تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

والوثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربط ويجعل للأسير والمقود إلى القتل. فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) [غافر : ٧١ ، ٧٢] الآية.

وانتصاب (وَثاقَهُ) كانتصاب (عَذابَهُ) على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه.

[٢٧ ـ ٣٠] (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتّبعوا هداه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك مما يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر.

واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد. وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة. فيجوز أن يقال يوم الجزاء فهو مقول قول محذوف هو جواب (إذا) (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) [الفجر : ٢١] الآية وما بينهما مستطرد واعتراض.

فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القدس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة : فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله : (إِلى رَبِّكِ) إظهارا في مقام الإضمار بقرينة تفريع (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) عليه. ونكتة هذا الإظهار ما في وصف (رب) من الولاء والاختصاص. وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطبة من التشريف لها.

وإن كان من قول الملائكة فلفظ (رَبِّكِ) جرى على مقتضى الظاهر وعطف (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) عطف تلقين يصدر من كلام الله تعالى تحقيقا لقول الملائكة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)

والرجوع إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] بحيث شبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها : ارجعي إليه ، وهذا الرجوع خاصّ غير مطلق الحلول في الآخرة.

٣٠١

ويجوز أن تكون الآية استئنافا ابتدائيا جرى على مناسبة ذكر عذاب الإنسان المشرك فتكون خطابا من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة.

والأمر في (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضا ، والإضمار في قوله : (فِي عِبادِي) وقوله : (جَنَّتِي) التفات من الغيبة إلى التكلم.

وقال بعض أهل التأويل : نزلت في معيّن. فعن الضحاك : أنها نزلت في عثمان بن عفان لما تصدق ببئر رومة. وعن بريدة : أنها نزلت في حمزة حين قتل. وقيل : نزلت في خبيب بن عديّ لما صلبه أهل مكة. وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية ، والاتفاق على أن السورة مكية إلا ما رواه الدّاني عن بعض العلماء أنها مدنية ، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة.

وعن ابن عباس وزيد بن حارثة وأبيّ بن كعب وابن مسعود : أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد ، وعلى هذا فهي متصلة بقوله : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) [الفجر: ٢١] إلخ كالوجه الذي قبل هذا ، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد.

وعن زيد بن حارثة وأبي صالح : يقال هذا للنفس عند الموت. وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال : قرأ رجل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) فقال أبو بكر : ما أحسن هذا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنّ الملك سيقولها لك عند الموت». وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة.

والنفس : تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف : ٥٣].

وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى.

و (الْمُطْمَئِنَّةُ) : اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئا غير مضطرب ولا منزعج ، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب بال فيكون

٣٠٢

ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة.

وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن افعللّ. والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما ينطق به وهذا قول أبي عمرو. وقال سيبويه : أصل الفعل : طأمن فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مطأمنّة ومصدره اطمئنان وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في سورة البقرة [٢٦٠] وقوله : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) في سورة النساء [١٠٣].

ووصف (النَّفْسُ) ب (الْمُطْمَئِنَّةُ) ليس وصفا للتعريف ولا للتخصيص ، أي لتمييز المخاطبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يعرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإذن لهم بدخول الجنة ، فالوصف مراد به الثناء والإيماء إلى وجه بناء الخبر. وتبشير من وجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون. ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاما في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون.

والاطمئنان : مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء.

وقد فسر الاطمئنان : بيقين وجود الله ووحدانيته ، وفسر باليقين بوعد الله ، وبالإخلاص في العمل ، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة ، وفسر بتبشيرهم بالجنة ، أي قبل ندائهم ثم نودوا بأن يدخلوا الجنة.

والرجوع يحتمل الحقيقة والمجاز كما علمت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية.

والراضية : التي رضت بما أعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه.

والمرضية : اسم مفعول وأصله : مرضيا عنها ، فوقع فيه الحذف والإيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر ، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفاضة الإنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما

٣٠٣

رضي به هو.

وفرع على هذه البشرى الإجمالية تفصيل ذلك بقوله : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) فهو تفصيل بعد الإجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها.

والمعنى : ادخلي في زمرة عبادي. والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإضافة مع قرنه بقوله : (جَنَّتِي) ومعنى هذا كقوله تعالى : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) [العنكبوت:٩].

فالظرفية حقيقية وتؤول إلى معنى المعية كقوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

وإضافة (جنة) إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

وهذه الإضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلّم حسنا بعد طريقة الغيبة بقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)

وتكرير فعل (وَادْخُلِي) فلم يقل : فادخلي جنتي في عبادي للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقا للمسرة لهم.

٣٠٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٩٠ ـ سورة البلد

سميت هذه السورة في ترجمتها عن «صحيح البخاري» : «سورة لا أقسم» وسميت في المصاحف وكتب التفسير «سورة البلد». وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها ، وإما لإرادة البلد المعروف وهو مكة.

وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم : أنها مدنية. ولعل هذا قول من فسر قوله : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ٢] أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل (وَأَنْتَ حِلٌ) على معنى : وأنت الآن حلّ ، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدّي وأبي صالح وعزي لابن عباس. وقد أشار في «الكشاف» إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق ، وفي رده بذلك مصادرة ، فالوجه أن يرد بأن في قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) إلى قوله: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ٥ ـ ١١] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤] وإلا لخلت الضمائر عن معاد. وحكى في «الإتقان» قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.

وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور ، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.

وعدد آيها عشرون آية.

أغراضها

حوت من الأغراض التنويه بمكة. وبمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها. وبركته فيها وعلى أهلها.

والتنويه بأسلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم

٣٠٥

وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي.

والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك. وإنكارهم البعث. وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه ، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس ، ونعمة النطق ، ونعمة الفكر ، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.

ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين.

[١ ـ ٤] (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

ابتدئت بالقسم تشويقا لما يرد بعده وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق.

و (لا أُقْسِمُ) معناه : أقسم. وقد تقدم ذلك غير مرة منها ما في سورة الحاقة.

وتقدم القول في : هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به.

والإشارة ب «هذا» مع بيانه بالبلد ، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة ، ومثله ما في قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [النمل : ٩١]. وفائدة الإتيان باسم الإشارة تمييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنويه به.

والبلد : جانب من متسع من أرض عامرة كانت كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج :

بل بلد ملء الفجاج قتمه

وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كناية عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله.

وجملة : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية. والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى (وَأَنْتَ حِلٌ) فيجوز

٣٠٦

أن يكون (حِلٌ) اسم مصدر أحلّ ، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلك أهل مكة حلالا بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعضد شجره ، وهم مع ذلك يحلون قتلك وإخراجك ، قال هذا شرحبيل بن سعد (١) فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجيب من مضمون الجملة وعليه فالإخبار عن ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف (حِلٌ) يقدر فيه مضاف يعيّنه ما يصلح للمقام ، أي وأنت حلال منك ما حرّم من حقّ ساكن هذا البلد من الحرمة والأمن. والمعنى التعريض بالمشركين في عدوانهم وظلمهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحدا. والمناسبة ابتداء القسم بمكة الذي هو إشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها ، أي فهم يحرّمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ، ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله.

ويجوز أن يكون (حِلٌ) اسما مشتقا من الحلّ وهو ضد المنع ، أي الذي لا تبعة عليه فيما يفعله. قال مجاهد والسدي ، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حلّ أو أنت في حل ممن قاتلك أن تقاتله. وقريب منه عن ابن عباس ، أي مهما تمكنت من ذلك. فيصدق بالحال والاستقبال. وقال في «الكشاف» : «يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عزوجل : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، تقول لمن تعده بالإكرام والحباء أنت مكرم محبّوا ا ه.

فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإسلام ، ووعد بأنه سيمكنه منهم.

وعلى كلا الوجهين في محمل صفة (حِلٌ) هو خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد خصصه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيوم الفتح فقال : «وإنما أحلت لي ساعة من نهار» الحديث ، وفي «الموطإ» : «قال مالك : ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ (أي يوم الفتح) محرما».

ويثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظر في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة. قال الباجي في «المنتقى» وابن العربي في «الأحكام» : الداخل مكة غير مريد النسك ، لحاجة تتكرر كالحطّابين وأصحاب الفواكه والمعاش هؤلاء يجوز دخولهم غير محرمين لأنهم لو كلفوا الإحرام لحقتهم مشقة. وإن كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك : أنه لا بد من الإحرام ، وروي عنه تركه والصحيح وجوبه ، فإن تركه قال الباجي : فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يفصّل أهل

__________________

(١) أبو معاوية تابعي توفي سنة ١٢٣ ه‍.

٣٠٧

المذهب بين من كان من أهل داخل الميقات أو من خارجه.

والخلاف في ذلك أيضا بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير إحرام إن لم يرد نسكا من حج أو عمرة ، وأما من كان من أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج. وذهب الشافعي إلى سقوط الإحرام عن غير قاصد النسك ، ومذهب أحمد موافق مذهب مالك.

وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين : أن معنى (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أنه حال ، أي ساكن بهذا البلد ا ه. وجعله ابن العربي قولا ولم يعزه إلى قائل ، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة (وَأَنْتَ حِلٌ) في موضع الحال من ضمير (أُقْسِمُ) فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار كونه بلد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال (حِلٌ) بمعنى : حالّ ، أي مقيم في مكان فإن هذا لم يرد في كتب اللغة : «الصحاح» و «اللسان» و «القاموس» و «مفردات الراغب». ولم يعرج عليه صاحب «الكشاف» ، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله ، وقال الخفاجي : والحلّ : صفة أو مصدر بمعنى الحال هنا على هذا الوجه ولا عبرة بمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة» ا ه وكيف يقال : لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة ، وهل المرجع في إثبات اللغة إلّا كتب أئمتها.

وتكرير لفظ (بِهذَا الْبَلَدِ) إظهار في مقام الإضمار لقصد تجديد التعجيب. ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يخرج عن حوزتهم.

و (والِدٍ) وقع منكرا فهو تنكير تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم. فتعين أن يكون المراد والدا عظيما ، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله (وَما وَلَدَ).

والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب (والِدٍ) إبراهيم عليه‌السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجر قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ثم قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم : ٣٧]. وإبراهيم والد سكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الحج : ٧٨] ، ولأنه والد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣٠٨

و (ما وَلَدَ) موصول وصلة والضمير المستتر في (وَلَدَ) عائد إلى (والِدٍ) والمقصود : وما ولده إبراهيم من الأبناء والذرية. وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي هذا تعريض بالتنبيه للمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعمارة المسجد الحرام قال تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٦٨].

وجيء باسم الموصول (ما) في قوله : (وَما وَلَدَ) دون (من) مع أن (من) أكثر استعمالا في إرادة العاقل وهو مراد هنا ، فعدل عن (من) لأن (ما) أشدّ إبهاما ، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإبهام لإرادة التفخيم ، ونظيره قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] يعني مولودا عجيب الشأن. ويوضّح هذا أن (ما) تستعمل نكرة تامة باتفاق ، و (من) لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي.

ولان قوة الإبهام في (ما) أنسب بإرادة الجماعة دون واحد معين ، ألا ترى إلى قول الحكم الأصم الفزاري :

اللّؤم أكرم من وبر ووالده

واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

يريد ومن أولاده لا ولدا معيّنا.

وجملة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) جواب القسم وهو الغرض من السورة.

والإنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقول جمهور المفسرين ، فالتعريف فيه تعريف الجنس ، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [البلد : ٥] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين ، فالعموم عموم عرفي ، أي الإنسان في عرف الناس يومئذ ، ولم يكن المسلمون إلا نفرا قليلا ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإنسان مرادا به الكافرون من الناس.

ويجوز أن يراد به إنسان معيّن ، فالتعريف تعريف العهد ، فعن الكلبي أنه أبو الأشدّ ويقال : أبو الأشدّين واسمه أسيد بن كلدة الجمحي كان معروفا بالقوّة والشدة يجعل الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول : من أزالني فله كذا. فيجذبه عشرة رجال حتى يمزّق الأديم ولا تزول قدماه ، وكان شديد الكفر والعداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل فيه : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [البلد : ٥] وقيل : هو الوليد بن المغيرة ، وقيل : هو أبو جهل. وعن مقاتل :

٣٠٩

نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، زعم أنه أنفق مالا على إفساد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : هو عمرو بن عبد ودّ الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق.

وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القسم ولا السياق.

والخلق : إيجاد ما لم يكن موجودا ، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قويّ في الذات كقوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) [الزمر : ٦] وقوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠]. فهو جعل يغير ذات الشيء.

والكبد بفتحتين : التعب والشدة ، وقد تعددت أقوال المفسرين في تقرير المراد بالكبد ، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسّر به الكبد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار ، حتى كأنّهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التئامه ، ويحق وئامه.

وقد غضّوا النظر عن موقع فعل (خَلَقْنَا) على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل (خَلَقْنَا) كمعذرة للإنسان الكافر في ملازمة الكبد له إذ هو مخلوق فيه. وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم ، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة. واضطراب رأيهم في الجمع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجّههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر. ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) دليل مقصودا وحده بل هو توطئة لقوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [البلد : ٥]. والمقصود إثبات إعادة خلق الإنسان بعد الموت للبعث والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سور كثيرة من السور الأولى.

فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ، ٥] بعد القسم بقوله : (التِّينِ وَالزَّيْتُونِ) [التين: ١] إلخ.

فمعنى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ) [البلد : ٥] : أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقا آخر ، فهو في طريقة القسم والمقسم عليه بقوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) إلى قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ١ ـ ٤]. أي كما خلقناه أول مرة في نصب من أطوار الحياة كذلك

٣١٠

نخلقه خلقا ثانيا في كبد من العذاب في الآخرة لكفره.

وبذلك يظهر موقع إدماج قوله (فِي كَبَدٍ) لأن المقصود التنظير بين الخلقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى.

والظرفية من قوله : (فِي كَبَدٍ) مستعملة مجازا في الملازمة فكأنه مظروف في الكبد ، ونظيره قوله : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) [سبأ : ٨ ، ٩] الآية. فالمراد : عذاب الدنيا ، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاق المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية.

فالمعنى : أن الكبد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإشراك وهو حين تقوّم العقل وكمال الإدراك.

ومن الجائز أن يجعل قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتبارا لطيفا وهو شدة تلبّس الكبد بالإنسان المشرك حتى كأنه خلق في الكبد.

والمعنى : لقد خلقنا الكبد في الإنسان الكافر.

وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥))

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤].

والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخطئة.

وضمير (أَيَحْسَبُ) راجع إلى الإنسان لا محالة ، ومن آثار الحيرة في معنى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) [البلد : ٤] أن بعض المفسرين جعل ضمير (أَيَحْسَبُ) راجعا إلى بعض مما يعمه لفظ الإنسان مثل أبي الأشد الجمحي ، وهو ضغث على إبّالة.

[٦ ، ٧] (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧))

أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله ، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح. وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لإيذانه بقلة اكتراث صاحبه به ، قال عنترة :

وإذا سكرت فإنّني مستهلك

مالي وعرضي وافر لم يكلم

٣١١

وإذا صحوت فما أقصّر عن ندى

وكما علمت شمائلي وتكرّمي

وجملة : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً) في موضع الحال من (الْإِنْسانَ) [البلد : ٤] وذلك من الكبد.

وجملة : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) بدل اشتمال من جملة (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً) لأن قوله (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) يصدر منه وهو يحسب أنه راج كذبه ، على جميع الناس وهو لا يخلو من ناس يطلعون على كذبه قال زهير :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وإن خالها تخفى على الناس تعلم

والاستفهام إنكار وتوبيخ وهو كناية عن علم الله تعالى بدخيلته وأن افتخاره بالكرم باطل.

و (لُبَداً) بضم اللام وفتح الموحدة في قراءة الجمهور وهو جمع لبدة بضم اللام وهي ما تلبد من صوف أو شعر ، أي تجمع والتصق بعضه ببعض وقرأه أبو جعفر لبدا بضم اللام وتشديد الباء على أنه جمع لابد بمعنى مجتمع بعضه إلى بعض مثل : صيّم وقوّم ، أو على أنه اسم على زنة فعّل مثل زمّل للجبان وجبّإ للضعيف.

[٨ ـ ١٠] (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

تعليل للإنكار والتوبيخ في قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [البلد : ٥] أو قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد : ٧] أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خلق مشاعر الإدراك التي منها العينان ، وخلق آلات الإبانة وهي اللسان والشفتان ، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤].

والاستفهام يجوز أن يكون تقريريا وأن يكون إنكاريا.

والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلّل إنكار ظنه إن لم يره أحد. وذكر الشفتين مع اللسان لأن الإبانة تحصل بهما معا فلا ينطق اللسان بدون الشّفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.

ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون : ينطق بلسان فصيح ، ويقولون : لم ينطق ببنت شفة ، أو لم ينبس ببنت شفة ، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بماله مزيد تصوير لخلق آلة

٣١٢

النطق.

وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإبانة عن المعلومات ، بما يرشد الفكر إلى النظر والبحث وذلك قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

فاستكمل الكلام أصول التعلّم والتعليم فإن الإنسان خلق محبا للمعرفة محبا للتعريف فبمشاعر الإدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية ، وبالنطق يفيد ما يعلمه لغيره ، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.

والشفتان هما الجلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يمتص الماء ، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.

وأصل شفة شفو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات ، وقيل : أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعوض عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشفاه. والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفا في حالة الوصل فقالوا : شفة ، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث في التثنية كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا : شفوين ، فإنهم اتفقوا على أن التثنية تردّ الاسم إلى أصله.

والهداية : الدلالة على الطريق المبلّغة إلى المكان المقصود السير إليه.

والنجد : الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان ، والطريق قد يكون منجدا مصعدا ، وقد يكون غورا منخفضا.

وقد استعيرت الهداية هنا للإلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضارّ والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز.

واستعير النجدان للخير والشر ، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلّب على الطريقين ، أو لأن كل واحد صعب باعتبار ، فطريق الخير صعوبته في سلوكه ، وطريق الشر صعوبته في عواقبه ، ولذلك عبر عنه بعد هذا ب (الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١].

ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] وتشبيه الإقبال على تلقّي دعوة الإسلام إذ شقّت على نفوسهم كذلك.

٣١٣

وأدمج في هذا الاستدلال امتنان على الإنسان بما وهبه من وسائل العيش المستقيم.

ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلا على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة ، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى.

[١١ ـ ١٧] (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧))

يجوز أن يكون (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) تفريع إدماج بمناسبة قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي هديناه الطريقين فلم يسلك النجد الموصّل إلى الخير.

ويجوز أن يكون تفريعا على جملة (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) [البلد : ٦] وما بينهما اعتراضا ، وتكون «لا اقتحم العقبة» استفهاما حذف منه أداته. وهو استفهام إنكار ، والمعنى : أنه يدعي إهلاك مال كثير في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفلا أهلكه في القرب والفضائل بفكّ الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإنفاق في ذلك لا يخفى على الناس خلافا لما يدعيه من إنفاق.

وعلى هذا الوجه لا يعرض الإشكال بعدم تكرّر (لا) فإن شأن (لا) النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تتكرر أن تكون للدّعاء إلّا إذا تكررت معها مثلها معطوفة عليها نحو قوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] أو كانت (لا) معطوفة على نفي نحو : ما خرجت ولا ركبت. فهو في حكم تكرير (لا). وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء ، ولم تتكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو (اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) فكأنه قال : فلا فكّ رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. ويجوز أن يكون عدم تكرير (لا) هنا استغناء بقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فكأنه قيل : فلا اقتحم العقبة ولا آمن. ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاف عن تكرير (لا) كالاستثناء في قول الحريري في «المقامة الثلاثين» : «لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الأغر المحجّل إلا الذي جال وجاب» إلخ وأطلق (الْعَقَبَةَ) على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر

٣١٤

مقدرة السابرة.

والاقتحام : الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال : اقتحم الصفّ ، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب ، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت : ٣].

والاقتحام : ترشيح لاستعارة العقبة لطريق الخير ، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال :

والمورد العذب كثير الزحام

وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثارا للعاجل على الآجل ولو عزم وصبر لاقتحم العقبة. وقد تتابعت الاستعارات الثلاث : النجدين ، والعقبة ، والاقتحام ، وبني بعضها على بعض وذلك من أحسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس.

والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإدراك والنطق.

وقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) حال من العقبة في قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) للتنويه بها وأنها لأهميتها يسأل عنها المخاطب هل أعلمه معلم ما هي ، أي لم يقتحم العقبة في حال جدارتها بأن تقتحم. وهذا التنويه يفيد التشويق إلى معرفة المراد من العقبة.

و (ما) الأولى استفهام. و (ما) الثانية مثلها. والتقدير : أيّ شيء أعلمك ما هي العقبة ، أي أعلمك جواب هذا الاستفهام ، كناية عن كونه أمرا عزيزا يحتاج إلى من يعلمك به.

والخطاب في (ما أَدْراكَ) لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل.

وفعل (أَدْراكَ) معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف ، (فَكُّ رَقَبَةٍ) برفع (فَكُ) وإضافته إلى (رَقَبَةٍ) ورفع (إِطْعامٌ) عطفا على (فَكُ).

وجملة : (فَكُّ رَقَبَةٍ) بيان للعقبة والتقدير : هي فكّ رقبة ، فحذف المسند إليه حذفا لمتابعة الاستعمال. وتبيين العقبة بأنها : (فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعامٌ) مبني على استعارة العقبة

٣١٥

للأعمال الصالحة الشاقة على النفس. وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس ، فلا وجه لتقدير من قدّر مضافا فقال : أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي فك بفتح الكاف على صيغة فعل المضي ، وبنصب رقبة على المفعول ل فك أو «أطعم» بدون ألف بعد عين (إِطْعامٌ) على أنه فعل مضي عطفا على فك ، فتكون جملة : فك رقبة بيانا لجملة (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) وما بينهما اعتراضا ، أو تكون بدلا من جملة (اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فلا اقتحم العقبة ولا فكّ رقبة أو أطعم. وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفا.

والفك : أخذ الشيء من يد من احتاز به.

والرقبة مراد بها الإنسان ، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعين ووجه ، وإيثار لفظ الرقبة هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء. هو رقبته لأنه في الغالب يوثق من رقبته.

وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسر أو ملك ، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع.

وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإسلامي وهو تشوّف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

والمسغبة : الجوع وهي مصدر على وزن المفعلة مثل المحمدة والمرحمة من سغب كفرح سغبا إذا جاع.

والمراد ب (يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) زمان لا النهار المعروف.

وإضافة (ذِي) إلى (مَسْغَبَةٍ) تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة ، أي يوم مجاعة ، وذلك زمن البرد وزمن القحط.

ووجه تخصيص اليوم ذي المسغبة بالإطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتداد زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات. فالإطعام في ذلك الزمن أفضل ، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة.

وانتصب (يَتِيماً) على المفعول به ل (إِطْعامٌ) الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمال المصدر غير المضاف ولا المعرّف باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثر ،

٣١٦

ومنع الكوفيون إعمال المصدر غير المضاف. وما ورد بعده مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر ، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم «يطعم يتيما».

واليتيم : الشخص الذي ليس له أب ، وهو دون البلوغ. ووجه تخصيصه بالإطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه. فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه (ذا مَقْرَبَةٍ) أي مقربة من المطعم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيما إغاثة له بالإطعام ، وفي كونه ذا مقربة صلة للرحم.

والمقربة : قرابة النسب وهو مصدر بوزن مفعلة مثل ما تقدم في (مَسْغَبَةٍ)

والمسكين : الفقير ، وتقدم في سورة البقرة [١٨٤] عند قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) و (ذا مَتْرَبَةٍ) صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف.

والمتربة مصدر بوزن مفعلة أيضا وفعله ترب يقال : ترب ، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض ، وهو في الأصل كناية عن العروّ من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منه قولهم في الدعاء : تربت يمينك : وتربت يداك.

و (أَوْ) للتقسيم وهو معنى من معاني (أو) جاء من إفادة التخيير.

واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص ، أي المشركين كان نفي فكّ الرقاب والإطعام كناية عن انتفاء تحلّيهم بشرائع الإسلام لأن فكّ الرقاب وإطعام الجياع من القربات التي جاء بها الإسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك ، أو لمؤانسة الأخلّاء وذلك غالب أحوالهم ، أي لم يطعموا يتيما ولا مسكينا في يوم مسغبة ، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده. وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعمين لأن تلك المطاعم كانوا يدعون لها أمثالهم من أهل الجدّة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة.

وفي حديث مسلم «شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها» وروى الطبراني : شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشّبعان ويحبس عنه الجائع».

٣١٧

وإن كان المراد من الإنسان واحدا معينا جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم ، وجاز أن يكون ذمّا له باللّؤم والتفاخر الكاذب ، وفضحا له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإسلام فلم يغرم غرامة في فكاك أسير أو مأخوذ بدم أو من بحرية على عبد.

وأيّا ما كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات ، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء.

وجملة : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على جملة (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)

و (ثُمَ) للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوفة عليه ، فيصير تقدير الكلام : فلا اقتحم العقبة بفكّ رقبة أو إطعام بعد كونه مؤمنا. وفي فعل (كانَ) إشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه.

فعطف (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإنسان المعين لم يكن من المؤمنين ، وأنه ملوم على ما فرّط فيه لانتفاء إيمانه ، وأنه لو فعل شيئا من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عمله شيئا لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه (ثُمَ) من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال.

وعن عائشة : أنها قالت : «يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله (أي يريد التقرب) فهل ينفعه ذلك شيئا قال : «لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محمودا.

ومن يجعل (ثُمَ) مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى : لا اقتحم العقبة واتبعها بالإيمان. أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلم لمّا جاء الإسلام.

وقد جاء ذلك صريحا في حديث حكيم بن حزام في الصحيح : «قال : قلت : يا رسول الله أرأيت أشياء كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسلمت على ما سلف من خير» والتحنّث : التعبد يعني

٣١٨

أن دخوله في الإسلام أفاده إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإسلام.

وقال : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) دون أن يقول : ثم كان مؤمنا ، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] ، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف ، وهو جعله بالموصول المشعر بأنهم عرفوا بالإيمان بين الفرق.

وحذف متعلّق (آمَنُوا) للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الإسلام. فجعل الفعل كالمستغني عن المتعلق.

وأيضا ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة.

وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان ، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر.

والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩].

والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة ، وهو أيضا كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها ، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٨].

وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة ، وقد صرح بذلك في قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إلى قوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت : ٣٣ ـ ٣٥] وقوله : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٧ ، ١٨].

[١٨ ـ ٢٠] (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

لمّا نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتتحا باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز لإحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع ، مع ما في اسم الإشارة من

٣١٩

إرادة التنويه والتعظيم.

و (الْمَيْمَنَةِ) جهة اليمين ، فهي مفعلة للمكان مأخوذة من فعل يمنه (فعلا ماضيا) إذا كان على يمينه ، أي على جهة يده اليمنى ، أو مأخوذة من يمنه الله يمنا ، إذا باركه ، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى ، قيل : سميت اليد اليمنى يمينا ويمنى لأنها أعود نفعا على صاحبها في يسر أعماله ، ولذلك سمي بلاد اليمن يمنا لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلا الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي ، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن. وكانت بلاد اليمن مشهورة بالخيرات فهي ميمونة. وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة ، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشرا بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك :

فإذا الأشائم كالأيا

من والأيامن كالأشائم

ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأما بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإسلام ذلك بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم بارك لنا في شأمنا وفي يمننا» وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يسارا إلا لإبطال ما يتوهم من الشؤم فيها.

ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامة للجالس ، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك. وقد أبطله الإسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس.

وسمّي أهل الجنة (أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) و (أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧] وسمي أهل النار (أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) و (أَصْحابُ الشِّمالِ) في سورة الواقعة [٤١] ، فقوله : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أصحاب الكرامة عند الله.

وقوله : (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي هم محقرون. وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم. ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حيّزا لمن تنسب إليه الجهة.

وجملة : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) تتميم لما سيق من ذم الإنسان المذكور آنفا إذ لم يعقّب ذمّه هنالك بوعيده عناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدهم ،

٣٢٠