تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه ، ومتمكن منه في دعوته الدينية.

واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين ، ومعرفة الحقائق ، وحلم النفس ، والعدل ، والصبر على المتاعب ، والاعتراف للمحسن ، والتواضع ، والزهد ، والعفة ، والعفو ، والجمود ، والحياء ، والشجاعة ، وحسن الصمت ، والتؤدة ، والوقار ، والرحمة ، وحسن المعاملة والمعاشرة.

والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه ، وطلاقة وجهه ، وثباته ، وحكمه ، وحركته وسكونه ، وطعامه وشرابه ، وتأديب أهله ومن لنظره ، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس ، وحسن الثناء عليه والسّمعة.

وأما مظاهرها في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي ذلك كله وفي سياسته أمته ، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه.

[٥ ـ ٦] (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦))

الفاء للتفريع على قوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] باعتبار ما اقتضاه قوله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) [القلم : ٢] من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين ، ابتدأ بإبطال بهتانهم ، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أهم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد ، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا.

والمقصود هو ما في قوله : (وَيُبْصِرُونَ) ولكن أدمج فيه قوله : (فَسَتُبْصِرُ) ليتأتى بذكر الجانبين إيقاع كلام منصف (أي داع إلى الإنصاف) على طريقة قوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم.

وفعلا (تبصر ويبصرون) ، بمعنى البصر الحسي. وروي عن ابن عباس ، أن معناه فستعلم ويعلمون ، فجعله مثل استعمال فعل الرؤية في معنى الظن ، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من (أبصر) لا يستعمل بمعنى الظن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا لهشام كذا في «التسهيل» (١) فالمعنى : سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون فإن كان بمعنى العلم فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله : (فَسَتُبْصِرُ) للتأكيد ، وأما المشركون فسيرون ذلك ، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك

__________________

(١) هو هشام بن معاوية الكوفي من أصحاب الكسائي توفي سنة ٢٠٩.

٦١

فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح.

وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال.

وضمير (يُبْصِرُونَ) عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون : هو مجنون.

و (أي) اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، ويظهر أن مدلول (أي) فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمميّز واقعي أو جعلي ، فهذا مدلول (أيّ) في جميع مواقعه ، وله مواقع كثيرة في الكلام ، فقد يشرب (أيّ) معنى الموصول ، ومعنى الشرط ، ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل ، ومعنى المعرّف ب (ال) إذا وصل بندائه. وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه ، فقوله تعالى : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) معناه : أيّ رجل ، أو أيّ فريق منكم المفتون ، ف (أي) في موقعه هنا اسم في موقع المفعول ل (تبصر ويبصرون) أو متعلق به تعلق المجرور.

وقد تقدم استعمال (أيّ) في الاستفهام عند قوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) في سورة الأعراف [١٨٥].

و (الْمَفْتُونُ) : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة ، فيجوز أن يراد بها هنا الجنون فإن الجنون يعدّ في كلام العرب من قبيل الفتنة (يقولون للمجنون : فتنته الجن) ويجوز أن يراد ما يصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا ، بإيثار هذا اللفظ ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجّه أو التورية ليصح فرضه للجانبين.

فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون تبصر يكن في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأقوال مختلفة.

والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله ، والأصل : أيّكم المفتون فهي كالباء في قوله : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦]. ويجوز أن تكون الباء للظرفية والمعنى : في أيّ الفريقين منكم يوجد المجنون ، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضا بأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل

٦٢

ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة ، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل (الْمَفْتُونُ) في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله :

إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا

أن لا تفارقهم فالرّاحلون همو

ويجوز أن يكون (الْمَفْتُونُ) مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد ؛ والميسور لليسر ، والمعسور لضده ، وفي المثل «خذ من ميسوره ودع معسوره».

والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على (الْمَفْتُونُ) وهو مبتدأ.

يضمن فعل (تبصر ويبصرون) معنى : توقن ويوقنون ، على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحسّ البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين.

والمعنى : فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيّكم المفتون ، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب (يبصر ويبصرون).

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

تعليل لجملة : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٥ ـ ٦] باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنّى عنه قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) [القلم : ٥] من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مجنون المردود عليهم بقوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] إذ هم الضالون عن سبيل ربّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا محالة ، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواة مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون ، فتنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء.

وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا ، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلة من ضل عنه بالمهتدين.

٦٣

وعموم من ضل عن سبيله وعموم المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضا من التذييل.

وهو بعد هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨].

[٨ ـ ٩] (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩))

تفريع على جملة (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) [القلم : ٧] إلى آخرها ، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى ، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل ، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء ، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى ، وتصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لينا ولكن يستأهلون إغلاظا.

روي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه ، ويصانع بعضهم بعضا فنهاه الله عن إجابتهم لما ودّوا.

ومعنى (وَدُّوا) : أحبوا.

وليس المراد أنهم ودّوا ذلك في نفوسهم فأطلع الله عليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدم مناسبته لقوله: (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ).

وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.

فينتظم من هذا أن قوله (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عند ما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) إلى قوله : (بِالْمُهْتَدِينَ) [القلم : ٥ ـ ٧] فلعلهم تحدثوا أو أوعزوا إلى من يخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم : ٥١] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحا بينهم ويترك كلّ فريق فريقا وما عبده.

والطاعة : قبول ما يبتغى عمله ، ووقوع فعل (تُطِعْ) في حيز النهي يقتضي النهي عن

٦٤

جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم ، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢] ، أي لا تلن لهم.

واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإيماء إلى وجه بناء الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.

ومن هنا يتضح أن جملة (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف.

وفعل (تُدْهِنُ) مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة ، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهنا إما لتليينه وإما لتلوينه ، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإدهان كما أشار إليه الراغب ، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك ، أي لو تواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها.

والفاء في (فَيُدْهِنُونَ) للعطف ، والتسبب عن جملة (لَوْ تُدْهِنُ) جوابا لمعنى التمني المدلول عليه بفعل (وَدُّوا) بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك ، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار (أن) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك ، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : فهم يدهنون. وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدما على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص ، أي فالإدهان منهم لا منك ، أي فاترك الإدهان لهم ولا تتخلق أنت به ، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن : ١٣] ، أي فهو لا يخاف بخسا ولا رهقا.

وحرف (لَوْ) يحتمل أن يكون شرطيا ويكون فعل (تُدْهِنُ) شرطا ، وأن يكون جواب الشرط محذوفا ويكون التقدير : لو تدهن لحصل لهم ما يودون. ويحتمل أن يكون (لَوْ) حرفا مصدريا على رأي طائفة من علماء العربية أن (لَوْ) يأتي حرفا مصدريا مثل (أن) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير : ودوا إدهانك.

ومفعول (وَدُّوا) محذوف دل عليه (لَوْ تُدْهِنُ) ، أو هو المصدر بناء على أن (لَوْ) تقع حرفا مصدريا ، وتقدم في قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) في سورة

٦٥

البقرة [٩٦]. وقد يفيد موقع الفاء تعليلا لمودتهم منه أن يدهن ، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون ، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠))

(وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ)

إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين ، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال : ولا كلّ خلاف ، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.

وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين.

وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني :

أيا ابن زيّابة إن تلقني

لا تلقني في النعم العازب

وتلقني يشتدّ بي أجرد

مستقدم البركة كالراكب

فلم يكتف بعطف : ب (بل) أو (لكن) بأن يقول : بل تلقني يشتد بي أجرد ، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد ، وعدل عن ذلك فأعاد فعل (تلقني).

وكلمة (كُلَ) موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم الذي تضاف هي إليه ، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها (كُلَ) بالمباشرة وبالنعوت.

وقد وقعت كلمة (كُلَ) معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال ، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدّة منها.

وفي هذا ما يبطل ما أصّله الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» من الفرق بين أن

٦٦

تقع (كُلَ) في حيز النفي ، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيفت إليه (كُلَ) إن كانت (كُلَ) مسندا إليها ، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيفت إليه (كُلَ) إن كانت معمولة للمنفيّ أو المنهيّ عنه ، وبين أن تقع (كُلَ) في غير حيّز النفي ، وجعل رفع لفظ (كلّه) في قول أبي النجم :

قد أصبحت أم الخيار تدّعي

عليّ ذنبا كلّه لم أصنع

متعينا ، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب ، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامة التفتازانيّ في «المطول» ، واستشهد للإبطال بقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة : ٢٧٦] وقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة ، لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلّا بسوء.

قال جمع من المفسرين المراد بالحلّاف المهين : الوليد بن المغيرة ، وقال بعضهم : الأخنس بن شريق ، وقال آخرون : الأسود بن عبد يغوث ، ومن المفسرين من قال المراد : أبو جهل ، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء ، وإلّا فإن لفظ (كُلَ) المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين ، أما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم.

وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها ، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن التي ختم بها قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٥] ، لكن الذي قال في القرآن إنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٥] هو الوليد بن المغيرة ، فهو الذي اختلق هذا البهتان في قصة معلومة ، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الفرقان : ٥].

وذكرت عشر خلال من مذامّهم التي تخلقوا بها :

الأولى : (حَلَّافٍ) ، والحلاف : المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره ، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية

٦٧

عن تعمد الحنث ، وإلّا لم يكن ذمه بهذه المثابة ، ومن المفسرين من جعل (مَهِينٍ) قيدا ل (حَلَّافٍ) على جعل النهي عن طاعة صاحب الوصفين مجتمعين.

(مَهِينٍ).

هذه خصلة ثانية وليست قيدا لصفة (حَلَّافٍ).

والمهين : بفتح الميم فعيل من مهن بمعنى حقر وذلّ ، فهو صفة مشبهة ، وفعله مهن بضم الهاء ، وميمه أصلية وياؤه زائدة ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، أي لا تطع الفاجر الحقير. وقد يكون (مَهِينٍ) هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز ، وكل ذلك من المهانة.

و (مَهِينٍ) : نعت ل (حَلَّافٍ) ، وكذلك بقية الصفات إلى (زَنِيمٍ) [القلم : ١٣] فهو نعت مستقل ، وبعضهم جعله قيدا ل (حَلَّافٍ) وفسر المهين بالكذاب أي في حلفه.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١))

(هَمَّازٍ).

الهمّاز كثير الهمزة. وأصل الهمز : الطعن بعود أو يد ، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) [الهمزة : ١].

وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة ، فإذا كان أذى شديدا فصاحبه (هَمَّازٍ) وإذا تكرر الأذى فصاحبه (هَمَّازٍ).

(مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ).

المشاء بالنميم : الذي ينمّ بين الناس ، ووصفه بالمشّاء للمبالغة. والقول في هذه المبالغة مثل القول في (هَمَّازٍ) وهذه رابعة المذامّ.

والمشي : استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذكر السعي في قوله تعالى : (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً) [المائدة : ٦٤] ، ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشدّ وقعا في تصوّر السامع من أسماء المعقولات ، فذكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمّام ، ألا ترى أن قولك : قطع رأسه أوقع في النفس من قولك : قتل ، ويدل لذلك أنه

٦٨

وقع مثله في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأمّا الآخر فكان يمشي بالنميمة».

والنميم : اسم مرادف للنميمة ، وقيل : النميم جمع نميمة ، أي اسم جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتها اسما.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢))

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ).

هذه مذمة خامسة.

(مَنَّاعٍ) : شديد المنع. والخير : المال ، أي شحيح ، والخير من أسماء المال قال تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] وقال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] ، وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي (حَلَّافٍ ، هَمَّازٍ ، مَشَّاءٍ ، مَنَّاعٍ) وهو ضرب من محسن الموازنة.

والمراد بمنع الخير : منعه عمن أسلم من ذويهم وأقاربهم ، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه : من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا ، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد ، قال الله تعالى في شأن المنافقين (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧]. وأيضا فمن منع الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٨]. قيل : كان الوليد بن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفا يطعم أهل منى ، ولا يعطي المسكين درهما واحدا.

(مُعْتَدٍ أَثِيمٍ).

هما مذمتان سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم.

والاعتداء : مبالغة في العدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة.

والأثيم : كثير الإثم ، وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٣ ـ ٤٤]. والمراد بالإثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة.

قال أبو حيان : وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء (حَلَّافٍ)

٦٩

[القلم : ١٠] وبعده (مَهِينٍ) [القلم : ١٠] لأن النون فيها تواخ مع الميم ، أي ميم (أَثِيمٍ) ، ثم جاء (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ) [القلم : ١١] بصفتي المبالغة ، ثم جاء (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) صفات مبالغة ا ه. يريد أن الافتعال في (مُعْتَدٍ) للمبالغة.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣))

ثامنة وتاسعة.

والعتل : بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفة لأنه مشتق من العتل بفتح فسكون ، وهو الدفع بقوة قال تعالى : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) [الدخان : ٤٧] ولم يسمع (عاتل). ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالين مختلفين.

وفسر العتل بالشديد الخلقة الرحيب الجوف ، وبالأكول الشروب ، وبالغشوم الظلوم ، وبالكثير اللّحم المختال ، روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمن بن غنم ، يزيد بعضهم على بعض عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بسند غير قوي ، وهو على هذا التفسير اتباع لصفة (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) [القلم : ١٢] أي يمنع السائل ويدفعه ويغلظ له على نحو قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [الماعون : ٢].

ومعنى (بَعْدَ ذلِكَ) علاوة على ما عدّد له من الأوصاف هو سيّئ الخلقة سيّئ المعاملة ، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكور ، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] على أحد الوجهين فيه.

وعلى تفسير العتل بالشديد الخلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه.

وموقع (بَعْدَ ذلِكَ) موقع الجملة المعترضة ، والظرف خبر لمحذوف تقديره : هو بعد ذلك.

ويجوز اتصال (بَعْدَ ذلِكَ) بقوله : (زَنِيمٍ) على أنه حال من (زَنِيمٍ).

والزنيم : اللصيق وهو من يكون دعيا في قومه ليس من صريح نسبهم : إما بمغمز في نسبه ، وإما بكونه حليفا في قوم أو مولى ، مأخوذ من الزنمة بالتحريك وهي قطعة من أذن

٧٠

البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير. والزنمتان بضعتان في رقاب المعز.

قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل أريد الأخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف فحالف قريشا وحلّ بينهم ، وأيّا ما كان المراد به فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه (كُلَ) [القلم : ١٠] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال : ما بال أقوام يعملون كذا ، ويراد واحد معين. قال الخطيم التميمي جاهلي ، أو حسان بن ثابت :

زنيم تداعاه الرجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع

ويطلق الزنيم على من في نسبه غضاضة من قبل الأمهات ، ومن ذلك قول حسان في هجاء أبي سفيان بن حرب ، قبل إسلام أبي سفيان ، وكانت أمه مولاة خلافا لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن :

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

وإنّ سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

يريد جدّه أبا أمه وهو موهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سمية بنت موهب هذا.

والقول في هذا الإطلاق والمراد به مماثل للقول في الإطلاق الذي قبله.

[١٤ ـ ١٥] (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥))

يتعلق قوله : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) بفعل (قالَ) بتقدير لام التعليل محذوفة قبل (أَنْ) ، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو (إِذا تُتْلى) ومجرور هو (أَنْ كانَ ذا مالٍ) ، ولا بدع في ذلك وليست (إِذا) بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم : إن (ما) بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة.

والمراد : كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١]. وقيل : أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي اختلق

٧١

أن يقول في القرآن (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم : ١٠]. وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة في المال كثير الأبناء وهو المعنيّ بقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً) إلى قوله : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ١١ ـ ٢٥]. والوجه أن لا يختص هذا الوصف به. وأن يكون تعريضا به.

والأساطير : جمع أسطورة وهي القصة ، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى : (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في الأنعام [٢٥] وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة النحل [٢٤].

وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليرجع إلى صفة التكذيب التي انتقل الأسلوب منها من قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨].

وقرأ الجمهور (أَنْ كانَ ذا مالٍ) بهمزة واحدة على أنه خبر. وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري. وقرأه ابن عامر بهمزة ومدّة بجعل الهمزة الثانية ألفا للتخفيف.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

استئناف بياني جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمة التي وصفوا بها أن يسأل السامع : ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربّهم.

وضمير المفرد الغائب في قوله : (سَنَسِمُهُ) عائد إلى كل حلّاف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه (كُلَ) [القلم : ١٠] من الصفات التي جاءت بحالة الإفراد.

والمعنى : سنسم كل هؤلاء على الخراطيم ، وقد علمت آنفا أن ذلك تعريض بمعيّن بصفة قوله : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٥] وبأنه ذو مال وبنين.

و (الْخُرْطُومِ) : أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل. وقد خلط أصحاب اللّغة في ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه.

٧٢

وذكر الزمخشري في «الأساس» معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي ، وانبهم كلامه في «الكشاف» إلّا أن قوله فيه : وفي لفظ (الْخُرْطُومِ) استخفاف وإهانة ، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإنسان مجاز مرسل ، وجزم ابن عطية : أن حقيقة الخرطوم مخطم السبع أي أنف مثل الأسد ، فإطلاق الخرطوم على أنف الإنسان هنا استعارة كإطلاق المشفر وهو شفة البعير على شفة الإنسان في قول الفرزدق :

فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي

ولكنّ زنجيّ غليظ المشافر

وكإطلاق الجحفلة على شفة الإنسان (وهي للخيل والبغال والحمير) في قول النابغة يهجو لبيد بن ربيعة :

ألا من مبلغ عني لبيدا

أبا الورداء جحفلة الأتان

والوسم للإبل ونحوها ، جعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعيّن.

فالمعنى : سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئا.

فالوسم : تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه.

وأصل (نسمه) نوسمه مثل : يعد ويصل.

وذكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونه في الوجه إذلالا وإهانة ، وكونه على الأنف أشد إذلالا ، والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه ، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفس ، ولذلك غلب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم : شمخ بأنفه ، وهو أشمّ الأنف ، وهم شمّ العرانين ، وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف ، وجدعه ، ووقوعه في التراب في قولهم : رغم أنفه ، وعلى رغم أنفه ، قال جرير :

لما وضعت على الفرزدق ميسمي

وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل

ومعظم المفسرين على أن المعنيّ بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة. وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار. يريد : ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة. وعن ابن عباس معنى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) سنخطمه بالسيف قال : وقد خطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوما إلى أن مات ولم يعيّن ابن عباس من هو.

٧٣

وقد كانوا إذا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرءوس. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيت العباس لألجمنّه السيف ، فقال رسول الله : «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟».

وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] وجعل تشويهه يومئذ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء ، وقد كان الأنف مظهر الكبر ولذلك سمي الكبر أنفة اشتقاقا من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه.

[١٧ ـ ٢٥] (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥))

ضمير الغائبين في قوله : (بَلَوْناهُمْ) يعود إلى (الْمُكَذِّبِينَ) في قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨]. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعت إليه مناسبة قوله : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٤ ـ ١٥] فإن الازدهاء والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقعا من قديم الزمان أصحابهما في بطر النعمة وإهمال الشكر فجرّ ذلك عليهم شر العواقب ، فضرب الله للمشركين مثلا بحال أصحاب هذه الجنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم. كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف ، وضرب مثلا بقارون في سورة القصص.

والبلوى حقيقتها : الاختبار وهي هنا تمثيل بحال المبتلى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر ، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمدّ أهل مكة بنعمة الأمن ، ونعمة الرزق ، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة ، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف ، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطغوا ولم يتوجهوا إلى النظر في النعم السالفة ولا في النعمة الكاملة التي أكملت لهم النعم.

٧٤

ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنّة المذكورة هنا هو الإعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته.

وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب ، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه. وقد حصل ذلك بعد سنين إذ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة.

وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له : ضروان (بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون) من بلاد اليمن بقرب صنعاء. وقيل : ضروان اسم هذه الجنة ، وكانت جنّة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس. ولم يبين من أي أهل الكتاب هو : أمن اليهود أم من النصارى؟ فقيل : كان يهوديا ، أي لأن أهل اليمن كانوا تديّنوا باليهودية من عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بهجرة بعض جنود سليمان ، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين.

وقال بعض المفسرين : كان أصحاب هذه الجنة بعد عيسى بقليل ، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلّا بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القليس وكان ذلك زمان عام الفيل. وعن عكرمة : كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقا للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمارها فكان يعيش منها اليتامى والأرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين ، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحا وبعضهم دونه فتمالئوا على حرمان اليتامى والمساكين والأرامل وقالوا : لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين. فبيتوا ذلك وأقسموا أيمانا على ذلك ، ولعلهم أقسموا ليلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعوا إليه. وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨] ، قيل كان يقول لهم : اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين ، وذكرهم انتقام الله من المجرمين ، أي فغلبوه ومضوا لما عزموا عليه ، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه ، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة.

٧٥

فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودّة قد أصابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيرا منها.

قيل : كانت هذه الجنة من أعناب.

والصرم : قطع الثمرة وجذاذها.

ومعنى (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح أي في أوائل الفجر.

ومعنى (لا يَسْتَثْنُونَ) : أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين ، أي أقسموا ليصرمنّ جميع الثمر ولا يتركون منه شيئا. وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلّا فإن الصرم لا ينافي إعطاء شيء من المجذوذ لمن يريدون. وأجمل ذلك اعتمادا على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها.

وقيل معناه : (لا يَسْتَثْنُونَ) لإيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤]. ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو (إلّا) ، فإذا اقتصر أحد على «إن شاء الله» دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناء لأنه على تقدير : إلا أن يشاء الله. على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظرا إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء.

وعلى هذا التفسير يكون قوله : (وَلا يَسْتَثْنُونَ) من قبيل الإدماج ، أي لمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا ، والجملة في موضع الحال ، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بخلهم على الفقراء والأيتام.

وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا ، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة.

وقوله : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) ، الطواف : المشي حول شيء من كل جوانبه يقال : طاف بالكعبة ، وأريد به هنا تمثيل حالة الإصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان ، قال تعالى : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) الآية [الأعراف : ٢٠١].

٧٦

وعدّي (طاف) بحرف (على) لتضمينه معنى : تسلط أو نزل.

ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك ، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به ، فإسناد فعل (طاف) إلى (طائِفٌ) بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل : فطيف عليها وهم نائمون.

وعن الفراء : أن الطائف لا يكون إلّا بالليل ، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طيفا. قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل ، وفي هذا نظر.

فقوله : (وَهُمْ نائِمُونَ) تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول ، وهو تأكيد لمعنى (طائِفٌ) على تفسير الفراء ، وفائدته تصوير الحالة.

وتنوين (طائِفٌ) للتعظيم ، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله : (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فهو طائف سوء ، قيل : أصابها عنق من نار فاحترقت.

و (مِنْ رَبِّكَ) أي جائيا من قبل ربّك ، ف (مِنْ) للابتداء يعني : أنه عذاب أرسل إليهم عقابا لهم على عدم شكر النعمة.

وعجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين. ويؤخذ من الآية موعظة للذين لا يواسون بأموالهم.

وإذ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيويا لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة.

والصريم قيل : هو الليل ، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار ملوا فيقال : الملوان ، وعلى هذا ففي الجمع بين (أصبحت) و (الصريم) محسن الطباق.

وقيل الصريم : الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة.

وقيل الصريم : اسم رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.

وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية.

وبين (يصرمنّها) و (الصريم) الجناس.

٧٧

وفاء (فَتَنادَوْا) للتفريع على (أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) ، أي فلما أصبحوا تنادوا لإنجاز ما بيّتوا عليه أمرهم.

والتنادي : أي ينادي بعضهم بعضا وهو مشعر بالتحريض على الغدوّ إلى جنتهم مبكرين.

والغدوّ : الخروج ومغادرة المكان في غدوة النهار ، أي أوله.

وليس قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغدوّ قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم. ومنه قول عبد الله بن عمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواح إن كنت تريد السنة. ونظير ذلك كثير في الكلام.

و (عَلى) من قوله : (عَلى حَرْثِكُمْ) مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل : اغدوا تكونوا على حرثكم ، أي مستقرين عليه.

ويجوز أن يضمن فعل الغدوّ معنى الإقبال كما يقال : يغدى عليه بالجفنة ويراح. قال الطيبي : «ومثله قيل في حق المطلب تغدو درّته (التي يضرب بها) على السفهاء ، وجفنته على الحلماء».

والحرث : شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب.

ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإصلاح شجرها ، وهو المارد هنا كقوله تعالى : (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) في سورة الأنعام [١٣٨] ، وتقدم في قوله : (وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ) في سورة آل عمران [١٤].

والتخافت : تفاعل من خفت إذا أسرّ الكلام.

و (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) تفسير لفعل (يَتَخافَتُونَ) و (أَنْ) تفسيرية لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه.

وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه.

وأسند إلى (مِسْكِينٌ) فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضا عن دخول المسكين إلى جنتهم ، أي لا يترك أحد مسكينا يدخلها. وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في

٧٨

استعمال النهي كقولهم : لا أعرفنّك تفعل كذا.

وجملة (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) في موضع الحال بتقدير (قد) ، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حرد.

وذكر فعل (غَدَوْا) في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدوّ النحس كقول امرئ القيس :

وبات وباتت له ليلة

كليلة ذي العائر الأرمد

بعد قوله :

تطاول ليلك بالأثمد

وبات الخلي ولم ترقد

يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان.

والحرد : يطلق على المنع وعلى القصد القوي ، أي السرعة وعلى الغضب.

وفي إيثار كلمة (حَرْدٍ) في الآية نكتة من نكت الإعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى ، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه ، أي بأن يتعلق (عَلى حَرْدٍ) ب (قادِرِينَ) ، أو بقوله (غَدَوْا) ، فإذا علق ب (قادِرِينَ) ، فتقديم المتعلّق يفيد تخصيصا ، أي قادرين على المنع ، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع.

والتعبير بقادرين على حرد دون أن يقول : وغدوا حاردين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة : ٢٦٤] وقال : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) [القيامة : ٤] فقوله : (عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) على هذا الاحتمال من باب قولهم : فلان لا يملك إلّا الحرمان أو لا يقدر إلّا على الخيبة.

وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان (عَلى حَرْدٍ) متعلقا ب (غَدَوْا) مبينا لنوع الغدو ، أي غدوا غدوّ سرعة واعتناء ، فتكون (عَلى) بمعنى باء المصاحبة ، والمعنى : غدوا بسرعة ونشاط ، ويكون (قادِرِينَ) حالا من ضمير (غَدَوْا) حالا مقدّرة ، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا.

وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا ، دل عليه قوله بعده (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ)

٧٩

[القلم : ٢٦] ، وقوله قبله (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ).

وإذا أريد بالحرد الغضب والحنق فإنه يقال : حرد بالتحريك وحرد بسكون الراء ويتعلق المجرور ب (قادِرِينَ) وتقديمه للحصر ، أي غدوا لا قدرة لهم إلّا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها ، أي لم يقدروا إلّا على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة.

وعن السدي : أن (حَرْدٍ) اسم قريتهم ، أي جنتهم. وأحسب أنه تفسير ملفق وكأنّ صاحبه تصيده من فعلي (اغْدُوا) و (غَدَوْا).

[٢٦ ـ ٣٢] (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) الُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢))

أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا على أنفسهم باللائمة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم ، وعلموا أنهم أخذوا بسبب ذلك ، قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ١٦٨]. ومن حكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري «من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها».

وأفادت (لمّا) اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة. والمقصود من هذا التعريض للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير.

وإسناد هذه المقالة إلى ضمير (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [القلم : ١٧] يقتضي أنهم قالوه جميعا ، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم.

ومعنى (إِنَّا لَضَالُّونَ) أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر ، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر ، فالضلال مجاز.

وأكّدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم.

٨٠