تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

أحد من المخالطين لوظيفه أن يموّه عليه شيئا ، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن ، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية ، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلا ، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصا على حفظ مصالح الأمة ، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإتقان أعمالها وأشدّ اضطلاعا بممارستها.

[١٣ ـ ١٦] (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦))

فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جواب عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ* وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ٩ ، ١٠] الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو ، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإحصاء الأعمال ما هي ، فبين ذلك بقوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) الآية.

وأيضا تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٢] وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها.

وجيء بالكلام مؤكدا ب (إِنَ) ولا الابتداء ليساوي البيان مبيّنه في التحقيق ودفع الإنكار.

وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته.

و (الْأَبْرارَ) : جمع برّ بفتح الباء وهو التقيّ ، وهو فعل بمعنى فاعل مشتق من برّ يبر ، ولفعل برّ اسم مصدر هو برّ بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسيّ بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبرّ وهو التقيّ. وإنما سمي التقيّ برّا لأنه برّ ربه ، أي صدقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتقوى.

و (الْفُجَّارَ) : جمع فاجر ، وصيغة فعّال تطّرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام.

١٦١

والفاجر : المتصف بالفجور وهو ضد البرور.

والمراد ب (الْفُجَّارَ) هنا : المشركون ، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود ، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر. فأما عصاة المؤمنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإيمان.

والنعيم : اسم ما ينعم به الإنسان.

والظرفية من قوله : «في نعيم» مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفا حقيقة ، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه.

وأما ظرفية قوله : (لَفِي جَحِيمٍ) فهي حقيقية.

والجحيم صار علما بالغلبة على جهنم ، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات.

وجملة (يَصْلَوْنَها) صفة ل (جَحِيمٍ) ، أو حال من (الْفُجَّارَ) ، أو حال من الجحيم ، وصلي النار : مسّ حرّها للجسم ، يقال : صلي النار ، إذا أحس بحرّها ، وحقيقته: الإحساس بحرّ النار المؤلم ، فإذا أريد التدفّي قيل : اصطلى.

و (يَوْمَ الدِّينِ) ظرف ل (يَصْلَوْنَها) وذكر لبيان : أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة.

وجملة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) عطف على جملة (يَصْلَوْنَها) ، أي يصلون حرّها ولا يفارقونها ، أي وهم خالدون فيها.

وجيء بقوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) جملة اسمية دون أن يقال : وما يغيبون عنها ، أو وما يفارقونها ، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي ، فالثّبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) في سورة البقرة [١٦٧].

وزيادة الباء لتأكيد النفي.

وتقديم (عَنْها) على متعلقه للاهتمام بالمجرور ، وللرعاية على الفاصلة.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧))

١٦٢

يجوز أن تكون حالية ، والواو واو الحال ، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٩] بدلا من (يَوْمَ الدِّينِ) المنصوب على الظرفية كما سيأتي.

و (ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) : تركيب مركب من (ما) الاستفهامية وفعل الدارية المعدّى بالهمزة فصار فاعله مفعولا زائدا على مفعولي درى ، وهو من قبيل : أعلم وأرى ، فالكاف مفعوله الأول ، وقد علق على المفعولين الآخرين ب (ما) الاستفهامية الثانية.

والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يسأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصّل له الدارية بكنه ذلك اليوم ، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دار.

والاستفهام الثاني حقيقي ، أي سأل سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول : علمت هل زيد قائم ، أي علمت جواب هذا السؤال.

ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه ، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣].

(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨))

تكرير للتهويل تكريرا يؤذن بزيادته ، أي تجاوزه حدّ الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي ، وقرن هذا بحرف (ثُمَ) الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي ، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام ، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل ، فالتراخي فيها هو الزيادة.

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً).

في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) [الانفطار : ١٧ ، ١٨] إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهوّل لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين.

وقرأه الجمهور بفتح (يَوْمَ) فيجوز أن يجعل بدلا مطابقا ، أو عطف بيان من (يَوْمُ الدِّينِ) المرفوع ب (ما أَدْراكَ) وتجعل فتحته فتحة بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى

١٦٣

جملة فعلية وكان فعلها معربا جاز في اسم الزمان أن يبنى على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل.

ويجوز أيضا أن يكون بدلا مطابقا من (يَوْمَ الدِّينِ) المنصوب على الظرفية في قوله: (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) [الانفطار : ١٥] ، ولا يفوت بيان الإبهام الذي في قوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) [الانفطار : ١٧] لأن (يَوْمُ الدِّينِ) المرفوع المذكور ثانيا هو عين (يَوْمَ الدِّينِ) المنصوب أولا ، فإذا وقع بيان للمذكور أولا حصل بيان المذكور ثانيا إذ مدلولهما يوم متّحد.

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعا ، فيتعين أن يكون بدلا أو بيانا من (يَوْمُ الدِّينِ) الذي في قوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ).

ومعنى (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) : لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى ، أي لنفعها ، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفع بالفعل عكس (على) ، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: ٢٨٦] ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في سورة الممتحنة [٤].

وعموم (نَفْسٌ) الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس.

و (شَيْئاً) اسم يدل على جنس الموجود ، وهو متوغل في الإبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما ، أو من السياق ، ويبينه هنا ما دلّ عليه فعل (لا تَمْلِكُ) ولام العلة ، أي شيئا يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في سورة يوسف [٦٧] ، فانتصب (شَيْئاً) على المفعول به لفعل (لا تَمْلِكُ) ، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفسا أخرى.

وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ) [الأنعام : ٩٤].

(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)

وجملة (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) تذييل ، والتعريف في (الْأَمْرُ) للاستغراق. والأمر هنا بمعنى : التصرف والإذن وهو واحد الأوامر ، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفا للشيء فتغيير التعبير للتفنن.

والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإرادة الاستغراق ، فيعم كل

١٦٤

الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلا.

وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل ، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢].

وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله.

١٦٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٣ ـ سورة المطففين

سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير «سورة ويل للمطففين» ، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» ، والترمذي في «جامعه».

وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف «سورة المطففين» اختصارا.

ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها «سورة المطففين» وفيه نظر.

وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه : أنها مكية ، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن والسدّي ومقاتل في رواية أخرى عنه : أنها مدنيّة ، قال : وهي أول سورة نزلت بالمدينة ، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة : هي مدنيّة إلّا ثمان آيات من آخرها من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [المطففين : ٢٩] إلى آخرها.

وقال الكلبي وجابر بن زيد : نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية ، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.

قال ابن عطية : احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٥]. والذي نختاره : أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.

ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها : إما آخر ما أنزل بمكة ، وإما أول ما أنزل بالمدينة ، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.

١٦٦

فقد ذكر الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس : قال لما قدم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا ، فأنزل الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك.

وعن القرظي «كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت بياعاتهم كسبة القمار والملامسة والمنابذة والمخاصرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السوق وقرأها ، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس ، فرأى إيقاظهم لذلك ، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنّوا التطفيف.

وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.

وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.

وعدد آيها ست وثلاثون.

أغراضها

اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.

وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.

وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربّهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.

ووعيد الذين يكذّبون بيوم الجزاء والذين يكذّبون بأن القرآن منزل من عند الله.

وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.

وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون

١٦٧

يسخرون من المؤمنين ويلمزونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي.

[١ ـ ٣] (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣))

افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد فلفظ (وَيْلٌ) من براعة الاستهلال ، ومثله قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١]. وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود :

بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا

والتطفيف : النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل ، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطفافة. والطفاف (بضم الطاء وتخفيف الفاء) ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام ، ويقال : الطفّ بفتح الطاء دون هاء تأنيث ، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به وإنما يكون شيئا قليلا زائدا على ما ملأ الإناء ، فمن ثمّ سميت طفافة ، أي قليل زيادة.

ولا نعرف له فعلا مجردا إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل ، وفعله : طفّف ، كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال ، ويقابله الوفاء.

و (وَيْلٌ) كلمة دعاء بسوء الحال ، وهو في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع ، والويل : اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩].

وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رءوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين ، وكان أهل مكة تجارا ، وكان في يثرب تجار أيضا وفيهم اليهود مثل أبي رافع ، وكعب بن الأشرف تاجري أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب. وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل.

والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشيا في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يسبب ذلك.

١٦٨

واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلا فقال جماعة من المفسرين : إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك. رواه ابن ماجه عن ابن عباس.

وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر.

فجملة (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) إدماج ، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه ، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين.

والاكتيال : افتعال من الكيل ، وهو يستعمل في تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال : ابتاع ، وارتهن ، واشترى ، في معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة ، فهو مطاوع كال ، كما أن ابتاع مطاوع باع ، وارتهن مطاوع رهن ، واشترى مطاوع شرى ، قال تعالى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ) [يوسف : ٦٣] أي نأخذ طعاما مكيلا ، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة.

وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل ، فيقال : اكتال فلان طعاما مثل ابتاع ، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل (من) الابتدائية فيقال : اكتال طعاما من فلان ، وإنما عدي في الآية بحرف (عَلَى) لتضمين (اكْتالُوا) معنى التحامل ، أي إلقاء المشقة على الغير وظلمه ، ذلك أن شأن التاجر وخلقه أن يتطلب توفير الربح وأنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة ، وعن الفراء (من) و (على) يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال : اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك ، وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك.

فمعنى : (اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) اشتروا من الناس ما يباع بالكيل ، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل (اكْتالُوا) أي اكتالوا مكيلا ، ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلا فحذف المفعول لأنه معلوم.

فالواوان من (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس.

١٦٩

وتعدية «كالوا» ، و «وزنوا» إلى الضميرين على حذف لام الجر. وأصله كالوا لهم ووزنوا لهم ، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة [٢٣٣] (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) أي تسترضعوا لأولادكم ، وقولهم في المثل «الحريص يصيدك لا الجواد» أي الحريص يصيد لك. وهو حذف كثير مثل قولهم : نصحتك وشكرتك ، أصلهما نصحت لك وشكرت لك ، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال : كال له طعاما ووزن له فضة ، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا : كاله ووزنه طعاما على الحذف والإيصال.

قال الفراء : هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون : يكيلنا ، يعني ويقولون أيضا : كال له ووزن له. وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون : كال له ووزن له ، ولا يقولون إلّا : كاله ووزنه ، فيكون فعل كال عندهم مثل باع.

والاقتصار على قوله : (إِذَا اكْتالُوا) دون أن يقول : وإذا اتّزنوا كما قال : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنبا لفعل : «اتزنوا» لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل. ولنكتة أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عينا بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غير مسكوكين ، فلذلك اقتصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظرا إلى الغالب ، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلا ويقبضون الأثمان وزنا. وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم.

و (يَسْتَوْفُونَ) جواب (إِذَا) والاستيفاء أخذ الشيء وافيا ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل : استجاب.

ومعنى (يُخْسِرُونَ) يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة ، والخسارة النقص من المال من التبايع.

وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشيا في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة.

وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلما واختلاسا ولؤما ، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرّقة ويتبرءون منها ، ثم يأتونها مجتمعة ، وناهيك بذلك أفنا.

١٧٠

[٤ ـ ٦] (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

استئناف ناشئ عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين.

والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يسأل السائل عن عملهم بالبعث ، وهذا يرجح أن الخطاب في قوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] موجه إلى المسلمين. ويرجع الإنكار والتعجيب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف. فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين.

والظن : مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع الشيء اعتقادا راجحا على طريقة قوله تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].

وفي العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة في قوله : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم ، ولأنّ الإشارة إليهم بعد وصفهم ب «المطففين» تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإنكار.

واللام في قوله : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) لام التوقيت مثل (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨].

وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبعثت أموات القرون الغابرة ، فأوما قوله (لِيَوْمٍ) أن للبعث وقتا معينا يقع عنده لا قبله.

ووصف يوم ب (عَظِيمٍ) باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال ، فهو وصف مجازي عقلي.

و (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) بدل من «يوم عظيم» بدلا مطابقا وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) في سورة الانفطار [١٩] على قراءة الجمهور ذلك بالفتح.

ومعنى (يَقُومُ النَّاسُ) أنهم يكونون قياما ، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة.

واللام في (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) للأجل ، أي لأجل ربوبيته وتلقي حكمه.

١٧١

والتعبير عن الله تعالى بوصف «رب العالمين» لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات.

واللام في (الْعالَمِينَ) للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة.

قال في «الكشاف» «وفي هذا الإنكار ، والتعجيب ، وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظيم ، وقيام الناس فيه الله خاضعين ، ووصف ذاته ب «رب العالمين» بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية» ا ه.

ولما كان الحامل لهم على التطفيف احتقارهم أهل الجلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة ، كان التطفيف لذلك منبئا عن إثم احتقار الحقوق ، وذلك قد صار خلقا لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق ، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٧ ـ ٩] وقوله حكاية عن شعيب : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الشعراء : ١٨٢ ، ١٨٣] [٧ ـ ٩] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩))

(كَلَّا).

إبطال وردع لما تضمنته جملة : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) [المطففين : ٤] من التعجيب من فعلهم التطفيف ، والمعنى : كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم.

(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ) استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة. وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجبا كتبه في كتاب الفجار.

و (الفُجَّارِ) غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبسا بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية.

١٧٢

والتعريف في (الفُجَّارِ) للجنس مراد به الاستغراق ، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين ، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٢].

وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يعنى به أن المطففين منهم المقصود الأول من هذا العموم ، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجّه إليهم.

و «الكتاب» المكتوب ، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئا تحصى فيه الأعمال ، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها ، وكذلك يجري على الوجهين قوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) وتقدمت نظائره غير مرة.

و (سِجِّينٌ) حروف مادته من حروف العربية ، وصيغته من الصيغ العربية ، فهو لفظ عربي ، ومن زعم أنه معرّب فقد أغرب. روي عن الأصمعي : أن العرب استعملوا سجين عوضا عن سلتين ، وسلتين كلمة غير عربية.

ونون (سِجِّينٌ) أصلية وليست مبدلة عن اللام ، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه علم لواد في جهنم ، صيغ بزنة فعّيل من مادة السجن للمبالغة مثل : الملك الضّليل ، ورجل سكّير ، وطعام حرّيف (شديد الحرافة وهي لذع اللسان) سمي ذلك المكان سجينا لأنه أشدّ الحبس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكن مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعا نوعيا. وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته.

ومحمل قوله : (لَفِي سِجِّينٍ) إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه (سِجِّينٌ) أو وصفه (سِجِّينٌ) وذلك يؤذن بتحقيره ، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه ، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين ، وروى الطبري بسنده حديثا مرفوعا يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل.

وإن حملت الظرفية في قوله : (لَفِي سِجِّينٍ) على غير ظاهرها ، فجعل كتاب الفجّار مظروفا في (سِجِّينٍ) مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجّين ، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجّين.

١٧٣

وجملة (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) معترضة بين جملة : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) معترضة بين جملة : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) وجملة (كِتابٌ مَرْقُومٌ) وهو تهويل لأمر السجّين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم (ما أَدْراكَ) في سورة الانفطار[١٧].

وقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) خبر عن ضمير محذوف يعود إلى (كِتابَ الفُجَّارِ) والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم ، وهذا من حذف المسند إليه الذي اتّبع في حذفه استعمال العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخبر جديد.

والمرقوم : المكتوب كتابة بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج.

وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ (كِتابٌ) سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازا.

[١٠ ـ ١٣] (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

جملة : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يجوز أن تكون مبينة لمضموم جملة : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين : ٤ ، ٥] فإن قوله : (يَوْمَئِذٍ) يفيد تنوينه جملة محذوفة جعل التنوين عوضا عنها تقديرها : يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين.

ويجوز أن تكون ابتدائيّة وبين المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين ، فتكون هذه الجملة إدماجا لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين.

وقد ذكر المكذبون مجملا في قوله : (لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم أعيد مفصلا ببيان متعلق التكذيب ، وهو (بِيَوْمِ الدِّينِ) لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب ، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه.

ومعنى التكذيب ب «يوم الدين» التكذيب بوقوعه.

فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم ، ولذلك أعقبه بقوله : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي أن

١٧٤

تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الناس وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم. فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد. ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة ، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة. كل على حسب عمله : فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين ، لم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) [المؤمنون : ١١٥ ، ١١٦].

وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي : معتد ، أثيم ، يقول إن الآيات أساطير الأولين.

والاعتداء : الظلم ، والمعتدي : المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك ، وعلى رسله بالتكذيب ، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعملوا بها.

والأثيم : مبالغة في الآثم ، أي كثير الإثم.

وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين.

فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة ، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين ، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط.

فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدّهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر ، وأما زعم القرآن أساطير الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه ، أو يقولوا ما يساويه أو يؤول إليه ، لأن من لم يعرض عليهم القرآن منهم لو عرض عليه القرآن لكذّب به تكذيبا يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر ، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله.

ولك أن تجعل القصر ادعائيا ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن.

١٧٥

ومعنى الادعاء أن من لم يؤثر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كلا تكذيب مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين.

وجملة : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) صفة لمعتد أو حال منه.

والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنّها التي تتلى وتقرأ.

والأساطير : جمع أسطورة وهي القصة ، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون ينظّرون قصص القرآن بقصة رستم ، وإسفنديار ، عند الفرس ، ولعل الكلمة معربة عن الرومية ، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة الأنعام [٢٥].

والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقته أجيال ، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لما سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار ، فحسبوها من قصص الأسمار. واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة ، بهتانا منهم.

وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحيرة فكان يحدث بها في مكة ويقول : أنا أحسن حديثا من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين.

وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة (كُلُّ مُعْتَدٍ) ظاهر في عدم التخصيص.

[١٤ ـ ١٧] (كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلَّا).

اعتراض بالردع وبيان له ، لأن (كَلَّا) ردع لقولهم أساطير الأولين ، أي أن قولهم باطل. وحرف (بَلْ) للإبطال تأكيدا لمضمون (كَلَّا) وبيانا وكشفا لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرهم من الرّين.

والرّين : الصدأ الذي يعلو حديد السيف والمرآة ، ويقال في مصدر الرّين الران مثل العيب والعاب ، والذيم والذام.

١٧٦

وأصل فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الرين ، فيقال : ران السيف وران الثوب ، إذا أصابه الرين ، أي صار ذا رين ، ولما فيه من معنى التغطية أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي ، فقالوا : ران النعاس على فلان ، ورانت الخمر ، وكذلك قوله تعالى : (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) هو من باب ران الرين على السيف ، وليس من باب ران السيف ، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون : رين على قلب فلان وفلان مرين على قلبه.

والمعنى : غطّت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهم القرآن والبون الشاسع بينه وبين أساطير الأولين.

وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها.

وقرأه عاصم بالوقف على لام (بل) والابتداء بكلمة ران تجنبا للإدغام.

وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام (بَلْ) ليبين أنها لام. قال في «اللسان» : إظهار اللام لغة لأهل الحجاز. قال سيبويه : هما حسنان ، وقال الزجاج : الإدغام أرجح.

والقلوب : العقول ومحال الإدراك. وهذا كقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة البقرة [٧].

ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماء فاشمأزت منه لبرده «برّديه تجديه سخينا» أي بل رديه وذلك من الملح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخينا.

و (ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ما عملوه سالفا من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خلقا متأصلا فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها.

روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)» قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

ومجيء (يَكْسِبُونَ) بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي.

١٧٧

وفي ذكر فعل (كانُوا) دون أن يقال : ما يكسبون ، إشارة إلى أن المراد : ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يكونوا مناط تكليف أيامئذ. فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.

و (كَلَّا) الثانية تأكيد ل (كَلَّا) الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخا.

(إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)).

جملة : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة ، والعذاب ، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.

فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم ، والحجب هو الستر ، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدي سيد القوم ، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد «الكشاف» :

إذا اعتروا باب ذي عبّيّة رجبوا

والناس من بين مرجوب ومحجوب

وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.

ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٢٣] وكذلك أيضا لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) [الأعراف : ٤٠] ، وليكون الكلام مفيدا للمعنيين قيل : «عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال : عن رؤية ربهم ، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران [٧٧] : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

وأما العذاب فهو ما في قوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ)

وقد عطفت جملته بحرف (ثُمَ) الدالة في عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو

١٧٨

ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة.

و «صالوا» جمع صال وهو الذي مسه حر النار ، وتقدم في آخر سورة الانفطار. والمعنى : أنهم سيصلون عذاب جهنم.

وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) فعطف الجملة بحرف (ثُمَ) اقتضى تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها ، أي بعد درجته في الغرض المسوق له الكلام.

واقتضى اسم الإشارة أنهم صاروا إلى العذاب ، والإخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهم يكذّبونه ، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد ، وبذلك كان مضمون الجملة أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.

أو يكون قوله : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف : ٧٧ ، ٧٨] فطوي سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتمادا على قرينة عطف جملة هذا المقال ب (ثُمَ)الدالة على التراخي.

وبني فعل (يُقالُ) للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول.

وجيء باسم الموصول ليذكّروا تكذيبهم به في الدنيا تنديما لهم وتحزينا.

وتقديم (بِهِ) على (تُكَذِّبُونَ) للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل (تُكَذِّبُونَ) إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدّى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذّب فيعدّى بالباء. ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف ، أي كذب بسببه من أخبره به ، ولذلك قدره بعض المفسرين : هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا.

[١٨ ـ ٢١] (كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١))

(كَلَّا).

١٧٩

ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] فيجوز أن تكون كلمة (كَلَّا) مما قيل لهم مع جملة (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ردعا لهم فهي من المحكي بالقول.

ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن إبطالا لتكذيبهم المذكور.

(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)).

يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله : (ثُمَّ يُقالُ) إلخ ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة : (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين : ١٧] إلخ أسلوبا ومقابلة. فالوجه أن يكون مضمونها قسيما لمضمون شبيهها فتحصل مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرض لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار.

ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحدا وجّه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون ، وأعقبه بتوجيه كلام للأبرار الذين هم بضد ذلك ، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه.

ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [المطففين : ١٧] فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) على وجه التوبيخ ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديما للذين أنكروه وتحسيرا لهم على ما أفاتوه من الخير.

و (الْأَبْرارِ) : جمع بر بفتح الباء ، وهو الذي يعمل البر ، وتقدم في السورة التي قبل هذه.

والقول في الكتاب ومظروفيته في علّيين ، كالقول في (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) [المطففين : ٧].

وعليون : جمع علّيّ ، وعلّيّ على وزن فعّيل من العلو ، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس.

١٨٠