تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

إلى قوله : (أَمِينٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢١] ، غير متعين انصرافها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغيانا يرمي بفهمه في مهاوي الضّالة ، وهل يسمح بال ذي مسكة من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه أنه مجنون ، وهذا كله مبني على تفسير : (رَسُولٍ كَرِيمٍ) بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هو وجبريل عليهما‌السلام فهذا مقتلع من جذره.

ولا يخفى أن العدول عن اسم النبي العلم إلى (صاحِبُكُمْ) لما يؤذن به (صاحِبُكُمْ) من كونهم على علم بأحواله ، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب (رَسُولٍ) خصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن الإظهار في مقام الإضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب (رَسُولٍ) كلاهما فذكر (صاحِبُكُمْ) لتخصيص الكلام به.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣))

عطف على جملة : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢].

والمناسبة بين الجملتين أن المشركين كانوا إذا بلغهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر أنه نزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعده استهزءوا وقالوا : إن ذلك الذي يتراءى له هو جنّي ، فكذبهم الله بنفي الجنون عنه ثم بتحقيق أنه إنما رأى جبريل القويّ الأمين. فضمير الرفع عائد إلى صاحب من قوله : (وَما صاحِبُكُمْ) وضمير النصب عائد إلى (رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير : ١٩] ، وسياق الكرم يبين معاد الرائي والمرئي.

و «الأفق» : الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء والمعنى رآه ما بين السماء والأرض.

و (الْمُبِينِ) : وصف الأفق ، أي للأفق الواضح البيّن.

والمقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بيّن لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال ، وجعلت تلك الصفة علامة على أن المرئي ملك وليس بخيال لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانين إنما يتخيلونها على الأرض تابعة لهم على ما تعودوه من وقت الصحة ، وقد وصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الملك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسي جالس بين السماء والأرض ،

١٤١

ولهذا تكرر ذكر ظهور الملك بالأفق في سورة النجم [٥ ـ ٩] في قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) إلى أن قال : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم : ١٢ ـ ١٥] الآيات ، قيل : رأى النبي جبريل عليهما‌السلام بمكة من جهة جبل أجياد من شرقيّه.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤))

الضمير عائد إلى (صاحِبُكُمْ) [التكوير : ٢٢] كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدّعوا أن جبريل ضنين على الغيب ، وإنما ادعوا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظلما وزورا ، ولقرب المعاد.

و (الْغَيْبِ) : ما غاب عن عيان الناس ، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر. والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يطلع عليه بعض أنبيائه ، ومنه وحي الشرائع ، والعلم بصفات الله تعالى وشئونه ، ومشاهدة ملك الوحي ، وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في سورة البقرة [٣].

وكتبت كلمة (بِضَنِينٍ) في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء.

وحكي عن أبي عبيد ، قال الطبري : هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به.

وفي «الكشاف» : «هو في مصحف أبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء» وقد اقتصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال :

والضاد في (بِضَنِينٍ) تجمع البشر

وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام.

وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وذكر في «الكشاف» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما ، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه ، لأن القراءتين ما كانتا متواترتين إلا وقد رويتا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٤٢

والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالبا إلا نحو حضض بضادين ساقطتين وحظظ بظاءين مشالين وحضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء. فقد قالوا : إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صمغ يقال له : خولان.

ولا شك أن الذين قرءوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواترا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر.

وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها ، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم ترو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.

وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة ، بأن قال : «ليس هذا بخلاف الكتّاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانى» ا ه.

يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتّاب المصاحف للقراءات المتواترة ، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وهاهنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس.

ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان ، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين.

وإذ تواترت قراءة (بِضَنِينٍ) بالضاد الساقطة ، وبظنين بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين.

فأما معنى «ضنين» بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتقّ من الضنّ بالضاد مصدر ضنّ ، إذا بخل ، ومضارعه بالفتح والكسر.

١٤٣

فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي ، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلبا للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بعوض تعطونه ، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهنا أو عرّافا يتلقّى الأخبار عن الجن إذ كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات ، قال تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤١ ـ ٤٢] فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضا عما يخبرهم به وأن الكاهن يأخذ على ما يخبر به ما يسمونه حلوانا ، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) [الفرقان : ٥٧] (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) [الأنعام : ٩٠] ونحو ذلك.

ويجوز أن يكون «ضنين» مجازا مرسلا في الكتمان بعلاقة اللزوم لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم ، أي ما هو بكاتم الغيب ، أي ما يوحى إليه ، وذلك أنهم كانوا يقولون : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] وقالوا : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣].

ويتعلق (عَلَى الْغَيْبِ) بقوله : (بِضَنِينٍ).

وحرف (على) على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) [الأعراف : ١٠٥] أي حقيق بي ، أو لتضمين «ضنين» معنى حريص ، والحرص : شدة البخل وما محمد بكاتم شيئا من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه. وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير. والمعنى : وما صاحبكم بكاتم شيئا من الغيب ، أي ما أخبركم به فهو الحق.

وأما معنى «ظنين» بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة ، أي مظنون. ويراد أنه مظنون به سوء ، أي أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب ، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فعدّي إلى مفعول واحد. وأصل ذلك أنهم يقولون : ظنّ به سوءا ، فيتعدى إلى متعلّقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولا فقالوا ظنه : بمعنى اتهمه ، يقال : سرق لي كذا وظننت فلانا.

وحرف (عَلَى) في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [طه : ١٠] ، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون

١٤٤

كما بلغه ، أي أن ما بلّغه هو الغيب لا ريب فيه ، وعكسه قولهم : ائتمنه على كذا.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥))

عطف على : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير : ١٩] ، وهذا رجوع إلى ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم ، بعد أن استطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقدسية مصدره ومكانة حامله عند الله وصدق متلقيه منه عن رؤية محققة لا تخيل فيها ، فكان التخلص إلى العود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [التكوير : ٢٤].

فإن القرآن من أمر الغيب الذي أوحي به إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه كثير من الأخبار عن أمور الغيب الجنة والنار ونحو ذلك.

وقد علم أن الضمير عائد إلى القرآن لأنه أخبر عن الضمير بالقول الذي هو من جنس الكلام إذ قال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [التكوير : ٢٥] فكان المخبر عنه من قبيل الأقوال لا محالة ، فلا يتوهم أن الضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ).

وهذا إبطال لقول المشركين فيه أنه كاهن ، فإنهم كانوا يزعمون أن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب ، قال تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) [الحاقة : ٤١ ـ ٤٢] وقال : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) [الشعراء : ٢١٠ ، ٢١١] وقال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء : ٢٢١ ، ٢٢٢] وهم كانوا يزعمون أن الكاهن يتلقى عن شيطانه ويسمون شيطانه رئيّا.

وفي حديث فترة الوحي ونزول سورة والضحى : أن حمالة الحطب امرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرى شيطانك قد قلاك».

و (رَجِيمٍ) فعيل بمعنى مفعول ، أي مرجوم ، والمرجوم : المبعد الذي يتباعد الناس من شره فإذا أقبل عليهم رجموه فهو وصف كاشف للشيطان لأنه لا يكون إلا متبرّأ منه.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦))

جملة : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) معترضة بين جملة : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [التكوير : ٢٥] وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [التكوير : ٢٧].

١٤٥

والفاء لتفريع التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنّه وحي من الله بواسطة الملك.

وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) في سورة عبس [١٢].

و (أين) اسم استفهام عن المكان. وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم ، أي طريق ضلالهم ، تمثيلا لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ضل الطريق الجادة فيسأله السائل منكرا عليه سلوكه ، أي اعدل عن هذا الطريق فإنه مضلة.

ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن.

والمعنى : أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعائكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن ، فما ذا تدعون بعد ذلك.

واعلم أن جملة «أين تذهبون» قد أرسلت مثلا ، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم : أين يذهب بك ، لمن كان في خطأ وعماية.

[٢٧ ، ٢٨] (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨))

بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) ، وهذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [التكوير : ٢٥] ولذلك جردت عن العاطف ، ذلك أن القصر المستفاد من النفي والاستثناء في قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يفيد قصر القرآن على صفة الذكر ، أي لا غير ذلك وهو قصر إضافي قصد منه إبطال أن يكون قول شاعر ، أو قول كاهن ، أو قول مجنون ، فمن جملة ما أفاده القصر نفي أن يكون قول شيطان رجيم ، وبذلك كان فيه تأكيد لجملة : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ).

والذكر اسم يجمع معاني الدعاء والوعظ بحسن الأعمال والزجر عن الباطل وعن الضلال ، أي ما القرآن إلا تذكير لجميع الناس ينتفعون به في صلاح اعتقادهم ، وطاعة الله ربهم ، وتهذيب أخلاقهم ، وآداب بعضهم مع بعض ، والمحافظة على حقوقهم ، ودوام انتظام جماعتهم ، وكيف يعاملون غيرهم من الأمم الذين لم يتبعوه.

١٤٦

ف «العالمين» يعمّ كل البشر لأنهم مدعوون للاهتداء به ومستفيدون مما جاء فيه.

فإن قلت : القرآن يشتمل على أحاديث الأنبياء والأمم وهو أيضا معجزة لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف قصر على كونه ذكرا.

قلت : القصر الإضافي لا يقصد منه إلا تخصيص الصفة بالموصوف بالنسبة إلى صفة أخرى خاصة ، على أنك لك أن تجعل القصر حقيقيا مفيدا قصر القرآن على الذكر دون غير ذلك من الصفات ، فإن ما اشتمل عليه من القصص والأخبار مقصود به الموعظة والعبرة كما بينت ذلك في المقدمة السابعة.

وأما إعجازه فله مدخل عظيم في التذكير لأن إعجازه دليل على أنه ليس بكلام من صنع البشر ، وإذا علم ذلك وقع اليقين بأنه حق.

وأبدل من (لِلْعالَمِينَ) قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) بدل بعض من كل ، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ) [الأنعام : ٩٩] وقوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) ، وتقدم في سورة الأعراف [٧٥]. والخطاب في قوله : (مِنْكُمْ) للذين خوطبوا بقوله : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير : ٢٦] وإذا كان القرآن ذكرا لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) من بقية العالمين أيضا بحكم قياس المساواة ، ففي الكلام كناية عن ذلك.

وفائدة هذا الإبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاءوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم ، وهو ثناء عليهم.

وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حال بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاءوا أن يستقيموا ، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج ، أي سوء العمل والاعتقاد ، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به ، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] وإما للإعراض عن تلقيه : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني ، وهو الاعتقاد ، والظاهري وهو الأفعال والأقوال تشبيها للعمل بخط مستقيم تشبيه معقول بمحسوس. ثم إن الذين لم يشاءوا أن

١٤٧

يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام ، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط في الاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فرط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة.

وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإسلامية ويستخلصون من استقرائها أحكاما كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإسلامية.

وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإنسان العاقل فيما يأتي ويدع ، وأنه لا عذر له إذا قال : هذا أمر قدّر ، وهذا مكتوب عند الله ، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها ، وبذلك يبطل قول الجبرية ، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير.

(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

يجوز أن تكون تذييلا أو اعتراضا في آخر الكلام.

ويجوز أن تكون حالا. والمقصود التكميل والاحتراس في معنى لمن شاء منكم أن يستقيم ، أي ولمن شاء له ذلك من العالمين ، وتقدم في آخر سورة الإنسان قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [الإنسان : ٢٩ ، ٣٠].

والفرق بينهما أن في هذه الآية وصف الله تعالى ب (رَبُّ الْعالَمِينَ) وهو مفيد التعليل لارتباط مشيئة من شاء الاستقامة من العالمين لمشيئة الله ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعي المشيئة وأسباب حصولها المتسلسلة وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق ، وبهذا الوصف ظهر مزيد الاتصال بين مشيئة الناس الاستقامة بالقرآن وبين كون القرآن ذكرا للعالمين.

وأما آية سورة الإنسان فقد ذيلت : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [الإنسان : ٣٠] أي فهو بعلمه وحكمته ينوط مشيئته لهم الاستقامة بمواضع صلاحيتهم لها فيفيد أن من لم يشأ أن يتخذ إلى ربه سبيلا قد حرمه الله تعالى من مشيئته الخير بعلمه وحكمته كناية عن شقائهم.

و (ما) نافية ، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)

١٤٨

وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان.

وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها ، وهذه العناية معنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنه ، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر ، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسبا. وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عباده التأدب مع جلاله.

وهذا أقصى ما بلغت إليه الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن ورائه سلك دقيق يشدّه قد تقصر عنه الأفهام.

١٤٩

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨٢ ـ سورة الانفطار

سميت هذه السورة «سورة الانفطار» في المصاحف ومعظم التفاسير.

وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت». قال الترمذي : حديث حسن غريب. وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.

وسميت في بعض التفاسير : «سورة إذا السماء انفطرت» وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه». ولم يعدّها صاحب «الإتقان» مع السور ذات أكثر من اسم وهو «الانفطار».

ووجه التسمية وقوع جملة : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] في أولها فعرفت بها.

وسميت في قليل من التفاسير «سورة انفطرت» ، وقيل : تسمى «سورة المنفطرة» أي السماء المنفطرة.

وهي مكية بالاتفاق.

وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور ، نزلت بعد سورة النازعات وقبل سورة الانشقاق.

وعدد آيها تسع عشرة آية.

أغراضها

واشتملت هذه السورة على : إثبات البعث ، وذكر أهوال تتقدمه.

١٥٠

وإيقاظ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله تعالى وعن النظر في دلائل وقوع البعث والجزاء.

والإعلام بأن الأعمال محصاة. وبيان جزاء الأعمال خيرها وشرها.

وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئا ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيّئ أعمالهم.

[١ ـ ٥] (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

الافتتاح ب (إِذَا) افتتاح مشوّق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في (إذا) من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت ، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللاتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإطناب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض للإطناب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولا كما علمت آنفا.

وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى عن تطويل الإطناب والتهويل.

و (إِذَا) ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.

والمعربون يقولون : خافض لشرطه منصوب بجوابه ، وهي عبارة حسنة جامعة.

والقول في الجمل التي أضيف إليها (إِذَا) من كونها جملا مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء ، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر.

وكذلك القول في تكرير كلمة (إذا) بعد حروف العطف كالقول في جمل (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١].

و (انْفَطَرَتْ) : مطاوع فطر ، إذا جعل الشيء مفطورا ، أي مشقوقا ذا فطور ، وتقدم في سورة الملك.

وهذا الانفطار : انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل ، ويعرف سمتها في

١٥١

النهار ، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختلّ ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة عن أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله.

والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضا في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور.

وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير [١١] في قوله : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥].

والانتثار : مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم ، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق.

وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]. فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها ، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسماواتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارّة ، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها ، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي.

وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعمّ الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها.

ومعنى : (بُعْثِرَتْ) : انقلب باطنها ظاهرها ، والبعثرة : الانقلاب ، يقال : بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض. قال في «الكشاف» : «بعثر مركب من البعث مع راء ضمت إليه». وقال البيضاوي قيل : إن بعثر مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل ا ه ، ونقل مثله عن السهيلي. وأن بعثر منحوت من بعث وإثارة مثل : بسمل ، وحوقل ، فيكون في بعثر معنى فعلين بعث وأثار ، أي أخرج وقلب ، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب.

والذي اقتصر عليه أئمة اللغة أن معنى بعثر : قلب بعض شيء على بعضه.

١٥٢

وبعثرة القبور : حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات ، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر ، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم.

وجملة : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) جواب لما في (إِذَا) من معنى الشرط ، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات (إِذَا) الأربع. وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت.

وعلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب (إِذَا) إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارنا لحصول شرطه لأنّ الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عللا ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير.

صيغة الماضي في قوله : (انْفَطَرَتْ) وما عطف عليه مستعملة في المستقبل تشبيها لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي.

وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا ، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) في سورة التكوير [١٤].

و (نَفْسٌ) مراد به العموم على نحو ما تقدم في : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) في سورة التكوير [١٤].

و (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) : هو العمل الذي قدمته النفس ، أي عملته مقدما وهو ما عملته في أول العمر ، والعمل الذي أخرته ، أي عملته مؤخرا أي في آخر مدة الحياة ، أو المراد بالتقديم المبادرة بالعمل ، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل.

والمقصود من هذين تعميم التوقيف على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) في سورة لا أقسم بيوم القيامة [١٣].

والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوما من قبل وبتذكر ما نسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير. وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين ، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [الانفطار : ٩] ، ووعد

١٥٣

للمتقين ، ومختلط لمن عملوا عملا صالحا وآخر سيئا.

[٦ ـ ٨] (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإنذار يهيّئ النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشدّ تغلغلا في القلب حينئذ لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقّة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك.

النداء للتنبيه تنبيها يشعر بالاهتمام بالكلام والاستدعاء لسماعه فليس النداء مستعملا في حقيقته إذ ليس مرادا به طلب إقبال ولا هو موجّه لشخص معين أو جماعة معينة بل مثله يجعله المتكلم موجّها لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد.

فالتعريف في (الْإِنْسانُ) تعريف الجنس ، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين ، أي ليس المراد إنسانا معينا ، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عقبه (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ٩ ، ١٠] الآية.

وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [الانفطار : ٩] فالمعنى : يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركا لأن إنكار البعث والشرك متلازمان يومئذ فهو من العامّ المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في ابتداء الدعوة الإسلامية هم المشركون.

و (ما) في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ) استفهامية عن الشيء الذي غرّ المشرك فحمله على الإشراك بربه وعلى إنكار البعث.

وعن ابن عباس وعطاء : الإنسان هنا الوليد بن المغيرة ، وعن عكرمة المراد أبيّ بن خلف ، وعن ابن عباس أيضا : المراد أبو الأشد بن كلدة الجمحي ، وعن الكلبي ومقاتل : نزلت في الأسود بن شريق.

والاستفهام مجاز في الإنكار والتعجيب من الإشراك بالله ، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غرورا غرّه عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل

١٥٤

إلا أن يغره به غار ، فيحتمل أن يكون الغرور موجودا ويحتمل أن لا يكون غرورا.

والغرور : الإطماع بما يتوهمه المغرور نفعا وهو ضرّ ، وفعله قد يسند إلى اسم ذات المطمع حقيقة مثل : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] أو مجازا نحو : (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الجاثية : ٣٥] فإن الحياة زمان الغرور ، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) [آل عمران : ١٩٦]. وقول امرئ القيس :

أغرّك مني أن حبك قاتلي

أو مجازا نحو قوله تعالى : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢].

ويتعدى فعله إلى مفعول واحد ، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشئونه فيعدى إليه بالباء ، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] ، أي لا يغرنكم غرورا متلبسا بشأن الله ، أي مصاحبا لشئون الله مصاحبة مجازية وليست هي باء السببية كما يقال : غره ببذل المال ، أو غرّه بالقول. وإذ كانت الملابسة لا تتصوّر ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شئون الذات يفهم من المقام ، فالمعنى هنا : ما غرك بالإشراك بربك كما يدل عليه قوله : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلّا مشركا.

وإيثار تعريف الله بوصف «ربك» دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإنشاء والرفق ، ففيه تذكير للإنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ.

وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة.

والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة : (فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ) جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق ، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره.

وذكر عن صالح بن مسمار قال : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية فقال : «غره جهله» ، ولم يذكر سندا.

١٥٥

وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق ، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله : (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة: ٢٩] ولكن قصد إظهار مراتب النعمة. وهذا من الإطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عليها بخصوصها ، ومن مقتضيات الإطناب مقام التوبيخ.

والخلق : الإيجاد على مقدار مقصود.

والتسوية : جعل الشيء سويّا ، أي قويما سليما ، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه ، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم.

والتعديل : التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين ، والرجلين ، والعينين ، وصورة الوجه ، فلا تفاوت بين متزاوجها ، ولا بشاعة في مجموعها. وجعله مستقيم القامة ، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب ، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما ، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي ، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين. وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع.

وخلق الله جسد الإنسان مقسمة أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين.

وفرع فعل «سواك» على (خَلَقَكَ) وفعل «عدّلك» على «سوّاك» تفريعا في الذكر نظرا إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعا حاصلا في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ٢ ، ٣].

وقرأ الجمهور : (فَعَدَلَكَ) بتشديد الدال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال ، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل ، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع.

وقوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ) اعلم أن أصل (أَيِ) أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) في سورة عبس [١٨].

١٥٦

وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٥].

والاستفهام بها كثيرا ما يراد به الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه (أَيِ) لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغا قويا يتساءل عنه ويستفهم عن شأنه ، ومن هنا نشأ معنى دلالة (أَيِ) على الكمال ، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم ، وإنما هي الاستفهامية ، و (أَيِ) هذه تقع في المعنى وصفا لنكرة إمّا نعتا نحو : هو رجل أيّ رجل ، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية ، فيجوز أن يتعلق قوله : (فِي أَيِّ صُورَةٍ) بأفعال خلقك ، فسوّاك ، فعدّلك» فيكون الوقف على (فِي أَيِّ صُورَةٍ).

ويجوز أن يتعلق بقوله (رَكَّبَكَ) فيكون الوقف على قوله (فَعَدَلَكَ) ويكون قوله (ما شاءَ) معترضا بين (فِي أَيِّ صُورَةٍ) وبين (رَكَّبَكَ).

والمعنى على الوجهين : في صورة أيّ صورة ، أي في صورة كاملة بديعة.

وجملة (ما شاءَ رَكَّبَكَ) بيان لجملة (عدلك) باعتبار كون جملة (عدلك) مفرعة عن جملة (فَسَوَّاكَ) المفرغة عن جملة (خَلَقَكَ) فبيانها بيان لهما.

و (فِي) للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة ، أي خلقك فسوّاك فعدلك ملابسا صورة عجيبة فمحل (فِي أَيِّ صُورَةٍ) محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال (عدلك) ، أو (رَكَّبَكَ) ، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصوّر بها للدلالة على تمكنها من موصوفها.

و (ما) يجوز أن تكون موصولة ما صدقها تركيب ، وهي في موضع نصب على المفعولية المطلقة و (شاءَ) صلة (ما) والعائد محذوف تقديره : شاءه. والمعنى : ركّبك التركيب الذي شاءه قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران: ٦].

وعدل عن التصريح بمصدر (رَكَّبَكَ) إلى إبهامه ب (ما) الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها.

ويجوز أن تكون جملة (شاءَ) صفة ل (صُورَةٍ) ، والرابط محذوف و (ما) مزيدة للتأكيد ، والتقدير : في صورة عظيمة شاءها مشيئة معينة ، أي عن تدبير وتقدير.

١٥٧

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩))

(كَلَّا) ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ) [الانفطار : ٦] من حصور ما يغرّ الإنسان بالشرك ومن إعراضه عن نعم الله تعالى بالكفر ، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإنكار المستفاد من قوله: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ).

والمعنى : إشراكك بخالقك باطل وهو غرور ، أو كالغرور.

ويكون قوله بعده : (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إضرابا انتقاليا من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر ، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وجزر لأن (بَلْ) لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم. ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون : إنها تتبع في اللفظ لا في الحكم ، أي هو اتباع مناسبة في الغرض لا اتباع في النسبة.

ويجوز أن يكون (كَلَّا) إبطالا لوجود ما يغرّ الإنسان أن يشرك بالله ، أي لا عذر للإنسان في الإشراك بالله إذ لا يوجد ما يغرّه به.

ويكون قوله : (بَلْ تُكَذِّبُونَ) إضرابا إبطاليا ، وما بعد (بَلْ) بيانا لما جرّأهم على الإشراك وأنه ليس غرورا إذ لا شبهة لهم في الإشراك حتى تكون الشبهة كالغرور ، ولكنهم أصروا على الإشراك لأنهم حسبوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم ، ولم يعبئوا بأنه باطل صراح فهم يكذبون بالجزاء فذلك سبب تصميم جميعهم على الشرك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضها بطلان كون الحجارة آلهة ، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا.

وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جماع الإجرام ، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) في سورة الانشقاق [٢٠ ، ٢٢].

وقرأ الجمهور : (تُكَذِّبُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات.

وفي صيغة المضارع من قوله : (تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا

١٥٨

يقلعون عنه ، وهو سبب استمرار كفرهم.

وفي المضارع أيضا استحضار حالة هذا التكذيب استحضارا يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء.

والدين : الجزاء.

[١٠ ـ ١٢] (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

عطف على جملة (تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) [الانفطار : ٩] تأكيدا لثبوت الجزاء على الأعمال.

وأكد الكلام بحرف (إِنَ) ولام الابتداء ، لأنهم ينكرون ذلك إنكارا قويّا.

و (لَحافِظِينَ) صفة لمحذوف تقديره : لملائكة حافظين ، أي محصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم.

وجمع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس : وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ، ١٨] ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله» وهذا بصريح معناه يفيد أيضا كفاية عن وقوع الجزاء إذ لو لا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثا.

وأجري على الملائكة الموكّلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف هي : الحفظ ، والكرم ، والكتابة ، والعلم بما يعلمه الناس.

وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال ، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإحصاء وفيها تنويه بشأن الملائكة الحافظين.

فأما الحفظ : فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة ، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر ، وهو (على) لتضمنه معنى المراقبة. والحفيظ : الرقيب ، قال تعالى : (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦].

وهذا الاستعمال هو غير استعمال الحفظ المعدّى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١]. فالحفظ بهذا الإطلاق يجمع

١٥٩

معنى الرعاية والقيام على ما يوكل إلى الحفيظ ، والأمانة على ما يوكل إليه.

وحرف (على) فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة.

وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال ، وأما صفة الكتابة فمراد بها ضبط ما وكّلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة ، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى ، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب.

وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم.

و (ما تَفْعَلُونَ) يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكّلين بذلك.

ودخل في (ما تَفْعَلُونَ) : الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد ، وإن لم يشع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية.

واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل من يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا عليه وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط.

فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاء الفطرة ، أي طهارة النفس.

ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوبا ، أو كالمكتوب مضبوطا لا يستطاع تغييره ، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل بعد القائم به ، أو في مغيبه أن يعرف ما ذا أجري فيه من الأعمال ، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب ، ومنه نشأت دواوين القضاة ، ودفاتر الشّهود ، والخطاب على الرسوم ، وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح.

ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع

١٦٠