تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

من خلق الله وهي نصب أعينهم ، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.

وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم.

وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١))

الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة.

وكون الاستفهام ب (هَلْ) المفيدة معنى (قد) ، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلغ السامع ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) في سورة ص [٢١]. وقوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) في سورة النازعات [١٥].

وتقدم هنالك إطلاق فعل الإتيان على فشو الحديث.

وتعريف ما أضيف إليه (حَدِيثُ) بوصفه (الْغاشِيَةِ) الذي يقتضي موصوفا لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكّن.

والحديث : الخبر المتحدّث به وهو فعيل بمعنى مفعول ، أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال. وتقدم في سورة النازعات.

و (الْغاشِيَةِ) : مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مفرا من أهوالها فكأنها غاش يغشى على عقولهم. ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يكون وصف الغاشية مشتقا منه. ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الاسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة.

و (الْغاشِيَةِ) هنا : علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه (وُجُوهٌ

٢٦١

يَوْمَئِذٍ) [الغاشية : ٢] أي يوم الغاشية.

[٢ ـ ٧] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

(وُجُوهٌ) مبتدأ و (خاشِعَةٌ) خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله : (يَوْمَئِذٍ) فإن ما صدقه هو يوم الغاشية. ويكون تنكير (وُجُوهٌ) وهو مبتدأ قصد منه النوع.

و (خاشِعَةٌ ، عامِلَةٌ ، ناصِبَةٌ) أخبار ثلاثة عن (وُجُوهٌ) ، والمعنى : أناس خاشعون إلخ.

فالوجوه كناية عن أصحابها ، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧]. وقرينة ذلك هنا قوله بعده : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء.

وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال : خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به.

وتقدم في قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) الآية في سورة عبس [٣٨].

ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصب إلى (وُجُوهٌ) من قبيل المجاز العقلي ، أي أصحاب وجوه.

ويتعلق (يَوْمَئِذٍ) ب (خاشِعَةٌ) قدم على متعلقه للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت (إذ) من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها (إذ) محذوفة عوّض عنها التنوين ، ويدل عليها ما في اسم (الْغاشِيَةِ) من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية.

أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة : يوم إذ تحدث أو تقع.

و (خاشِعَةٌ) : ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٥] وقال : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [المعارج : ٤٤].

والعاملة : المكلفة العمل من المشاق يومئذ. و (ناصِبَةٌ) : من النصب وهو التعب.

٢٦٢

وأوثر وصف (خاشِعَةٌ) و (عامِلَةٌ) و (ناصِبَةٌ) تعريضا بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته ، فجزاؤهم خشوع مذلّة ، وعمل مشقة ، ونصب إرهاق.

وجملة : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) خبر رابع عن (وُجُوهٌ) ويجوز أن تكون حالا ، يقال : صلي يصلّى ، إذا أصابه حرّ النار ، وعليه فذكر : (ناراً) بعد (تَصْلى) لزيادة التهويل والإرهاب وليجرى على (ناراً) وصف (حامِيَةً) وقرأ الجمهور (تَصْلى) بفتح التاء أي يصيبها صلي النار. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب «تصلى» بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرّها.

ووصف النار ب (حامِيَةً) لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت ب (حامِيَةً) كان دالا على شدة الحمى قال تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) [الهمزة : ٦].

وأخبر عن (وُجُوهٌ) خبرا خامسا بجملة (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أو هو حال من ضمير (تَصْلى) لأن ذكر الاحتراق بالنار يحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجعل شرابهم من عين آنية.

يقال : أنى إذا بلغ شدة الحرارة ، ومنه قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) في سورة الرحمن [٤٤].

وذكر السقي يخطر في الذهن تطلب معرفة ما يطعمونه فجيء به خبرا سادسا أو حالا من ضمير (تُسْقى) بجملة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) ، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألما.

وجملة : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ) إلخ خبر سادس عن (وُجُوهٌ).

وضمير (لَهُمْ) عائد إلى (وُجُوهٌ) باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جىء به ضمير جماعة المذكر. والتذكير تغليب للذكور على الإناث.

والضريع : يابس الشّبرق (بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء) وهو نبت ذو شوك إذا كان رطبا فإذا يبس سمي ضريعا وحينئذ يصير مسموما وهو مرعى للإبل ولحمر الوحش إذا كان رطبا ، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه

٢٦٣

وسوء مغبته.

وقيل : الضريع اسم سمّى القرآن به شجرا في جهنم وأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغسلين الوارد في قوله تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٥ ، ٣٦] وعليه فحرف (مِنْ) للابتداء ، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين.

ووصف ضريع بأنه لا يسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم ، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع ، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع.

والسمن ، بكسر السين وفتح الميم : وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال : أسمنه الطعام ، إذا عاد عليه بالسمن.

والإغناء : الإكفاء ودفع الحاجة. و (مِنْ جُوعٍ) متعلق ب (يُغْنِي) وحرف (مِنْ) لمعنى البدلية ، أي غناء بدلا عن الجوع.

والقصر المستفاد من قوله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) مع قوله تعالى : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦] يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين.

[٨ ـ ١٠] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠))

يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) [عبس : ٤٠] على جملة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) في سورة عبس [٣٨]. فيتجه أن يسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها ، ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] الإعلام بحال المعرّض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما حصل ذلك الإعلام بجملة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] إلى آخرها تم المقصود ، فجاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع : هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول؟ أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين.

٢٦٤

ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم ، لإظهار الفرق بين حالي الفريقين ولتعقيب النذارة بالبشارة فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض ولا تنافي بين الاستئناف والاعتراض وذلك موجب لفصلها عما قبلها. وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب.

فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معا بالظرف وهو (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) [عبس : ٣٣].

وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول ، والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به.

والقول في تنكير (وُجُوهٌ) ، والمراد بها ، والإخبار عنها بما بعدها ، كالقول في الآيات التي سبقتها.

و (ناعِمَةٌ) : خبر عن (وُجُوهٌ) يجوز أن يكون مشتقا من نعم بضم العين ينعم بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وحسن المنظر.

ويجوز أن يكون مشتقا من نعم بكسر العين ينعم مثل حذر ، إذا كان ذا نعمة ، أي حسن العيش والترف.

ويتعلق (لِسَعْيِها) بقوله : (راضِيَةٌ) ، و (راضِيَةٌ) خبر ثان عن (وُجُوهٌ)

والمراد بالسعي : العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه. وعبّر به هنا مقابل قوله في ضده (عامِلَةٌ) [الغاشية : ٣].

والرضى : ضد السخط ، أي هي حامدة ما سعته في الدنيا من العمل الذي هو امتثال ما أمر الله به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمجرور في قوله : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) خبر ثالث عن (وُجُوهٌ).

والجنة أريد به مجموع دار الثواب الصادق بجنات كثيرة أو أريد به الجنس مثل (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤].

ووصف (جَنَّةٍ) ب (عالِيَةٍ) لزيادة الحسن لأن أحسن الجنات ما كان في المرتفعات ، قال تعالى : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) [البقرة : ٢٦٥] فذلك يزيد حسن باطنها بحسن ما يشاهده الكائن فيها من مناظر ، وهذا وصف شامل لحسن موقع الجنة.

٢٦٥

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١))

اللاغية : مصدر بمعنى اللّغو مثل الكاذبة للكذب. والخائنة والعافية ، أي لا يسمع فيها لغو ، أو هو وصف لموصوف مقدر التأنيث ، أي كلمة لاغية لما دل عليه (لاغِيَةً) من أنها كلمات ، ووصف الكلمة بذلك مجاز عقلي لأن اللاغي صاحبها.

ونفي سماع (لاغِيَةً) مكنى به عن انتفاء اللغو في الجنة من باب :

ولا ترى الضب بها ينجحر

أي لا ضبّ بها إذ الضب لا يخلو من الانجحار.

واللغو : الكلام الذي لا فائدة له ، وهذا تنبيه على أن الجنة دار جد وحقيقة فلا كلام فيها إلا لفائدة لأن النفوس فيها تخلصت من النقائص كلها فلا يلذّ لها إلا الحقائق والسمو العقلي والخلقي ، ولا ينطقون إلا ما يزيد النفوس تزكية.

وجملة : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) صفة ثانية ل (جَنَّةٍ) [الغاشية : ١٠] ترك عطفها على الصفة التي قبلها لأن النعوت المتعددة يجوز أن تعطف ويجوز أن تفصل دون عطف قال في «التسهيل» : «ويجوز عطف بعض النعوت على بعض وقال المرادي في «شرحه» نحو قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) [الأعلى : ٢ ـ ٤]. وقال : ولا يعطف إلا بالواو ما لم يكن ترتيب : فبالفاء كقوله :

يا لهف زيّابة للحارب ال

صابح فالغانم فالآئب

قال السهيلي : والعطف ب (ثم) جوازه بعيد. ا ه. قال الدماميني : وكذا في الجمل نحو مررت برجل يحفظ القرآن ويعرف الفقه ويتقي إلى الله ، قال : ونص الواحدي في قوله تعالى : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١١٨]. أن لا يألونكم وما بعده من الجمل (أي الثلاث) لا يكون صفات ، لعدم العاطف لكن ظاهر سكوت الجمهور عن وجوب العطف يشعر بجوازه فيها (أي الجمل) كالمفردات ا ه.

ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية ، وثني بصفة تنزيهها عمّا يعدّ من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو ، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على (عالِيَةٍ) [الغاشية : ١٠] مراعاة لعدم التناسب بين المفردات

٢٦٦

والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل.

وهذا وصف للجنة بحسن سكانها.

وقرأ نافع (لا تَسْمَعُ) بمثناة فوقية مضمومة و (لاغِيَةً) نائب فاعل ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بمثناة تحتية مضمومة وبرفع (لاغِيَةً) أيضا فأجري الفعل على التذكير لأن (لاغِيَةً) ليس حقيقي التأنيث وحسّنه وقوع الفصل بين الفعل وبين المسند إليه ، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بفتح المثناة الفوقية وبنصب (لاغِيَةً) ، والتاء لخطاب غير المعين.

(فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢))

صفة ثالثة ل (جَنَّةٍ) [الغاشية : ١٠]. فالمراد جنس العيون كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] ، أي علمت النفوس ، وهذا وصف للجنة باستكمالها محاسن الجنات قال تعالى : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) [الإسراء : ٩١].

وإنما لم تعطف على الجملة التي قبلهما لاختلافهما بالفعلية في الأولى والاسمية في الثانية ، وذلك الاختلاف من محسنات الفصل ولأن جملة : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) مقصود منها التنزه عن النقائص وجملة : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) مقصود منها إثبات بعض محاسنها.

[١٣ ـ ١٦] (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

صفة رابعة لجنة.

وأعيد قوله : (فِيها) دون أن يعطف (سُرُرٌ) على (عَيْنٌ) [الغاشية : ١٢] عطف المفردات لأن عطف السرر على (عَيْنٌ) يبدو نابيا عن الذوق لعدم الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لو لا أن جمعها الكون في الجنة فلذلك كرر ظرف (فِيها) تصريحا بأن تلك الظرفية هي الجامع ، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتا ولذلك عطف (وَأَكْوابٌ) ، (وَنَمارِقُ) ، (وَزَرابِيُ) ، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة.

وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها فضمير فيها عائد للجنة باعتبار

٢٦٧

أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة.

و (سُرُرٌ) : جمع سرير ، وهو ما يجلس عليه ويضطجع عليه فيسع الإنسان المضطجع ، يتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفعا عن الأرض. ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذا في مفهوم السرر كان وصفها ب (مَرْفُوعَةٌ) لتصوير حسنها.

و (الأكواب) : جمع كوب بضم الكاف ، وهو إناء للخمر له ساق ولا عروة له.

و (مَوْضُوعَةٌ) : أي لا ترفع من بين أيديهم كما ترفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطاعة من تناول الخمر ، وكني ب (مَوْضُوعَةٌ) عن عدم انقطاع لذة الشراب طعما ونشوة ، أي موضوعة بما فيها من أشربة.

وبين (مَرْفُوعَةٌ) و (مَوْضُوعَةٌ) ، إيهام الطّباق لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع ، ولا تضادّ بين مجاز الأول وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد.

والنّمارق : جمع نمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع.

و (مَصْفُوفَةٌ) : أي جعل بعضها قريبا من بعض صفا ، أي أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها.

و (زَرابِيُ) : جمع زربيّة بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء ، وهي البساط أو الطنفسة (بضم الطاء) المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار.

والزربية نسبة إلى (أذربيجان) بلد من بلاد فارس وبخارى ، فأصل زربية أذربية ، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به ، وذالها مبدلة عن الزاي في كلام العرب لأن اسم البلد في لسان الفرس أزربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال ، وبلد (أذربيجان) مشهور بنعومة صوف أغنامه. واشتهر أيضا بدقة صنع البسط والطنافس ورقّة خملها.

والمبثوثة : المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة.

وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات (خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] ، (عامِلَةٌ) ، (ناصِبَةٌ) [الغاشية : ٣] بصفات (ناعِمَةٌ* لِسَعْيِها راضِيَةٌ)

٢٦٨

[الغاشية : ٨ ، ٩] ، وقوبل قوله : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٤] بقوله : في (جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [الغاشية : ١٠]. وقوبل : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) [الغاشية : ٥] بقوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) [الغاشية : ١٢] ، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ* لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية : ٦ ، ٧] ، بمقاعد أهل الجنة المشعرة بترف العيش من شراب ومتاع.

وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإجمال في قوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١] ، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فيكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يزادون من النعيم «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».

[١٧ ـ ٢٠] (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به ، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله ، فرع على ذلك إنكار عليهم إعراضهم عن النظر في دلائل الوحدانية ، فالفاء في قوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ) تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء ، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء ، لا يستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإنسان بعد فنائه عن عدم ، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام ، فكان إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع ، وبين المفرع عنه من جملة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) [الغاشية : ٨] كان في موقع الاعتراض كما علمت.

فضمير (يَنْظُرُونَ) عائد إلى معلوم من سياق الكلام.

والهمزة للاستفهام الإنكاري إنكارا عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته.

٢٦٩

والنظر : نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور ، وتعديته بحرف (إلى) تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق ، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا ، لما في (إلى) من معنى الانتهاء حتى كأنّ النظر انتهى عند المجرور ب (إلى) انتهاء تمكن واستقرار كما قال تعالى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) [الأحزاب : ١٩] وقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣].

ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإهمال قيّد فعل (يَنْظُرُونَ) بالكيفيات المعدودة في قوله : (كَيْفَ خُلِقَتْ) ، (كَيْفَ رُفِعَتْ) ، (كَيْفَ نُصِبَتْ) ، (كَيْفَ سُطِحَتْ) أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خلقها.

وجملة : (كَيْفَ خُلِقَتْ) بدل اشتمال من الإبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل (يَنْظُرُونَ) لا حرف الجر ، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل ، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلّ على ما يقتضيه معناه وموقعه ، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه.

والمعنى والتقدير : أفلا ينظرون إلى الإبل هيئة خلقها.

وقد عدّت أشياء أربعة هي من النّاظرين عن كثب لا تغيب عن أنظارهم ، وعطف بعضها على بعض ، فكان اشتراكها في مرآهم جهة جامعة بينها بالنسبة إليهم ، فإنهم المقصودون بهذا الإنكار والتوبيخ ، فالذي حسّن اقتران الإبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا ، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع.

فالإبل أموالهم ورواحلهم ، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم ، وقد خلقها الله خلقا عجيبا بقوة قوائمها ويسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها ، وجعل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك ، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.

وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها. وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير.

٢٧٠

و (الْإِبِلِ) : اسم جمع للبعران لا واحد له من لفظه ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) في سورة الأنعام [١٤٦].

وعن المبرد أنه فسر الإبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه» ، أي هو على نحو قول عنترة :

جادت عليه كل بكر حرّة

فتركن كل قرارة كالدرهم

ونقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم ، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق ، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء ، قال زيادة الحارثي (على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله ، بنو ماء السماء) :

ونحن بنو ماء السماء فلا نرى

لأنفسنا من دون مملكة قصر

وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هاجر فقال أبو هريرة في آخرها : «إنها لأمّكم يا بني ماء السماء» ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير.

وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جبلي أجإ وسلمى لطي. وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة.

والنصب : الرفع أي كيف رفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل.

وثم نزل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم ، وقد سطحها الله ، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والاضطجاع. ومعنى (سُطِحَتْ) : سويت يقال : سطح الشيء إذا سوّاه ومنه سطح الدار.

والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية.

وبنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك.

[٢١ ـ ٢٤] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤))

الفاء فصيحة تفريع على محصّل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم ، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدوام على

٢٧١

تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يبعث ملجئا لهم على الإيمان.

فالأمر مستعمل في طلب الاستمرار والدوام.

ومفعول «ذكّر» محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) وجملة (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن (إِنَّما) مركبة من (أنّ) و (ما) وشأن (إنّ) إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غناء فاء التسبب ، واتصال (ما) الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها.

والقصر المستفاد ب (إِنَّما) قصر إضافي ، أي أنت مذكر لست وكيلا على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم وهذا تطمين لنفسه الزكية.

وجملة (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر.

والمصيطر : المجبر المكره.

يقال : صيطر بصاد في أوله ، ويقال : سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد. وتقدم في سورة الطور [٣٧] : (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي.

ونفي كونه مصيطرا عليهم خبر مستعمل في غير الإخبار لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإيمان ، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر ، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم.

ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم ، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم.

ومن الجهلة من يضع قوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين. وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين. فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب

٢٧٢

ثلاثا فإن لم يتب قتل ، وإن لم يقدر عليه فعلى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب. وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل مقبول ويأبى الانكفاف.

وتقديم (عَلَيْهِمْ) على متعلقه وهو «مسيطر» للرعاية على الفاصلة.

وقوله : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ* فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) معترض بين جملة (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) وجملة : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥] والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر.

فحرف (إِلَّا) للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك.

والمعنى : لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد.

ودخلت الفاء في الخبر وهو (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) إذ كان الكلام استدراكا وكان المبتدأ موصولا فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٤]. و (الْأَكْبَرَ) : مستعار للقوى المتجاوز حدّ أنواعه.

[٢٥ ، ٢٦] (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

تعليل لجملة : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] ، أي لست مكلفا بجبرهم على التذكر والإيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء. وقد جاء حرف (إِنَ) على استعماله المشهور ، إذا جيء به المجرد الاهتمام دون ردّ إنكار ، فإنه يفيد مع ذلك تعليلا وتسببا كما تقدم غير مرة ، وتقدم عند قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) في سورة البقرة [٣٢].

والإياب : بتخفيف الياء الأوب ، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه. أطلق على الحضور في حضرة القدس يوم الحشر تشبيها له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه بملاحظة أن الله خالق الناس خلقهم الأول ، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨].

وتقديم خبر (إِنَ) على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقا لهذا الرجوع لأنهم

٢٧٣

ينكرونه ، وتنبيها على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة.

ونقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) [الغاشية : ٢٤] إلى أسلوب التكلم بقوله : (إِلَيْنا) على طريقة الالتفات.

وقرأ أبو جعفر (إِيابَهُمْ) بتشديد الياء. فعن ابن جني هو مصدر على وزن فيعال مصدر : ايّب بوزن فيعل من الأوب مثل حوقل. فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل : إيّاب.

وعطفت جملة : (إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) بحرف (ثُمَ) لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي.

ومعنى (على) من قوله : (عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه.

وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإدماج لإثبات البعث. وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبوه انفلاتا من العقاب.

٢٧٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٩ ـ سورة الفجر

لم يختلف في تسمية هذه السورة «سورة الفجر» بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة.

وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء أنها مدنية.

وقد عدّت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.

وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدّوا قوله : (وَنَعَّمَهُ) [الفجر : ١٥] منتهى آية ، وقوله : (رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] منتهى آية. ولم يعدها غيرهم منتهى آية ، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.

فأهل الشام عدّوا (بِجَهَنَّمَ) [الفجر : ٢٣] منتهى آية. وأهل الكوفة عدّوا (فِي عِبادِي) [الفجر : ٢٩] منتهى آية.

أغراضها

حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.

وإنذارهم بعذاب الآخرة.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه.

وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على

٢٧٥

أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.

وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلما يواسوا ببعضها الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.

وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدّموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفسا مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة.

[١ ـ ٤] (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤))

القسم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعة قدرته فيما أوجد من نظام يظاهر بعضه بعضا من ذلك وقت الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار ، ووقت الليل الذي تمحضت فيه الظلمة. وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادة الله وحده ، مثل الليالي العشر ، والليالي الشفع ، والليالي الوتر.

والمقصود من هذا القسم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المقسم ربه على ما تضمنه كلامه.

وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد.

والكلام موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دل عليه قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) [الفجر : ٦] وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤].

ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين.

والمقصد من تطويل القسم بأشياء ، التشويق إلى المقسم عليه.

و (الْفَجْرِ) : اسم لوقت ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإظلام عن أول خط يلوح للناظر من الخطوط الفرضية المعروفة في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع.

فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الانصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت ؛ ويأخذ الناس في

٢٧٦

ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم.

فالتعريف في (الْفَجْرِ) تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)

ويجوز أن يراد فجر معين : فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة. وقيل : فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة ، فيكون تعريف (الْفَجْرِ) تعريف العهد.

وقوله : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) : هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بأنها عشر واستغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السّنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجّة التي هي وقت مناسك الحج ، ففيها يكون الإحرام ودخول مكة وأعمال الطواف ، وفي ثامنتها ليلة التروية ، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر. فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر. وهو قول ابن عباس وابن الزبير ، وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير (المكي) عن جابر بن عبد الله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العشر عشر الأضحى» قال ابن العربي : ولم يصح وقال ابن عساكر : رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة ا ه.

ومناسبة عطف (لَيالٍ عَشْرٍ) على (الْفَجْرِ) أن الفجر وقت انتهاء الليل ، فبينه وبين الليل جامع المضادة ، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) خصت قبل ذكره بالذكر ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل.

وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه‌السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السّنة القمرية من النسيء فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه‌السلام. ولا يعرف متى بدأ ذلك الاضطراب ، ولا مقادير ما أدخل عليها من النسيء ، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى ، ولكننا نوقن بوجودها في خلال السنة إلى أو أوحى الله إلى نبيئه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سنة عشر من الهجرة عام حجة الوداع ، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنة في عهد إبراهيمعليه‌السلامفقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته في حجة الوداع : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض».

٢٧٧

وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة.

فأوقات العبادات تعيين لإيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاق اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرّف بالحكم ولا يريدون به نفس الحكمة.

وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به ، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني ، ولكن إذا اختلت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها.

فقسم الله تعالى بالليالي العشر في هذه مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه.

و (الشَّفْعِ) : ما يكون ثانيا لغيره ، و (الْوَتْرِ) : الشيء المفرد ، وهما صفتان لمحذوف ، فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الشفع يوم النحر ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) ، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفا ، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام ، بعد شمول الليالي العشر لهما.

وفي «جامع الترمذي» عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الشفع والوتر والصلاة منها شفع ومنها وتر». قال الترمذي : وهو حديث غريب وفي «العارضة أن في سنده مجهولا ، قال ابن كثير : «وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه».

وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين.

وقيل : الشفع يومان بعد يوم منى ، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غير الليالي العشر.

وتنكير (لَيالٍ) وتعريف (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام ، وتعريف (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر.

وفي تفسير (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أقوال ثمانية عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي ، وأكثرها لا يحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر.

وقرأ الجمهور : (وَالْوَتْرِ) بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز. وقرأه حمزة

٢٧٨

والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبكر بن سعد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم أهل العالية ، فهما لغتان في الوتر. بمعنى الفرد.

و (اللَّيْلِ) عطف على (لَيالٍ عَشْرٍ) عطف الأعم على الأخص أو عطف على (الْفَجْرِ) بجامع التضاد. وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته.

ومعنى يسري : يمضي سائرا في الظلام ، أي إذا انقضى منه جزء كثير ، شبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السّرى كما شبه في قوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣] وقال : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ٢] ، أي تمكن ظلامه واشتد.

وتقييد (اللَّيْلِ) بظرف (إِذا يَسْرِ) لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦] وقال : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦].

وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب : إذا يسري بياء بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل : «الفجر ، عشر ، والوتر ، حجر» ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاع تعامل معاملة القوافي ، قال أبو علي : وليس إثبات الياء في الوقف بأحسن من الحذف ، وجميع ما لا يحذف وما يختار فيه أن لا يحذف (نحو القاض بالألف واللام) يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء. وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل.

وقرأ الباقون بدون ياء وصلا ووقفا ، وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء ، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سنّة أو اعتدادا بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف.

وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يوهن رسم المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومراعاة الوقف تكثر في كيفيات الرسم.

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

جملة معترضة بين القسم وما بعده من جوابه أو دليل جوابه ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٦].

٢٧٩

والاستفهام تقريري ، وكونه بحرف (هَلْ) لأن أصل (هَلْ) أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى (قد).

واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به ، أي هل في القسم بذلك قسم.

وتنكير (قَسَمٌ) للتعظيم أي قسم كاف ومقنع للمقسم له ، إذا كان عاقلا أن يتدبر بعقله.

فالمعنى : هل في ذلك تحقيق لما أقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حجر.

والحجر : العقل لأنه يحجر صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي ، كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التهافت كما يعقل العقال البعير عن الضّلال.

واللام في قوله : (لِذِي حِجْرٍ) لام التعليل ، أي قسم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القسم صادق فيما أقسم عليه.

[٦ ـ ١٤] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

لا يصلح هذا أن يكون جوابا للقسم ولكنه : إمّا دليل الجواب إذ يدل على أن المقسم عليه من جنس ما فعل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) ، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون.

وإمّا تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم.

والمعنى : إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم ، فيكون تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢].

فالاستفهام في قوله : (أَلَمْ تَرَ) تقريري ، والمخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تثبيتا له ووعدا بالنصر ، وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله فإن ما فعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله. لأن التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرّب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع ،

٢٨٠