقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤] ، فيكون المعنى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها. ثم فصل ذلك بقوله : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) إلى قوله : (فَعَقَرُوها) ، والعقر عند انبعاث أشقاها ، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف وهو : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) مقدّما من تأخير.

وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعى فيها أن ثمود اسم قبيلة.

وانتصب (ناقَةَ اللهِ) على التحذير ، والتقدير : احذروا ناقة الله. والمراد : التحذير من أن يؤذوها ، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات ، والمراد : أحوالها.

وإضافة (ناقَةَ) إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه‌السلام ولأن خروجها لهم كان خارقا للعادة.

والسقيا : اسم مصدر سقى ، وهو معطوف على التحذير ، أي احذروا سقيها ، أي احذروا غصب سقيها ، فالكلام على حذف مضاف ، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقا للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات. والمراد : حالة تعرف من المقام ، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها.

والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله : (ناقَةَ اللهِ) ، تكذيب ثان وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد. والإنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة ، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف [٧٣] في قوله : (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء ، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإنذار بالعذاب.

والعقر : جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحر في لبته ، فالعقر

٣٣٠

كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما.

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها ١٥).

أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب. والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) [الحجر : ٧٣] ، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها. فوزن دمدم فعلل ، وقال أكثر المفسرين : دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض ، يقال : دمّم عليه القبر ، إذا أطبقه ودمدم مكرر دمّم للمبالغة مثل كبكب ، وعليه فوزن دمدم فعلل.

وفرع على «دمدم عليهم» (فَسَوَّاها) أي فاستووا في إصابتها لهم ، فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من «دمدم عليهم».

ومن فسروا «دمدم» بمعنى : أطبق عليهم الأرض قالوا معنى «سوّاها» : جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم ، وجعلوا ضمير المؤنث عائدا إلى الأرض المفهومة من فعل «دمدم» فيكون كقوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢].

وبين (فَسَوَّاها) هنا وقوله : (وَما سَوَّاها) [الشمس : ٧] قبله محسن الجناس التام.

والعقبى : ما يحصل عقب فعل من الأفعال من تبعة لفاعله أو مثوبة ، ولما كان المذكور عقابا وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنّى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدأ له بال حتى يثأر لنفسه ، ولذلك يقولون : الثّأر المنيم ، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه ، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذرا من أن يتمكن مغلوبه من الثأر ، أخبر الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبه على أخذ الثأر منه ، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين ، وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة (وَلا يَخافُ عُقْباها) تذييل للكلام وإيذان بالختام.

ويجوز أن يكون قوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها) تمثيلا لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك من يثأر له فيكون المثل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر فلا يخاف عقباها بفاء العطف تفريعا على (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام ... ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوّتهم ليرتدع بهذا

٣٣١

العلم أمثالهم من المشركين.

وقرأ الباقون من العشرة : (وَلا يَخافُ عُقْباها) بواو العطف أو الحال ، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة ، وهي رواية قرائها. وقال ابن القاسم وابن وهب : أخرج لنا مالك مصحفا لجدّه وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف وفيه (وَلا يَخافُ) بالواو ، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرءوا بذلك لمخالفته روايتهم.

٣٣٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٢ ـ سورة الليل

سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير «سورة الليل» بدون واو ، وسميت في معظم كتب التفسير «سورة والليل» بإثبات الواو ، وعنونها البخاري والترمذي «سورة والليل إذا يغشى».

وهي مكية في قول الجمهور ، واقتصر عليه كثير من المفسرين. وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل : إنها مدينة ، وقيل : بعضها مدني ، وكذلك ذكر الأقوال في «الإتقان»، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) [الليل: ٥] إذ روي : «أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل وجعلها لهم» وسيأتي.

وعدّت التاسعة في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.

وعدد آيها عشرون.

أغراضها

احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كلّ.

وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.

وأنه أرسل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار

٣٣٣

حب ما هم فيه في هذه الحياة.

وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه.

[١ ـ ٤] (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤))

افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه ، وغرض ذلك ما تقدم آنفا.

ومناسبة المقسم به للمقسم عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما يماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر والأنثى ذرية صالحة وغير صالحة.

وفي القسم بالليل وبالنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته ، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانه الجانب الذي يغشاه من الأرض. ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين ، لأن ذلك أقوى أحواله ، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهوره على الأرض كذلك.

وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها* وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) في سورة الشمس [٣ ، ٤].

واختير القسم بالليل والنهار لمناسبته للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.

وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكس ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيّامئذ كان الكفر مخيما على الناس إلا نفرا قليلا ، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بالإشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار ، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إلى قوله : (إِذا تَرَدَّى) [الليل : ٤ ـ ١١].

وفي قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) [الليل : ٥] الآية ليتمكن تفصيله في الذهن.

٣٣٤

وحذف مفعول (يَغْشى) لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشيانه كلّ ما تغشاه ظلمته.

وأسند إلى النهار التجلي مدحا له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء.

والتجلّي : الوضوح ، وتجلي النهار : وضوح ضيائه ، فهو بمعنى قوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] وقوله : (وَالضُّحى) [الضحى : ١].

وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمة هي أصل أحوال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طرأ عليه التاريخ بالأيام.

والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها* وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) في السورة السابقة [الشمس : ٣ ، ٤].

و (ما) في قوله : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل.

والذكر والأنثى : صنفا أنواع الحيوان. والمراد : خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) [الحجرات : ١٣] لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطبون أكثر دقائقه لتكرره على أنفسهم ذكورهم وإناثهم بخلاف تكوّن نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يحصي كثيرا منها.

والمعنى : وذلك الخلق العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد ، وتوقف التناسل على تزاوجهما ، فالقسم بتعلق من تعلق صفات الأفعال الإلهية وهي قسم من الصفات لا يختلف في ثبوته وإنما اختلف علماء أصول الدين في عدّ صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي ، أو جعلها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري ، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي.

وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس ، أي خلق العقل والمعرفة في الإنسان ، وأما القسم هنا فبخلق جسد الإنسان واختلاف صنفيه ، وجملة : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) جواب القسم. والمقصود من التأكيد بالقسم قوله : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)

٣٣٥

[الليل : ١١].

والسّعي حقيقته : المشي القوي الحثيث ، وهو مستعار هنا للعمل والكدّ.

وشتّى : جمع شتيت على وزن فعلى مثل قتيل وقتلى ، مشتق من الشتّ وهو التفرق الشديد يقال : شتّ جمعهم ، إذا تفرقوا ، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرّا :

قليل التشكي للملم يصيبه

كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك

وهو استعارة أو كناية عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف.

والخطاب في قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ) لجميع الناس من مؤمن وكافر.

واعلم أنه قد روي في «الصحيحين» عن علقمة قال : «دخلت في نفر من أصحاب عبد الله (يعني ابن مسعود) الشام فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال : أيكم يقرأ على قراءة عبد الله؟ فقلت : أنا. قال : كيف سمعته يقرأ؟ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) قال سمعته يقرأ : «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى» قال : أشهد أني سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ هكذا». وسماها في «الكشاف» : قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي ثبت أنه قرأ بها ، وتأويل ذلك : أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخّصا فيه أن يقرأ على بعض اختلاف ، ثم نسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن. وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم : قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٥ ـ ١١] (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

(فَأَمَّا) تفريع وتفصيل للإجمال في قوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل : ٤] فحرف (أمّا) يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى : مهما يكن من شيء ، والتفصيل : التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرد بعضها عن بعض بحالة هي التي يعتنى بتمييزها. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) في سورة الفجر [١٥].

والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور ، ولكن جعل التفصيل ببيان الساعين

٣٣٦

بقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل ، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة :

وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أي على مخافة وعل.

ومنه قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلخ في سورة البقرة [١٧٧].

وقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٩] الآية ، أي كإيمان من آمن بالله.

وانحصر تفصيل «شتى» في فريقين : فريق ميسّر لليسرى وفريق ميسّر للعسرى ، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير ، والتحذير من الشر ، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ* فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) في سورة الزلزلة [٦ ـ ٨]. ويجوز أن يجعل تفصيل «شتى» هم من أعطى واتّقى وصدّق بالحسنى ، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بيانا لشتّى.

و (مَنْ) في قوله : (مَنْ أَعْطى) إلخ وقوله : (مَنْ بَخِلَ) إلخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدّق بالحسنى. وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأعتقه لينجيه من تعذيب أمية بن خلف ، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوض أمية بن خلف ، وهم وهم.

وقيل : نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي. وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسبب النزول لا يخصص العموم.

وحذف مفعول (أَعْطى) لأن فعل الإعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض ، ينزّل منزلة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال (ولذلك يسمى المال الموهوب عطاء) ، والمقصود إعطاء الزكاة.

وكذلك حذف مفعول (اتَّقى) لأنه يعلم أن المقدّر اتّقى الله.

وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان ، فالمعنى : فأما من كان من المؤمنين كما

٣٣٧

في قوله تعالى : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر : ٤٣ ـ ٤٤] ، أي لم نك من أهل الإيمان.

وكذلك فعل (بَخِلَ) لم يذكر متعلقه لأنه أريد به البخل بالمال.

و (اسْتَغْنى) جعل مقابلا ل (اتَّقى) فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمر الله ودعوته لأن المصرّ على الكفر المعرض عن الدعوة يعد نفسه غنيا عن الله مكتفيا بولاية الأصنام وقومه ، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استحباب بمعنى أجاب. وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال ، فتكون السين والتاء للطلب ، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين.

والحسنى : تأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفة لموصوف مقدر ، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث اللفظ ويحتمل أمورا كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة.

وقد يصير هذا الوصف علما بالغلبة فقيل : الحسنى الجنة ، وقيل : كلمة الشهادة ، وقيل : الصلاة ، وقيل : الزكاة. وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها.

وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان.

ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى.

ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله : (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى).

والتيسير : جعل شيء يسير الحصول ، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا ، أي غير شديد ، والمجرور باللام بعده هو الذي يسهّل الشيء الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر ، كما في قوله تعالى : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه : ٢٦] وقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧].

واليسرى في قوله : (لِلْيُسْرى) هي ما لا مشقة فيه ، وتأنيثها : إما بتأويل الحالة ، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة ، وهي حالة النعيم ، أو على تأويلها بالمكانة. وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد. ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في

٣٣٨

معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه ، أي الملائم.

والعسرى : إما الحالة وهي حالة العسر والشدة ، أي العذاب ، وإما مكانته وهي جهنّم ، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ، ١٠] ، فمعنى : «نيسره» ندرّجه في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية ، فالأعمال اليسرى هي الصالحة ، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها ، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال.

وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مرادا منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف : ٩٨].

وحرف (ال) في «اليسرى» وفي «العسرى» لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني.

وإذ قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر إذ جعل ضمير الغيبة في نيسره لليسرى» العائد إلى (مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) هو الميسر ، وجعل ضمير الغيبة في «نيسره للعسرى» العائد إلى (مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) هو الميسر ، أي الذي صار الفعل صعب الحصول حاصلا له ، وإذ وقع المجروران باللام «اليسرى» و «العسرى» ، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بخل ، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين :

الأولى : إيفاء فعل «نيسر» على حقيقته وجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام : فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب ، فيصار إلى أن المقتضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسّر ميسرا له والميسر له ميسرا على نحو ما وجهوا به قول العرب : عرضت الناقة على الحوض.

والثانية : أن يكون التيسير مستعملا مجازا مرسلا في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له ، وتكون اللام من قوله : (لِلْيُسْرى) و (لِلْعُسْرى) لام التعليل ، أي نيسره لأجل اليسرى أو لأجل العسرى ، فالمراد باليسرى الجنة وبالعسرى جهنم ، على أن يكون الوصفان صارا علما بالغلبة على الجنة وعلى النار ، والتهيئة لا تكون لذات الجنة وذات النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخول اليسرى

٣٣٩

ولدخول العسرى ، أي سنعجّل به ذلك.

والمعنى : سنجعل دخول هذه الجنة سريعا ودخول الآخر النار سريعا ، بشبه الميسّر من صعوبة لأن شأن الصعب الإبطاء وشأن السهل السرعة ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤] ، أي سريع عاجل. ويكون على هذا الوجه قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) مشاكلة بنيت على استعارة تهكمية قرينتها قوله : «العسرى». والذي يدعو إلى هذا أن فعل «نيسر» نصب ضمير (مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ) ، وضمير (مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ) ، فهو تيسير ناشئ عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى (اتَّقى) أو معنى (اسْتَغْنى) ، فالأعمال سابقة لا محالة. والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها ، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها.

ويجوز أن يكون معنى الآية : أن يجعل التيسير على حقيقته ويجعل اليسرى وصفا أي الحالة اليسرى ، والعسرى أي الحالة غير اليسرى.

وليس في التركيب قلب ، والتيسير بمعنى الدوام على العمل ، ففي «صحيح البخاري» عن علي قال : «كنا مع رسول الله في بقيع الغرقد في جنازة فقال : ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال : اعملوا فكل ميسّر لما خلق له. أما أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ا ه.

فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله : «ما من أحد إلا وقد كتب مقعده» إلخ معناه قد علم الله أن أحدا سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يوافي عليه ، أو سيعمل بعمل أهل النار حتى يوافي عليه ، فقوله : «وقد كتب مقعده» جعلت الكتابة تمثيلا لعلم الله بالمعلومات علما موافقا لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص ، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصا دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط.

فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس ، ومعنى جوابه : أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة. وذكر مقابله وهو العمل السيّئ إتماما للفائدة ولا علاقة له بالجواب.

وليس مجازه مماثلا لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل

٣٤٠