تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

لأن بعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناس ، وإذا نسي استبعد الناس وقوعه ، فالتذكير يزيل الاستبعاد.

فهذه العبر جزئيات من مضمون جواب القسم ، فإن كان محذوفا فذكرها دليله ، وإن كان الجواب قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه ، وإيذانا بجنس الجواب من قبل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرّره في الأذهان.

والرؤية في (أَلَمْ تَرَ) يجوز أن تكون رؤية علمية تشبيها للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المثل فكأنها مشاهدة. فتكون (كَيْفَ) استفهاما معلّقا فعل الرؤية عن العمل في مفعولين.

ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى : ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد ، وتكون (كَيْفَ) اسما مجرّدا عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية.

وعدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله : (فَعَلَ رَبُّكَ) لما في وصف رب من الإشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه.

وقد ابتدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذكر بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه‌السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدّثون العرب عنها.

وأريد ب «عاد» الأمة لا محالة قال تعالى : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) [هود : ٥٩] فوجه صرفه أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثل هند ونوح وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرم بن سام بن نوح وهو جد عاد لأن عادا هو ابن عوص بن إرم ، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة ، فهو عطف بيان ل «عاد» للإشارة إلى أن المراد ب «عاد» القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم ، وهم عاد الموصوفة ب (الْأُولى) في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] لئلا يتوهم أن المتحدّث عنهم قبيلة أخرى تسمى عادا أيضا. كانت تنزل مكة مع العماليق يقال : إنهم بقية من عاد الأولى فعاد وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى. ووصفت عاد ب (ذاتِ الْعِمادِ) ، و (ذاتِ) وصف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة.

والعماد : عود غليظ طويل يقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دعامة ، وهو هنا مستعار للقوة تشبيها للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد.

٢٨١

وإطلاق العماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم :

ونحن إذا عماد الحيّ خرّت

على الأحفاض نمنع من يلينا

ويجوز أن يكون المراد ب (الْعِمادِ) الأعلام التي بنوها في طرقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورة في قوله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) [الشعراء : ١٢٨].

ووصفت عاد ب (ذاتِ الْعِمادِ) لقوتها وشدتها ، أي قد أهلك الله قوما هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣] وقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [غافر : ٢١].

و (الَّتِي) : صادق على «عاد» بتأويل القبيلة كما وصفت ب (ذاتِ الْعِمادِ) والعرب يقولون : تغلب ابنة وائل ، بتأويل تغلب بالقبيلة.

و (الْبِلادِ) : جمع بلد وبلدة وهي مساحة واسعة من الأرض معيّنة بحدود أو سكان.

والتعريف في (الْبِلادِ) للجنس والمعنى : التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض. وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد روي أنهم كانوا طوالا شدادا أقوياء ، وكانوا أهل عقل وتدبير ، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد ، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة.

والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العرفي ، أي في بلدان العرب وقبائلهم.

وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) قصة مكذوبة فزعموا أن (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) مركب جعل اسما لمدينة باليمن أو بالشام أو بمصر ، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة ، وتقوّلوا أن أعرابيا يقال له : عبد الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاه في ابتغاء إبل له فاطّلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجد فيه المدينة فلم يجدوا شيئا. وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمها إرم ويتبع بذات العماد بفتح (إِرَمَ) وكسر (ذاتِ) فلو كان الاسم مركبا مزجيا لكان بناء جزأيه على الفتح ، وإن كان الاسم مفردا و (ذاتِ) صفة له فلا وجه لكسر (ذاتِ) ، على أن موقع هذا الاسم عقب قوله تعالى : (بِعادٍ) يناكد ذلك كله.

ومنع (ثَمُودَ) من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة ، ووصف باسم الموصول لجمع المذكّر في قوله : (الَّذِينَ جابُوا) دون أن يقول التي جابت الصخر بتأويل القوم

٢٨٢

فلما وصف عدل عن تأنيثه تفننا في الأسلوب.

ومعنى (جابُوا) : قطعوا ، أي نحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتا كما قال تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) [الشعراء : ١٤٩] وقد قيل : إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام.

و (الصَّخْرَ) : الحجارة العظيمة.

والواد : اسم لأرض كائنة بين جبلين منخفضة ، ومنه سمي مجرى الماء الكثير وادا وفيه لغتان : أن يكون آخره دالا ، وأن يكون آخره ياء ساكنة بعد الدال.

وقرأ الجمهور بدون ياء. وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفا ، وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل مثل ما تقدم في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] وهو مرسوم في المصحف بدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسوه.

والواد : علم بالغلبة على منازل ثمود ، ويقال له : وادي القرى ، بإضافته إلى «القرى» التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضا «الحجر» بكسر الحاء وسكون الجيم ، ويقال لها: «حجر ثمود» وهو واد بين خيبر وتيماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام ، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلاد العرب ، ونزله من قبائل العرب قضاعة وجهينة ، وعذرة وبليّ.

وكان غزاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصولحت اليهود على جزية.

والباء في قوله : (بِالْوادِ) للظرفية.

والمراد ب (فِرْعَوْنَ) هو وقومه.

ووصف (ذِي الْأَوْتادِ) لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق ، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعارا للتمكن والثبات ، أي ذي القوة على نحو قوله : (ذاتِ الْعِمادِ) ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) في ص [١٢].

وقوله : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) يجوز أن يكون شاملا لجميع المذكورين عاد وثمود

٢٨٣

وفرعون. ويجوز أن يكون نعتا لفرعون لأن المراد هو وقومه.

والطغيان شدّة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طغوا في بلدهم ؛ ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل إلى فساد الجميع بسنّ سنن السوء ، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله : (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) لأن الطغيان يجرّئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملئه ، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه ، وذلك فساد عظيم ، لأن به اختلال الشرائع الإلهيّة والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطغيّ عليه من الرعية فيضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكون رجال الدولة متوجّسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحذرونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتّحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم ، فلا جرم كان الطغيان سببا لكثرة الفساد.

ويجوز أن يكون التعريف في (الْبِلادِ) تعريف العهد ، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع ، أي طغت كل أمة في بلادها.

و (الْفَسادَ) : سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) [البقرة : ٢٠٥]. وضد الفساد الصلاح قال تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الأعراف : ٥٦] وكان ما أكثروه من الفساد سببا في غضب الله عليهم ، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب.

والصب حقيقته : إفراغ ما في الظرف ، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتسل أو يصب المطر على الأرض ، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارة الإفراغ في قوله تعالى : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) [البقرة: ٢٥٠] ونظير الصب قولهم : شن عليهم الغارة.

وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذابا مفاجئا قاضيا.

فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير.

٢٨٤

وأما ثمود أخذتهم الصيحة.

وأما فرعون فحسبوا البحر منحسرا فما راعهم إلا وقد أحاط بهم.

والسوط : آلة ضرب تتخذ من جلود مضفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحملها على المزيد في الجري.

وعن الفراء أن كلمة (سَوْطَ عَذابٍ) يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط (أي يقع بالسوط) ، يريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك.

وإضافة (سَوْطَ) إلى (عَذابٍ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي صب عليهم عذابا سوطا ، أي كالسوط في سرعة الإصابة فهو تشبيه بليغ.

وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) تذييل وتعليل لإصابتهم بسوط عذاب إذا قدّر جواب القسم محذوفا. ويجوز أن تكون جواب القسم كما تقدم آنفا.

فعلى كون الجملة تذييلا تكون تعليلا لجملة (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحا للمعاندين بما عرّض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأولين. أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد.

وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدوّ ونحوه ، وهو المقسم عليه وما قبله اعتراضا تفننا في نظم الكلام إذ قدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) إلخ ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذ يجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلة إذا كان الكلام صالحا للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدّم والمبادرة به.

والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى (رَبُّكَ) في قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) إيماء إلى أن فاعل ذلك ربه الذي شأنه أن ينتصر له ، فهو مؤمّل بأن يعذب الذين كذبوه انتصارا له انتصار المولى لوليّه.

والمرصاد : المكان الذي يترقب فيه الرّصد ، أي الجماعة المراقبون شيئا ، وصيغة مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة ، فمعنى الآلة هنا غير محتمل ، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب.

٢٨٥

وتعريف «المرصاد» تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلّق ، أي بالمرصاد لكل فاعل ، فهو تمثيل لعموم علم الله تعالى بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم ، بحال اطلاع الرصد على تحركات العدوّ والمغيرين ، وهذا المثل كناية عن مجازاة كل عامل بما عمله وما يعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاء على العدوان ، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به.

والباء في قوله (لَبِالْمِرْصادِ) للظرفية.

[١٥ ـ ٢٠] (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠))

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١٦).

(كَلَّا) دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة.

ودلت (أمّا) على معنى : مهما يكن من شيء ، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالها ، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبل الفاء المتصلة بها ، فلاح ذلك برقا وامضا ، وانجلى بلمعة ما كان غامضا ، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفيا ، فلنبينه بيانا جليّا ، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع به الأمم الممثّل بها مما أنعم الله عليها به من النعم ، وهم لاهون عن دعوة رسل الله ، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم ، مقتحمون المناكر التي نهوا عنها ، بطرون بالنعمة ، معجبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا ، باستخلاص فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا ، باستخلاص العبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك ترفا وطغيانا وبطرا ، وتنبيههم على خطاهم إذ كانت لهم من حال الترف والنعمة شبهة توهّموا بها أن الله جعلهم محل كرامة ، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة ، فتوهموا أنّ فعل الله بهم أدلّ على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه ، ونفوا أن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده ، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا ، فكان هذا

٢٨٦

الوهم مسوّلا لهم التكذيب بما أنذروا به من وعيد ، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة ، فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقتر الرزق. وقد تكرر في القرآن التعرض لإبطال ذلك كقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ، ٥٦].

وقد تضمن هذا الوهم أصولا انبنى عليها ، وهي : إنكار الجزاء في الآخرة ، وإنكار الحياة الثانية ، وتوهم دوام الأحوال.

ففاء التفريع مرتبطة بجملة : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤] بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلا.

والمعنى : هذا شأن ربك الجاري على وفق علمه وحكمته.

فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسعة في الدنيا تكريما من الله له ، وما يناله من ضيق عيش إهانة أهانه الله بها.

وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [فصلت: ٥٠].

فأعلم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية ، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية ، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر ، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالبا على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية :

مجلّتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

ولا يحسبون الخير لا شرّ بعده

ولا يحسبون الشرّ ضربة لازب

وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله : (كَلَّا) فمناط الردع والإبطال كلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالّة كما ستعرفه عند قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ).

٢٨٧

واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلل والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هرم فيهم وفي ذويهم ، قال النابغة :

تغشى متالف لا ينظرنك الهرما

ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نظم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابن عطية.

وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية ، قال طرفة :

فلو شاء ربّي كنت قيس بن عاصم

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي

بنون كرام سادة لمسوّد

وجعلوا هذا الغرور مقياسا لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة ، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس ، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده عمّار ، وبلال ، وخباب ، وسالم ، مولى أبي حذيفة ، وصبيح مولى أسيد ، وصهيب ، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم أن نتبعك. وقالوا لأبي طالب : لو أن ابن أخيك طرد هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأدلى لاتّباعنا إياه. وفي ذلك نزل قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) الآية كما تقدم في سورة الأنعام [٥٢].

فنبه الله على خطإ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثله ممّا اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجبا صب العذاب عليهم ، وأعلمهم أن أحوال الدنيا لا تتخذ أصلا في اعتبار الجزاء على العمل ، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة.

والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عرفي مراد به الناس المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧] (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) [البلد : ٤ ، ٥] ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣] الآية.

وقيل : أريد إنسان معين ، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن الغيرة عن ابن عباس،

٢٨٨

وقيل : أمية بن خلف عن مقاتل والكلبي ، وقيل : أبيّ بن خلف عن الكلبي أيضا وإنما هؤلاء المسمّون أعلام التضليل. قال ابن عطية : ومن حيث كان هذا غالبا على الكفّار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع (كذا) بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع ا ه.

واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفته منافع ذلك ، تحكيما للشاهية ومحبة النفس ورجما بالغيب وافتياتا على الله ، وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلب له ضرّا تخيّله بأوهامه انتقاما من الله قصده به ، تشاؤما منهم.

فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراما من الله لهم ليسوا أهلا لكرامة الله.

وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الزرق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما هم فيه من نعمة.

فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرف أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك ، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنة من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد بن الرّاوندي (١). عن تزلزل فهمهم وقلة علمهم بقوله :

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأفهام حائرة

وصيّر العالم النحرير زنديقا

وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها ، وصرفهم عن التدبر فيما ينيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه ، وعلم الله واسع وتصرفاته شتّى وكلها صادرة عن حكمة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥]. فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى. وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد ، ومنه ما فيه سمة خرق العادة. فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد ، والموفق يتيقظ للأمارات

__________________

(١) هو أحمد بن يحيى أبو الحسين ابن الراوندي بواو مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى راوند قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان. كان من المعتزلة ثم صار ملحدا توفي سنة خمسين ومائتين ، وقيل سنة خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وتسعين.

٢٨٩

قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] وقال : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [الأعراف : ٩٤ ، ٩٥] وقال : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة : ١٢٦].

وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعضها جار على ما قدّره من نظام العالم وكلّ قد قضاه وقدّره وسبق علمه به وربط مسبباته بأسبابه مباشرة أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهمه ولم تنهض دلائله ، ويفوّض ما أشكل عليه إلى علم الله. وليس مثل هذا المحكيّ عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية. وقد نجد في بعض العوام ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية.

لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧]. وقد يعجّل العقاب لمن يغضب عليه من عباده. وقد حكى عن نوح قوله لقومه : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٠ ـ ١٢] وقال تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) [الجن : ١٦]. ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء على الأمم العظيمة القاهرة. وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه.

وحرف (أما) يفيد تفصيلا في الغالب ، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذوات وأحوال. ولذلك قد تكرر في الكلام ، فليس التفصيل المستفاد منها بمعنى تبيين مجمل قبلها ، بل هو تفصيل وتقابل وتوازن ، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له (أمّا) ، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على (أما) ، وإنما تعلقه بما قبله تعلّق المفرع بمنشئه لا تفصيل بيان على مجمل.

فالمفصل هنا أحوال الإنسان الجاهل فصّلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبّر عنهما بالظرفين في قوله : (إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ) إلخ وفي قوله : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) إلخ. وهذا التفصيل ليس من

٢٩٠

قبيل تبيين المجمل ولكنه تمييز وفصل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط.

وقد تقدم ذكر (أمّا) عند قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) الآية في سورة البقرة [٢٦].

والابتلاء : الاختبار ويكون بالخير وبالضرّ لأن في كليهما اختبارا لثبات النفس وخلق الأناة والصبر قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين ، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضا. قال تعالى : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل : ٤٠] وقال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] والأشهر أنه الاختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين.

والمعنى : إذا جعل ربّه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهرا لحاله في الشكر والكفر ، وفي الصبر والجزع ، توهّم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا.

والإكرام : قال الراغب : أن يوصل إلى الإنسان كرامة ، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة ، وأن يجعل ما يوصل إليه شيئا كريما ، أي شريفا قال تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ، أي جعلهم كراما ا ه يريد أن الإكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريما في صنفه فيصدق قوله تعالى : (فَأَكْرَمَهُ) بأن يصيب الإنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه ، أو بأن جعل كريما سيدا شريفا. وقوله : (فَأَكْرَمَهُ) من المعنى الأول للإكرام وقوله : (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله : (وَنَعَّمَهُ) صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظا لهم ومعاملة بالرحمة ، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر منعم عليه في الدنيا ، وهو قول الماتريدي والباقلاني. وهذا مما اختلف فيه الأشعري والماتريدي والخلف لفظي.

ومعنى (نَعَّمَهُ) جعله في نعمة ، أي في طيب عيش.

ومعنى : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أعطاه بقدر محدود ، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضا عن الدال ، وكلّ ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) [الشورى : ٢٧].

والهاء في (رِزْقَهُ) يجوز أن تعود إلى (الْإِنْسانُ) من إضافة المصدر إلى المفعول ،

٢٩١

ويجوز أن تعود إلى (رَبُّهُ) من إضافة المصدر إلى فاعله.

والإهانة : المعاملة بالهون وهو الذل.

وإسناد (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ... فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت للإنسان أو انساق له قدر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعض الحوادث بعضا ، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فرصها ومناسباتها.

والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم ، وإنما يتكلم الإنسان عن اعتقاد. فالمعنى : فيقول ربي أكرمني ، معتقدا ذلك ، ويقول : ربي أهانني ، معتقدا ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة ، أو يتذمروا من الضيق والحاجة ، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥] ، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم.

وتقديم (رَبِّي) على فعل (أَكْرَمَنِ) وفعل (أَهانَنِ) ، دون أن يقول : أكرمني ربي أو أهانني ربي ، لقصد تقوّي الحكم ، أي يقول ذلك جازما به غير متردد.

وجملتا : (فَيَقُولُ) في الموضعين جوابان ل (أَمَّا) الأولى والثانية ، أي يطرد قول الإنسان هذه المقالة كلّما حصلت له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق.

وأوثر الفعل المضارع في الجوابين لإفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين.

وحرف (كَلَّا) زجر عن قول الإنسان (رَبِّي أَكْرَمَنِ) عند حصول النعمة. وقوله: (رَبِّي أَهانَنِ) عند ما يناله تقتير ، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كلا القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل ، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلا على منزلته عند الله تعالى. وإنما يعرف مراد الله بالطرق التي أرشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) إلى قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) في سورة الكهف [١٠٣ ـ ١٠٥]. فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه.

فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير

٢٩٢

علامة على إرادة الإهانة ، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة لأن الله أهان الكافر بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق.

وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإنسان بقوله : (فَأَكْرَمَهُ) وبين إبطال ذلك بقوله : (كَلَّا) لأن الإبطال وارد على ما قصده الإنسان بقوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) أن ما ناله من النعمة علامة على رضى الله عنه.

فالمعنى : أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسرارا وعللا لا يحاط بها ، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقيسة وهمية ، والاستناد لمألوفات عادية ، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية ، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله. وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها. وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها.

وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها ، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ربي في الموضعين بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها.

وقرأ الجمهور (فَقَدَرَ عَلَيْهِ) بتخفيف الدال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال.

وقرأ نافع : (أَكْرَمَنِ) ، و (أَهانَنِ) بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف.

وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف ، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف. وهو مرسوم في المصحف بدون نون بعد الياءين ولا منافاة بين الرواية واسم المصحف. و (كَلَّا) ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسببا على إرادة الله تكريم الإنسان ولا على إرادته إهانته. وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤] بعد قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) [الفجر : ١٣].

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ١٨ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا ١٩ وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا ٢٠)

٢٩٣

(بَلْ) إضراب انتقالي. والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقل إليه مناسبة المقابلة لمضمون (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) من جهة ما توهموه أن نعمة مالهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم ، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يكرموا عبيده شحّا بالنعمة إذ حرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحتاجون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل.

فجملة : (لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) استئناف كما يقتضيه الإضراب ، فهو إمّا استئناف ابتداء كلام ، وإما اعتراض بين (كَلَّا) وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم : سد خلته ، وحسن معاملته ، لأنه مظنة الحاجة لفقد عائله ، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباء لأبنائهم الصغار. وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات.

والبرّ ، لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يدلّ هو عليه.

و (الْيَتِيمَ) : الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء ، وتعريفه للجنس ، أي لا تكرمون اليتامى. وكذلك تعريف (الْمِسْكِينِ)

ونفي الحض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى ، وهي دلالة فحوى الخطاب ، أي لقلّة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفع وساطة ، بله أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم.

و (طَعامِ) يجوز أن يكون اسما بمعنى المطعوم ، فالتقدير : ولا تحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم. والمعنى : ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكين فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله.

و (الْمِسْكِينِ) : الفقير وتقدم في سورة براءة.

وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نفي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضّوا على طعام المسكين ، علم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم ، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك ، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم.

ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغبا في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله ، ومنه قوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ٣] أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما.

٢٩٤

وقرأ الجمهور : «لا تكرمون ، ولا تحضون ، وتأكلون ، وتحبون» بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة. وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين بذلك فضحا لدخائلهم على نحو قوله تعالى : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد : ٦ ، ٧].

وقرأ الجمهور : ولا تحضون بضم الحاء مضارع حضّ ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف (تَحَاضُّونَ) بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاضّ بعضهم بعضا ، وأصله تتحاضّون فحذفت إحدى التاءين اختصارا للتخفيف أي تتمالئون على ترك الحض على الإطعام.

و (التُّراثَ) : المال الموروث ، أي الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله : وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدّقاق ، والحطام ، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه ، وتخمة ، وتهمة ، وتقاة وأشباهها.

والأكل : مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا. وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.

وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه ، أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم.

وأشعر قوله : (تَأْكُلُونَ) بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه ، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون أن يقال : وتأكلون المال لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة.

واللّمّ : الجمع ، ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة ، أي أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل كقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢].

والجم : الكثير ، يقال : جمّ الماء في الحوض ، إذا كثر ، وبئر جموم بفتح الجيم : كثيرة الماء ، أي حبا كثيرا ، ووصف الحبّ بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس.

فالجمّ مستعار لمعنى القوي الشديد ، أي حبّا مفرطا ، وذلك محل ذم حب المال ، لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق كالغصب والاختلاس

٢٩٥

والسرقة وأكل الأمانات.

[٢١ ـ ٢٦] (كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

(كَلَّا)

زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله ، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين ، وأكلهم التراث الذي هو مال غير آكله ، وعن حب المال حبّا جمّا.

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ٢١ وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ٢٢ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ٢٣ يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ٢٤ فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ٢٥ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ ٢٦)

استئناف ابتدائي انتقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) [الفجر : ٦] الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة. فإن استخفوا بما حلّ بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذابا لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكّرون قسرا فلا ينفعهم التذكر ، ويندمون ولات ساعة مندم.

فحاصل الكلام السابق أن الإنسان الكافر مغرور ينوط الحوادث بغير أسبابها ، ويتوهمها على غير ما بها ولا يصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طول حياته في عماية ، وقد زجروا عن ذلك زجرا مؤكدا.

وأتبع زجرهم إنذارا بأنهم يحين لهم يوم يفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإفاقة.

والمقصود من هذا الكلام هو قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) ، وقوله (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧] ، وأما ما سبق من قوله (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) إلى قوله (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عرّف بإضافة جملة (دُكَّتِ الْأَرْضُ) وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب.

والدّك : الحطم والكسر.

والمراد بالأرض الكرة التي عليها الناس ، ودكّها حطمها وتفرق أجزائها الناشئ عن

٢٩٦

فساد الكون الكائنة عليه الآن ، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] الآية.

و (دَكًّا دَكًّا) يجوز أن يكون أولهما منصوبا على المفعول المطلق المؤكّد لفعله. ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دكّ الجبال ، وإذ قد كان أمرا خارقا للعادة كان المقام مقتضيا تحقيق وقوعه حقيقة دون مجاز ولا مبالغة ، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله : (فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) في سورة الحاقة [١٤] ف (دَكًّا) الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن «دكّتا» الدك أي هو دكّ حقيقي ، و (دَكًّا) الثاني منصوبا على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى إثباته زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي.

وعلى هذا درج الرضي قال : ويستثنى من منع تأكيد النكرات (أي تأكيدا لفظيا) شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكما لا محكوما عليه كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنكاحها باطل باطل باطل». ومثله قوله تعالى : (دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) فهو مثل : ضرب ضرب زيد ا ه.

وهذا يلائم ما في وصف دكّ الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة.

ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبيّن للنوع. وتأويله. أنه دكّ يعقب بعضه بعضا كما تقول : قرأت الكتاب بابا بابا وبهذا المعنى فسّر صاحب «الكشاف» وجمهور المفسرين من بعده. وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي : «قال ابن الحاجب : لعلّه قاله في «أماليه على المقدمة الكافية» وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في «إيضاح المفصل» بينت له حسابه بابا بابا ، أي مفصلا. والعرب تكرر الشيء مرتين» فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دلّ عليه لفظ المكرّر ، فإذا قلت : بيّنت له الكتاب بابا بابا فمعناه بينته له مفصلا باعتبار أبوابه ا ه.

قلت : هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول.

وفي «تفسير الفخر» : وقيل : فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا ترى فيها أمتا

٢٩٧

وتبعه البيضاوي يعني : أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك ، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء.

ولك أن تجعل صفة واحدة مجازا في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها ، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم : هو وحيد قومه ، ووحيد دهره ، فلا يعارض قوله : (دَكًّا دَكًّا) بهذا التفسير. وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغة فاعل فلم يسمع : هو واحد قومه.

وأما قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) ف (صَفًّا) الأول حال من (الْمَلَكُ)

و (صَفًّا) الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف ، أي صفّا بعد صفّ ، أو خلف صفّ ، أو صنفا من الملائكة دون صنف ، قيل : ملائكة كل سماء يكونون صفّا حول الأرض على حدة.

قال الرضي وأما تكرير المنكّر في قولك ، قرأت الكتاب سورة سورة ، وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فليس في الحقيقة تأكيدا إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى. والمعنى : جميع السور وصفوفا مختلفة ا ه. وشذّ من المفسرين من سكت عنه. ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد.

وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي ، أي جاء قضاؤه ، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء.

وأما إسناده إلى الملك فإما حقيقة ، أو على معنى الحضور وأيّا ما كان فاستعمال (جاء) من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته ، أو في مجازيه.

و (الْمَلَكُ) : اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق ، أي والملائكة.

والصف : مصدر صفّ الأشياء إذا جعل الواحد حذو الآخر ، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) [الصف : ٤] وقوله : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) في سورة طه [٦٤].

واستعمال (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كاستعمال مجيء الملك ، أي أحضرت جهنم وفتحت أبوابها فكأنها (جاء) بها جاء والمعنى : أظهرت لهم جهنم قال تعالى : (حَتَّى إِذا

٢٩٨

جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١] وقال : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات: ٣٦] وورد في حديث مسلم عن ابن مسعود يرفعه : «أن لجهنم سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» وهو تفسير لمعنى (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) وأمور الآخرة من خوارق العادات.

وإنما اقتصر على ذكر جهنم لأن المقصود في هذه السورة وعيد الذين لم يتذكروا وإلا فإن الجنة أيضا محضرة يومئذ قال تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩٠ ـ ٩١].

و (يَوْمَئِذٍ) الأول متعلق بفعل (جِيءَ) والتقدير : وجيء يوم تدكّ الأرض دكّا دكّا إلى آخره.

و (يَوْمَئِذٍ) الثاني بدل من (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) والمعنى : يوم تدكّ الأرض دكا إلى آخره يتذكر الإنسان. والعامل في البدل والمبدل منه معا فعل (يَتَذَكَّرُ) وتقديمه للاهتمام مع ما في الإطناب من التشويق ليحصل الإجمال ثم التفصيل مع حسن إعادة ما هو بمعنى (إِذا) لزيادة الربط لطول الفصل بالجمل التي أضيف إليها (إِذا).

و (الْإِنْسانُ) : هو الإنسان الكافر ، وهو الذي تقدم ذكره في قوله تعالى : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) [الفجر : ١٥] الآية فهو إظهار في مقام الإضمار لبعد معاد الضمير.

وجملة : (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) معترضة بين جملة (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) وجملة : (يَقُولُ) إلخ.

و (أَنَّى) اسم استفهام بمعنى : أين له الذكرى ، وهو استفهام مستعمل في الإنكار والنفي ، والكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وأين له نفع الذكرى.

وجملة : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي) إلخ يجوز أن يكون قولا باللسان تحسرا وتندما فتكون الجملة حالا من (الْإِنْسانُ) أو بدل اشتمال من جملة (يَتَذَكَّرُ) فإن تذكره مشتمل على تحسر وندامة. ويجوز أن يكون قوله في نفسه فتكون الجملة بيانا لجملة (يَتَذَكَّرُ).

ومفعول (قَدَّمْتُ) محذوف للإيجاز.

واللام في قوله : (لِحَياتِي) تحتمل معنى التوقيت ، أي قدمت عند أزمان حياتي فيكون المراد الحياة الأولى التي قبل الموت. وتحتمل أن يكون اللام للعلة ، أي قدمت

٢٩٩

الأعمال الصالحة لأجل أن أحيا في هذه الدار. والمراد : الحياة الكاملة السالمة من العذاب لأن حياتهم في العذاب حياة غشاوة وغياب قال تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [الأعلى : ١٣].

وحرف النداء في قوله : (يا لَيْتَنِي) للتنبيه اهتماما بهذا التمني في يوم وقوع.

والفاء في قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) رابطة لجملة (لا يُعَذِّبُ) إلخ بجملة (دُكَّتِ الْأَرْضُ) لما في (إِذا) من معنى الشرط.

والعذاب : اسم مصدر عذّب.

والوثاق : اسم مصدر أوثق.

وقرأ الجمهور (يُعَذِّبُ) بكسر الذال و (يُوثِقُ) بكسر الثاء على أن (أَحَدٌ) في الموضعين فاعل (يُعَذِّبُ) ، و (يُوثِقُ) وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير (عَذابَهُ) عائد إلى الإنسان في قوله : (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) وهو مفعول مطلق مبيّن للنوع على معنى التشبيه البليغ ، أي عذابا مثل عذابه ، وانتفاء المماثلة في الشدة ، أي يعذب عذابا هو أشد عذاب يعذبه العصاة ، أي عذابا لا نظير له في أصناف عذاب المعذّبين على معنى قوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة: ١١٥] والمراد في شدته.

وهذا بالنسبة لبني الإنسان ، وأما عذاب الشياطين فهو أشدّ لأنهم أشد كفرا و (أَحَدٌ) يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحد في سياق النفي يعمّ كل أحد قال تعالى: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] فانحصر الأحد المعذّب (بكسر الذال) في فرد وهو الله تعالى.

وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال يعذب وفتح ثاء يوثق مبنيين للنائب. وعن أبي قلابة قال : «حدثني من أقرأه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ يعذب ويوثق بفتح الذال وفتح الثاء». قال الطبري : وإسناده واه وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواتر القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواتر.

والمعنى : لا يعذّب أحد مثل عذاب ما يعذّب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ ، ولا يوثق أحد مثل وثاقه ، ف (أَحَدٌ) هنا بمنزلة «أحدا» في قوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥].

٣٠٠