تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وتعدية (بَصِيراً) بالباء لأنه من بصر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة ، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإلصاق.

وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحقه بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح ، فجعل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدّم صاحبها في حياته الأولى.

وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء.

وعلق وصف (بصير) بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور ، والمراد : العلم بأحواله لا بذاته.

وتقديم المجرور على متعلّقه للاهتمام بهذا المجرور أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل.

[١٦ ـ ١٩] (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩))

الفاء لتفريع القسم وجوابه ، على التفصيل الذي في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الانشقاق : ٧] إلى هنا : فإنه اقتضى أن ثمة حسابا وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضا جمعا إجماليا لما يعترض في ذلك من الأهوال.

وتقدم أن : «لا أقسم» يراد منه أقسم ، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال والمخلوقات عند قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) في سورة التكوير [١٥].

ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسم عليه لأنّ الشفق والليل والقمر تخالط أحوالا بين الظلمة وظهور النور معها ، أو في خلالها ، وذلك مناسب لما في قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) من تفاوت الأحوال التي يختبط فيها الناس يوم القيامة أو في حياتهم الدنيا ، أو من ظهور أحوال خير من خلال أحوال شرّ أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي.

ولعل ذكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مثل حالة

٢٠١

الموت ، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين.

والشفق : اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس أثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض ، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقا.

و (ما وَسَقَ) (ما) فيه مصدرية ، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب.

والوسق : جمع الأشياء بعضها إلى بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] ، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقسم به قسما أدمجت فيه منّة. وقيل : ما وسقه الليل : النجوم ، لأنها تظهر في الليل ، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسق أشياء متفرقة. وهذا أنسب بعطف القمر عليه.

واتساق القمر : اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوسق بمعنى الجمع كما تقدم آنفا وذلك في ليلة البدر ، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه.

وأصل فعل اتّسق : او تسق قلبت الواو تاء فوقية طلبا لإدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد.

وجملة : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) نسج نظمها نسجا مجملا لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين ، فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها.

فلمعاني الركوب المجازية ، ولمعاني الطبق من حقيقي ومجازي ، متّسع لما تفيده الآية

من المعاني ، وذلك ما جعل لإيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإعجاز القرآني.

فأما فعل (لَتَرْكَبُنَ) فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في

٢٠٢

الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدة ، منها الغلب والمتابعة ، والسلوك ، والاقتحام ، والملازمة ، والرفعة.

وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال : ركب أمرا صعبا وارتكب خطأ.

وأما كلمة (طَبَقٍ) فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئا آخر في حجمه وقدره ، وظاهر كلام «الأساس» و «الصحاح» أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشّيء لمساويه فهو حقيقة في الغطاء فيكون من الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيّد كالخوان والكأس ، وظاهر «الكشاف» أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قيد الاعتلاء عارضا بغلبة الاستعمال ، يقال : طابق النعل النعل.

وأيّا ما كان فهو اسم على وزن فعل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عومل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق. وإما أن يكون أصله اسم الطبق وهو الغطاء لوحظ فيه التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة.

ويطلق اسما مفردا للغطاء الذي يغطى به ، ومنه قولهم في المثل : «وافق شنّ طبقة» أي غطاءه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساو لما يغطّيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طبق عليه.

ويطلق اسما مفردا أيضا على شيء متخذ من أدم أو عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها ، وكأنه سمي طبقا لأن أصله أن يستعمل غطاء الآنية فتوضع فيه أشياء.

ويطلق اسم جمع لطبقة : وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثله في المقدار إلا أنه مرتفع عليه. وهذا من المجاز يقال : أتانا طبق من الناس ، أي جماعة.

ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى (عَنْ) من مجاوزة وهي معنى حقيقي ، أو من مرادفة كلمة (بعد) وهو معنى مجازي.

وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقا بين المفعول به والحال ، وتزداد هذه المحامل إذا لم تقصر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد ، ومن اقتضاء فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معان كثيرة صالحة لتأويل الآية.

٢٠٣

فقيل المعنى : لتركبن حالا بعد حال ، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والأظهر أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين «طبق» في الموضعين للتعظيم والتهويل و (عَنْ) بمعنى (بعد) والبعدية اعتبارية ، وهي بعدية ارتقاء ، أي لتلاقنّ هولا أعظم من هول ، كقوله تعالى : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها.

وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء ، وحشر ، وسعادة أو شقاوة ، ونعيم أو جحيم ، كما كتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ابن كثير هو حديث منكر وفي إسناده ضعفاء ، أو حالا بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال.

وقيل : (لَتَرْكَبُنَ) منزلة بعد منزلة على أن طبقا اسم للمنزلة ، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتصيرنّ من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة ، أو إن قوما كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة ، فالتنوين فيهما للتنويع.

وقيل : من كان على صلاح دعاه إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه ، لأن كل شيء يجرّ إلى شكله ، أي فتكون الجملة اعتراضا بالموعظة وتكون (عَنْ) على هذا على حقيقتها للمجاوزة ، والتنوين للتعظيم.

ويحتمل أن يكون الركوب مجازا في السير بعلاقة الإطلاق ، أي لتحضرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة : ٣٠] وهذا تهديد لمنكريه ، وأن يكون الركوب مستعملا في المتابعة ، أي لتتّبعنّ. وحذف مفعول : «تركبن» بتقدير : ليتبعن بعضكم بعضا ، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) ويكون (طَبَقاً) مفعولا به وانتصاب (طَبَقاً) إما على الحال من ضمير (تركبن) وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية.

وموقع (عَنْ طَبَقٍ) موقع النعت ل (طَبَقاً).

ومعنى (عَنْ) إما المجاوزة ، وإما مرادفة معنى (بعد) وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة ، ولذلك لما ضمّن النابغة معنى قولهم : «ورثوا المجد كابرا عن كابر» غيّر حرف

٢٠٤

(عن) إلى كلمة (بعد) فقال :

لآل الجلاح كابرا بعد كابر

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر (لَتَرْكَبُنَ) بضم الموحدة على خطاب الناس. وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) [الانشقاق : ٦]. وحمل أيضا على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء ، أي تعتريها أحوال متعاقبة من الانشقاق والطيّ وكونها مرة كالدّهان ومرة كالمهل. وقيل : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عطية : قيل : هي عدة بالنّصر ، أي لتركبن أمر العرب قبيلا بعد قبيل وفتحا بعد فتح كما وجد بعد ذلك (أي بعد نزول الآية حين قوي جانب المسلمين) فيكون بشارة للمسلمين ، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) [الانشقاق : ١٤] وجملة : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠]. وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين.

[٢٠ ، ٢١] (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١))

ويجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال من أوتي كتابه وراء ظهره ، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب (من) الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول (من) وهو الجماعة. والمعنى : فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا.

ويجوز أن يكون مفرعا على قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦] ، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه. وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإنكار والتعجيب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإنسان في قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات.

ويجوز أن يكون تفريعا على قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق : ١٩] فيكون مخصوصا بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ. والضمير أيضا التفات.

ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القسم بها أنها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالإلهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية. والالتفات هو هو.

٢٠٥

وتركيب «ما لهم لا يؤمنون» يشتمل على (ما) الاستفهامية مخبر عنها بالجار والمجرور. والجملة بعد (لَهُمْ) حال من (ما) الاستفهامية.

وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكر أن يسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإنكار مجاز بعلاقة اللزوم ، واللام للاختصاص.

وجملة : (لا يُؤْمِنُونَ) في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسم لكان منصوبا كما في قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨] والحال هي مناط التعجيب ، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصّيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) في سورة البقرة [٢٤٦].

ومتعلق (يُؤْمِنُونَ) محذوف يدل عليه السّياق ، أي بالبعث والجزاء.

ويجوز تنزيل فعل (يُؤْمِنُونَ) منزلة اللازم ، أي لا يتصفون بالإيمان ، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين ، لظهور الدلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإشراك به.

والمعنى : التعجيب والإنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دعوا إليه وأنذروا به.

و (لا يَسْجُدُونَ) عطف على (لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن.

وقراءة القرآن عليهم قراءته تبليغ ودعوة. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفرادا وقد قال له عبد الله بن أبيّ بن سلول : «لا تغشنا به في مجالسنا» وقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس.

والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦] وقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ) [النحل : ٤٨] ، أي إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته ، ولا يؤمنون بحقيته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) [الانشقاق : ٢٢].

٢٠٦

وليس في هذه الآية ما يقتضي أنّ عند هذه الآية سجدة من سجود القرآن والأصحّ من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافا لابن وهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة. وقال الشافعي : هي سنة. وقال أبو حنيفة : واجبة.

والأرجح أن عزائم السجود المسنونة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصّحابة. وإن ثلاث آيات غير الإحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي : إمّا قد ترك سجودها ، وإمّا لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا : (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك ا ه.

قلت : وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإحدى عشرة وقد قال مالك في «الموطأ» بعد أن روى حديث أبي هريرة : «الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة بزيادة سجدة ليس في المفصل منها شيء» وقال أبو حنيفة والشافعي : سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق. وقال أحمد : هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحجّ ففيها سجدتان عنده.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢))

يجوز إنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم وإنكاره عليهم إلى الإخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن ، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإنكار.

فالإخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

ويجوز أن يكون (بَلِ) إضرابا إبطاليا ، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون ، أي يستمرون على التكذيب عنادا وكبرياء ويومئ إلى ذلك قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) [الانشقاق : ٢٣].

وهذان المعنيان نظير الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار [٩ ـ ١٠] (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ)

٢٠٧

وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده ، أي بل هم مستمرون على التكذيب عنادا وليس ذلك اعتقادا فكما نفي عنهم تجدّد الإيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أثبت لهم تجدد التكذيب.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا) إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : بل هم يكذبون ، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن به الصلة من ذمهم بالكفر للإيماء إلى علة الخبر ، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣))

اعتراض بين جملة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) [الانشقاق : ٢٢] ، وجملة : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الانشقاق : ٢٤] وهو كناية عن الإنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم.

ومعنى (بِما يُوعُونَ) بما يضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأنّ ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التّكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولا عند أتباعهم وبين مجاوريهم.

وأصل معنى الإيعاء : جعل الشيء وعاء الوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يجمع فيه ، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت فصار مشعرا بالتقتير ، ومنه قوله تعالى : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٨] وفي الحديث : «لا توعي فيوعي الله عليك» واستعمل في هذه الآية في الإخفاء لأنّ الإيعاء يستلزم الإخفاء فهو هنا مجاز مرسل.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤))

تفريع على جملة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) [الانشقاق : ٢٢].

وفعل «بشّرهم» مستعار للإنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير : الإخبار بما يسرّ وينفع. فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنار على علم. وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم :

قريناكم فعجّلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

٢٠٨

يجوز أن يكون الاستثناء متصلا : إمّا على أنه استثناء من الضمير في قوله : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق : ١٩] جريا على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد.

وإمّا على أنه استثناء من ضمير الجمع في «فبشرهم» [الانشقاق : ٢٤] والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [البقرة : ١٦٠] وقوله في سورة البروج [١٠] : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) الآية وفعل (آمَنُوا) على هذا الوجه مراد به المستقبل ، وعبّر عنه بالماضي للتنبيه على معنى : من تحقق إيمانهم ، وما بينهما من قوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الانشقاق : ٢٠] إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خصّ به الأهمّ ممن شملهم عموم (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق : ١٩].

وقيل : هو استثناء منقطع من ضمير (فَبَشِّرْهُمْ) فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم. فحرف (إِلَّا) بمنزلة (لكن) والاستدراك فيه لمجرد المضادة لا لدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك ، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه ، فهو تعريف تقريبي.

وجملة (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) استئناف بياني كأنّ سائلا سأل : كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم؟

والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبه مع كرامة بحيث لا يعرّض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف : ١٤] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببه ، والمعنى : أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المنّ ينغّص الإنعام قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] وقال النابغة :

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري : طعم الآلاء أحلى من المنّ. وهو أمرّ من الآلاء مع المنّ.

ويجوز أن يكون (غَيْرُ مَمْنُونٍ) بمعنى غير مقطوع يقال : مننت الحبل ، إذا قطعته ، قال تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٢ ، ٣٣].

٢٠٩

سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبد الله بن عباس عن قوله : (غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم قد عرفه أخو يشكر (يعني الحارث بن حلزة) حيث يقول :

فترى خلفهنّ من سرعة الرّج

ع منينا كأنه أهباء

المنين : الغبار لأنها تقطعه وراءها.

٢١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٥ ـ سورة البروج

روى أحمد عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج». وهذا ظاهر في أنها تسمى سورة «السماء ذات البروج» لأنه لم يحك لفظ القرآن ، إذ لم يذكر الواو.

وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات»، أي السماء ذات البروج والسماء والطارق فمجمعها جمع سماء وهذا يدل على أنّ اسم السورتين : سورة السماء ذات البروج ، سورة السماء والطارق.

وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير «سورة البروج».

وهي مكية باتفاق.

ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة «والشمس وضحاها» وقبل سورة «التين».

وآيها اثنتان وعشرون آية.

من أغراض هذه السورة

ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثل قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبيتا للمسلمين وتصبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثله ولم يصدهم ذلك عن دينهم.

وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى

٢١١

المسلمون النعيم الأبدي والنصر.

والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.

وضرب المثل بقوم فرعون وبثمود وكيف كانت عاقبة أمرهم ما كذّبوا الرسل ، فحصلت العبرة للمشركين في فتنهم المسلمين ، وفي تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنويه بشأن القرآن.

[١ ـ ٩] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

في افتتاح السورة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده وإشعار بأهمية المقسم عليه ، وهو مع ذلك يلفت ألباب السّامعين إلى الأمور المقسم بها ، لأن بعضها من دلائل عظيم القدرة الإلهية المقتضية تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطال الشريك ، وبعضها مذكّر بيوم البعث الموعود ، ورمز إلى تحقيق وقوعه ، إذ القسم لا يكون إلا بشيء ثابت الوقوع وبعضها بما فيه من الإبهام يوجّه أنفس السامعين إلى تطلب بيانه.

ومناسبة القسم لما أقسم عليه أن المقسم عليه تضمن العبرة بقصة أصحاب الأخدود ولما كانت الأخاديد خطوطا مجعولة في الأرض مستعرة بالنار أقسم على ما تضمنها بالسماء بقيد صفة من صفاتها التي يلوح فيها للناظرين في نجومها ما سماه العرب بروجا وهي تشبه دارات متلألئة بأنوار النجوم اللامعة الشبيهة بتلهب النار.

والقسم بالسماء بوصف ذات البروج يتضمن قسما بالأمرين معا لتلتفت أفكار المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات وهذه الأحوال من دلالة على عظيم القدرة وسعة العلم الإلهي إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها الناس في مواقيت الأشهر والفصل. كما قال تعالى في نحو هذا : (ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المائدة : ٩٧].

وأما مناسبة القسم باليوم الموعود فلأنه يوم القيامة باتفاق أهل التأويل لأن الله وعد بوقوعه قال تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [المعارج : ٤٤] مع ما في القسم به من

٢١٢

إدماج الإيماء إلى وعيد أصحاب القصة المقسم على مضمونها ، ووعيد أمثالهم المعرّض بهم.

ومناسبة القسم ب (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) على اختلاف تأويلاته ، ستذكر عند ذكر التأويلات وهي قريبة من مناسبة القسم باليوم الموعود ، ويقابله في المقسم عليه قوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)

والبروج : تطلق على علامات من قبة الجو يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية ، فالبرج : اسم منقول من اسم البرج بمعنى القصر لأن الشمس تنزله أو منقول من البرج بمعنى الحصن.

والبرج السماوي يتألف من مجموعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبدا ، وإنما سمّي برجا لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تحلّ فيه مدّة فهو كالبرج ، أي القصر ، أو الحصن ، ولما وجدوا كل مجموعة منها يخال منها شكل لو أحيط بإطار لخط مفروض لأشبه محيطها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات ، ميّزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريبا فقالوا : برج الثّور ، برج الدلو ، برج السنبلة مثلا.

وهذه البروج هي في التّحقيق : سموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهارا في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلا ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) في سورة الفرقان [٦١].

و (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) مراد بهما النوع. فالشاهد : الرائي ، أو المخبر بحق لإلزام منكره. والمشهود : المرئي أو المشهود عليه بحق. وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضر ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١].

ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أو الرسل والملائكة.

والمشهود : الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرّضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها : هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطّلعون

٢١٣

على ما يجري في المجمع ، وأن المشهود : هو الذي يطّلع الناس على ما يجري عليه.

ويجوز أن يكون الشاهد : الشاهدين من الملائكة ، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال. والمشهود : أصحاب الأعمال. وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حين يقول الكفار : ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين (شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) وبين ما في المقسم عليه من قوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) ، وقوله : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي حضور.

وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة». أي فالتقدير : ويوم شاهد ويوم مشهود. قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه ا ه.

ووصف «يوم» بأنه «شاهد» مجاز عقلي ، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف (شاهِدٍ) ووصف (مَشْهُودٍ) فهو من حمل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة.

وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل : تقديره : أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال : أو لتبعثن.

وقيل : الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج : هو (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج : ١٢] (أي والكلام الذي بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد التحقيق الذي أفاده القسم بتحقيق ذكر النظير). وقال الفراء : الجواب : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) (أي فيكون قتل خبرا لادعاء ولا شتما ولا يلزم ذكر (قد) في الجواب مع كون الجواب ماضيا لأن (قد) تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطا بالضرورة).

ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملا في لازم معناه من الإنذار للذين يفتنون المؤمنين بأن يحلّ بهم ما حلّ بفاتني أصحاب الأخدود ، وإلا فإن الخبر عن

٢١٤

أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب.

وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) إلى قوله : (وَما نَقَمُوا) يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود واضعيه لتعذيب المؤمنين.

وقيل : الجواب هو جملة : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضا وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج.

وقوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يقتلوا ففعل قتل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠]. وقولهم قاتله الله ، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله.

وقيل : هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] والقتل مستعار لأشد العذاب كما يقال : أهلكه الله ، أي أوقعه في أشد العناء ، وأيّا ما كان فجملة (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) على هذا معترضة بين القسم وما بعده.

ومن جعل (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) جواب القسم جعل الكلام خبرا وقدّره لقد قتل أصحاب الأخدود ، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين ألقوا فيه وعذبوا به ويكون لفظ أصحاب مستعملا في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [يوسف : ٣٩] وقد علمت آنفا تعيّن تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه.

ولفظ (أَصْحابُ) يعمّ الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لحفره وتسعيره ، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه.

وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية.

والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات ، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات ، وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل ، والترتيب ، والزيادة ، والتعيين وأصحّها ما رواه مسلم والترمذي عن صهيب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصّ هذه القصة على أصحابه. وليس فيما روي

٢١٥

تصريح بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساقها تفسيرا لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج.

وعن مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد بنجران ، وبالشام ، وبفارس ، أما الذي بالشام ف (انطانيوس) الرومي وأما الذي بفارس فهو (بختنصر) والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من «سيرة ابن إسحاق» على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن ، وأنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر. وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه‌السلام ويقرأ الإنجيل اسمه (فيميون) بفاء ، فتحتية ، فميم ، فتحتية (وضبط في الطبعة الأوروبية من «سيرة ابن إسحاق» ـ التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح ، بفتح فسكون فكسر فضم) قال السهيلي: ووقع للطبري بقاف عوض الفاء. وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة ، أصله من غسان من الشام ثم ساح فاستقر بنجران ، وكان منعزلا عن الناس مختفيا في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات. وكان كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية ، فكثر المتنصرون في نجران وبلغ ذلك الملك ذا نواس وكان يهوديا وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة ، فقتل الملك الغلام وقتل الراهب وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت ، وعرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار.

فكان أصحاب الأخدود ممن عذّب من أهل دين المسيحية في بلاد العرب. وقصص الأخاديد كثيرة في التاريخ ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ، ومنها : نار إبراهيم عليه‌السلام. وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بني تميم وتلقيبه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود. وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم مائة.

و (الْأُخْدُودِ) : بوزن أفعول وهو صيغة قليلة الدوران غير مقيسة ، ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه ، وقولهم أسلوب اسم لطريقة ، ولسطر النّخل ، وأقنوم اسم لأصل الشيء. وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة ، وأعجوبة ، وأطروحة وأضحوكة.

وقوله : (النَّارِ) بدل من الأخدود بدل اشتمال أو بعض من كل لأن المراد

٢١٦

بالأخدود الحفير بما فيه.

و (الْوَقُودِ) : بفتح الواو اسم ما توقد به النار من حطب ونفط ونحوه.

ومعنى (ذاتِ الْوَقُودِ) : أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقودا يلقى فيها كلّما خبت.

ويتعلق : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) بفعل قتل ، أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود.

وضمير (هُمْ) عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه ، أو أريد بهم المأمورون من الملك. فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها ، و (على) للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها. وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى :

وبات على النار الندى والمحلق

ومثله قوله تعالى : (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] ، أي عنده.

وعلى احتمال أن يكون المراد ب (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) المؤمنين المعذّبين فيه ، فالقعود حقيقة و (على) للاستعلاء الحقيقي ، أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيبا وتمثيلا ، أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيبا.

وأعيد ضمير (هُمْ) في قوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ) ليتعيّن أن يكون عائدا إلى بعض أصحاب الأخدود.

وضمير (يَفْعَلُونَ) يجوز أن يعود إلى (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، فمعنى كونهم شهودا على ما يفعلونه : أن بعضهم يشهد لبعض عند الملك بأن أحدا لم يفرط فيما وكّل به من تحريق المؤمنين ، فضمائر الجمع وصيغته موزعة.

ويجوز أن يعود الضمير إلى ما تقتضيه دلالة الاقتضاء من تقسيم أصحاب الأخدود إلى أمراء ومأمورين شأن الأعمال العظيمة ، فلمّا أخبر عن أصحاب الأخدود بأنهم قعود على النار علم أنهم الموكلون بمراقبة العمال. فعلم أن لهم أتباعا من سعّارين ووزعة فهم معاد ضمير يفعلون.

٢١٧

وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون شهود جمع شاهد بمعنى مخبر بحق ، وأن يكون بمعنى حاضر ومراقب لظهور أن أحدا لا يشهد على فعل نفسه.

وجملة (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) في موضع الحال من ضمير (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) كأنه قيل : قعود شاهدين على فعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدّمين في معاد ضمير (يَفْعَلُونَ) ، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيم جرمه إذ كانوا يشاهدون تعذيب المؤمنين لا يرأفون في ذلك ولا يشمئزون ، وبذلك فارق مضمون هذه الجملة مضمون جملة : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) باعتبار تعلق قوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)

وفي الإتيان بالموصول في قوله : (ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من الإبهام ما يفيد أن لموقدي النار من الوزعة والعملة ومن يباشرون إلقاء المؤمنين فيها غلظة وقسوة في تعذيب المؤمنين وإهانتهم والتمثيل بهم ، وذلك زائد على الإحراق.

وجملة (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها.

والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم من شأنه أن ينقم من فاعله فإن كان الذين خددوا الأخدود يهودا كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيئا ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم. ومحل التعجيب أن الملك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذّبون قوما آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٥٩] وإن كان الذين خدّدوا الأخدود مشركين (فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس) فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأنّ شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركا.

وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي : (الْعَزِيزِ. الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يمدحوا به لأنهم آمنوا بربّ حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذ ما عداه لأنه ينصر مواليه ويثيبهم ولأنه يملكهم ، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا

٢١٨

يملك منهم شيئا فيقوى التعجيب منهم بهذا.

وجملة : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) تذييل بوعيد للذين اتخذوا الأخدود وبوعد الذين عذبوا في جنب الله ، ووعيد لأمثال أولئك من كفار قريش وغيرهم من كل من تصدّوا لأذى المؤمنين ووعد المسلمين الذين عذبهم المشركون مثل بلال وعمار وصهيب وسميّة.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠))

إن كان هذا جوابا للقسم على قول بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاما معترضا يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعّد به نظيرهم ، وإن كان الجواب في قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ٤] كان قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ) بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسم عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش.

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعة من فتن المؤمنين.

والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات : هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة ، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر (إِنَ) من قوله : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) كما سيأتي.

وقد عدّ من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأس الفتنة ومسعرها ، وأمية بن خلف وصفوان بن أمية ، والأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، وأمّ أنمار ، ورجل من بني تيم.

والمفتونون : عد منهم بلال بن رباح كان عبدا لأمية بن خلف فكان يعذبه ، وأبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية ، وخبّاب بن الأرتّ كان عبدا لأمّ أنمار ، وعمّار بن ياسر ، وأبوه ياسر ، وأخوه عبد الله كانوا عبيدا لأبي حذيفة بن المغيرة فوكل بهم أبا جهل ، وعامر بن فهيرة كان عبدا لرجل من بني تيم.

والمؤمنات المفتونات منهنّ : حمامة أمّ بلال أمة أمة بن خلف. وزنّيرة ، وأمّ عنيس

٢١٩

كانت أمة للأسود بن عبد يغوث والنهدية. وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة ، ولطيفة ، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها ، وسمية أمّ عمار بن ياسر كانت لعمّ أبي جهل.

وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وعليّ بن أمية بن خلف ، والعاصي بن المنبه بن الحجاج.

وعطف (الْمُؤْمِناتِ) للتنويه بشأنهن لئلا يظنّ أن هذه المزية خاصة بالرجال ، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساء والشأن أن لا يتعرض لهن بالغلظة.

وجملة : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) معترضة. و (ثُمَ) فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين.

وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلموا من عذاب جهنم.

والفتن : المعاملة بالشدة والإيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصا إلا بعناء أو ضرّ أخف أو حيلة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١].

ودخول الفاء في خبر (إنّ) من قوله : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) لأنّ اسم (إن) وقع موصولا والموصول يضمّن معنى الشرط في الاستعمال كثيرا : فتقدير : إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ، لأن عطف قوله : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط.

وجملة : (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) عطف في معنى التوكيد اللفظي لجملة : لهم (عَذابُ جَهَنَّمَ) واقترانها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يوجد أعظم من الوعيد الأول. مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدلول وإن كان مآل المدلولين واحدا. وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد.

على أن الزج بهم في عذاب جهنم قبل أن يذوقوا حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين.

٢٢٠