تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وعن الضحاك أن السورة كلها مدينة.

وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦].

وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل. وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا : أول ما نزل من القرآن : اقرأ باسم ربك ، ثم ن ، ثم المزمل ، ثم المدثر ، ثم تبّت ، ثم إذا الشمس كورت ، ثم سبح اسم ربك. وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده ثامنة ، فهي من أوائل السور وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ينادي على ذلك.

وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد.

أغراضها

اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.

وعلى تأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته على تلقي الوحي.

وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم ، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبئون بالحياة الأبدية.

وأن ما أوحي إليه يصدّقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين.

[١ ـ ٥] (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

الافتتاح بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يسبح اسم ربه بالقول ، يؤذن بأنه سيلقي إليه عقبه بشارة وخيرا له وذلك قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال.

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتسبيح : التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم الله وكذلك

٢٤١

أسماء المصدر منه نحو : سبحان الله ، وهو من المعاني الدينية ، فالأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) في سورة البقرة [٣٠].

وإذ عدّي فعل الأمر بالتسبيح هنا إلى اسم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني ، ولما كان أقوالا كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات ، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها ، وذلك آيل إلى تنزيه المسمّى بتلك الأسماء. ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير.

فتسبيح اسم الله النطق بتنزيهه في الخويصّة وبين الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد. ويشمل ذلك استحضار الناطق بألفاظ التسبيح معاني تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه. وبتظاهر النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم لله تعالى.

وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمّى اسمه ولا يسمى تسبيح اسم الله ، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى ، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحا لاسمه.

وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وبين تعلقه بدون اسم نحو (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦] ونحو (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف : ٢٠٦] فإذا قلنا : (اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] أو قلنا : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) [الحشر : ٢٣] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحا لاسمه تعالى ، وإذا نفينا الإلهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الحج : ٧٣] كان ذلك تسبيحا لذات الله لا لاسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف.

فهذا مناط الفرق بين استعمال (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) واستعمال (وَسَبِّحْهُ) ومآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإطلاقين مراد به الإرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائص.

٢٤٢

واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجود قرينة في الكلام تقتضيه مثل التوقيت بالوقت في قوله تعالى : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الأحزاب : ٤٢] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد ، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى : (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [السجدة : ١٥] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولا مثله.

وتعريف : (اسْمَ) بطريق الإضافة إلى (رَبِّكَ) دون تعريفه بالإضافة إلى علم الجلالة نحو : سبح اسم الله ، لما يشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر. وأما إضافة (رب) إلى ضمير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح.

ثم أجري على لفظ (رَبِّكَ) صفة (الْأَعْلَى) وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته ، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم ، وهدايتهم ، ورزقهم ، ورزق أنعامهم ، للإيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقا لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقا يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع ، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه.

فلفظ (الْأَعْلَى) اسم يفيد الزيادة في صفة العلو ، أي الارتفاع. والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينسب العلوّ بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف ، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا. ولهذا حكى عن فرعون أنه قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤].

والعلوّ المشتقّ منه وصفه تعالى : (الْأَعْلَى) علوّ مجازي ، وهو الكمال التام الدائم.

ولم يعدّ وصفه تعالى : (الْأَعْلَى) في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه (الْعَلِيُّ) لأن أسماء الله توقيفية فلا يعد من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاق الأسماء ، وهو أوغل من الصفات ، قال الغزالي : والعلوّ في الرتبة العقلية مثل العلوّ في التدريجات الحسية ، ومثال الدرجة العقلية ، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص ا ه.

وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه

٢٤٣

وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه.

وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات.

وقد جعل من قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد : سبحان ربي الأعلى ، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي.

وجملة : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) اشتملت على وصفين : وصف الخلق ووصف تسوية الخلق ، وحذف مفعول (خَلَقَ) فيجوز أن يقدر عامّا ، وهو ما قدره جمهور المفسرين ، وروي عن عطاء ، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل ، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

ويجوز أن يقدر خاصا ، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج ، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك ، أي بقرينة قرن فعل (خَلَقَ) بفعل «سوى» قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] الآية.

وعطف جملة : (فَسَوَّى) بالفاء دون الواو للإشارة إلى أن مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة :

يا لهف زيابة للحارث الصّ

ابح فالغانم فالآئب

لأن التلهف يحق إذا صبحهم فغنم أموالهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه.

فالفاء من قوله : (فَسَوَّى) للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم في اعتبار المعتبر على التسوية ، وإن كان حصول التسوية مقارنا لحصول الخلق.

والتسوية : تسوية ما خلقه فإن حمل على العموم فالتسوية أن جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادلا ، أي مناسبا للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زبانى العقرب من تسوية خلقها لتدفع عن نفسها بها بسهولة.

ولكونه مقارنا للخلقة عطف على فعل (خَلَقَ) بالفاء المفيدة للتسبب ، أي ترتّب

٢٤٤

على الخلق تسويته.

والتقدير : وضع المقدار وإيجاده في الأشياء في ذواتها وقواها ، يقال : قدّر بالتضعيف وقدر بالتخفيف بمعنى.

وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف.

والمقدار : أصله كمية الشيء التي تضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العدّ ، وأطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظّمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين ، والباطنة مثل القلب ، ومن إيداع القوى العقلية كالحس والاستطاعة وحيل الصناعة.

وإعادة اسم الموصول في قوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ) وقوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) مع إغناء حرف العطف عن تكريره ، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.

وعطف قوله : (فَهَدى) بالفاء مثل عطف (فَسَوَّى) ، فإن حمل (خَلَقَ) و (قَدَّرَ) على عموم المفعول كانت الهداية عامة. والقول في وجه عطف (فَهَدى) بالفاء مثل القول في عطف (فَسَوَّى).

وعطف (فَهَدى) على (قَدَّرَ) عطف المسبّب على السبب أي فهدى كلّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإدراك والإرادة هي هداية الإلهام إلى كيفية استعمال ما قدّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه.

والمعنى : قدّر الأشياء كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها ، فالله لما قدّر للإنسان أن يكون قابلا للنطق والعلم والصناعة بما وهبه من العقل وآلات الجسد هداه لاستعمال فكره لما يحصّل له ما خلق له ، ولمّا قدر البقرة للدّر ألهمها الرعي ورئمان ولدها لتدرّ بذلك للحالب ، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسل ألهمها أن ترعى النّور والثمار وألهمها بناء الجبح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل.

ومن أجلّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع. فمفعول «هدى» محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهدي فهو مخصوص بذوات الإدراك والإرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدّر نظامها ولم

٢٤٥

يقدّر لها الإدراك مثل تقدير الإثمار للشجر ، وإنتاج الزريعة لتجدد الإنبات ، فذلك غير مراد من قوله : (فَهَدى) لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء ، وإن جعل مفعول (خَلَقَ) خاصا ، وهو الإنسان كان مفعول (قَدَّرَ) على وزانه ، أي تقدير كمال قوى الإنسان ، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإدراك والعقل.

وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسوية تلائم ما خلقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] وقال : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) [الأعلى : ٨].

وقوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره. واقتصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها.

والمراد : إخراجه من الأرض وهو إنباته.

والمرعى : النبت الذي ترعاه السوائم ، وأصله : إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المرعيّ من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويرعى إطلاقا مجازيا بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه.

والقرينة جعله مفعولا ل (أَخْرَجَ) ، وإيثار كلمة (الْمَرْعى) دون لفظ النبات ، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة ...

والغثاء : بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة ، ويقال بتشديد المثلثة هو اليابس من النبت.

والأحوى : الموصوف بالحوّة بضم الحاء وتشديد الواو ، وهي من الألوان : سمرة تقرب من السواد. وهو صفة (غُثاءً) لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حوّة.

وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغيّر لونه بعد أن كان أخضر يانعا وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء. وفي وصف إخراج الله تعالى المرعى وجعله غثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث

٢٤٦

الذي ينبت به المرعى فتنتفع به الدواب والأنعام ، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعى ويبلغ نضجه حين يصير غثاء أحوى ، على طريقة تمثيلية مكنية رمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى. وقد جاء بيان هذا الإيماء وتفصيله بقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيّة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا» الحديث.

ويجوز أن يكون المقصود من جملة : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم : ٥٤] للإشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة ، فاستعير لعطف جعله (غُثاءً) الحرف الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعد زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه ، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) إلى قوله : (فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) [يونس : ٢٤].

[٦ ، ٧] (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧))

قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] بشارة إجمالية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخير يحصل له ، فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه فيبلّغه كما أوحي إليه ويحفظه من التفلت عليه ، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن البشارة تنشئ في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترقبا لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي ، مع ما فرّع على قوله : (سَنُقْرِئُكَ) من قوله : (فَلا تَنْسى).

وإذ قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولا. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعالج من التنزيل شدة إذا نزل جبريل ، وكان ممّا يحرك شفتيه ولسانه ، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٦ ، ١٧] ، إنّ علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨]. يقول : إذا أنزل عليك فاستمع ، قال : فكان إذا أتاه

٢٤٧

جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله» وسورة القيامة التي منها (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه.

وإنما ابتدئ بقوله : (سَنُقْرِئُكَ) تمهيدا للمقصود الذي هو : (فَلا تَنْسى) وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر ، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلّته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.

والسين علامة على استقبال مدخولها ، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصة إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذ قد كان قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) إقراء ، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد.

والالتفات بضمير المتكلم المعظّم لأن التكلّم أنسب بالإقبال على المبشّر.

وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرائه.

فقوله : (فَلا تَنْسى) خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.

والنسيان : عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زمانا طويلا.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) مفرّع من فعل (تَنْسى) ، و (ما) موصولة هي المستثنى. والتقدير : إلا الذي شاء الله أن تنساه ، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا على غالب استعماله في كلام العرب ، وانظر ما تقدم في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٠].

والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا شاء الله أن ينساه. وذلك نوعان :

أحدهما : وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بأن لا يقرءوه حتى ينساه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال : «كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» قال عمر : لقد قرأناها ، وأنه كان فيما أنزل : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم». وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) في قراءة من

٢٤٨

قرأ : (نُنْسِها) في سورة البقرة [١٠٦].

النوع الثاني : ما يعرض نسيانه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسيانا موقتا كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به.

ففي «صحيح البخاري» عن عائشة قالت : «سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد فقال : يرحمه‌الله لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا ، وفيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبيّ بن كعب أنسخت؟ فقال : «نسيتها».

وليس قوله : (فَلا تَنْسى) من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف ، أمّا إنه ليست (لا) فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.

وجملة : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) معترضة وهي تعليل لجملة : (فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حفظ القرآن من النقص العارض.

ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه ، وما ينساه فيسقطه من القرآن هو من قبيل الخفيّ فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨))

عطف على (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦]. وجملة (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) [الأعلى : ٧] معترضة كما علمت. وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايرا لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له.

والتيسير : جعل العمل يسيرا على عامله.

ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا ، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيء المجعول الفعل يسيرا لأجله مجرورا باللام كقوله تعالى : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [طه : ٢٦].

واليسرى : مؤنث الأيسر ، وصيغة فعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفعل.

٢٤٩

والموصوف محذوف ، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمه مؤنثا بأن يكون مفردا فيه علامة تأنيث أو يكون جمعا إذ المجموع تعامل معاملة المؤنث. فكان الوصف المؤنث مناديا على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه ، وسياق الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدّر معنى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن مراعى فيه وصفه العنواني وهو أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شئونه هو ما أرسل به وهو الشريعة.

وقوله : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون. فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير ، أي قوة تمكينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به ، أي نهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلت بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة. وهذه الاستعارة تحسّنها المشاكلة.

ومعنى اللام في قوله : (لِلْيُسْرى) العلة ، أي لأجل اليسرى ، أي لقبولها ، ونحوه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ ميسر لما خلق له» وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) وقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) في سورة الليل [٧ ـ ١٠].

ويجوز أن يجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل : ونيسر لك اليسرى ، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل : «نيسرك» على حقيقته ، وإنما خولف عمله في مفعوله والمجرور المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرور المتعلق به.

وفي وصفها ب (اليسرى) إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جعلت يسرى ، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى.

فاشتمل الكلام على تيسيرين : تيسير ما كلف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي جعله يسيرا مع وفائه بالمقصود منه ، وتيسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقيام بما كلف به.

ويوجّه العدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه ، بأنّ فيه تنزيل الشيء الميسّر منزلة الشيء الميسّر له والعكس للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول كقول العرب : «عرضت الناقة على الحوض» ، وقول العجاج :

ومهمه مغبرّة أرجاؤه

كأن لون أرضه سماؤه

٢٥٠

وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص : ٧٦] ومنه القلب التشبيه المقلوب.

والمعنى : وعد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطمينا له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقا أن لا يفي بواجباتها. أي أن الله جعله قابلا لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها.

ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «إنما بعثتم ميسّرين لا معسّرين».

[٩ ـ ١٣] (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

بعد أن ثبّت الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكفل له ما أزال فرقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضعف عن أدائه الرسالة على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مرادا لله تعالى. ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه ، إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مبدأ عهده بالرسالة (إذ كانت هذه السورة ثامنة السور) لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام. أعقب ذلك بأن أمره بالتذكير ، أي التبليغ ، أي بالاستمرار عليه ، إرهافا لعزمه ، وشحذا لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور ، فجمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر.

فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريع النتيجة على المقدمات.

والأمر : مستعمل في طلب الدوام.

والتذكير : تبليغ الذكر وهو القرآن.

والذكرى : اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس.

ومفعول (فَذَكِّرْ) محذوف لقصد التعميم ، أي فذكر الناس ودلّ عليه قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) الآيتين.

وجملة : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) معترضة بين الجملتين المعلّلة وعلتها ، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول (فَذَكِّرْ) ، أي فدم على تذكير

٢٥١

الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم ، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) الآية.

فالشرط في قوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) جملة معترضة وليس متعلقا بالجملة ولا تقييدا لمضمونها إذ ليس المعنى : فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكّر إذا لم تنفع الذكرى ، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى ، ولذلك كان قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد ، بل المراد فذكّر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم ، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب (إن) أن يكون غير مقطوع بوقوعه ، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه ، فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخصّ بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم ، والواقع يكشف المقدور.

وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف (إن) المقتضي عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه ، ولذلك جاء بعده بقوله : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) فهو استئناف بياني ناشئ عن قوله : (فَذَكِّرْ) وما لحقه من الاعتراض بقوله: (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكّرين.

وهذا معنى قول ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي ، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى (إن) ، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس : إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.

ويذّكّر : مطاوع ذكّره. وأصله : يتذكر ، فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليتأتى إدغامها في الذال الأخرى.

و (مَنْ يَخْشى) : جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يخشون. والضمير المستتر في (يَخْشى) مراعى فيه لفظ (من) فإنه لفظ مفرد.

وقد نزّل فعل (يَخْشى) منزلة اللازم فلم يقدّر له مفعول ، أي يتذكر من الخشية فكرته وجبلته ، أي من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل

٢٥٢

لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به.

والخشية : الخوف ، وتقدم في قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) في سورة طه [٤٤] والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون.

والتجنب : التباعد ، وأصله تفعل لتكلف الكينونة بجانب من شيء.

والجانب : المكان الذي هو طرف لغيره ، وتكلف الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه ، أي يتباعد عن الذكرى الأشقى.

والتعريف في (الْأَشْقَى) تعريف الجنس ، أي الأشقون.

و (الْأَشْقَى) : هو الشديد الشقوة ، والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب ، وعندنا أن من علم إلى موته مؤمنا فليس بشقي.

فالأشقى : هو الكافر لأنه أشدّ الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار.

وتعريف (الْأَشْقَى) تعريف الجنس ، فيشمل جميع المشركين. ومن المفسرين من حمله على العهد فقال : أريد به الوليد بن المغيرة ، أو عتبة بن ربيعة.

ووصف (الْأَشْقَى) ب (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) لأن إطلاق (الْأَشْقَى) في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبيّنه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية.

ومقابلة (مَنْ يَخْشى) ب (الْأَشْقَى) تؤذن بأن (الْأَشْقَى) من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصا من شقائه.

ووصف النار ب (الْكُبْرى) للتهويل والإنذار والمراد بها جهنم.

وجملة (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) عطف على جملة (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) فهي صلة ثانية.

و (ثم) للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حاله بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشدّ ممّا أفاده أنه في عذاب الاحتراق ، ضرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة.

٢٥٣

فمعنى (لا يَمُوتُ) : لا يزول عنه الإحساس ، فإن الموت فقدان الإحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل.

وتعقيبه بقوله : (وَلا يَحْيى) احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يهلك المحرق ، فإذا قيل : (لا يَمُوتُ) توهّم المنذرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإهلاك فيبقى المحرق حيا فيظن أنه إحراق هيّن فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه (وَلا يَحْيى) ، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله : (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها)

وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالة وسط بين حالتيهما مثل : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] وقول إحدى نساء أم زرع : «لا حرّ ولا قرّ» لأن ذلك لا طائل تحته.

ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك.

وفي الآية محسّن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين (لا يَمُوتُ) و (لا يَحْيى ١٣) [١٤ ، ١٥] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥))

استئناف بياني لأن ذكر (مَنْ يَخْشى) [الأعلى : ١٠] وذكر (الْأَشْقَى) [الأعلى : ١١] يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف (الْأَشْقَى) بأنه (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) [الأعلى : ١٢] وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديما للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر. فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب. فالمراد ب (مَنْ تَزَكَّى) هنا عين المراد ب «من يخشى ويذكر» فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه ، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى ، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَذَكِّرْ) [الأعلى : ٩].

وقد جمعت أنواع الخير في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ) فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير ، وتقدم في قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) في البقرة [٥].

٢٥٤

والإتيان بفعل المضي في قوله (أَفْلَحَ) للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة ، واقترانه بحرف (قَدْ) لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩] لأن الكلام موجه إلى الأشقين الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا.

ومعنى (تَزَكَّى) : عالج أن يكون زكيا ، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠].

فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد ، وأصل ذلك هو التوحيد والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها ، فيشمل زكاة الأموال.

أخرج البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال: من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله ، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة.

وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاة لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعلمت منافعها وأكثرت من الإقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإيمان.

وفعل (ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) يجوز أن يكون من الذّكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة (اسْمَ رَبِّهِ) مرادا بها ذكر أسماء الله بالتعظم مثل قول لا إلا الله ، وقول الله أكبر ، وسبحان الله ، ونحو ذلك على ما تقدم في قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١].

ويجوز أن يكون من الذّكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة (اسْمَ) مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال.

وتفريع (فَصَلَّى) على (ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء.

وقد رتبت هذه الخصال الثلاث على الآية على ترتيب تولدها. فأصلها : إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهو المشار إليه بقوله : (تَزَكَّى) ، ثم استحضار معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار

٢٥٥

بقوله : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) ثم الإقبال على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله : (فَصَلَّى) والصلاة تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥].

[١٦ ، ١٧] (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧))

قرأ الجمهور (تُؤْثِرُونَ) بمثناة فوقية بصيغة الخطاب ، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات ، وقرأه أبو عمرو وحده بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائدا إلى (الْأَشْقَى* الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) [الأعلى : ١١ ، ١٢].

وحرف (بَلْ) معناه الجامع هو الإضراب ، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد (بَلْ) ؛ فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالا للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم. وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين ، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٧٠] فهو انصراف في الحكم ، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [المؤمنون : ٦٢ ، ٦٣]. فتكون (بَلْ) بمنزلة قولهم «دع هذا» فهذا انصراف قولي. ويعرف أحد الإضرابين بالقرائن والسياق.

و (بَلْ) هنا عاطفة جملة عطفا صوريا فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها ، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشقون بأنّ السبب إيثارهم الحياة الدنيا ، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر ، وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة.

ويجوز أن يكون الإضراب إبطالا لما تضمنه قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى : ١٤] من التعريض للذين شقوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكّون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح.

والمعنى : أنهم بعداء عن أن يظنّ بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة

٢٥٦

الدنيا ، فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة ، وهذا كما يقول الناصح شخصا يظن أنه لا ينتصح «لقد نصحتك وما أظنك تفعل».

ويجيء فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين.

والإيثار : اختيار شيء من بين متعدد.

والمعنى : تؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم.

ولم يذكر المؤثر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه ، أي لا تتأملون فيما عدا حياتكم هذه ولا تتأمّلون في حياة ثانية ، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكّروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ.

واعلم أنّ للمؤمنين حظا من هذه الموعظة على طول الدهر ، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرّط فيه أحدهم مما ينجيه في الآخرة إيثارا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة ، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك ميدان للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٧].

وجملة : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاء التوبيخ توجيها وتأييدا بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى.

و (أَبْقى) : اسم تفضيل ، أي أطول بقاء ، وفي حديث النهي عن جرّ الإزار «وليكن إلى الكعبين فإنه أتقى وأبقى».

[١٨ ، ١٩] (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم موسىعليهما‌السلام ، قصد به الإبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى ، ولذلك أكّد هذا الخبر ب (إِنَ) ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين.

والإشارة بكلمة (هذا) إلى مجموع قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى قوله (وَأَبْقى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٧] فإن ما قبل ذلك من أول السورة إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) [الأعلى : ١٤] ، ليس مما ثبت معناه في صحف إبراهيم وموسىعليهما‌السلام.

٢٥٧

روى ابن مردويه والآجري عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال : نعم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٧]. ولم أقف على مرتبة هذا الحديث.

ومعنى الظرفية من قوله : (لَفِي الصُّحُفِ) أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى ، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] ، أي ما في قطّنا وهو صك الأعمال.

و (الصُّحُفِ) : جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف ، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا : سفن في جمع سفينة ، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كانت له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة.

وجاء نظم الكلام على أسلوب الإجمال والتفصيل ليكون لهذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) بدل من (الصُّحُفِ الْأُولى).

و (الْأُولى) : وصف لصحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث. و (الْأُولى) صيغة تفضيل. واختلف في الحروف الأصلية للفظ أوّل فقيل : حروفه الأصول همزة فواو (مكررة) فلام ذكره في «للسان» فيكون وزن أول : أأول ، فقلبت الهمزة الثانية واوا وأدغمت في الواو. وقيل : أصوله : واوان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول : أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر.

وقيل : حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فأصل أول أو أل بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واوا وأدغما.

و (الْأُولى) : مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول : أصلها أولى سكنت الواو سكونا ميتا لوقوعها إثر ضمة ، أو أصلها : وولى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضا ، أو أصلها : وألى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب ، فقيل : أولى فوزنها على هذا عفلى.

والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليه صحف فهو كوصف (عاد)

٢٥٨

ب (الْأُولى) في قوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] وقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) [النجم : ٥٦] وفي حديث البخاري : «إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوءة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر وأبو بكر الآجري عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف.

٢٥٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٨ ـ سورة الغاشية

سميت في المصاحف والتفاسير «سورة الغاشية». وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من «جامعه» لوقوع لفظ «الغاشية» في أولها.

وثبتت في السنة تسميتها «هل أتاك حديث الغاشية» ، ففي «الموطأ» أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير «بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١]. وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسئول عنه السورة الثانية ، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه».

وربما سميت «سورة هل أتاك» بدون كلمة (حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) ، وبذلك عنونها ابن عطية في «تفسيره» وهو اختصار.

وهي مكية بالاتفاق.

وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف.

وآياتها ست وعشرون.

أغراضها

اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من عقاب قوم مشوهة حالتهم ، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهّب أو المرغب.

والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات

٢٦٠