تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

(كَلَّا)

إبطال وقد تقدم ذكر (كلّا) في سورة مريم [٧٩ ـ ٨٢] ، وتقدم قريبا في سورة النبأ [٤ ، ٥] ، وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) [عبس : ٣]. ولو بالتعريض أيضا كما في قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) [عبس : ١].

وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإبطال إلى (عَبَسَ وَتَوَلَّى) خاصة.

ويجوز أن يكون تأكيدا لقوله : (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) [عبس : ٧] على التفسيرين ، أي لا تظن أنك مسئول عن مكابرته وعناده فقد بلّغت ما أمرت بتبليغه.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) (١١) (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (١٢) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) (١٣) (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) (١٤) (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) (٥٠) (كِرامٍ بَرَرَةٍ) (١٦).

استئناف بعد حرف الإبطال ، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن ، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصّر في شيء من واجب التبليغ.

وضمير (إِنَّها) عائد إلى الدعوة التي تضمنها قوله : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) [عبس : ٦].

ويجوز أن يكون المعنى : أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما وإنما يعاتب الحبيب حبيبه.

ويجوز عندي أن يكون (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومن معه ، وكانوا لا يستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث ، فتكون (كلا) إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك.

فيكون ضمير (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) عائدا إلى الآيات التي قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن.

ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى عقبه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث.

فكان تأنيث الضمير نكتة خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني.

١٠١

والضمير الظاهر في قوله : (ذَكَرَهُ) يجوز أن يعود إلى (تَذْكِرَةٌ) لأن ما صدقها القرآن الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضه على صناديد قريش قبيل نزول هذه السورة ، أي فمن شاء ذكر القرآن وعمل به.

ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأن شئونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن ، أي فمن شاء ذكر الله وتوخّى مرضاته.

والذكر على كلا الوجهين : الذكر بالقلب ، وهو توخّي الوقوف عند الأمر والنهي. وتعدية فعل (ذكر) إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام.

والذي اقتضى الإتيان بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاة الفواصل وهي : (تَذْكِرَةٌ)، (مُطَهَّرَةٍ) ، (سَفَرَةٍ) ، (بَرَرَةٍ).

وجملة : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) معترضة بين قوله : (تَذْكِرَةٌ) وقوله : (فِي صُحُفٍ).

والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائما ، فالفاء من جملة الاعتراض ، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده ، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

وفي قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة ، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ. وهذا كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] وقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير: ٢٨] وقوله : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [الحاقة : ٤٨] ونحوه كثير ، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) في سورة الإنسان [٢٩].

والتذكرة : اسم لما يتذكر به الشيء إذا نسي. قال الراغب : وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) وتقدم نظيره في سورة المدثر [٤٩].

وكل من (تَذْكِرَةٌ) و (ذَكَرَهُ) هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الدال في الغالب ، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه.

١٠٢

والصحف : جمع صحيفة ، وهي قطعة من أديم أو ورق أو خرقة يكتب فيها الكتاب ، وقياس جمعها صحائف ، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس ، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إلا صحف ، وسيأتي في سورة الأعلى ، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه.

و (مُطَهَّرَةٍ) اسم مفعول من طهّره إذا نظّفه. والمراد هنا : الطهارة المجازية وهي الشرف ، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب (مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ ، مُطَهَّرَةٍ) محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) [النمل : ٢٩]. وتشريفها كما قال تعالى : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ١٨] وقدسية معانيها كما قال تعالى : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وكان المراد بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيس ، وأكتاف ، ولخاف ، وجريد.

فقد روي أن كتّاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس ، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليبا ويكون حرف (في) للظرفية الحقيقية ويكون المراد بالسفرة جمع سافر ، أي كاتب ، وروي عن ابن عباس. قال الزجاج : وإنما قيل للكتاب سفر (بكسر السين) وللكاتب سافر ؛ لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال : أسفر الصبح ، إذا أضاء وقاله الفراء.

ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه‌السلام. فتكون هذه الأوصاف تأييدا للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به. ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين : أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [الأعلى : ١٨ ـ ١٩] وكما قال : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ١٩٦] وكما قال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣].

ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية ، أي ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريلعليه‌السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها. ومعنى (مُكَرَّمَةٍ) عناية الله بها ، ومعنى (مَرْفُوعَةٍ) أنها من العالم العلوي ، ومعنى (مُطَهَّرَةٍ) مقدسة مباركة ، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية.

١٠٣

وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف (فسفرة) يجوز أن يكون جمع سافر ، مثل كاتب وكتبة ، ويجوز أن يكون اسم جمع سفير ، وهو المرسل في أمر مهم ، فهو فعيل بمعنى فاعل ، وقياس جمعه سفراء وتكون (في) للظرفية المجازية ، أي المماثلة في المعاني.

وتأتي وجوه مناسبة في معنى (سَفَرَةٍ) ، فالمناسب للوجه الأول : أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أن يكون المراد قراء القرآن ، وبه فسر قتادة وقال : هم بالنبطية القراء ، وقال غيرهم : الوراقون باللغة العبرانية.

وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرّب كما في «الإتقان» عن ابن أبي حاتم ، وقد أغفلها السيوطي فيما استدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرّب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها.

والمناسب للوجه الثاني : أن يكون محمله الرسل.

والمناسب للوجه الثالث : أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراء بين الله ورسله.

والمراد بأيديهم : حفظهم إياه إلى تبليغه ، فمثّل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود.

وإما أن يراد : الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم مثل موسى وعيسى عليهما‌السلام.

وإما أن يراد كتّاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة.

وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد.

وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] فهذا معنى السفرة. وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة (سَفَرَةٍ) من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام.

ووصف (كِرامٍ) مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى (كِراماً

١٠٤

كاتِبِينَ) [الانفطار : ١١].

ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله : «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة».

والبررة : جمع برّ ، وهو الموصوف بكثرة البرور. وأصل برّ مصدر برّ يبرّ من باب فرح ، ومصدره كالفرح ، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع برّ ولا يكون جمع بارّ.

والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون. قال الراغب : «لأن بررة أبلغ من أبرار إذ هو جمع برّ ، وأبرار جمع بار ، وبرّ أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل».

وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد ، وبرفعة مكانته ، وقدس مصدره ، وكرم قراره ، وطهارته ، وفضائل حملته ومبلغيه ، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية.

[١٧ ـ ٢٢] (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢))

استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثر ، وذلك يبيّنه ما وقع من الكلام الذي دار بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم.

والمناسبة وصف القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر ، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن أنه أخبر عن البعث وطالبهم بالإيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [عبس : ١٢].

والذي عرّف بقوله : (مَنِ اسْتَغْنى) [عبس : ٥] يشمله العموم الذي أفاده تعريف (الْإِنْسانُ) من قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ)

وفعل قتل فلان أصله دعاء عليه بالقتل. والمفسرون الأولون جعلوا : (قُتِلَ

١٠٥

الْإِنْسانُ) أنه لعن ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله مجاهد وقتادة وأبو مالك. قال في «الكشاف» : «دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم» ، أي فمورده غير مورد قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) [التوبة : ٣٠] وقولهم : قاتل الله فلانا يريدون التعجيب من حاله ، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله : (ما أَكْفَرَهُ) يغني عن ذلك.

والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء.

وبناء (قُتِلَ) للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء ، إذ لا غرض في قاتل يقتله ، وكثر في القرآن مبنيا للمجهول نحو (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [المدثر : ١٩].

وتعريف (الْإِنْسانُ) يجوز أن يكون التعريف المسمى تعريف الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس ، وهو استغراق حقيقي ، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولّد بصيغة الاستغراق ادعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ، ويسمى العامّ المراد به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بين به كفر الإنسان من قوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) إلى قوله : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) فيكون المراد من قوله : (الْإِنْسانُ) المشركين المنكرين البعث ، وعلى ذلك جملة المفسرين ، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث.

قال مجاهد : ما كان في القرآن (قُتِلَ الْإِنْسانُ) فإنما عني به الكافر.

والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس ، فالاستغراق الذي يقتضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة ، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به ، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان ، فقوله : (ما أَكْفَرَهُ) تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر.

فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإنسان.

فغالب الناس كفروا بالله من أقدم عصور التاريخ وتفشّى الكفر بين أفراد الإنسان وانتصروا له وناضلوا عنه. ولا أعجب من كفر من ألّهوا أعجز الموجودات من حجارة وخشب ، أو نفوا أن يكون لهم رب خلقهم.

١٠٦

ويجوز أن يكون تعريف (الْإِنْسانُ) تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يعيّنه خبر سبب النزول ، فقيل : أريد به أمية بن خلف ، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة.

وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب ، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، والمناسبة ظاهرة.

وجملة (ما أَكْفَرَهُ) تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد. وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان.

ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كمّا وكيفا ، ومتى ، لأنه كفر بوحدانية الله ، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء ، وبإرساله الرسول ، وبالوحي إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح ، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإنذار والتهديد.

وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حدّ المذمة ، جامع للملامة ، ولم يسمع مثلها قبلها ، فهي من جوامع الكلم القرآنية.

وحذف المتعلّق بلفظ (أَكْفَرَهُ) لظهوره من لفظ «أكفره» وتقديره : ما أكفره بالله.

وفي قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) محسّن الاتّزان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة.

وجملة (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بيان لجملة (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم.

وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه ، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ـ ٢].

والاستفهام صوري ، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي به خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإثبات أن الله خلق الإنسان ، بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥] أي كما كان خلق

١٠٧

الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن ما ، ونظيره قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) في سورة الطارق [٥ ـ ٨].

والضمير المستتر في قوله : (خَلَقَهُ) عائد إلى لله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان.

وقدم الجار والمجرور في قوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) محاكاة لتقديم المبيّن في السؤال الذي اقتضي تقديمه كونه استفهاما يستحق صدر الكلام ، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق ، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كوّن أبدع مخلوق معروف من أهون شيء وهو النطفة.

وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع.

فذكر فعل (خَلَقَهُ) الثاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز ، وليس بإطناب.

والنطفة : الماء القليل ، وهي فعلة بمعنى مفعولة كقولهم : قبضة حب ، وغرفة ماء. وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل ، فذكرت النطفة لتعيّن ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل ، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر ، على أن المقام هنا للدلالة على خلق عظيم وليس مقام زجر المتكبر.

وفرع على فعل (خَلَقَهُ) فعل (فَقَدَّرَهُ) بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان: ٢] أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله ، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرّجا مفرعا.

وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال.

وحرف (ثُمَ) من قوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثر العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة.

١٠٨

و (السَّبِيلَ) : الطريق ، وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيها للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيه المحسوس بالمعقول.

ويجوز أن يكون مستعارا لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك الممر اسم السبيل في قولهم : «السبيلان» فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه. وفيه مناسبة لقوله بعده : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) ، ف (أَماتَهُ) مقابل (خَلَقَهُ) و (أقبره) مقابل (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) لأن الإقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض.

والتيسير : التسهيل ، و (السَّبِيلَ) منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال ، والضمير عائد إلى (السَّبِيلَ) والتقدير : يسّر السبيل له ، كقوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] أي لذكر الناس.

وتقديم (السَّبِيلَ) على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين ، وفيه رعاية للفواصل.

وكذلك عطف (ثُمَّ أَماتَهُ) على (يَسَّرَهُ) بحرف التراخي هو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القوى العقلية والحسيّة بالموت ، بعد أن كانت راسخة زمنا ما ، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظار زمان يساوي مدة بقائها ، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة.

ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حيّ آيل إلى الموت لا محالة ، فالمعنى : ثم أماته ويميته.

فصيغة المضي في قوله : (أَماتَهُ) مستعملة في حقيقته وهو موت من مات ، ومجازه وهو موت من سيموتون ، لأن موتهم في المستقبل محقق. وذكر جملة : (ثُمَّ أَماتَهُ) توطئة وتمهيد لجملة (فَأَقْبَرَهُ)

وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال. وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج : (فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) فيما سبق.

و (أقبره) جعله ذا قبر ، وهو أخص من معنى قبره ، أي أن الله سبّب له أن يقبر. قال الفراء : «أي جعله مقبورا ، ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس» (جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه).

١٠٩

والإقبار : تهيئة القبر ، ويقال : أقبره أيضا ، إذا أمر بأن يقبر ، ويقال : قبر الميت ، إذا دفنه ، فالمعنى : أن الله جعل الناس ذوي قبور.

وإسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدّفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميت حفرة فواراه فيها ، وهي في سورة العقود ، فأسند الإقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه. وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن الميت.

والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة (أَماتَهُ).

وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عدوها قاصرة على الخلق الثاني ، وهي تتضمن مننا على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء ، وإكرامهم أمواتا بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللّقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب ، فمحل المنة في قوله : (ثُمَّ أَماتَهُ) هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله : (فَأَقْبَرَهُ) وليست الإماتة وحدها منة.

وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند ، ودون الإلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفري :

لا تقبروني إن قبري محرّم

عليكم ولكن أبشري أمّ عامر

يريد أن تأكله الضبع ، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة ، ووارى قتلى المشركين ببدر في قليب ، قال عمرو بن معديكرب قبل الإسلام :

آليت لا أدفن قتلاكم

فدخّنوا المرء وسرباله

وجملة : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال. ووقع قوله : (إِذا شاءَ) معترضا بين جملة (أَماتَهُ) وجملة : (أَنْشَرَهُ) لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و (إذا) ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل. والمعنى : ثم حين يشاء ينشره ، أي ينشره

١١٠

حين تتعلق مشيئته بإنشاره.

و (أَنْشَرَهُ) بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال : نشر الثوب ، إذ أزال طيّه ، ونشر الصحيفة ، إذا فتحها ليقرأها. ومنه الحديث : «فنشروا التوراة».

وأما الإنشار بالهمز فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيّا وهو البعث ، فيجوز أن يقال : نشر الميت ، والعرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلاتهم التوهمية. فيكون منه قول الأعشى :

حتى يقول الناس ممّا رأوا

يا عجبا للميّت النّاشر

ولذلك قال الله تعالى : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [هود : ٧].

وفي قوله : (إِذا شاءَ) ردّ لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحديا وتهكما ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلا على أنه لا يكون ، فأعلمهم الله أنه يقع عند ما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله ، واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية.

(كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأولين فيها بعضها جافّ المنال ، وبعضها جاف عن الاستعمال. ذلك أن المعروف في (كَلَّا) أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يزجر عنه ولا أن يبطل ، فتعين المصير إلى تأويل مورد (كَلَّا)

فأما الذين التزموا أن يكون حرف (كَلَّا) للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها ، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإنكار إلى ما يومئ إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه.

فمنهم من يجعل الردع متوجها إلى ما قبل (كَلَّا) ممّا يومئ إليه قوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢] ، أي إذا شاء الله ، إذ يومئ إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلّ بأنه لم ينشر أحدا منذ القدم إلى الآن. وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين

١١١

كما تقدم.

وموقع (كَلَّا) على هذا التأويل موقع الجواب بالإبطال ، وموقع جملة : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) موقع العلة للإبطال ، أي لو قضى ما أمره الله به لعلم بطلان زعمه أنه لا ينشر.

وتأوله في «الكشاف» بأنه : «ردع للإنسان عما هو عليه» أي ممّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ، يريد أنه زجر عن مضمون : (ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧].

ومنهم من يجعل الردع متوجها إلى ما بعد (كَلَّا) مما يومئ إليه قوله تعالى : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ، ويستروح هذا من كلام روي عن مجاهد ، وهو أقرب لأن ما بعد (كَلَّا) لما كان نفيا ناسب أن يجعل (كَلَّا) تمهيدا للنفي.

وموقع (كَلَّا) على هذا الوجه أنها جزء من استئناف.

وموقع جملة : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) إلى قوله : (أَنْشَرَهُ) [عبس : ١٨ ـ ٢٢] ، أي إنما لم يهتد الكافر إلى دلالة الخلق الأول على إمكان الخلق الثاني ، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله.

وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في (كَلَّا) وهم الكسائي القائل : تكون (كَلَّا) بمعنى حقا ، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل : تكون (كَلَّا) بمعنى (ألّا) الاستفتاحية.

والنضر بن شميل والفرّاء القائلان : تكون (كَلَّا) حرف جواب بمعنى نعم. فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر.

وعن الفراء (كَلَّا) تكون صلة (أي حرفا زائدا للتأكيد) كقولك : كلّا ورب الكعبة ا ه. وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية.

فالوجه في موقع (كَلَّا) هنا أنه يجوز أن تكون زجرا عما يفهم من قوله : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس : ٢٢] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيدا للإبطال الذي في قوله : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) [عبس : ١١] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غير باطل فقوله : (إِذا شاءَ) مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عند ما يسألون وقوعه ، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما

١١٢

ننشرهم عند ما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي.

وتكون جملة : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) تعليلا للردع ، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ، ويكون المراد بالأمر في قوله : (ما أَمَرَهُ) أمر التكوين ، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦].

ويجوز أن يكون زجرا عما أفاده قوله : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) وقدمت (كَلَّا) في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر.

وتقدم الكلام في (كَلَّا) في سورة مريم وأحلت هنالك على ما هنا.

و (لَمَّا) حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل (لم) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].

والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مما دعاه إليه.

والقضاء : فعل ما يجب على الإنسان كاملا لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما ، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به ، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطوارا إلى الموت قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) [الطارق : ٥] ، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.

والضمير المستتر في (أَمَرَهُ) عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في (خلقه ، وقدره ، ويسره ، وأماته ، وأقبره ، وأنشره).

[٢٤ ـ ٣٢] (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)

إما مفرع على قوله : (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) [عبس : ٢٣] فيكون مما أمره الله به من النظر ، وإما على قوله : (ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر

١١٣

الإنسان. والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة ، إذ التقدير : إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه. وهذا نظير الفاء في قوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) [الطارق : ٤ ، ٥] ، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر ممّ خلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو.

وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإنسان ما أهمله وكان الانتقال من الاستدلال بما في خلق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخا للاستدلال ، وتفننا فيه ، وتعريضا بالمنة على الإنسان في هذه الدلائل ، من نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام.

وتعدية فعل النظر هنا بحرف (إِلى) تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره. والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض. وجعل المنظور إليه ذات الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به.

وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات ، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكلها ، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكوّن الحبوب والثمار التي بها طعامه ، وقد وصف له تطور ذلك ليتأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يره ، ولا يخلو أحد عن علم إجمالي بذلك ، فيزيده هذا الوصف علما تفصيليا ، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض ، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد ، وقد يكون تمثيلا في جميع تلك الأطوار بأن تخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بذرها في الأرض ويرسل الله لها قوى لا نعلمها تشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات ، قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) [نوح : ١٧ ، ١٨].

وفي «تفسير ابن كثير» عند قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] عن ابن

١١٤

[أبي] (١) حاتم بسنده إلى ابن عباس : «يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كلّ خلق بلي إنسان أو دابة ولو مرّ عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض ، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد» ا ه. وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكنه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي.

والإنسان المذكور هنا هو الإنسان المذكور في قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [عبس : ١٨] ، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداء كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإيضاح.

وأدمج في ذلك منة عليه بالإمداد بالغذاء الذي به إخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج ، وبسبب كد الأعمال البدنية والإفرازات ، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب.

وإنما تعلق النظر بالطعام مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام ، إجراء للكلام على الإيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) إلى آخرها.

فالتقدير : فلينظر الإنسان إلى خلق طعامه وتهيئة الماء لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم.

وقرأ الجمهور : (أَنَّا صَبَبْنَا) بكسر همزة (إنّا) على أن الجملة بيان لجملة : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) لتفصيل ما أجمل هنالك على وجه الإيجاز. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدل اشتمال من (طَعامِهِ) أو البدل الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصّل من مجمل.

والصّب : إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في الدقة في وعاء غير الذي كانت فيه ، يقال : صب الماء في الجرة ، وصب القمح في الهري ، وصبّ الدراهم في الكيس. وأصله : صبّ الماء ، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو.

والشق : الإبعاد بين ما كان متصلا. والمراد هنا شقّ سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة ، أو بقوة حرّ الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء.

__________________

(١) زيادة من «تفسير ابن كثير» عند شرح الآية ، والنقل منه بتصرف.

١١٥

وإسناد الصّب والشق والإنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدّر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك ، ومحكم نواميسها وملهم الناس استعمالها.

فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة. وقد شاع في (صَبَبْنَا) و (أنبتنا) حتى ساوى الحقيقة العقلية.

وانتصب (صَبًّا) و (شَقًّا) على المفعول المطلق ل (صَبَبْنَا) و (شَقَقْنَا) مؤكّدا لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجيب.

والفاء في قوله : (فَأَنْبَتْنا) للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه.

والحب أريد منه المقتات منه للإنسان ، وقد تقدم في قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) في سورة البقرة [٢٦١].

والعنب : ثمر الكرم ، ويتخذ منه الخمر والخل ، ويؤكل رطبا ، ويتخذ منه الزبيب.

والقضب : الفصفصة الرطبة ، سميت قضبا لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب ، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تخلف ما دام الماء ينزل عليها ، وتسمى القت.

والزيتون : الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف.

والنخل : الشجر الذي ثمرته التمر وأطواره.

والحدائق : جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكرم وشجر فواكه ، وعطفها على النخل من عطف الأعم على الأخص ، ولأن في ذكر الحدائق إدماجا للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم.

وإنما ذكر النخل دون ثمرته ، وهو التمر ، خلافا لما قرن به من الثمار والفواكه والكلأ ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره ، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورطب وبسر ، ويأكلون جمّاره ، ويشربون ماء عود النخلة إذا شق عنه ، ويتخذون من نوى التمر علفا لإبلهم ، وكل ذلك من الطعام ، فضلا عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه ، والحصر من سعفه ، والحبال من ليفه. فذكر اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم ، وقد تقدم قريبا في سورة النبأ.

والغلب : جمع غلباء ، وهي مؤنث الأغلب ، وهو غليظ الرقبة ، يقال : غلب كفرح،

١١٦

يوصف به الإنسان والبعير ، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به ؛ إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة ، وإما على تقدير محذوف ، أي غلب شجرها ، فيكون نعتا سببيّا وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة ، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٦].

وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف ، ولأنها تجمع أصنافا من الأشجار.

والفاكهة : الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات ، مثل الرّطب والعنب الرّطب والرمان واللوز.

والأبّ : بفتح الهمزة وتشديد الباء : الكلأ الذي ترعاه الأنعام ، روي أن أبا بكر الصديق سئل عن الأبّ : ما هو؟ فقال : «أيّ سماء تظلني ، وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به» وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوما على المنبر : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) إلى (وَأَبًّا) فقال : كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت في يده ، وقال : هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأبّ ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه». وفي «صحيح البخاري» عن عمر بعض هذا مختصرا.

والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأبّ وهما من خلّص العرب لأحد سببين :

إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها مثل اسم السّكّين عند الأوس والخزرج ، فقد قال أنس بن مالك : «ما كنّا نقول إلا المدية حتى سمعت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر أن سليمان عليه‌السلام قال : «ايتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين».

وإما لأن كلمة الأبّ تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام ، ومنها التبن ، ومنها يابس الفاكهة ، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين ، وهل الأبّ مما يرجع إلى قوله : (مَتاعاً لَكُمْ) أو إلى قوله :

١١٧

(وَلِأَنْعامِكُمْ) في جمع ما قسّم قبله.

وذكر في «الكشاف» وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال : «إن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم ، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان. وقد علم من فحوى الآية أنّ الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن ا ه». ولم يأت كلام «الكشاف» بأزيد من تقرير الإشكال.

وقوله : (مَتاعاً لَكُمْ) حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة ، وهذا نوع من التنازع.

وقوله : (وَلِأَنْعامِكُمْ) عطف قوله : (لَكُمْ)

والمتاع : ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع ، وفيه لفّ ونشر مشوّش ، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره. وهذه الحال واقعة موقع الإدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال.

[٣٣ ـ ٤٢] (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

الفاء للتفريع على اللوم والتوبيخ في قوله : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) إلى قوله (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) [عبس : ١٨ ـ ٢٥] ، ففرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء ، مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله : (إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤] وقوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٣٢] على نحو ما تقدم في قوله : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) من سورة النازعات [٣٤].

و (الصَّاخَّةُ) : صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخ الأسماع ، أي تصمها.

١١٨

يقال : صخّ يصخ قاصرا ومتعديا ، ومضارعه يصخ بضم عينه في الحالين. وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافا لا جدوى له ، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي ، فالصاخّة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم ، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلا ، ونفخة الصّور التي تبعث عندها الناس. و (إذا) ظرف وهو متعلق ب (جاءَتِ الصَّاخَّةُ) وجوابه قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) الآيات.

والمجيء مستعمل في الحصول مجازا ، شبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر.

و (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) بدل من إذا (جاءَتِ الصَّاخَّةُ) بدلا مطابقا.

والفرار : الهروب للتخلص من مخيف.

وحرف (من) هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يعدّى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال : فرّ من الأسد ، وفرّ من العدو ، وفرّ من الموت ، ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل (عن).

وكون أقرب الناس للإنسان يفرّ منهم يقتضي هول ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله ، إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة ، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته. والألف يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة. وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما ظنك بهول يغشى على هذين الواجدين فلا يترك لهما مجالا في النفس.

ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم.

فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة ، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لابنيهما ، وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة ، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة.

١١٩

وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال : يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع.

وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرته هو الفارّ كان من ذكر معه مفرورا منه إلا قوله : (وَصاحِبَتِهِ) لظهور أن معناه : والمرأة من صاحبها ، ففيه اكتفاء ، وإنما ذكرت بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة.

والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذ بقوا على الكفر.

وتعليق جار الأقرباء بفعل : (يَفِرُّ الْمَرْءُ) يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم.

وقد اجتمع في قوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى.

وجملة : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا لزيادة تهويل اليوم ، وتنوين (شَأْنٌ) للتعظيم.

وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من أولئك من مثله كان الاستئناف جامعا للجميع تصريحا بذلك المقتضى ، فقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بله الاشتغال عمن هو دون أولئك في القرابة والصحبة.

والشأن : الحال المهم.

وتقديم الخبر في قوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ) على المبتدأ ليتأتى تنكير (شَأْنٌ) الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغات عدّها النحاة بضعة عشر مسوغا ، ومنها تقديم الخبر على المبتدإ.

والإغناء : جعل الغير غنيا ، أي غير محتاج لشيء في غرضه. وأصل الإغناء والغنى : حصول النافع المحتاج إليه ، قال تعالى : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [يوسف : ٦٧]

١٢٠