تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

ذلك تجريدا للاستعارة لأن الفوقية لا تختص بالمبنيّات ، مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السبع الشداد.

والمراد بالسبع الشداد : السماوات ، فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف للعلم به كقوله تعالى : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] ، ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث إذ التقدير : سبع سماوات.

فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والشمس ، والزّهرة ، وعطارد ، والقمر. وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس.

وهذا المحمل هو الأظهر لأن العبرة بها أظهر لأن المخاطبين لا يرون السماوات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد. وهي (ستّورن) و (نبتون) و (أورانوس) وهي في علم الله تعالى لا محالة لقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] وأن الله لا يقول إلا حقا وصدقا ويقرّب للناس المعاني بقدر أفهامهم رحمة بهم.

فأما الأرض فقد عدت أخيرا في الكواكب السيارة وحذف القمر من الكواكب لتبيّن أن حركته تابعة لحركة الأرض إلا أن هذا لا دخل له في الاستدلال لأن الاستدلال وقع بما هو معلوم مسلم يومئذ والكل من صنع الله.

ويجوز أن يراد بالسماوات السبع طبقات علوية يعلمها الله تعالى وقد اقتنع الناس منذ القدم بأنها سبع سماوات.

وشداد : جمع شديدة ، وهي الموصوفة بالشدة ، والشدة : القوة.

والمعنى : أنها متينة الخلق قوية الأجرام لا يختل أمرها ولا تنقص على مرّ الأزمان.

(وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣))

ذكر السماوات يناسبه ذكر أعظم ما يشاهده الناس في فضائها وذلك الشمس ، ففي ذلك مع العبرة بخلقها عبرة في كونها على تلك الصفة ومنّة على الناس باستفادتهم من

٢١

نورها فوائد جمة.

والسراج : حقيقته المصباح الذي يستضاء به وهو إناء يجعل فيه زيت وفي الزيت خرقة مفتولة تسمى الذّبالة تشعل بنار فتضيء ما دام فيها بلل الزيت.

والكلام على التشبيه البليغ والغرض من التشبيه تقريب صفة المشبّه إلى الأذهان كما تقدم في سورة نوح.

وزيد ذلك التقريب بوصف السراج بالوهّاج ، أي الشديد السّنا.

والوهاج : أصله الشديد الوهج (بفتح الواو وفتح الهاء ، ويقال : بفتح الواو وسكون الهاء) وهو الاتقاد يقال : وهجت النار إذا اضطرمت اضطراما شديدا.

ويطلق الوهاج على المتلألئ المضيء وهو المراد هنا لأن وصف وهاج أجري على سراج ، أي سراجا شديد الإضاءة ، ولا يقال : سراج ملتهب.

قال الراغب : الوهج حصول الضوء والحرّ من النار. وفي «الأساس» عدّ قولهم : سراج وهاج في قسم الحقيقة. وعليه جرى قوله في «الكشاف» : «متلألئا وقّادا. وتوهجت النار ، إذ تلمظت فتوهجت بضوئها وحرّها» فإذن يكون التعبير عن الشمس بالسراج في هذه الآية هو موقع التشبيه.

ولذلك أوثر فعل : (جَعَلْنا) دون : خلقنا ، لأن كونها سراجا وهّاجا حالة من أحوالها وإنما يعلق فعل الخلق بالذوات.

فالمعنى : وجعلنا لكم سراجا وهّاجا أو وجعلنا في السبع الشداد سراجا وهّاجا على نحو قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٥ ، ١٦] وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١] سواء قدّرت ضمير (فِيها) عائدا إلى (السَّماءِ) أو إلى (البروج) لأن البروج هي بروج السماء.

وقوله : (سِراجاً) اسم جنس فقد يراد به الواحد من ذلك الجنس فيحتمل أن يراد الشمس أو القمر.

[١٤ ـ ١٦] (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

٢٢

استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأ شبيها بحياة بعد شبيه بموت أو اقتراب منه ومنشأ تخلق موجودات من ذرات دقيقة. وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حبّ وشجرا ، وكلأً ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإنسان والحيوان وهي حياة النماء فيكون ذلك دليلا للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شبه إحالة البعث.

وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٩ ـ ١١] ففي الآية استدلالان : استدلال بإنزال الماء من السحاب ، واستدلال بالإنبات ، وفي هذا أيضا منّة على المعرضين عن النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم ، ومن تنعمهم وجمال مرائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عند ما يبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر ، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صادقة العزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة.

ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية.

والمعصرات : بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدتها معصرة اسم فاعل من : أعصرت السحابة ، إذا آن لها أن تعصر ، أي تنزل إنزالا شبيها بالعصر. فهمزة (أعصر) تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمّى همزة التهيئة كما في قولهم : أجزّ الزرع ، إذا حان له أن يجزّ (بزاي في آخره) وأحصد إذا حان وقت حصاده. ويظهر من كلام صاحب «الكشاف» أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيّؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيّؤ لإصدار الفعل فإنه ذكر : أعصرت الجارية ، أي حان وقت أن تصير تحيض ، وذكر ابن قتيبة في «أدب الكاتب» : أركب المهر ، إذا حان أن يركب ، وأقطف الكرم ، إذا حان أن يقطف. ثم ذكر : أقطف القوم : حان أن يقطفوا كرومهم ، وأنتجت الخيل : حان وقت نتاجها.

وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الآية من سورة النور [٤٣] ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما جاء بالريح عصر بعضه بعضا فيخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) ومن

٢٣

ذلك قول حسان :

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

أراد حسّان الخمر والماء الذي مزجت به ، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب ، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري (١) للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان ا ه.

والثّجاج : المنصبّ بقوة وهو فعّال من ثجّ القاصر إذا انصب ، يقال : ثجّ الماء ، إذا انصبّ بقوة ، فهو فعل قاصر. وقد يسند الثجّ إلى السحاب ، يقال : ثج السحاب يثجّ بضم الثاء ، إذا صبّ الماء ، فهو حينئذ فعل متعدّ.

ووصف الماء هنا بالثّجاج للامتنان.

وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعا بين الامتنان والإيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصّانع.

وجيء بفعل (لِنُخْرِجَ) دون نحو : لننبت ، لأن المقصود الإيماء إلى تصوير كيفية بعث الناس من الأرض إذ ذلك المقصد الأول من هذا الكلام ألا ترى أنه لما كان المقصد الأول من آية سورة (ق) هو الامتنان جيء بفعل «أنبتنا» في قوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) [ق : ٩] الآية. ثم أتبع ثانيا بالاستدلال به على البعث بقوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ١١]. والبعث خروج من الأرض قال تعالى : (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) في سورة طه [٥٥].

والحب : اسم جمع حبّة وهي البرزة. والمراد بالحب هنا : الحب المقتات للناس مثل : الحنطة ، والشعير ، والسّلت ، والذّرة ، والأرزّ ، والقطنية ، وهي الحبوب التي هي ثمرة السنابل ونحوها.

والنّبات أصله اسم مصدر نبت الزرع ، قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧] وأطلق النبات على النبات من إطلاق المصدر على الفاعل وأصله المبالغة ثم شاع استعماله فنسيت المبالغة.

__________________

(١) ولي قضاء البصرة سنة ١٥٨ وعزل سنة ١٦٥ وتوفي سنة ١٦٨. وهو الذي ينسب إليه القول بأن المجتهد لا يأثم ولو في أصول الدين إذا لم يخرج باجتهاده عن الإسلام.

٢٤

والمراد به هنا : النبات الذي لا يؤكل حبه بل الذي ينتفع بذاته وهو ما تأكله الأنعام والدواب مثل التبن والقرط والفصفصة والحشيش وغير ذلك.

وجعلت الجنات مفعولا ل (تخرج) على تقدير مضاف ، أي نخل جنات أو شجر جنات ، لأن الجنات جمع جنة وهي القطعة من الأرض المغروسة نخلا ، أو نخلا وكرما ، أو بجميع الشجر المثمر مثل التين والرمان كما جاء في مواضع من القرآن ، وهي استعمالات مختلفة باختلاف المنابت.

ووجه إيثار لفظ (جَنَّاتٍ) أن فيه إيماء إلى إتمام المنة لأنهم كانوا يحبون الجنات والحدائق لما فيها من التنعم بالظّلال والثمار والمياه وجمال المنظر ، ولذلك أتبعت بوصف (أَلْفافاً) لأنه يزيدها حسنا ، وإن كان الفلاحون عندنا يفضلون التباعد بين الأشجار لأن ذلك أوفر لكمية الثمار لأن تباعدها أسعد لها بتخلل الهواء وشعاع الشمس ، لكن مساق الآية هنا الامتنان بما فيه نعيم الناس.

وألفاف : اسم جمع لا واحد له من لفظه وهو مثل أوزاع وأخياف ، أي كل جنة ملتفة ، أي ملتفة الشجر بعضه ببعض.

فوصف الجنات بألفاف مبنيّ على المجاز العقلي لأن الالتفاف في أشجارها ولكن لما كانت الأشجار لا يلتفّ بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف. ولعله من مبتكرات القرآن إذ لم أر شاهدا عليه من كلام العرب قبل القرآن.

وقيل : ألفاف جمع لفّ بكسر اللام بوزن جذع ، أي كل جنة منها لف بكسر اللام ولم يأتوا بشاهد عليه. وذكر في «الكشاف» أن صاحب «الإقليد» (١) ذكر بيتا أنشده الحسن بن علي الطوسي (٢) ولم يعزه إلى قائل. وفي «الكشاف» زعم ابن قتيبة (٣) أنه لفّاء ولفّ ثم ألفاف (أي أن ألفافا جمع الجمع) قال : «وما أظنه واجدا له نظيرا» أي لا يجمع

__________________

(١) الإقليد اسم تفسير كذا قال القزويني في «الكشف» على «الكشاف» ورأيت في طرة نسخة فيه أن الإقليد لأبي الفتح الهمذاني ولم أعثر على ترجمة مؤلفه.

(٢) الحسن بن علي الطوسي لعله الوزير الملقب نظام الملك والبيت هو :

جنة لفّ وعيش مغدق

وندامى كلهم بيض زهر

(٣) لعله ذكر ذلك في غير كتاب أدب الكتاب فإنّي لم أجده فيه.

٢٥

فعل جمعا على أفعال ، أي لا نظير له إذ لا يقال خضر وأخضار وحمر وأحمار. يريد أنه لا يخرّج الكلام الفصيح على استعمال لم يثبت ورود نظيره في كلام العرب مع وجود تأويل له على وجه وارد.

فكان أظهر الوجوه أن (أَلْفافاً) اسم جمع لا واحد له من لفظه.

وبهذا الاستدلال والامتنان ختمت الأدلة التي أقيمت لهم على انفراد الله تعالى بالإلهية وتضمنت الإيماء إلى إمكان البعث وما أدمج فيها من المنن عليهم عساهم أن يذكروا النعمة فيشعروا بواجب شكر المنعم ولا يستفظعوا إبطال الشركاء في الإلهية وينظروا فيما بلغهم عنه من الإخبار بالبعث والجزاء فيصرفوا عقولهم للنظر في دلائل تصديق ذلك.

وقد ابتدئت هذه الدلائل بدلائل خلق الأرض وحالتها وجالت بهم الذكرى على أهم ما على الأرض من الجماد والحيوان ، ثم ما في الأفق من أعراض الليل والنهار. ثم تصاعد بهم التجوال بالنظر في خلق السماوات وبخاصة الشمس ثم نزل بهم إلى دلائل السحاب والمطر فنزلوا معه إلى ما يخرج من الأرض من بدائع الصنائع ومنتهى المنافع فإذا هم ينظرون من حيث صدروا وذلك من رد العجز على الصدر.

[١٧ ـ ١٨] (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨))

هذا بيان لما أجمله قوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ٢ ـ ٣] وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأت للانتقال مناسبة ذكر الإخراج من قوله : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) [النبأ : ١٥] إلخ ، لأن ذلك شبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) إلى قوله : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) في سورة ق [٩ ـ ١١].

وهو استئناف بياني أعقب به قوله : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) [النبأ : ١٥] الآية فيما قصد به من الإيماء إلى دليل البعث.

وأكد الكلام بحرف التأكيد لأن فيه إبطالا لإنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل.

ويوم الفصل : يوم البعث للجزاء.

والفصل : التمييز بين الأشياء المختلطة ، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني

٢٦

المتشابهة والملتبسة فلذلك أطلق على الحكم ، وقد يضاف إليه فيقال : فصل القضاء ، أي نوع من الفصل لأن القضاء يميز الحق من الظلم.

فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض.

وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإثبات شيئين :

أحدهما : أنه بيّن ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء وذلك فصل بين الصدق وكذبهم.

وثانيهما : القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اعتدى به بعضهم على بعض.

وإقحام فعل (كانَ) لإفادة أن توقيته متأصل في علم الله لما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدّمه على ميقاته.

وتقدم (يَوْمَ الْفَصْلِ) غير مرة أخراها في سورة المرسلات [١٤].

ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) في سورة الطارق [١٣].

والميقات : مفعال مشتق من الوقت ، والوقت : الزمان المحدّد في عمل ما ، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيدا بإضافة أو نحوها نحو وقت الصلاة.

فالميقات جاء على زنة اسم الآلة وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء مثل ميعاد وميلاد ، في الخروج عن كونه اسم آلة إلى جعله اسما لنفس ما اشتق منه. والسياق دل على متعلق ميقات ، أي كان ميقاتا للبعث والجزاء.

فكونه (مِيقاتاً) كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ.

وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره ، سؤالا يريدون منه الاستهزاء بخبره.

والمعنى : أن ليس تأخر وقوعه دالّا على انتفاء حصوله.

والمعنى : ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانة المحدد له ولكن الله مستدرجكم مدة.

وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يدرى لعله يحصل قريبا قال تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] وقال : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١].

٢٧

و (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) بدل من (يَوْمَ الْفَصْلِ)

وأضيف (يَوْمَ) إلى جملة (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) فانتصب (يَوْمَ) على الظرفية وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى جملة أولها معرب وهو المضارع.

وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل.

والصّور : البوق ، وهو قرن ثور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من الخشب أو من النحاس ، ينفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قويا لنداء الناس إلى الاجتماع ، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ.

وبني (يُنْفَخُ) إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله.

والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلا لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة أو تتبع عدوّ فلا يلبثون أن يتجمّعوا عند مقر أميرهم.

ويجوز أن يكون نفخ يحصل به الإحياء لا تعلم صفته فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا ، فيكون النفخ هذا معبّرا به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبثّ أرواحها في بقاياها. وقد ورد في الآثار أن الملك الموكّل بهذا النفخ هو إسرافيل ، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.

وعطف (تأتون) بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب.

والإتيان : الحضور بالمكان الذي يمشي إليه الماشي فالإتيان هو الحصول.

وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإيذان بسرعة حصور الإتيان حتّى كأنه يحصل عند النفخ في الصور وإن كان المعنى : ينفخ في الصور فتحيون فتسيرون فتأتون.

و (أَفْواجاً) حال من ضمير (فَتَأْتُونَ) ، والأفواج : جمع فوج بفتح الفاء وسكون الواو ، والفوج : الجماعة المتصاحبة من أناس مقسّمين باختلاف الأغراض ، فتكون الأمم أفواجا ، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجا قال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) [الملك : ٨] الآية.

والمعنى : فتأتون مقسّمين طوائف وجماعات ، وهذا التقسيم بحسب الأحوال

٢٨

كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩))

جملة هي حال من ضمير (فَتَأْتُونَ) [النبأ : ١٨].

والتقدير : وقد فتحت السماء ، أي قد حصل النفخ قبل ذلك أو معه.

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [النبأ : ١٨] فيعتبر (يَوْمَ) [النبأ : ١٨] مضافا إلى هذه الجملة على حدّ قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥].

والتعبير بالفعل الماضي على هذا الوجه لتحقيق وقوع هذا التفتيح حتى كأنه قد مضى وقوعه.

وفتح السماء : انشقاقها بنزول الملائكة من بعض السماوات التي هي مقرّهم نزولا يحضرون به لتنفيذ أمر الجزاء كما قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٥ ، ٢٦].

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب وفتحت بتشديد الفوقية ، وهو مبالغة في فعل الفتح بكثرة الفتح أو شدته إشارة إلى أنه فتح عظيم لأن شق السماء لا يقدر عليه إلا الله.

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الفوقية على أصل الفعل ومجرد تعلق الفتح بالسماء مشعر بأنه فتح شديد.

وفي الفتح عبرة لأن السماوات كانت ملتئمة فإذا فسد التئامها وتخللتها مفاتح كان معه انخرام نظام العالم الفاني قال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) إلى قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ١ ـ ٦].

فالتفتح والفتح سواء في المعنى المقصود ، وهو تهويل (يَوْمَ الْفَصْلِ) [النبأ : ١٧].

وفرع على انفتاح السماء بفاء التعقيب (فَكانَتْ أَبْواباً) أي ذات أبواب.

فقوله (أَبْواباً) تشبيه بليغ ، أي كالأبواب ، وحينئذ لا يبقى حاجز بين سكان السماوات وبين الناس كما تقدم في قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤].

٢٩

والإخبار عن السماء بأنها أبواب جرى على طريق المبالغة في الوصف بذات أبواب للدلالة على كثرة المفاتح فيها حتى كأنها هي أبواب وقريب منه قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] حيث أسند التفجير إلى لفظ الأرض ، وجيء باسم العيون تمييزا ، وهذا يناسب معنى قراءة التشديد ويؤكده ، ويقيد معنى قراءة التخفيف ويبينه.

و (كانت) بمعنى : صارت. ومعنى الصيرورة من معاني (كان) وأخواتها الأربع وهي: ظلّ ، وبات ، وأمسى وأصبح ، وقرينة ذلك أنه مفرّع على (فُتِحَتِ) ونظيره قوله تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧].

والأبواب : جمع باب ، وهو الفرجة التي يدخل منها في حائل من سور أو جدار أو حجاب أو خيمة ، وتقدم في قوله تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) في سورة يوسف [٢٣]. وقوله : (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) في سورة العقود [٢٣].

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠))

التسيير : جعل الشيء سائرا ، أي ماشيا. وأطلق هنا على النقل من المكان أي نقلت الجبال وقلعت من مقارّها بسرعة بزلازل أو نحوها كما دل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤] ، حتى كأنها تسيّر من مكان إلى آخر وهو نقل يصحبه تفتيت كما دل عليه تعقيبه بقوله : (فَكانَتْ سَراباً) لأن ظاهر التعقيب أن لا تكون معه مهلة ، أي فكانت كالسراب في أنها لا شيء.

والقول في بناء (سُيِّرَتِ) للمجهول كالقول في (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) [النبأ : ١٩].

وكذلك قوله : (فَكانَتْ سَراباً) هو كقوله : (فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٩].

والسراب : ما يلوح في الصحاري مما يشبه الماء وليس بماء ولكنه حالة في الجو القريب تنشأ من تراكم أبخرة على سطح الأرض. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) في سورة النور [٣٩].

[٢١ ـ ٢٣] (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣))

يجوز أن تكون جملة (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) في موضع خبر ثان ل (إِنَ) من

٣٠

قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧] والتقدير : إن يوم الفصل إنّ جهنم كانت مرصادا فيه للطاغين ، والعائد محذوف دل عليه قوله : (مِرْصاداً) أي مرصادا فيه ، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين.

ودخول حرف (إنّ) في خبر (إن) يفيد تأكيدا على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله : (يَوْمَ الْفَصْلِ) على حد قول جرير :

إنّ الخليفة إنّ الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

ومنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كما تقدم في سورة الحج [١٧] ، وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) [النبأ : ١٨].

والتعبير ب «الطّاغين» إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول : «لكم مآبا».

ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلّب ما ذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) الآية. وعليه فليس في قوله : (لِلطَّاغِينَ) تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.

وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.

وجهنم : اسم لدار العذاب في الآخرة. قيل : وهو اسم معرّب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) في سورة البقرة [٢٠٦].

والمرصاد : مكان الرصد ، أي الرقابة ، وهو بوزن مفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مضمار للموضع الذي تضمّر فيه الخيل ، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.

والمعنى : أن جهنم موضع يرصد منه الموكّلون بها ، ويترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتيه من عدوّ.

٣١

ويجوز أن يكون مرصاد مصدرا على وزن المفعال ، أي رصدا. والإخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد ، أي لا تفلت أحدا ممن حق عليهم دخولها.

ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار ، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه (ها) التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد ، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلا.

ومتعلق : (مِرْصاداً) محذوف دل عليه قوله : (لِلطَّاغِينَ مَآباً)

والتقدير : مرصادا للطاغين ، وهذا أحسن لأن قرائن السورة قصار فيحسن الوقف عند (مِرْصاداً) لتكون قرينة.

ولك أن تجعل (لِلطَّاغِينَ) متعلقا ب (مِرْصاداً) وتجعل متعلق (مَآباً) مقدرا دل عليه (لِلطَّاغِينَ) فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقية لما في القرينة الأولى في القرينة الموالية فتكون القرينة طويلة.

ولو شئت أن تجعل (لِلطَّاغِينَ) متنازعا فيه بين (مِرْصاداً) أو (مَآباً) فلا مانع من ذلك معنى.

وأقحم (كانَتْ) دون أن يقال : إن جهنم مرصاد للدلالة على أن جعلها مرصادا أمر مقدر لها كما تقدم في قوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧]. وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعدّ في أزله عقابا للطّاغين.

و (مَآباً) : مكان الأوب وهو الرجوع ، أطلق على المقر والمسكن إطلاقا أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسما للموضع الذي يستقر به المرء.

ونصب (مَآباً) على الحال من (جَهَنَّمَ) أو على أنه خبر ثان لفعل (كانَتْ) أو على أنه بدل اشتمال من (مِرْصاداً) لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم.

و (لِلطَّاغِينَ) متعلق ب (مَآباً) قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله ، وهذا أحسن كما علمت آنفا. ولك أن تجعله متعلقا ب (مِرْصاداً) أو متنازعا فيه بين (مِرْصاداً) و (مَآباً) كما علمت آنفا.

٣٢

والطغيان : تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكبر ، والتعريف فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) [النبأ : ١٨] فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أنفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٧ ، ٢٨]. هذا وأن المسلمين المستخفّين بحقوق الله ، أو المعتدين على الناس بغير حق ، واحتقارا لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.

واللابث : المقيم بالمكان. وانتصب (لابِثِينَ) على الحال من الطاغين.

وقرأه الجمهور (لابِثِينَ) على صيغة جمع لابث. وقرأه حمزة وروح عن يعقوب لبثين على صيغة جمع (لبث) من أمثلة المبالغة مثل حذر على خلاف فيه ، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللّبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه.

وأحقاب : جمع حقب بضمتين ، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة ، وتقدم في قوله: (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) في سورة الكهف [٦٠].

وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحقب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين ، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.

وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين ، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدّين في أعمالهم.

[٢٤ ـ ٢٦] (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦))

هذه الجملة يجوز أن تكون حالا ثانية من (الطاغين) [النبأ : ٢٢] أو حالا أولى من الضمير في (لابِثِينَ) [النبأ : ٢٣] وأن تكون خبرا ثالثا : ل (كانَتْ مِرْصاداً) [النبأ : ٢١].

٣٣

وضمير (فِيها) على هذه الوجوه عائد إلى (جَهَنَّمَ) [النبأ : ٢١].

ويجوز أن تكون صفة ل (أَحْقاباً) [النبأ : ٢٣] ، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا. فضمير (فِيها) على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب.

وحقيقة الذوق : إدراك طعم الطعام والشراب. ويطلق على الإحساس بغير الطعوم إطلاقا مجازيا. وشاع في كلامهم ، يقال : ذاق الألم ، وعلى وجدان النفس كقوله تعالى : (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) [المائدة : ٩٥]. وقد استعمل هنا في معنييه حيث نصب (بَرْداً) و (شَراباً).

والبرد : ضد الحرّ ، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر ، أي لا يغاثون بنسيم بارد ، والبرد ألذّ ما يطلبه المحرور. وعن مجاهد والسدّي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم وأنشدوا شاهدين غير واضحين ، وأيّا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه ، وعطف (وَلا شَراباً) يناكده. والشراب : ما يشرب والمراد به الماء الذي يزيل العطش. والحميم : الماء الشديد الحرارة.

والغساق : قرأه الجمهور بتخفيف السين : وقرأه حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين وهما لغتان فيه. ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المهل ، وتقدما في سورة (ص).

واستثناء (حَمِيماً وَغَسَّاقاً) من (بَرْداً) أو (شَراباً) على طريقة اللف والنشر المرتب ، وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحرّ ، ولأن الغساق ليس من جنس الشراب ، إذ ليس المهل من جنس الشراب.

والمعنى : يذوقون الحميم إذ يراق على أجسادهم ، والغساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم.

وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة.

و (جَزاءً) منصوب على الحال من ضمير (يَذُوقُونَ) ، أي حالة كون ذلك جزاء ، أي مجازى به ، فالحال هنا مصدر مؤول بمعنى الوصف وهو أبلغ من الوصف.

والوفاق : مصدر وافق وهو مؤول بالوصف ، أي موافقا للعمل الذي جوزوا عليه ، وهو التكذيب بالبعث وتكذيب القرآن كما دل عليه التعليل بعده بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا لا

٣٤

يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) [النبأ : ٢٧ ، ٢٨].

فإن ذلك أصل إصرارهم على الكفر ، وهما أصلان : أحدهما عدميّ وهو إنكار البعث ، والآخر وجوديّ وهو نسبتهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن للكذب ، فعوقبوا على الأصل العدمي بعقاب عدمي وهو حرمانهم من البرد والشراب ، وعلى الأصل الوجودي بجزاء وجودي وهو الحميم يراق على أجسادهم والغساق يمرّ على جراحهم.

[٢٧ ، ٢٨] (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨))

موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) إلى قوله (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢١ ـ ٢٦] ، ولذلك فصلت.

وضمير (إِنَّهُمْ) عائد إلى (الطاغين) [النبأ : ٢٢].

وحرف (إنّ) للاهتمام بالخبر وليست لرد الإنكار إذ لا ينكر أحد أنهم لا يرجون حسابا وأنهم مكذبون بالقرآن وشأن (إنّ) إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] وقوله : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) في سورة البقرة [٧٠] فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة (فَذُوقُوا) [النبأ : ٣٠].

وقد علمت مناسبة جزائهم لجرمهم عند قوله آنفا : (جَزاءً وِفاقاً) [النبأ : ٢٦] مما يزيد وجه التعليل وضوحا.

وقوله : (لا يَرْجُونَ حِساباً) نفي لرجائهم وقوع الجزاء.

والرجاء اشتهر في ترقب الأمر المحبوب ، والحساب ليس خيرا لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه ، فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء ، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامع بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه ، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضا بالمسلمين وهي أيضا تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء.

٣٥

ومن المفسرين من فسر (يَرْجُونَ) بمعنى : يخافون ، وهو تفسير بحاصل المعنى ، وليس تفسيرا للّفظ.

وفعل (كانُوا) دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من نفوسهم وهم كائنون عليه ، وليس المراد بفعل (كانُوا) أنهم كانوا كذلك فانقضى لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة.

وجيء بفعل (يَرْجُونَ) مضارعا للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء ، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذكر يوم الحساب جدّدوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].

والحساب : العدّ ، أي عدّ الأعمال والتوقيف على جزائها ، أي لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر.

و (كَذَّبُوا) عطف على (لا يَرْجُونَ) ، أي وإنهم كذبوا بآياتنا ، أي بآيات القرآن.

والمعنى : كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية ، ورسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].

وكذّاب : بكسر الكاف وتشديد الذال مصدر كذّب. والفعّال بكسر أوله وتشديد عينه مصدر فعّل مثل التفعيل ، ونظائره : القصّار مصدر قصّر ، والقضّاء مصدر قضّى ، والخرّاق مصدر خرّق المضاعف ، والفسار مصدر فسّر. وعن الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية ، يريد : وتكلم به العرب ، فقد أنشدوا لبعض بني كلاب :

لقد طال ما ثبّطتني عن صحابتي

وعن حوج قضّاؤها من شفائيا

وأوثر هذا المصدر هنا دون تكذيب لمراعاة التماثل في فواصل هذه السورة ، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي ، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي.

وفي «الكشاف» : وفعّال فعّل كلّه فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره.

وانتصب (كِذَّاباً) على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات.

٣٦

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩))

اعتراض بين الجمل التي سيقت مساق التعليل وبين جملة (فَذُوقُوا) [النبأ : ٣٠] وفائدة هذا الاعتراض المبادرة بإعلامهم أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فلا يدع شيئا من سيئاتهم إلا يحاسبهم عليه ما ذكر هنا وما لم يذكر ؛ كأنه قيل : إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا ، وفعلوا مما عدا ذلك وكل ذلك محصي عندنا.

ونصب (كُلَ) على المفعولية ل (أَحْصَيْناهُ) على طريقة الاشتغال بضميره.

والإحصاء : حساب الأشياء لضبط عددها ، فالإحصاء كناية عن الضبط والتحصيل.

وانتصب (كِتاباً) على المفعولية المطلقة ل (أَحْصَيْناهُ) والتقدير : إحصاء كتابة ، فهو مصدر بمعنى الكتابة ، وهو كناية عن شدة الضبط لأن الأمور المكتوبة مصونة عن النسيان والإغفال ، فباعتبار كونه كناية عن الضبط جاء مفعولا مطلقا ل (أحصينا).

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

الفاء للتفريع والتسبب على جملة (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) [النبأ : ٢١] وما اتصل بها ، ولمّا غيّر أسلوب الخبر إلى الخطاب بعد أن كان جاريا بطريق الغيبة ، ولم يكن مضمون الخبر مما يجري في الدنيا فيظن أنه خطاب تهديد للمشركين تعيّن أن يكون المفرع قولا محذوفا دلّ عليه (ذوقوا) الذي لا يقال إلا يوم الجزاء ، فالتقدير : فيقال لهم ذوقوا إلى آخره ، ولهذا فليس في ضمير الخطاب التفات فالمفرع بالفاء هو فعل القول المحذوف.

والأمر في «ذوقوا» مستعمل في التوبيخ والتقريع.

وفرع على (فَذُوقُوا) ما يزيد تنكيدهم وتحسيرهم بإعلامهم بأن الله سيزيدهم عذابا فوق ما هم فيه.

والزيادة : ضمّ شيء إلى غيره من جنس واحد أو غرض واحد ، قال تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] وقال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) [نوح : ٢٨] ، أي لا تزدهم على ما هم فيه من المساوي إلا الإهلاك.

فالزيادة المنفية في قوله : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) يجوز أن تكون زيادة نوع آخر من

٣٧

عذاب يكون حاصلا لهم كما في قوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨].

ويجوز أن تكون زيادة من نوع ما هم فيه من العذاب بتكريره في المستقبل.

والمعنى : فسنزيدكم عذابا زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل ، فصيغ التعبير عن هذا المعنى بهذا التركيب الدقيق ، إذ ابتدئ بنفي الزيادة بحرف تأبيد النفي وأردف الاستثناء المقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى فصارت دلالة الاستثناء على معنى : سنزيدكم عذابا مؤبدا. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو أسلوب طريف من التأكيد إذ ليس فيه إعادة لفظ فإن زيادة العذاب تأكيد للعذاب الحاصل.

ولما كان المقصود الوعيد بزيادة العذاب في المستقبل جيء في أسلوب نفيه بحرف نفي المستقبل ، وهو (لن) المفيد تأكيد النسبة المنفية وهي ما دلّ عليه مجموع النفي والاستثناء ، فإن قيد تأبيد نفي الزيادة الذي يفيده حرف (لن) في جانب المستثنى منه يسري إلى إثبات زيادة العذاب في جانب المستثنى ، فيكون معنى جملة الاستثناء : سنزيدكم عذابا أبدا ، وهو معنى الخلود في العذاب. وفي هذا الأسلوب ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس وذلك أشد حزنا وغما بما يوهمهم أن ما ألقوا فيه هو منتهى التعذيب حتى إذا ولج ذلك أسماعهم فحزنوا له ، أتبع بأنهم ينتظرهم عذاب آخر أشدّ ، فكان ذلك حزنا فوق حزن ، فهذا منوال هذا النظم وهو مؤذن بشدة الغضب.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي برزة الأسلمي وأبي هريرة : أن هذه الآية أشدّ ما نزل في أهل النار ، وقد أسند هذا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حديث عن أبي برزة الأسلمي. قال : «سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشدّ آية في كتاب الله على أهل النار؟ فقال : قول الله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) وفي سنده جسر بن فرقد وهو ضعيف جدا. وفي «ابن عطية» : أن أبا هريرة رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يذكر ابن عطية سنده ، وتعدد طرقه يكسبه قوة.

[٣١ ـ ٣٦] (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦))

جرى هذا الانتقال على عادة القرآن في تعقيب الإنذار للمنذرين بتبشير من هم أهل للتبشير.

٣٨

فانتقل من ترهيب الكافرين بما سيلاقونه إلى ترغيب المتقين فيما أعدّ لهم في الآخرة من كرامة ومن سلامة مما وقع فيه أهل الشرك.

فالجملة متصلة بجملة (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) [النبأ : ٢١ ـ ٢٢] وهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا بمناسبة مقتضي الانتقال.

وافتتاحها بحرف (إِنَ) للدلالة على الاهتمام بالخبر لئلا يشك فيه أحد.

والمقصود من المتقين المؤمنون الذين آمنوا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه لأنهم المقصود من مقابلتهم بالطاغين المشركين.

والمفاز : مكان الفوز وهو الظفر بالخير ونيل المطلوب. ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الفوز ، وتنوينه للتعظيم.

وتقديم خبر (إِنَ) على اسمها للاهتمام به تنويها بالمتقين.

والمراد بالمفاز : الجنة ونعيمها. وأوثرت كلمة (مَفازاً) على كلمة : الجنة ، لأن في اشتقاقه إثارة الندامة في نفوس المخاطبين بقوله : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) [النبأ : ١٨] وبقوله: (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠].

وأبدل (حَدائِقَ) من (مَفازاً) بدل بعض من كل باعتبار أنه بعض من مكان الفوز ، أو بدل اشتمال باعتبار معنى الفوز.

والحدائق : جمع حديقة وهي الجنة من النخيل والأشجار ذوات الساق المحوطة بحائط أو جدار أو حضائر.

والأعناب : جمع عنب وهو اسم يطلق على شجرة الكرم ويطلق على ثمرها.

والكواعب : جمع كاعب ، وهي الجارية التي بلغت سن خمس عشرة سنة ونحوها. ووصفت بكاعب لأنها تكعّب ثديها ، أي صار كالكعب ، أي استدار ونتأ ، يقال : كعبت من باب قعد ، ويقال : كعّبت بتشديد العين ، ولما كان كاعب وصفا خاصا بالمرأة لم تلحقه هاء التأنيث وجمع على فواعل.

والأتراب : جمع ترب بكسر فسكون : هو المساوي غيره في السنّ ، وأكثر ما يطلق على الإناث. قيل : هو مشتق من التراب فقيل لأنه حين يولد يقع على التراب مثل الآخر ، أو لأن الترب ينشأ مع لدته في سنّ الصّبا يلعب بالتراب.

٣٩

وقيل : مشتق من الترائب تشبيها في التساوي بالترائب وهي ضلوع الصدر فإنها متساوية.

وتقدم الأتراب في قوله تعالى : (عُرُباً أَتْراباً) في الواقعة [٣٧] ، فيجوز أن يكون وصفهن بالأتراب بالنسبة بينهن في تساوي السن لزيادة الحسن ، أي لا تفوت واحدة منهن غيرها ، أي فلا تكون النفس إلى إحداهن أميل منها إلى الأخرى فتكون بعضهن أقل مسرة في نفس الرجل.

ويجوز أن يكون هذا الوصف بالنسبة بينهن وبين أزواجهن لأن ذلك أحب إلى الرجال في معتاد أهل الدنيا لأنه أوفق بطرح التكلف بين الزوجين وذلك أحلى المعاشرة.

والكأس : إناء معدّ لشرب الخمر وهو اسم مؤنث تكون من زجاج ومن فضة ومن ذهب ، وربما ذكر في كتب اللغة أن الكأس الزجاجة فيها الشراب ، ولم أقف على أن لها شكلا معيّنا يميزها عن القدح وعن الكوب وعن الكوز ، ولم أجد في قواميس اللغة التعريف بالكأس بأنها : إناء الخمر وأنها الإناء ما دام فيه الشراب. وهذا يقتضي أنها لا تختص بصنف من الآنية.

وقد يطلقون على الخمر اسم الكأس وأريد بالكأس الجنس إذا المعنى : وأكؤسا. وعدل عن صيغة الجمع لأن كأسا بالإفراد أخف من أكؤس وكئوس ولأن هذا المركّب جرى مجرى المثل كما سيأتي.

ودهاق : اسم مصدر دهق من باب جعل أو اسم مصدر أدهق ، ولكونه في الأصل مصدرا لم يقترن بعلامة تأنيث.

والدهق والإدهاق ملء الإناء من كثرة ما صبّ فيه.

ووصف الكأس بالدهق من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق فإن الكأس مدهقة لا داهقة.

ومركب (كأس دهاق) يجري مجرى المثل قال عكرمة : قال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأسا دهاقا ، ولذلك أفرد «كأسا» ، ومعناه مملوءة خمرا ، أي دون تقتير لأن الخمر كانت عزيزة فلا يكيل الحانوي للشارب إلا بمقدار فإذا كانت الكأس ملأى كان ذلك أسر للشارب.

٤٠