تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وعن الفراء أن (عِلِّيِّينَ) لا واحد له. يريد : أن عليين ليس جمع (عليّ) ولكنّه علم على مكان الأبرار في الجنّة إذ لم يسمع عن العرب (علّيّ) وإنّما قالوا : علّيّة للغرفة ، وعليون علم بالغلبة لمحلة الأبرار.

واشتق هذا الاسم من العلوّ ، وهو علوّ اعتباري ، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل ، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم ، فاستكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماما لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير.

والقول في (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) كالقول في (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ* كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٨ ، ٩] المتقدم.

و (يَشْهَدُهُ) يطلعون عليه ، أي يعلن به عند المقربين ، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يعلن بأسماء النابغين في التعليم ، وأسماء الأبطال في الكتائب.

[٢٢ ـ ٢٨] (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] إلى آخرها. ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحا وتوصيفا وفصلا ، وهي مبيّنة لجملة : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم ، وهو المحكي بقوله : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] فيكون قول ذلك لهم ، تحسيرا وتنديما على تفريطهم في الإيمان.

وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قرر للجملة من الخصوصيات.

وذكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم. خلافا لما جاء في جملة : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] تنويها بوصف الأبرار.

وقوله : (عَلَى الْأَرائِكِ) خبر ثان عن الأبرار ، أي هم على الأرائك ، أي متكئون عليها.

١٨١

والأرائك : جمع أريكة بوزن سفينة ، والأريكة : اسم لمجموع سرير ووسادته وحجلة منصوبة عليهما ، فلا يقال : أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة ، وقيل : إنها حبشيّة وتقدم عند قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) في سورة الإنسان [١٣].

و (يَنْظُرُونَ) في موضع الحال من الأبرار. وحذف مفعول (يَنْظُرُونَ) إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] والتقدير : ينظرون إلى ربهم ، وإما لقصد التعميم ، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقام الوعد والتكريم.

وقرأ الجمهور : (تَعْرِفُ) بصيغة الخطاب ونصب (نَضْرَةَ) وهو خطاب لغير معين. أي تعرف يا من يراهم. وقرأه أبو جعفر ويعقوب «تعرف» بصيغة البناء للمجهول ورفع «نضرة».

ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله. وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به.

والخطاب بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة ، وهذه الجملة خبر ثالث عن (الْأَبْرارَ) أو حال ثانية له.

والنضرة : البهجة والحسن ، وإضافة (نَضْرَةَ) إلى (النَّعِيمِ) من إضافة المسبب إلى السبب ، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ تبدو على وجهه ملامح السرور.

وجملة (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه. وعبر ب (يُسْقَوْنَ) دون : يشربون ، للدلالة على أنهم مخدومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة. وذلك من تمام الترفه ولذة الراحة.

والرحيق : اسم للخمر الصافية الطيبة.

والمختوم : المسدود إناؤه ، أي باطيته ، وهو اسم مفعول من ختمه إذا شدّ بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه ، تطبع فيه وهو رطب فإذا يبس تعذر فسخها ، ويسمى ما تطبع به خاتما بفتح الفوقية ، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد

١٨٢

الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم ، قال جرير :

إن الخليفة أن الله سربله

سربال ملك به تزجى الخواتيم

والختام بوزن كتاب : اسم للطين الذي يختم به كانوا يجعلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادة صفائها وحفظ رائحتها. وجعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضا عن طين الختم.

والمسك مادة حيوانية ذات عرف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة ، وهذه المادة تتكون في غدّة مملوءة دما تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها. وهي جلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون : فأرة المسك.

وفسر (خِتامُهُ مِسْكٌ) بأن المعنى ختام شربه ، أي آخر شربه مسك ، أي طعم المسك بمعنى نكهته ، وأنشد ابن عطية قول ابن مقبل :

مما يعتّق في الحانوت قاطفها

بالفلفل الجون والرّمان مختوم

أي ينتهي بلذع الفلفل وطعم الرمان.

وجملة : (خِتامُهُ مِسْكٌ) نعت ل (رَحِيقٍ) أو بدل مفصل من مجمل ، أو استئناف بياني ناشئ عن وصف الرحيق بأنه (مَخْتُومٍ) أن يسأل سائل عن ختامها أي شيء هو من أصناف الختاملأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد.

وجملة : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) معترضة بين جملة (خِتامُهُ مِسْكٌ) وجملة (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ).

واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله : (وَفِي ذلِكَ) هو مبدأ الجملة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحيق فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال. ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن البذخ ويجلبونه من أقاضي البلاد وينفقون فيه الأموال. ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها. والفاء إما أن تكون فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون ، أو التقدير : وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين ، والمصرح به تنافس جميع

١٨٣

المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص ، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيرا ما يعامل معاملة الشرط ، كما روي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما تكونوا يولّ عليكم» بجزم «تكونوا» و «يولّ» ، فالتقدير : إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون. وإما أن تكون الفاء تفريعا على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير ، والتقدير : وتنافسوا صيغة أمر في ذلك ، فليتنافس المتنافسون فيه ، ويكون الكلام مؤذنا بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين ، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور.

وجملة : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) معترضة بين جملة : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ) إلخ وجملة : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ).

والتنافس : تفاعل من نفس عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلا له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس ، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله. وقد قيل : إن الأصل في هذه المادة هو النفس. فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد.

ولام الأمر في (فَلْيَتَنافَسِ) مستعملة في التحريض والحث.

و (مِزاجُهُ) : ما يمزج به. وأصله مصدر مازج بمعنى مزج ، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سورتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغتّه غتّا فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تشرب ممزوجة بالماء. قال كعب بن زهير :

شجّت بذي شبم من ماء محقبة

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

وقال حسان :

يسقون من ورد البريض عليهم

بردى يصفّق بالرحيق السّلسل

وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم. كقول لبيد :

أغلي السّباء بكل أدكن عاتق

أو جونة قدحت وفض ختامها

و (تَسْنِيمٍ) علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنّم الشيء إذا جعله كهيئة السّنام. ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سنام. وهذا العلم عربي المادة والصّيغة ولكنه لم يكن معروفا عند العرب فهو مما أخبر به القرآن ، ولذا قال

١٨٤

ابن عباس لمّا سئل عنه : «هذا مما قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] ، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به. ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) ، أي حال كون التسنيم عينا يشرب منها المقرّبون.

و (الْمُقَرَّبُونَ) : هم الأبرار ، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون.

وباء (يَشْرَبُ بِهَا) إما سببية ، وعدي فعل (يَشْرَبُ) إلى ضمير العين بتضمين (يَشْرَبُ) معنى : يمزج ، لقوله : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي يمزجون الرحيق بالتسنيم. وإمّا باء الملابسة وفعل (يَشْرَبُ) معدّى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق ، أي يشربون الرحيق ملابسين للعين ، أي محيطين بها وجالسين حولها. أو الباء بمعنى (من) التبعيضية وقد عده الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء ، وينسب إلى الكوفيين. واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببيّن فإنّ الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون (من) ، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة ، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب :

شربن بماء البحر ثم ترفّعت

متى لجج خضر لهن نئيج

[٢٩ ـ ٣٥] (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥))

هذه من جملة القول الذي يقال يوم القيامة للفجار المحكيّ بقوله تعالى : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] لأنه مرتبط بقوله في آخره : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) إذ يتعين أن يكون قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) حكاية كلام يصدر في يوم القيامة ، إذ تعريف «اليوم» باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقّت به الفعل المتعلق هو به ، ومعلوم أن اليوم الذي يضحك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله : (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) ظاهر في أنه حكاية كون مضى ، وكذلك معطوفاته من قوله : «وإذا مرّوا ، وإذا انقلبوا ، وإذا رأوهم» فدل السياق على أن هذا الكلام

١٨٥

حكاية قول ينادي به يوم القيامة من حضرة القدس على رءوس الأشهاد.

فإذا جريت على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جمل (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] الآيات ، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] إلى هنا فهذه متصلة بها. والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم : إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون ، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضا ، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٦] واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة : (إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٦] باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) فالتعبير بالذين أجرموا إذن جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات.

وقد اتّضح بما قرّرناه تناسب نظم هذه الآيات من قوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] إلى هنا مزيد اتضاح ، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه ، سوى أن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال : «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول : (فَالْيَوْمَ) على حكاية ما يقال ا ه.

و (إِذا) في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) [التوبة : ٩٢] وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ) [النساء : ٨٣].

والمقصود من ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حدة ، وذكر حال المسلمين على حدة ، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معا.

وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) إلى آخر السورة.

والافتتاح ب (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإشعار بأنه خبر مهم. والمراد ب (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم.

١٨٦

وهم أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وعقبة بن أبي معيط ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والعاص بن هشام ، والنضر بن الحارث ، كانوا يضحكون من عمار بن ياسر ، وخباب بن الأرتّ ، وبلال ، وصهيب ، ويستهزءون بهم.

وعبر بالموصول وهذه الصلة : (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام ، وليظهر موقع قوله : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين : ٣٦].

والإجرام : ارتكاب الجرم وهو الإثم العظيم ، وأعظم بالإجرام الكفر ويؤذن تركيب «كانوا يضحكون» بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي ، وصوغ (يَضْحَكُونَ) بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم.

وتعدية فعل (يَضْحَكُونَ) إلى الباعث على الضحك بحرف (مِنَ) هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن (من) ابتدائية تشبّه الحالة التي تبعث على الضحك بمكان يصدر عنه الضحك ، ومثله أفعال : سخر منه ، وعجب منه.

ومعنى يضحكون منهم : يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزءون بالمؤمنين ومعظمهم ضعاف أهل مكة فيضحكون منهم ، والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله : (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ).

واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم تلك الحالة نحو : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) [النمل : ١٩] وإذا كان مجموع هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو : (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [المؤمنون : ١١٠]. وقول عبد يغوث الحارث :

وتضحك منّي شيخة عبشميّة

كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا

والتغامز : تفاعل من الغمز ويطلق على جسّ الشيء باليد جسّا مكينا ، ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالة كعوبها. وفي حديث عائشة : «لقد رأيتني ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجليّ فقبضتهما».

ويطلق الغمز على تحريك الطّرف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه.

وضمير (مَرُّوا) يجوز أن يعود إلى (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فيكون ضمير (بِهِمْ) عائدا إلى

١٨٧

(الَّذِينَ آمَنُوا) ، ويجوز العكس ، وأما ضمير (يَتَغامَزُونَ) فمتمحّض للعود إلى (الَّذِينَ أَجْرَمُوا)

والمعنى : وإذا مرّ المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أو وإذا مرّ الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم ، وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنين عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيرا بمكة حين نزول هذه السورة ، فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يقرّعون به يوم القيامة.

والانقلاب : الرجوع إلى الموضع الذي جيء منه. يقال : انقلب المسافر إلى أهله وفي دعاء السفر : «أعوذ بك من كآبة المنقلب». وأصله مستعار من قلب الثوب ، إذا صرفه من وجه إلى وجه آخر ، يقال : قلب الشيء ، إذا أرجعه.

وأهل الرجل : زوجه وأبناؤه ، وذكر الأهل هنا لأنهم ينبسط إليهم بالحديث فلذلك قيل : (إِلى أَهْلِهِمُ) دون : إلى بيوتهم.

والمعنى : وإذا رجع الذين أجرموا إلى بيوتهم وخلصوا مع أهلهم تحدثوا أحاديث الفكاهة معهم بذكر المؤمنين وذمهم.

وتكرير فعل : (انْقَلَبُوا) بقوله : (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) من النسج الجزل في الكلام كان يكفي أن يقول : وإذا انقلبوا إلى أهلهم فكهوا ، أو إذا انقلبوا إلى أهلهم كانوا فاكهين. وذلك لما في إعادة الفعل من زيادة تقرير معناه في ذهن السامع لأنه مما ينبغي الاعتناء به ، ولزيادة تقرير ما في الفعل من إفادة التجدد حتى يكون فيه استحضار الحالة. قال ابن جنّي في كتاب «التنبيه على إعراب الحماسة» عند قول الأحوص :

فإذا تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول ، أي فلا يستقيم جعل الثاني جوابا للأول. وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة مثله قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] ولو قال : هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا لأنه كقولك الذي ضربته ضربته والتي أكرمتها أكرمتها ولكن لما اتصل

١٨٨

ب (أَغْوَيْناهُمْ) الثانية قوله : (كَما غَوَيْنا) أفاد الكلام كقولك الذي ضربته ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك ا ه.

وقد مضى ذلك في سورة القصص وفي سورة الفرقان.

وفاكهين اسم فاعل فاكه ، وهو من فكه من باب فرح إذا مزح وتحدّث فأضحك ، والمعنى : فاكهين بالتحدث عن المؤمنين ، فحذف متعلق فاكهين للعلم بأنه من قبيل متعلقات الأفعال المذكورة معه.

وقرأ الجمهور : فاكهين بصيغة الفاعل. وقرأه حفص عن عاصم وأبو جعفر «فكهين» بدون ألف بعد الفاء على أنه جمع فكه ، وهو صفة مشبهة وهما بمعنى واحد مثل فارح وفرح. وقال الفراء : هما لغتان.

وجملة : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) حكت ما يقوله الذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم أي يجمعون بين الأذى بالإشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلانا به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإسلام إلى الكفر ، أم كان قولا يقوله بعضهم لبعض إذا رأوا المؤمنين كما يفكهون بالحديث عن المؤمنين في خلواتهم ، وبذلك أيضا فارق مضمون هذه الجملة مضمون الجمل التي قبلها مع ما في هذه الجملة من عموم أحوال رؤيتهم سواء كانت في حال المرور بهم أو مشاهدة في مقرهم.

ومرادهم بالضلال : فساد الرأي. لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي ، أي هؤلاء سيئوا الرأي إذ اتبعوا الإسلام وانسلخوا عن قومهم ، وفرطوا في نعيم الحياة طمعا في

نعيم بعد الموت وأقبلوا على الصلاة والتخلّق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاما وعنتا لأنهم بمعزل عن مقدرة قدر الكمال النفساني وما همهم إلا التلذذ الجثماني.

وكلمة (إِذا) في كل جملة من الجمل الثلاث ظرف متعلّق بالفعل الموالي له في كل جملة.

ولم يعرج أحد من المفسّرين على بيان مفاد جملة : (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) مع ما قبلها. وقال المهايمي في «تبصرة الرحمن» : «وإذا رأوهم يؤثرون الكمالات الحقيقية على الحسية» فقدّر مفعولا محذوفا لفعل (رَأَوْهُمْ) لإبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجمل التي قبلها وقد علمت عدم الاحتياج إليه ولقد أحسن

١٨٩

في التنبيه عليه.

وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد تحقيق الخبر.

وجملة : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) في موضع الحال أي يلمزوهم بالضلال في حال أنهم لم يرسلهم مرسل ليكونوا موكلين بأعمالهم فدل على أن حالهم كحال المرسل ولذلك نفي أن يكونوا أرسلوا حافظين عليهم فإن شدة الحرص على أن يقولوا : إن هؤلاء لضالون ، كلما رأوهم يشبه حال المرسل ليتتبع أحوال أحد ومن شأن الرسول الحرص على التبليغ.

والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين ، أي لم يكونوا مقيّضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم.

والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين ، أي لم يكونوا مقيّضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم.

فمعنى الحفظ هنا الرّقابة ولذلك عدّي بحرف (على) ليتسلط النفي على الإرسال والحفظ ومعنى الاستعلاء المجازي الذي أفاده حرف (على) فينتفي حالهم الممثّل.

وتقديم المجرور على متعلّقه للاهتمام بمفاد حرف الاستعلاء وبمجروره مع الرعاية على الفاصلة.

وأفادت فاء السّببيّة في قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) ، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سببا في جزائهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقا.

وتقديم «اليوم» على (يَضْحَكُونَ) للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) في اتصال نظمه بما قبله غموض. وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية. ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفا منصوبا يقتضي أن اليوم مراد به يوم حاضر في وقت نزول الآية نظير وقت كلام المتكلم إذا قال : اليوم يكون كذا ، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر ، فليس ضحك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجزاء ، ولا يستقيم تفسير قوله : (فَالْيَوْمَ) بمعنى : فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار ، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون. وابن عطية استشعر إشكالها فقال : «ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول : (فَالْيَوْمَ) على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون ا ه.

١٩٠

وهو انقداح زناد يحتاج في تنوّره إلى أعواد.

فإمّا أن نجعل ما قبله متصلا بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] إلى هنا كما تقدم.

وإمّا أن يجعل قوله : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) والتقدير : يقال لهم اليوم الذين آمنوا يضحكون منكم.

وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) دون أن يقال : فاليوم يضحك الذين آمنوا ، لإفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله : (كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليوم المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس.

وتقديم (مِنَ الْكُفَّارِ) على متعلّقه وهو (يَضْحَكُونَ) للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلا لإساءتهم عند سماع هذا التقريع.

وقوله : (مِنَ الْكُفَّارِ) إظهار في مقام الإضمار ، عدل عن أن يقال : منهم يضحكون ، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار.

ومفعول (يَنْظُرُونَ) محذوف دل عليه قوله : (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) تقديره : ينظرونهم ، أي يشاهدون المشركين في العذاب والإهانة.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

فذلكة لما حكي من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة ، فالمعنى فقد جوزي الكفار بما كانوا يفعلون وهذا من تمام النداء الذي يعلق به يوم القيامة.

والاستفهام ب (هَلْ) تقريري وتعجيب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور.

والاستفهام من قبيل الطلب فهو من أنواع الخطاب.

والخطاب بهذا الاستفهام موجه إلى غير معيّن بل إلى كل من يسمع ذلك النداء يوم القيامة. وهذا من مقول القول المحذوف.

١٩١

و (ثُوِّبَ) أعطي الثواب ، يقال : ثوّبه كما يقال : أثابه ، إذا أعطاه ثوابا.

والثواب : هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في «الصحاح»، وهو ظاهر «الأساس» ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية. وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال : إنه يستعمل في جزاء الخير والشر. أراد أنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله : (الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) كقول عمرو بن كلثوم :

نزلتم منزل الأضياف منا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

قريناكم فعجّلنا قراكم

قبيل الصّبح مرداة طحونا

ومن قبيل قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الانشقاق : ٢٤].

و (ما كانُوا يَفْعَلُونَ) موصول وهو مفعول ثان لفعل (ثُوِّبَ) إذ هو من باب أعطى. وليس الجزاء هو ما كانوا يفعلونه بل عبر عنه بهذه الصلة لمعادلته شدّة جرمهم على طريقة التشبيه البليغ ، أو على حذف مضاف تقديره : مثل ، ويجوز أن يكون على نزع الخافض وهو باء السببية ، أي بما كانوا يفعلون.

وفي هذه الجملة محسن براعة المقطع لأنها جامع لما اشتملت عليه السورة.

١٩٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٤ ـ سورة الانشقاق

سميت في زمن الصحابة : «سورة إذا السماء انشقت». ففي «الموطأ» عن أبي سلمة : «أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها». فضمير «فيها» عائد إلى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] بتأويل السورة ، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في «الإتقان».

وسماها المفسرون وكتّاب المصاحف «سورة الانشقاق» باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة «سورة التطفيف» و «سورة انشقت» اختصارا.

وذكرها الجعبري في «نظمه» في تعداد المكي والمدني بلفظ «كدح» فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.

ولم يذكرها في «الإتقان» مع السور ذوات أكثر من اسم.

وهي مكية بالاتفاق.

وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.

وعدّ آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدّها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.

أغراضها

ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء.

١٩٣

[١ ـ ٦] (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦))

قدم الظرف (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) على عامله وهو (كادِحٌ) للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار : يا أيها الإنسان إنك كادح إذا السماء انشقت إلخ.

ولكن لما تعلق (إِذَا) بجزء من جملة (إِنَّكَ كادِحٌ) وكانت (إِذَا) ظرفا متضمنا معنى الشرط صار : يا أيها الإنسان إنك كادح جوابا لشرط (إِذَا) ولذلك يقولون (إِذَا) ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه ، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوبا بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار.

و (إِذَا) ظرف للزمان المستقبل ، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه (إِذَا) مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضيّ للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل (إِذَا) القطع بوقوع الشرط.

وانشقت مطاوع شقّها ، أي حين يشقّ السماء شاق فتنشق ، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها)

والانشقاق هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] وهو انشقاق يلوح للناس في جوّ السماء من جرّاء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم.

وقدّم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) دون أن يقال : إذا انشقت السماء لإفادة تقوّي الحكم وهو التعليق الشرطي ، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع ، زيادة على ما يقتضيه (إِذَا) في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف (إن).

(وَأَذِنَتْ) ، أي استمعت ، وفعل أذن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأذن بضم الهمزة آلة السمع في الإنسان يقال أذن له كما يقال : استمع له ، أي أصغى إليه أذنه.

وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق. وليس هو باستعارة

١٩٤

تبعية (١) ولا تمثيلية (٢).

والتعبير ب «ربها» دون غير ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه ، لما يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير.

وجملة : (وَحُقَّتْ) معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليه.

والمعنى : وهي محقوقة بأن تأذن لربّها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتدّ خلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها ، فهو الذي إذا شاء أزالها.

فمتعلّق (حُقَّتْ) محذوف دل عليه فعل : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) ، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال : حقّ فلان بكذا ، أي توجه عليه حقّ. ولما كان فاعل توجيه الحق غير واضح تعيينه غالبا ، كان فهل حقّ بكذا ، مبنيا للمجهول في الاستعمال ، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول ، فيقال : حقيق عليه كذا ، كقوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [الأعراف : ١٠٥] وهو محقوق بكذا ، قال الأعشى :

لمحقوقه أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أن المعان موفق

والقول في جملة : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) مثل القول في جملة (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي.

ومدّ الأرض : بسطها ، وظاهر هذا أنها يزال ما عليها من جبال كما يمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧].

ومن معاني المدّ أن يكون ناشئا عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلازل وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها.

ومن معاني المدّ أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير. وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما يحيط بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوال هذا العالم.

__________________

(١) رد على الخفاجي.

(٢) رد على الطيبي وسعدي.

١٩٥

وقوله : (وَأَلْقَتْ ما فِيها) صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مدّ الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثل البراكين واندفاع الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان.

(وَتَخَلَّتْ) أي أخرجت ما في باطنها فلما يبق منه شيء لأن فعل تخلّى يدل على قوة الخلوّ عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإكرام.

والمعنى : إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ٢].

وتقدم الكلام على نظير قوله : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) آنفا.

وجملة : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ) إلى آخره جواب (إِذَا) باعتبار ما فرع عليه من قوله : (فَمُلاقِيهِ) ونسب هذا إلى المبرد ، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه.

فالمعنى : إذا السماء انشقت وإذا الأرض مدّت لاقيت ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله : (إِنَّكَ كادِحٌ) إدماجا بمنزلة الاعتراض أمام المقصود.

وجوز المبرد أن يكون جواب (إِذَا) محذوفا دل عليه قوله : (فَمُلاقِيهِ) والتقدير : إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيت أيها الإنسان ربك.

وجوز الفرّاء أن يكون جواب (إِذَا) قوله (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) وإن الواو زائدة في الجواب. ورده ابن الأنباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت (إِذا) بعد (حتى) كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] أو بعد (لما) كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) [الصافات : ١٠٣ ، ١٠٤] الآية.

وقيل : الجواب : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الانشقاق : ٧] ، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس.

والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله : (الْإِنْسانُ) لتعريف الجنس وهو للاستغراق

١٩٦

كما دل عليه التفصيل في قوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) إلى قوله : (كانَ بِهِ بَصِيراً) [الانشقاق : ١٥].

والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث. فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإنذار ، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير. وقيل : أريد إنسان معين فقيل: هو الأسود بن عبد الأسد (بالسين المهملة في «الاستيعاب» و «الإصابة» ووقع في «الكشاف» بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في «جامع الأصول» بالمهملة) ، وقيل : أبيّ بن خلف ، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء.

والكدح : يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيّها الحقيقة ، وقد أهمل هذه المادة في «الأساس» فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي. وظاهر كلام الراغب أن حقيقته : إتعاب النفس في العمل والكد. وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف (إلى) تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله فيجوز أن يضمن (كادِحٌ) معنى ساع لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملا لغد وهكذا ، وذلك يتقضّى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله ، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جعل كدحه إلى ربه. فكأنه قيل : إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك ، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف (إنّ) ، ويجوز أن يضمن (كادِحٌ) معنى ماش فيكون المجرور ظرفا لغوا.

و (كَدْحاً) منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد (كادِحٌ) المضمن معنى ساع إلى ربك ، أي ساع إليه لا محالة ولا مفر.

وضمير النصب في «ملاقيه» عائد إلى الرب ، أي فملاق ربك ، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن.

[٧ ـ ١٥] (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

هذا تفصيل الإجمال الذي في قوله : (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦] أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله ، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دلّ عليه قوله : (إِنَّهُ

١٩٧

ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) ، وبين منتهاهما مراتب ، وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين.

والكتاب : صحيفة الأعمال ، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعارا للسعادة لما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سموا البركة والسعادة يمنا ، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) في سورة الصافات [٢٨] ، وقوله : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٢٧]. وقوله : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) في سورة الواقعة [٤١] ، وقوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) في سورة الواقعة [٨ ، ٩].

والباء في قوله : (بِيَمِينِهِ) للملابسة أو المصاحبة ، أو هي بمعنى (في) ، وهي متعلقة ب (أُوتِيَ).

وحرف (سوف) أصله لحصول الفعل في المستقبل ، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع ، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) في سورة يوسف [٩٨] ، وهو هنا مفيد للتحقق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرار وهو ينقلب إلى أهله مسرورا وهو المقصود من هذا الوعد. وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) في سورة النساء [٣٠].

والحساب اليسير : هو عرض أعماله عليه دون مناقشة فلا يطول زمنه فيعجّل به إلى الجنة ، وذلك إذا كانت أعماله صالحة ، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة.

و (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) هو الكافر. والمعنى : إنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب (مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وذلك أيضا في سورة الحاقة قوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) ، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيرا له ويناول له من وراء ظهره إظهارا للغضب عليه بحيث لا ينظر مناوله كتابه إلى وجهه.

١٩٨

وظرف (وَراءَ ظَهْرِهِ) في موضع الحال من (كِتابَهُ).

و (يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) أي يرجع. والانقلاب : الرجوع إلى المكان الذي جيء منه ، وقد تقدم قريبا في سورة المطففين.

والأهل : العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة.

وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسب حسابا يسيرا في المسرّة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا ، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالما رابحا لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة ، فذلك وجه الشبه بين الهيئتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية.

وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب ، ولأنه قد لا يكون له أهل. وهو أيضا كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان.

والمراد بالدعاء في قوله : (يَدْعُوا ثُبُوراً) النداء ، أي ينادي الثبور بأن يقول : يا ثبوري ، أو يا ثبورا ، كما يقال : يا ويلي ويا ويلتنا.

والثبور : الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس.

والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء.

(وَيَصْلى) قرأه نافع وابن كثير وابن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاه إذا أحرقه. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف (وَيَصْلى) بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صلي اللازم إذا مسته النار كقوله : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) [الانفطار : ١٥].

وانتصب (سَعِيراً) على نزع الخافض بتقدير يصلّى بسعير ، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوبا بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية ، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) في سورة النساء [١٠] فانظره.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت

١٩٩

من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله : (أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] وقوله : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣١] فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دعوا بالثبور.

وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان : «إنّك عليه لجريء» (أي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وهذه الجملة معترضة.

وموقع جملة : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) موقع التعليل لمضمون جملة : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) إلى آخرها.

وحرف (إنّ) فيها مغن عن فاء التعليل ، فالمعنى : يصلى سعيرا لأنه ظن أن لن يحور ، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت ، أي لأنه يكذّب بالبعث ، يقال : حار يحور ، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه ، ثم أطلق على الرجوع إلى حالة كان فيها بعد أن فارقها ، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع مثل إطلاق الرجوع عليه في قوله : (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) [يونس : ٢٣] وقوله : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [الطارق : ٨] وسمي يوم البعث يوم المعاد.

وجيء بحرف (لَنْ) الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه.

وحرف (بَلى) يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ويقع بعد غير الاستفهام أيضا نحو قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) [التغابن : ٧].

وموقع (بَلى) الاستئناف كأحرف الجواب.

وجملة : (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) مبينة للإبطال الذي أفاده حرف (بَلى) على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث.

والمعنى : إن ربه عليم بمآله. وتأكيد ذلك بحرف (إِنَ) لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى : أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢١٦].

٢٠٠