تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٣٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٨ ـ سورة النبأ

سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب التفسير السنة «سورة النبإ» لوقوع كلمة «النبإ» في أولها.

وسميت في بعض المصاحف وفي «صحيح البخاري» وفي «تفسير ابن عطية» و «الكشاف» «سورة عم يتساءلون». وفي «تفسير القرطبي» سماها «سورة عم» أي بدون زيادة «يتساءلون» تسمية لها بأول جملة فيها.

وتسمى «سورة التساؤل» لوقوع «يتساءلون» في أولها. وتسمى «سورة المعصرات» لقوله تعالى فيها : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) [النبأ : ١٤]. فهذه خمسة أسماء. واقتصر في «الإتقان» على أربعة أسماء : عمّ ، والنبأ ، والتساؤل ، والمعصرات ، وهي مكية بالاتفاق.

وعدّت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات.

وفيما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث ، روي عن ابن عباس : «كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به» فنزلت : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ).

وعن الحسن لما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢] يعني الخبر العظيم.

وعدّ آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين. وعدّها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية.

٥

أغراضها

اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم ، ومن ذلك إثبات البعث ، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزءين بالإخبار عن وقوعه.

وتهديدهم على استهزائهم.

وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.

ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.

وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.

وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.

[١ ـ ٣] (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣))

افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم ، افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده ، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الإجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.

وإذ كان هذا الافتتاح مؤذنا بعظيم أمر كان مؤذنا بالتصدي لقول فصل فيه ، ولمّا كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضهم يومئذ يجعل افتتاح الكلام به من براعة الاستهلال.

ولفظ (عَمَ) مركب من كلمتين هما حرف (عن) الجار و (ما) التي هي اسم استفهام بمعنى : أيّ ويتعلق (عَمَ) بفعل (يَتَساءَلُونَ) فهذا مركب. وأصل ترتيبه : يتساءلون عن ما ، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به ، وإذ قد كان

٦

اسم الاستفهام مقترنا بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قدّما معا فصار عما يتساءلون.

وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن (ما) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقة بينها وبين (ما) الموصولة.

وعلى ذلك جرى استعمال نطقهم ، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا (ما) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) [النازعات : ٤٣] (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) (مِمَّ خُلِقَ) [الطارق : ٥] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذّ.

ولما بقيت كلمة (ما) بعد حذف ألفها على حرف واحد جروا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف (عن) لأن (ما) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجّي ، فلما كان حرف الجر الذي قبل (ما) مختوما بنون والتقت النون مع ميم (ما) ، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميما ويدغمونها فيها ، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعا للنطق ، ونظيره قوله تعالى : (مِمَّ خُلِقَ) وهو اصطلاح حسن.

والتساؤل : تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وترد كثيرا لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم : ساءل ، بمعنى : سأل ، قال النابغة :

أسائل عن سعدى وقد مرّ بعدنا

على عرصات الدار سبع كوامل

وقال رويشد بن كثير الطائي :

يا أيّها الراكب المزجي مطيته

سائل بني أسد ما هذه الصوت

وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم : عافاك الله ، وذلك إما كناية أو مجاز ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح ، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.

فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإنكار.

٧

ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل (يحذر) في قوله تعالى : (يَحْذَرُ) (الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة : ٦٤] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.

وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يرجّح كلّ فريق ما ذهب إليه. والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب ، فعن ابن عباس : «لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب».

وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس ، وقيل : هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.

فأما التساؤل الحقيقي فإن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسئول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت ، أو سؤال كشف عن معتقدة ، أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨] وقال بعض آخر : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) إلى قوله : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النمل : ٦٧ ، ٦٨].

وأما التساؤل الصوري فإن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث؟ ويقول له الآخر : هل سمعت ما قال؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي.

والاستفهام بما في قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ليس استفهاما حقيقيا بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) [الشعراء : ٢٢١].

والموجّه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.

وضمير (يَتَساءَلُونَ) يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره ، وإشاراته المبهمة ، كالضمير في قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] (يعني الشمس) (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) [القيامة : ٢٦] (يعني الروح) ، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضمير جماعة المخاطبين.

٨

ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) فجوابه مستعملة بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم فبيّن جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء : ٢٢١ ، ٢٢٢] ، فكأنه قيل : هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت :

لمن الدار أقفرت بمعان

بين أعلى اليرموك والصّمّان

ذاك مغنى لآل جفنة في الده

ر وحقّ تقلّب الأزمان

والنّبأ : الخبر ، قيل : مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر ، وهو الذي جرى عليه إطلاق «القاموس» و «الصحاح» و «اللسان».

وقال الراغب : «النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا» ا ه. وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جروا إلّا على نحو ما قال الراغب فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة : نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء ، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد ، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) في سورة الأنعام [٣٤] وقوله : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص : ٦٧ ، ٦٨].

والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيّل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدركها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.

ووصف (النَّبَإِ) ب (الْعَظِيمِ) هنا زيادة في التنويه به لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظم أوصاف وأهوال ، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبل هذا. ونظيره قوله تعالى : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) في سورة ص [٦٧ ، ٦٨].

والتعريف في (النَّبَإِ) تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم به ،

٩

وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله ، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك ، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة ، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يحمل على التمثيل. فعن ابن عباس : هو القرآن ، وعن مجاهد وقتادة : هو البعث يوم القيامة.

وسوق الاستدلال بقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) إلى قوله : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٦] يدل دلالة بينة على أن المراد من (النَّبَإِ الْعَظِيمِ) الإنباء بأن الله واحد لا شريك له.

وضمير (هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) يجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله : (يَتَساءَلُونَ). واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به ، كقول بعضهم : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] وقول بعضهم : هذا كلام مجنون ، وقول بعضهم : هذا كذب ، وبعضهم : هذا سحر ، وهم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره. فمنهم من يقطع بإنكار البعث مثل الذين حكى الله عنهم بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ـ ٨] ، ومنهم من يشكّون فيه كالذين حكى الله عنهم بقوله : (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢] على أحد التفسيرين.

وجيء بالجملة الاسمية في صلة الموصول دون أن يقول : الذي يختلفون فيه أو نحو ذلك ، لتفيد الجملة الاسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات.

وتقديم (عَنْهُ) على (مُعْرِضُونَ) [ص : ٦٨] للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به ، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة.

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤))

(كَلَّا) حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالبا في الكلام يقتضي ردع المنسوب إليه وإبطال ما نسب إليه ، وهو هنا ردع للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله التساؤل من المعاني المتقدمة ، وإبطال لما تضمنته جملة (يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] من تساؤل معلوم للسامعين.

فموقع الجملة موقع الجواب عن السؤال ولذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب.

١٠

والكلام وإن كان إخبارا عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليهم بهذا الاعتبار.

والمعنى : إبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإنكار التساؤل عنه ذلك التساؤل الذي أرادوا به الاستهزاء وإنكار الوقوع ، وذلك يثبت وقوع ما جاء به النبأ وأنه حق لأن إبطال إنكار وقوعه يفضي إلى إثبات وقوعه.

والغالب في استعمال (كَلَّا) أن تعقّب بكلام يبيّن ما أجملته من الردع والإبطال فلذلك عقبت هنا بقوله : (سَيَعْلَمُونَ) وهو زيادة في إبطال كلامهم بتحقيق أنهم سيوقنون بوقوعه ويعاقبون على إنكاره ، فهما علمان يحصلان لهم بعد الموت : علم بحق وقوع البعث ، وعلم في العقاب عليه.

ولذلك حذف مفعول (سَيَعْلَمُونَ) ليعمّ المعلومين فإنهم عند الموت يرون ما سيصيرون إليه فقد جاء في الحديث الصحيح «إن الكافر يرى مقعده فيقال له هذا مقعدك حتى تبعث» ، وفي الحديث : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» وذلك من مشاهد روح المقبور وهي من المكاشفات الروحية وفسر بها قوله تعالى : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر : ٦ ، ٧].

فتضمن هذا الإبطال وما بعده إعلاما بأن يوم البعث واقع ، وتضمن وعيدا وقد وقع تأكيده بحرف الاستقبال الذي شأنه إفادة تقريب المستقبل.

ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاما بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم ، وصوروه في صورة طلب الجواب فهذا الجواب من باب قول الناس : الجواب ما ترى لا ما تسمع.

(ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥))

ارتقاء في الوعيد والتهديد فإن (ثُمَ) لما عطفت الجملة فهي للترتيب الرتبي ، وهو أن مدلول الجملة التي بعدها أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة التي قبلها ، ولما كانت الجملة التي بعد (ثُمَ) مثل الجملة التي قبل (ثُمَ) تعيّن أن يكون مضمون الجملة التي بعد (ثُمَ) أرقى درجة من مضمون نظيرها. ومعنى ارتقاء الرتبة أن مضمون ما بعد (ثُمَ) أقوى من مضمون الجملة التي قبل (ثُمَ) ، وهذا المضمون هو الوعيد ، فلما استفيد تحقيق وقوع المتوعد به بما أفاده التوكيد اللفظي إذ الجملة التي بعد (ثُمَ) أكدت الجملة

١١

التي قبلها تعيّن انصراف معنى ارتقاء رتبة معنى الجملة الثانية هو أن المتوعد به الثاني أعظم مما يحسبون.

وضمير (سَيَعْلَمُونَ) في الموضعين يجري على نحو ما تقدم في ضمير (يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] وضمير (فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ٣].

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦))

لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامهم ، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وترويجهم تكذيبه ، جاء هذا الاستئناف بيانا لإجمال قوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ٢ ، ٣].

وسيجيء بعده تكملته بقوله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧].

وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق ، وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البلى بأنها لا تبلغ مبلغ إيجاد المخلوقات العظيمة ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها.

والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير الخطاب بدليل عطف (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ : ٨] عليه.

والاستفهام في (أَلَمْ نَجْعَلِ) تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف (لم) ، وذلك النفي كالإعذار للمقرّر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهادا لا بنفيه فحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير.

فالمعنى : أجعلنا الأرض مهادا ولذلك سيعطف عليه (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) وتقدم عند قوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة البقرة[٣٣].

ولا يسعهم إلا الإقرار به قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (أي الثاني) (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].

١٢

وجعل الأرض : خلقها على تلك الحالة لأن كونها مهادا أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإنسان لا يعلمه إلا الله.

والمعنى : أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ.

والتعبير ب (نَجْعَلِ) دون : نخلق ، لأن كونها مهادا حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالبا أو إلى الوصف المقوّم للذات نحو : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢].

والمهاد : بكسر الميم الفراش الممهد الموطّأ ؛ وزنة الفعال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة. وفي «القاموس» : أن المهاد يرادف المهد الذي يجعل للصبي. وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جعل سطحها ميسرا للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي ، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس ، فهو استدلال يتضمن امتنانا وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بلاها.

والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعووا عن المكابرة ويقبلوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبليغا عن الله تعالى.

ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث ، أي بعث أهل القبور.

وجعل الأرض مهادا يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعد عند التعرض لخلق السماوات.

(وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧))

عطف على (الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] فالواو عاطفة (الْجِبالَ) على (الْأَرْضَ) ، وعاطفة (أَوْتاداً) على (مِهاداً) ، وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل.

١٣

والأوتاد : جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية. والوتد : عود غليظ شيئا ، أسفله أدق من أعلاه يدق في الأرض لتشد به أطناب الخيمة وللخيمة ، أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها. والإخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد.

ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلا للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده.

وأيضا فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهادا فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحا بمنزلة حسن الاعتذار ، فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم : رأيت أسودا غابها الرماح. ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سبح الأرض في الكرة الهوائية إذ نتوّ الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تيّاره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة.

على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمّة في الجبال فمنها مسايل الأودية ، وقرارات المياه في سفوحها ، ومراعي أنعامهم ، ومستعصمهم في الخوف ، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدوّ. ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض.

فكانت جملة (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) إدماجا معترضا بين جملة (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] وجملة (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ : ٨].

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨))

معطوف على التقرير الذي في قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦]. والتقدير : وأخلقناكم أزواجا ، فكان التقرير هنا على أصله إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق فلذلك لم يقل : ألم نخلقكم أزواجا.

وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل لأنه تكوين ذواتهم فهو أدق من الجعل.

١٤

وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] ، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب.

والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول (لم) عليه صيّره في معنى الماضي لما هو مقرر من أنّ (لم) تقلب معنى المضارع إلى المضي فلذلك حسن عطف (خَلَقْناكُمْ) على (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [النبأ : ٦ ، ٧] والكل تقرير على شيء مضى.

وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] ، فالإتيان بالمضارع في (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم. والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعوّدهم بمشاهدتها من قبل سنّ التفكر ، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها ، والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدوّ عند الاعتلاء إلى مراقبها ، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحريّة بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا.

وجيء بفعل المضي في قوله : (خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) وما بعده لأن مفاعيل فعل (خلقنا) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم.

وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما ، فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي.

وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم ، والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١]. وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك ثني باستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض ، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا

١٥

يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم : ٦٦ ، ٦٧].

وانتصب (أَزْواجاً) على الحال من ضمير الخطاب في (خَلَقْناكُمْ) لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجا ، فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس ، ولما كان المناسب لكونهم أزواجا أن يساق مساق إيجاد الأحوال جيء به حالا من ضمير الخطاب في (خَلَقْناكُمْ) ، ولو صرح له بفعل لقيل : وخلقناكم وجعلناكم أزواجا ، على نحو ما تقدم في قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) النبأ : ٦] وما يأتي من قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) [النبأ : ٩].

والأزواج : جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد تكريرة واحدة وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد :

حتى إذا سلخا جمادى ستّة

ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان ، فقوله : (أَزْواجاً) أفاد أن يكون الذكر زوجا للأنثى والعكس ، فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذكرها ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٣٥].

وفي قوله : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) إيماء إلى ما في ذلك الخلق من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى وهو مناط الإيماء إلى الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على إيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق.

وفيه استدلال على عظيم قدرة الله وحكمته ، وامتنان على الناس بأنه خلقهم ، وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجا ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم ، قال تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩] ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل (خلقنا) بضمير الناس وجعل (أَزْواجاً) حالا منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال : وخلقنا لكم أزواجا.

وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإقبال على النظر فيما بلّغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم.

١٦

(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩))

انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم وخص منها الحالة التي هي أقوى أحوالهم المعروفة شبها بالموت الذي يعقبه البعث وهي حالة متكررة لا يخلون من الشعور بما فيها من العبرة لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حال بحال الموت وما يعقبه من البعث.

وأوثر فعل (جَعَلْنا) لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعل الخلق المناسب للذوات كما تقدم في قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) [النبأ : ٦] وكذلك قوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً* وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١٠ ، ١١].

فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان فإن نوم الحيوان كلّه سبات ، ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال ، أي أن دليل البعث قائم بيّن في النوم الذي هو من أحوالكم ، وأيضا لأن في وصفه بسبات امتنانا ، والامتنان خاص بهم قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧].

والسّبات : بضم السين وتخفيف الباء اسم مصدر بمعنى السبت ، أي القطع ، أي جعلناه لكم قطعا لعمل الجسد بحيث لا بد للبدن منه ، وإلى هذا أشار ابن الأعرابي وابن قتيبة إذ جعلا المعنى : وجعلنا نومكن راحة ، فهو تفسير معنى.

وإنما أوثر لفظ (سبات) لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [النبأ : ١١] كما سيأتي.

ويطلق السبات على النوم الخفيف ، وليس مرادا في هذه الآية إذ لا يستقيم أن يكون المعنى : وجعلنا نومكم نوما ، ولا نوما خفيفا.

وفي «تفسير الفخر» : طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا : السبات هو النوم فالمعنى : وجعلنا نومكم نوما. وأخذ في تأويلها وجوها ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله ابن الأعرابي أن السبات القطع كما قال تعالى : (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) [القصص : ٧٢] وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت.

وأنكر ابن الأنباري وابن سيدة أن يكون فعل سبت بمعنى استراح ، أي ليس معنى اللفظ ، فمن فسر السبات بالراحة أراد تفسير حاصل المعنى.

١٧

وفي هذا امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يكدحون له في نهارهم فالله تعالى جعل النوم حاصلا للإنسان بدون اختياره ، فالنوم يلجئ الإنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه العصبي الذي ركنه في الدماغ ، فبتلك الراحة يستجدّ العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها ، بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لا بد له من أن يغلبه النوم وذلك لطف بالإنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسرا عليه لئلا يتهاون به ، ولذلك قيل : إن أقل الناس نوما أقصرهم عمرا وكذلك الحيوان.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠))

من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباسا حالة مهيئة لتكيف النوم ومعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الأبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة ، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره.

وكان دليلا على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فلما كذبوا خبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدروه حق قدره لشكروا وما أشركوا ، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطور بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين.

والمعنيّ من جعل الليل لباسا يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.

فيجوز أن يكون اللباس محمولا على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه ، أي ما يلبسه الإنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ ، أي جعلنا الليل للإنسان كاللباس له ، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية.

وتحته ثلاثة معان :

أحدها : أن الليل ساتر للإنسان كما يستره اللباس ، فالإنسان في الليل يختلي بشئونه

١٨

التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار ، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظّلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين ، أي إلهين : إله النور وهو صانع الخير ، وإله الظلمة وهو صانع الشر. ويقال لهم : الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين اثنين ، وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين ، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له : (ماني) فارسي قبل الإسلام ، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له : (مزدك) فارسي قبل الإسلام. وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض في قوله :

وكم لظلام الليل عندك من يد

تخبّر أن المانويّة تكذب

المعنى الثاني : من معنيي وجه الشبه باللباس : أنه المشابهة في الرفق باللّابس والملاءمة لراحته ، فلما كان الليل راحة للإنسان وكان محيطا بجميع حواسه وأعصابه شبه باللباس في ذلك. ونسب مجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير والسّدي وقتادة إذ فسروا (سُباتاً) [النبأ : ٩] سكنا.

المعنى الثالث : أن وجه شبه باللباس هو الوقاية ، فاللّيل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه ، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحا ولذلك إذا غير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله : يا صباحاه. ويقال : صبّحهم العدوّ. وكانوا إذا أقاموا حرسا على الرّبا ناظورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهارا فإذا أظلم الليل نزل الحرس ، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكر فرسه :

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثّغور ظلامها

أسهلت وانتصبت كجذع منيفة

جرداء يحصر دونها جرّامها

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١))

لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بذكر خلق نظام النهار ، فالنهار : الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية. وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض ، وهما نعمتان للبشر مختلفان في الأسباب والآثار ؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء ، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي ، لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجدّ راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق.

١٩

ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش وقد أشعر ذكر النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداء وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير : وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشا ، ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة ، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعية لفظا وضمنا.

والمعاش : يطلق مصدر عاش إذا حيي ، فالمعاش : الحياة ويطلق اسما لما به عيش الإنسان من طعام وشراب على غير قياس.

والمعنيان صالحان للآية إذ يكون المعنى : وجعلنا النهار حياة لكم ، شبهت اليقظة فيه الحياة ، أو يكون المعنى وجعلنا النهار معيشة لكم ، والإخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضا بعلاقة السببية لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة وذلك يقابل جعل الليل سباتا بمعنى الانقطاع عن العمل ، قال تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣].

ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسّنات.

(وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢))

ناسب بعد ذكر الليل والنهار وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء أن يتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية.

والبناء : جعل الجاعل أو صنع الصانع بيتا أو قصرا من حجارة وطين أو من أثواب ، أو من أدم على وجه الأرض ، وهو مصدر بنى ، فبيت المدر مبني ، والخيمة مبنيّة ، والطراف والقبة من الأدم مبنيان. والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض فليس الحفر بناء ولا نقر الصخور في الجبال بناء. قال الفرزدق :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة.

واستعير فعل (بَنَيْنا) في هذه الآية لمعنى : خلقنا ما هو عال فوق الناس ، لأن تكوينه عاليا يشبه البناء.

ولذلك كان قوله : (فَوْقَكُمْ) إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل (بَنَيْنا) وليس

٢٠