تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

وقال : (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) [الحاقة : ٢٨]. وقد استعمل هنا في معنى الإشغال والإشغال أعم.

فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) إلى آخر السورة.

وجملة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) جواب (إذا) ، أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة.

وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلاف قوله في سورة النازعات [٣٧] (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ثم قوله : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) [النازعات : ٤٠] إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصودا مسوقا إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء ، وذلك من قوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣] إلى آخره ، ثم قوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس : ٥ ، ٦].

وأما سورة النازعات فقد بنيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) [النازعات : ٦ ـ ٨] فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر ، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب.

وتنكير (وُجُوهٌ) الأول والثاني للتنويع ، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.

وإعادة (يَوْمَئِذٍ) لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير :وجوه مسفرة يوم يفرّ المرء من أخيه إلى آخره.

وقد أغنت إعادة (يَوْمَئِذٍ) عن ربط الجواب بالفاء.

والمسفرة ذات الإسفار ، والإسفار النور والضياء يقال : أسفر الصبح ، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر ، أي وجوه متهللة فرحا وعليها أثر النعيم.

و (ضاحِكَةٌ) أي كناية عن السرور.

و (مُسْتَبْشِرَةٌ) معناه فرحة ، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل : استجاب ، ويقال : بشر ،

١٢١

أي فرح وسرّ ، قال تعالى : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) [يوسف : ١٩] أي يا فرحتي.

وإسناد الضحك والاستبشار إلى الوجوه مجاز عقلي لأن الوجوه محلّ ظهور الضحك والاستبشار ، فهو من إسناد الفعل إلى مكانه ، ولك أن تجعل الوجوه كناية عن الذوات كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧].

وهذه وجوه أهل الجنة المطمئنين بالا المكرمين عرضا وحضورا.

والغبرة بفتحتين الغبار كلّه ، والمراد هنا أنها معفّرة بالغبار إهانة ومن أثر الكبوات.

و (تَرْهَقُها) تغلب عليها وتعلوها.

والقترة : بفتحتين شبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم ، كذا قال الراغب ، وهو غير الغبرة كما تقتضيه الآية لئلا يكون من الإعادة ، وهي خلاف الأصل ولا داعي إليها. وسوّى بينهما الجوهري وتبعه ابن منظور وصاحب «القاموس».

وهذه وجوه أهل الكفر ، يعلم ذلك من سياق هذا التنويع ، وقد صرح بذلك بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين.

وجيء باسم الإشارة لزيادة الإيضاح تشهيرا بالحالة التي سببت لهم ذلك.

وضمير الفصل هنا لإفادة التقوي.

وأتبع وصف (الْكَفَرَةُ) بوصف (الْفَجَرَةُ) مع أن وصف الكفر أعظم من وصف الفجور لما في معنى الفجور من خساسة العمل فذكر وصفاهم الدالان على مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل.

وذكر وصف (الْفَجَرَةُ) بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور.

١٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٨١ ـ سورة التكوير

لم يثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سماها تسمية صريحة ، وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت» وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة ليست في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها ، فتعين أن المعنى : فليقرأ هذه الآيات ، وعنونت في «صحيح البخاري» وفي «جامع الترمذي» «سورة إذا الشمس كورت» ، وكذلك عنونها الطبري.

وأكثر التفاسير يسمونها «سورة التكوير» وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول «كورت».

وتسمى «سورة كورت» تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في «الإتقان» مع السور التي لها أكثر من اسم.

وهي مكية بالاتفاق.

وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.

وعدد آيها تسع وعشرون.

أغراضها

اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.

وعلى إثبات البعث وابتدئ بوصف الأهوال التي تتقدمه وانتقل إلى وصف أهوال

١٢٣

تقع عقبه.

وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذا رموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان.

[١ ـ ١٤] (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

الافتتاح ب (إِذَا) افتتاح مشوّق لأن (إِذَا) ظرف يستدعي متعلّقا ، ولأنه أيضا شرط يؤذن بذكر جواب بعده ، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكّن ، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة (إِذَا).

وتعدّد الجمل التي أضيف إليها اثنتي عشرة مرة ، فإعادة كلمة (إِذَا) بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب ، وهذا الإطناب اقتضاه قصد التهويل ، والتهويل من مقتضيات الإطناب والتكرير ، كما في قصيدة الحارث بن عبّاد البكري :

قرّبا مربط النعامة مني إلخ

وفي إعادة (إِذَا) إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث.

وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثا فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية ، وستة منها تحصل في الآخرة.

وكانت الجمل التي جعلت شروطا ل (إِذَا) في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبر عنه بمسند فعليّ دون كونها جملا فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد قول نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط (إِذَا) جملة غير فعلية وهو الراجع لأن (إِذَا) غير عريقة في الشرط. وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروطا ل (إِذَا) لأن الابتداء بها أدخل في التهويل

١٢٤

والتشويق وليفيد ذلك التقديم على المسند الفعلي تقوّي الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل ردا على إنكار منكريه فلذلك قيل : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ولم يقل : إذا كورت الشمس ، وهكذا نظائره.

وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) وتتعلق به الظروف المشربة معنى الشرط.

وصيغة الماضي في الجمل الثنتي عشرة الواردة شروطا ل (إِذَا) مستعملة في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوع الشرط.

وتكوير الشمس : فساد جرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها ، من قولهم : كوّر العمامة ، إذا أدخل بعضها في بعض ولفّها ، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطيّ في قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤].

وفسر (كُوِّرَتْ) بمعنى غورت. رواه الطبري عن ابن جبير وقال : هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كور بكر (بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة) وعلى ذلك عدّت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرّب. وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن.

وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها.

والانكدار : مطاوع كدّره المضاعف على غير قياس ، أي حصل للنجوم انكدار من تكدير الشمس لها حين زال عنها انعكاس نورها ، فلذلك ذكر مطاوع كدر دون ذكر فاعل التكدير.

والكدرة : ضد الصفاء كتغير لون الماء ونحوه.

وفسر الانكدار بالتساقط والانقضاض ، وأنشدوا قول العجاج يصف بازيا :

أبصر خربان فضاء فانكدر

ومعنى تساقطها تساقط بعضها على بعض واصطدامها بسبب اختلال نظام الجاذبية الذي جعله الله لإمساكها إلى أمد معلوم.

١٢٥

وتسيير الجبال انتقالها من أماكنها بارتجاج الأرض وزلزالها. وتقدم في سورة النبأ.

و (الْعِشارُ) جمع عشراء وهي الناقة الحامل إذا بلغت عشرة أشهر لحملها فقاربت أن تضع حملها لأن النوق تحمل عاما كاملا ، و (الْعِشارُ) أنفس مكاسب العرب ومعنى (عُطِّلَتْ) تركت لا ينتفع بها.

والكلام كناية عن ترك الناس أعمالهم لشدة الهول.

وعلى هذا الوجه يكون ذلك من أشراط الساعة في الأرض فيناسب (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ).

ويجوز أن تكون (الْعِشارُ) مستعارة للأسحبة المحملة بالمطر ، شبهت بالناقة العشراء. وهذا غير بعيد من الاستعمال ، فهم يطلقون مثل هذه الاستعارة للسحاب ، كما أطلقوا على السحابة اسم بكر في قول عنترة :

جادت عليه كلّ بكر حرّة

فتركن كل قرارة كالدرهم

فأطلق على السحابة الكثيرة الماء اسم البكر الحرة ، أي الأصيلة من النوق وهي في حملها الأول.

ومعنى تعطيل الأسحبة أن يعرض لها ما يحبس مطرها عن النزول ، أو معناه أن الأسحبة الثقال لا تتجمع ولا تحمل ماء ، فمعنى تعطيلها تكونها ، فيتوالى القحط على الأرض فيهلك الناس والأنعام. وعلى هذا الوجه فذلك من أشراط الساعة العلوية فيناسب تكوير الشمس وانكدار النجوم.

و (الْوُحُوشُ) : جمع وحش وهو الحيوان البري غير المتأنس بالناس.

وحشرها : جمعها في مكان واحد ، أي مكان من الأرض عند اقتراب فناء العالم فقد يكون سبب حشرها طوفانا يغمر الأرض من فيضان البحار فكلما غمر جزءا من الأرض فرت وحوشه حتى تجتمع في مكان واحد طالبة النجاة من الهلاك ، ويشعر بهذا عطف (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) عليه.

وذكر هذا بالنسبة إلى الوحوش إيماء إلى شدة الهول فالوحوش التي من طبعها نفرة بعضها عن بعض تتجمع في مكان واحد لا يعدو شيء منها على الآخر من شدة الرعب ، فهي ذاهلة عما في طبعها من الاعتداء والافتراس ، وليس هذا الحشر الذي يحشر الناس به

١٢٦

للحساب بل هذا حشر في الدنيا وهو المناسب لما عدّ معه من الأشراط ، وروي معناه عن أبي بن كعب.

وتسجير البحار : فيضانها قال تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) في سورة الطور [٦]. والمراد تجاوز مياهها معدل سطوحها واختلاط بعضها ببعض وذلك من آثار اختلال قوة كرة الهواء التي كانت ضاغطة عليها ، وقد وقع في آية سورة الانفطار [٣] : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) وإذا حدث ذلك اختلط ماؤها برملها فتغير لونه.

يقال : سجّر مضاعفا وسجر مخففا. وقرئ بهما فقرأه الجمهور مشددا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مخففا.

وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) شروع في ذكر الأحوال الحاصلة في الآخرة يوم القيامة وقد انتقل إلى ذكرها لأنها تحصل عقب الستة التي قبلها وابتدئ بأولها وهو تزويج النفوس ، والتزويج : جعل الشيء زوجا لغيره بعد أن كان كلاهما فردا ، والتزويج أيضا : جعل الأشياء أنواعا متماثلة قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الرعد : ٣] لأن الزوج يطلق على النوع والصنف من الأشياء والنفوس : جمع نفس ، والنفس يطلق على الروح ، قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨] وقال : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣].

وتطلق النفس على ذات الإنسان قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الأنعام : ١٥١] وقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) [الجمعة : ٢] وقال : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي فليسلم الداخل على أمثاله من الناس.

فيجوز أن يكون معنى النفوس هنا الأرواح ، أي تزوج الأرواح بالأجساد المخصصة لها فيصير الروح زوجا مع الجسد بعد أن كان فردا لا جسم له في برزخ الأرواح ، وكانت الأجساد بدون أرواح حين يعاد خلقها ، أي وإذا أعطيت الأرواح للأجساد. وهذا هو البعث وهو المعنى المتبادر أولا ، وروي عن عكرمة.

ويجوز أن يكون المعنى وإذا الأشخاص نوعت وصنفت فجعلت أصنافا : المؤمنون ، والصالحون ، والكفار ، والفجار ، قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ) [الواقعة : ٧ ـ ١٠] الآية.

١٢٧

ولعل قصد إفادة هذا التركيب لهذين المعنيين هو مقتضي العدول عن ذكر ما زوجت النفوس به. وأول منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها ، ثم تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر ، كما قال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨] ثم قال : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١] ثم قال : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) [الزمر : ٧٣] الآية.

وقد ذكروا معاني أخرى لتزويج النفوس في هذه الآية غير مناسبة للسياق.

وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يسأل عنه المجرمون يوم الحساب. ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت ، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال ، وكان من أفظع الاعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد ، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبنائهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء ، فالوأد أفظع أعمال أهل الشرك وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها ورعبه بالعذاب.

وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يقضى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعل هذا السؤال وقتا تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء.

والوأد : دفن الطفلة وهي حيّة : قيل هو مقلوب آداه ، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب. قال في «الكشاف» : «كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية ، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيّبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل : كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإن ولدت ابنا حبسته ا ه.

وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدوّ عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهلها ، قال تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وقال : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى

١٢٨

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ، ٥٩].

وإذ قد فشا فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك ، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.

وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه ، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته : «نعم الصهر القبر».

ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آبائهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث وقد قال مالك : إن ذلك من سنة الجاهلية ، ورأى ذلك الحبس باطلا ، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لإخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عارا عليهن فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.

وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل. وبعضهم يعدها من الإكراه.

ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع القبائل ، قيل : أول من وأد البنات من القبائل ربيعة ، وكانت كندة تئد البنات ، وكان بنو تميم يفعلون ذلك ، ووأد قيس بن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه.

ولم يكن الوأد في قريش البتة. وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد ابنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل ، فقيل : إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة ، وقيل : وسبعين وفي «الأغاني» : وقيل : أربعمائة.

وفي «تفسير القرطبي» : فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في «تاب الشعراء» لابن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفا.

وفي توجيه السؤال إلى الموءودة : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها ، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر.

١٢٩

وجملة : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بيان لجملة (سُئِلَتْ).

و (أي) اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال.

والاستفهام في (بِأَيِّ ذَنْبٍ) تقريري ، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها.

وينتزع من قوله تعالى : (سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الوارد في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلال على أنّ من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آبائهم ، وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في «الكشاف». وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في «الكشاف» : «وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذّبون وإذا بكّت الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكّت من العذاب السرمدي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية ا ه. فأشار إلى ثلاثة أدلة :

أحدها : دلالة الإشارة ، أي لأن قوله تعالى : (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) يشير إلى أنها لا ذنب لها ، وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجوده بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثبات حرمتها وعصمة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها.

الثاني : قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين ، والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحدا بدون فعله ، وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة. فعندنا أنّ تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافا لهم على أن هذا الدليل مبنيّ على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض.

الثالث : ما نسبه إلى ابن عباس وهو يشير إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة أنه قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة ، فمن زعم أنهم في النار فقد كذّب بقول الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) وقد أجيب عن القول المروي عن ابن عباس بأنه لم يبلغ مبلغ الصحّة. وهذه مسألة من أصول الدين لا يكتفى فيها إلا بالدليل القاطع.

١٣٠

واعلم أن الأحاديث الصحيحة في حكم أطفال المشركين متعارضة ، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أولاد أو ذراري المشركين. فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» ، وهذا الجواب يحتمل الوقف عن الجواب ، أي الله أعلم بحالهم كقول موسى عليه‌السلام : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) [طه : ٥٢] جوابا لقول فرعون : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١]. ويحتمل أن المعنى الله أعلم بحال كل واحد منهم لو كبر ما ذا يكون عاملا من كفر أو إيمان ، أي فيعامله بما علم من حاله.

وأخرج البخاري ومسلم (ببعض اختلاف في اللفظ) عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث. زاد في رواية مسلم : ثم يقول (أي أبو هريرة) اقرءوا : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم : ٣٠] فيقتضي أنهم يولدون على فطرة الإسلام حتى يدخل عليه من أبويه أو قريبه أو قرينه ما يغيره عن ذلك وهذا أظهر ما يستدل به في هذه المسألة.

وقال المازري في «المعلم» : فاضطرب العلماء فيهم. والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة واختلاف هذه الظواهر سبب اضطراب العلماء في ذلك والقطع هاهنا يبعد ا ه.

وقول أبي هريرة : واقرءوا : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) إلخ مصباح ينير وجه الجمع بين هذه الأخبار : وقد ورد في حديث الرؤيا عن سمرة بن جندب ما هو صريح في ذلك إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأما الرجل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه‌السلام وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة». قال سمرة فقال بعض المسلمين : يا رسول الله «وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولاد المشركين». واختلفت أقوال العلماء في أولاد المشركين فقال ابن المبارك وحمّاد بن سلمة وحمّاد بن زيد وإسحاق بن راهويه والشافعي هم في مشيئة الله. والصحيح الذي عليه المحققون والجمهور أنهم في الجنة وهو ظاهر قول أبي هريرة. وذهب الأزارقة إلى أن أولاد المشركين تبع لآبائهم ، وقال أبو عبيد : سألت محمد بن الحسن عن حديث : «كل مولود يولد على الفطرة» فقال : كان ذلك أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يفرض الجهاد. قال أبو عبيد : كأنه يعني أنه لو ولد على الفطرة لم يرثاه لأنه مسلم وهما كافران فلما فرضت الفرائض على خلاف ذلك جاز أن يسمى كافرا وعلم أنه يولد على دينهما.

وهنالك أقوال أخرى كثيرة غير معزوة إلى معيّن ولا مستندة لأثر صحيح.

١٣١

وذكر المازري : أن أطفال الأنبياء في الجنة بإجماع وأن جمهور العلماء على أن أطفال بقية المؤمنين في الجنة وبعض العلماء وقف فيهم ، وقال النووي : أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة.

وقرأ الجمهور : «قتلت» بتخفيف المثناة الأولى ، وقرأه أبو جعفر بتشديدها وهي تفيد معنى أنه قتل شديد فظيع.

ونشر الصحف حقيقته : فتح طيّات الصحيفة ، أو إطلاق التفافها لتقرأ كتابتها ، وتقدم في قوله : (أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) في سورة المدثر [٥٢] ، وعند قوله : (كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) في سورة الإسراء [١٣].

والمراد : صحف الأعمال ، وهي إما صحف حقيقية مخالفة للصحف المألوفة ، وإما مجازية أطلقت على أشياء فيها إحصاء أعمال الناس ، وقد تقدم غير مرة.

وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب : (نُشِرَتْ) بتخفيف الشين. وقرأه الجمهور بتشديد الشين للتكثير لكثرة الصحف المنشورة.

والكشط : إزالة الإهاب عن الحيوان الميّت وهو أعم من السلخ لأن السلخ لا يقال إلا في إزالة إهاب البقر والغنم دون إزالة إهاب الإبل فإنه كشط ولا يقال : سلخ ، والظاهر أن المراد إزالة تقع في يوم القيامة لأنها ذكرت في أثناء أحداث يوم القيامة بعد قوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) وقوله : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ).

فالظاهر أن السماء تبقى منشقة منفطرة تعرج الملائكة بينهما وبين أرض المحشر حتى يتم الحساب فإذا قضي الحساب أزيلت السماء من مكانها فالسماء مكشوطة والمكشوط عنه هو عالم الخلود ، ويكون (كُشِطَتْ) استعارة للإزالة.

ويجوز أن يكون هذا من الأحداث التي جعلت أشراطا للساعة وأخر ذكره لمناسبة ذكر نشر الصحف لأن الصحف تنشرها الملائكة وهم من أهل السماء فيكون هذا الكشط من قبيل الانشقاق في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] والانفطار في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) إلى قوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ١ ـ ٥] فيكون الكشط لبعض أجزاء السماء والمكشوط عنه بعض آخر ، فيكون من قبيل قوله تعالى : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] ومن قبيل الطي في قوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما

١٣٢

بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] لأن ظاهره اتصال طيّ السماء بإعادة الخلق ، وتصير الأشراط التي تحصل قبل البعث سبعة والأحداث التي تقع بعد البعث خمسة.

والجحيم أصله : النار ذات الطبقات من الوقود من حطب ونحوه بعضها فوق بعض ، وصار علما بالغلبة على جهنم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن ، وتسعيرها أو إسعارها : إيقادها ، أي هيّئت لعذاب من حقّ عليهم العذاب.

وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ورويس عن يعقوب : (سُعِّرَتْ) بتشديد العين مبالغة في الإسعار. وقرأه الباقون بالتخفيف.

وقوبلت بالجنة دار النعيم واسم الجنة علم بالغلبة على دار النعيم ، و (أُزْلِفَتْ) قربت ، والزلفى : القرب ، أي قربت الجنة من أهلها ، أي جعلت بقرب من محشرهم بحيث لا تعب عليهم في الوصول إليها وذلك كرامة لهم.

واعلم أن تقديم المسند إليه في الجمل الثنتي عشرة المفتتحات بكلمة (إِذَا) من قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى هنا ، والإخبار عنه بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال : إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النجوم ، وهكذا كما قال : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) [الرحمن : ٣٧] أن ذلك التقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلا بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه.

وإن إطالة ذكر تلك الجمل تشويق للجواب الواقع بعدها بقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ).

وجملة : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) يتنازع التعلق به كلمات (إِذَا) المتكررة.

وعن عمر بن الخطاب : «أنه قرأ أول هذه السورة فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : لهذا أجريت القصة» أي هو جواب القسم ومعنى (عَلِمَتْ) أنها تعلم بما أحضرت فتعلمه.

وقوله (نَفْسٌ) نكرة في سياق الشرط مراد بها العموم ، أي علمت كل نفس ما أحضرت ، واستفادة العموم من النكرة في سياق الإثبات تحصل من القرينة الدالة على عدم القصد إلى واحد من الجنس ، والقرينة هنا وقوع لفظ نفس في جواب هذه الشروط التي لا يخطر بالبال أن تكون شروطا لشخص واحد ، وقد قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) [آل عمران : ٣٠].

١٣٣

والإحضار : جعل الشيء حاضرا.

ومعنى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) حصول اليقين بما لم يكن لها به علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتا : بعضه معلوم على غير وجهه ، وبعضه معلوم صورته مجهولة عواقبه ، وبعضه مغفول عنه. فنزّل العلم الذي كان حاصلا للناس في الحياة الدنيا منزلة عدم العلم ، وأثبت العلم لهم في ذلك اليوم علم أعمالهم من خير أو شر فيعلم ما لم يكن له به علم مما يحقره من أعماله ويتذكر ما كان قد علمه من قبل ، وتذكّر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم.

وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال. ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشببه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل : (أَحْضَرَتْ) استعارة. ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي سأله متى الساعة: «ما ذا أعددت لها».

وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سبب فعله ، فحصل هنا مجازان : مجاز لغوي ، ومجاز عقلي ، وحقيقتهما في قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ).

وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيرا ، وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولا. فنزل القريب منزلة المقارن ، فلذلك جعل الجميع شروطا ل (إِذَا).

[١٥ ـ ٢١] (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١))

الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به ، فلما قضي حق الإنذار به وذكر أشراطه فرع عنه

١٣٤

تصديق القرآن الذي أنذرهم به وأنه موحى به من عند الله.

فالتفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذكر معا ، وقد جاء تفريع القسم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

عقب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بعد القسم وإنما قصد به أن ما تقدم من الكلام إنما هو للإقبال على ما بعد الفاء ، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير.

ومعنى : (لا أقسم) : إيقاع القسم ، وقد عدّت (لا) زائدة ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) في سورة الواقعة [٧٥].

والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه ، وأدمج فيه أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى.

و (الخنّس) : جمع خانسة ، وهي التي تخنس ، أي تختفي ، يقال : خنست البقرة والظبية ، إذا اختفت في الكناس.

و (الجواري) : جمع جارية : وهي التي تجري ، أي تسير سيرا حثيثا.

و (الْكُنَّسِ) : جمع كانسة ، يقال : كنس الظبي ، إذا دخل كناسه (بكسر الكاف) وهو البيت الذي يتخذه للمبيت.

وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب ، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه ، فقيل : الخنّس وهو من بديع التشبيه ، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون سكون في كناس ، وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها.

وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلها في سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش ، فشبهت حالة بدوّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل. وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكنّس ، أي عند غروبها تشبيها لغروبها بدخول الظبي أو

١٣٥

البقرة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري.

فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها ، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا ، قال لبيد :

حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت

بكرت تزل عن الثرى أزلامها

وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله : (الْخُنَّسِ) استعارة وكان (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ترشيحين للاستعارة.

وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش ، والإلغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم ، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية :

فقلت أعيراني القدوم لعلّني

أخطّ بها قبرا لأبيض ماجد

أراد أنه يصنع بها غمدا لسيف صقيل مهند.

وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس : حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة ، وأن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش.

والمعروف في إقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة.

ثم عطف القسم ب (اللَّيْلِ) على القسم ب «الكواكب» لمناسبة جريان الكواكب في الليل ، ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم.

وعسعس الليل عسعاسا وعسعسة ، قال مجاهد عن ابن عباس : أقبل بظلامه ، وقال مجاهد أيضا عن ابن عباس معناه : أدبر ظلامه ، وقاله زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع. وقال المبرد والخليل : هو من الأضداد يقال : عسعس ، إذا أقبل ظلامه ، وعسعس ، إذا أدبر ظلامه. قال ابن عطية : قال المبرد : أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معااه.

وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادته كلا حالين صالحين للقسم به فيهما لأنهما من مظاهر القدرة إذ يعقب الظلام الضياء ثم يعقب الضياء الظلام ، وهذا إيجاز.

وعطف عليه القسم بالصبح حين تنفسه ، أي انشقاق ضوئه لمناسبة ذكر الليل ، ولأن

١٣٦

تنفس الصبح من مظاهر بديع النظام الذي جعله الله في هذا العالم.

والتنفس : حقيقته خروج النفس من الحيوان ، استعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس على طريقة الاستعارة المصرحة ، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس.

وضمير (إِنَّهُ) عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر ولكنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث فإنه مما أخبرهم به القرآن وكذبوا بالقرآن لأجل ذلك.

والرسول الكريم يجوز أن يراد به جبريل عليه‌السلام ، وصف جبريل برسول لأنه مرسل من الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن.

وإضافة «قول» إلى (رَسُولٍ) إما لأدنى ملابسة لأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيحكيها كما أمره الله تعالى فهو قائلها ، أي صادرة منه ألفاظها.

وفي التعبير عن جبريل بوصف (رَسُولٍ) إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي.

قال ابن عطية : وقال آخرون الرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية كلها ا ه. ولم يعين اسم أحد ممن قالوا هذا من المفسرين.

واستطرد في خلال الثناء على القرآن الثناء على الملك المرسل به تنويها بالقرآن فإجراء أوصاف الثناء على (رَسُولٍ) للتنويه به أيضا ، وللكناية على أن ما نزل به صدق لأن كمال القائل يدل على صدق القول.

ووصف (رَسُولٍ) بخمسة أوصاف :

الأول : (كَرِيمٍ) وهو النفيس في نوعه.

والوصفان الثاني والثالث : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالبا. ومن أوصافه تعالى : «القوي» ، ومنها مقدرة الذات من إنسان أو حيوان على كثير من الأعمال التي لا يقدر عليها أبناء نوعه.

وضدها الضعف قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ

١٣٧

قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤].

وتطلق القوة مجازا على ثبات النفس على مرادها والإقدام ورباطة الجأش ، قال تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢] وقال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [البقرة : ٦٣] ، فوصف جبريل ب (ذِي قُوَّةٍ) يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى : (ذُو مِرَّةٍ) [النجم : ٦] ، ويجوز أن يكون في القوة المجازية وهي الثبات في أداء ما أرسل به كقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] لأنّ المناسب للتعليم هو قوة النفس ، وأما إذا كان المراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوصفه ب (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له.

والمكين : فعيل ، صفة مشبهة من مكن بضم الكاف مكانة ، إذا علت رتبته عند غيره ، قال تعالى في قصة يوسف مع الملك : (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف : ٥٤].

وتوسيط قوله : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) بين (ذِي قُوَّةٍ) و (مَكِينٍ) ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز ، أي هو ذو قوة عند الله ، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوّله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير ، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى.

ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك على نحو ما تقدم.

والعندية عندية تعظيم ، وعناية ، ف (عند) للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزلفى.

وعدل عن اسم الجلالة إلى (ذِي الْعَرْشِ) بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه.

وأما بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللإشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأنا.

الوصف الرابع : (مُطاعٍ) أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مطاع : أي مأمور الناس بطاعة ما يأمرهم به.

و (ثَمَ) بفتح الثاء اسم إشارة إلى المكان ، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي

١٣٨

دلّ عليه قوله : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) فيجوز تعلق الظرف ب (مُطاعٍ) وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل ، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مطاع في العالم العلوي ، أي مقرّر عند الله أن يطاع فيما يأمر به.

ويجوز أن يتعلق ب (أَمِينٍ) ، وتقديمه على متعلّقه للاهتمام بذلك المكان ، فوصف جبريل به ظاهر أيضا ، ووصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به لأنه مقررة أمانته في الملأ الأعلى.

والأمين : الذي يحفظ ما عهد له به حتى يؤدّيه دون نقص ولا تغيير ، وهو فعيل إما بمعنى مفعول ، أي مأمون من أمنه على كذا. وعلى هذا يقال : امرأة أمين ، ولا يقال : أمينة ، وإما صفة مشبهة من أمن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته ، وعلى هذا الوجه يقال : امرأة أمينة ، ومنه قول الفقهاء في المرأة المشتكية أضرار زوجها : يجعلان عند أمينة وأمين.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢))

عطف على جملة : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير : ١٩] فهو داخل في خبر القسم جوابا ثانيا عن القسم ، والمعنى : وما هو (أي القرآن) بقول مجنون كما تزعمون ، فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مرسل من الله وكان قد تضمن ذلك ثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه صادق فيما بلغه عن الله تعالى ، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولهم : (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) [الدخان : ١٤] وقولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨] ، فأبطل قولهم إبطالا مؤكدا ومؤيدا ، فتأكيده بالقسم وبزيادة الباء بعد النفي ، وتأييده بما أومأ إليه وصفه بأن الذي بلّغه صاحبهم ، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خلقه وعقله ويعلمون أنه ليس بمجنون ، إذ شأن الصاحب أن لا تخفى دقائق أحواله على أصحابه.

والمعنى : نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين ، فسلامة مبلّغه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وسوسة.

ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب (رَسُولٍ كَرِيمٍ) [التكوير : ١٩] النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون قوله : (صاحِبُكُمْ) هنا إظهارا في مقام الإضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي.

والصاحب حقيقته : ذو الصحبة ، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد

١٣٩

للمؤانسة والموافقة ، ومنه قيل للزوج : صاحبة وللمسافر مع غيره صاحب ، قال امرؤ القيس:

بكى صاحبي لمّا رأي الدّرب دونه

وقال تعالى حكاية عن يوسف : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [يوسف : ٣٩] ، وقال الحريري في «المقامة الحادية والعشرين» : «ولا لكم مني إلا صحبة السفينة».

وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالط في أحوال كثيرة ولو في الشر ، كقول الحجاج يخاطب الخوارج : «ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر ، واستبطنتم الكفر». وقول الفضل اللهبي :

كلّ له نيّة في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

والمعنى : أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه : «إنه مجنون» إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة.

فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها ، والقصد من ذلك إثبات صدق محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما‌السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني.

ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب «الكشاف» : «وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكانة جبريل عليه‌السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا وازنت بين الذّكرين وقايست بين قوله : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) [التكوير : ١٩ ، ٢٠] ، وبين قوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) ا ه.

وكيف انصرف نظره عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئا لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلا لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وهي مسألة لها مجال آخر ، على أنك قد علمت أن الصفات التي أجريت على (رَسُولٍ) في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)

١٤٠