تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

والرزق : ما ينتفع به الناس ، ويطلق على المطر ، وعلى الطعام ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧].

وضمير (أَمْسَكَ) وضمير (رِزْقَهُ) عائدان إلى لفظ (الرَّحْمنِ) الواقع في قوله: (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) [الملك : ٢٠].

وجيء بالصلة فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة. وكتب (أَمَّنْ) في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتبت نظيرتها المتقدمة آنفا.

(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ).

استئناف بياني وقع جوابا عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] إلى هنا ، فيتجه للسائل أن يقول : لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر ، واعتبروا بالآيات والعبر ، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لجّوا في عتوّ ونفور.

و (بَلْ) للإضراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإخبار عن عنادهم.

يقال : لجّ في الخصومة من باب سمع ، أي اشتد في النزاع والخصام ، أي استمروا على العناد يكتنفهم العتو والنفور ، أي لا يترك مخلصا للحق إليهم ، فالظرفية مجازية ، والعتوّ : التكبر والطغيان.

والنفور : هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.

والمعنى : اشتدوا في الخصام متلبسين بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢))

هذا مثل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين : كافر ومؤمن ، لأنه جاء مفرعا على قوله : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢٠] وقوله : (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) [الملك : ٢١] وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله : (أَمَّنْ هذَا

٤١

الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) [الملك : ٢٠] (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) [الملك : ٢١] ، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثل السوء ، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول ، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المنصف نحو (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال.

والذي انقدح لي : أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فلا بد من اعتبار مشي المكبّ على وجهه مشيا على صراط معوجّ ، وتعين أن يكون في قوله : (مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطا معوجا في تأمله وترسّمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضلّ فيه ، بحال المكبّ على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله : (سَوِيًّا) المشعر بأن (مُكِبًّا) أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.

فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطف على بعض القبائل من بعض ، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات ، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيلة إله أو آلهة فتقسموا الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في أنهم مضرب المثل الأول ، وكذلك حال أهل الإشراك في كل زمان ، ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه‌السلام من قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩]. وينور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] وقوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف : ١٠٨] ، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإسلام بالسّبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام ، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبها بالسبيل وسالكه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله : (وَما أَنَا

٤٢

مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف : ١٠٨].

فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله (يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) تشبيه لحال المشرك في تقسّم أمره بين الآلهة طلبا للذي ينفعه منها الشاكّ في انتفاعه بها ، بحال السائر قاصدا أرضا معينة ليست لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلغ إلى مقصده فيبقى حائرا متوسما يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.

وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليها بقوله : (مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) بتشبيه حال المتحيّر المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.

وقوله : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) تشبيه لحال الذي آمن بربّ واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق ، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلّا إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره.

وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.

والفاء التي في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا ، والاستفهام تقريري.

والمكب : اسم فاعل من أكب ، إذا صار ذا كبّ ، فالهمزة فيه أصلها لإفادة المصير في الشيء مثل همزة : أقشع السحاب ، إذا دخل في حالة القشع ، ومنه قولهم : أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم ، وأرملوا إذا فني زادهم ، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعديا والمهموز قاصرا.

و (أَهْدى) مشتق من الهدى ، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكبا على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى : (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف : ٣٣] في قول كثير من الأئمة. ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام.

والسويّ : الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى : (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) [مريم : ٤٣]. و (أم) في قوله : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) حرف عطف وهي (أم) المعادلة لهمزة

٤٣

الاستفهام. و (من) الأولى والثانية في قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) أو قوله : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) موصولتان ومحملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين ، وقيل : أريد شخص معيّن أريد بالأولى أبو جهل ، وبالثانية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أبو بكر أو حمزة رضي‌الله‌عنهما.

(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣))

هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم ما سيذكر تفننا في البيان وتنشيطا للأذهان حتى كأنّ الكلام صدر من قائلين وترفيعا لقدر نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعطائه حظا من التذكير معه كما قال تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) [الدخان : ٥٨].

والانتقال هنا إلى الاستدلال بفروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها ، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإنسان بعد أصلها ، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة ، إلى الاستدلال بخلق الإنسان ومداركه ، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسة مثله بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماما بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) ، إلخ.

والضمير (هُوَ) إلى (الرَّحْمنِ) من قوله : (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) [الملك : ٢٠].

والإنشاء : الإيجاد.

وإفراد (السَّمْعَ) لأن أصله مصدر ، أي جعل لكم حاسة السمع ، وأما (الْأَبْصارَ) فهو جمع البصر بمعنى العين ، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) في سورة البقرة [٧] و (الْأَفْئِدَةَ) القلوب ، والمراد بها العقول ، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب.

والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) إلى آخره قصر إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلة من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإنشاء وإعطاء الإحساس والإدراك.

و (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) حال من ضمير المخاطبين ، أي أنعم عليكم بهذه النعم في

٤٤

حال إهمالكم شكرها.

و (ما) مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل (قَلِيلاً) لاعتماد (قَلِيلاً) على صاحب حال. و (قَلِيلاً) صفة مشبّهة.

وقد استعمل (قَلِيلاً) في معنى النفي والعدم ، وهذا الإطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) في [البقرة : ٨٨] وقوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) في سورة النساء [١٥٥] ، وتقول العرب : هذه أرض قلما تنبت.

(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

إعادة فعل (قُلْ) من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال.

والذرء : الإكثار من الموجود ، فهذا أخص من قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [الملك: ٢٣] أي هو الذي كثّركم على الأرض كقوله : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١] أي أعمركم إياها.

والقول في صيغة القصر في قوله : (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ). مثل القول في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [الملك : ٢٣] الآية.

وقوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أنذروا به لا يكون إلّا بعد البعث والبعث بعد الموت ، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة ، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لا بد منه ، وإنذارهم بالبعث والحشر.

فتقديم المعمول في (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) للاهتمام والرعاية على الفاصلة ، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله.

[٢٥ ـ ٢٦] (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦))

لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [الملك : ٢٣] إلى

٤٥

(هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) [الملك : ٢٤] انحصر عنادهم في مضمون قوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك : ٢٤] فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به ، وقال بعضهم لبعض (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٨٧] وكانوا يقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ : ٢٩] واستمروا على قوله ، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير.

و (الْوَعْدُ) مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله : (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك : ٢٤] فالإشارة إليه بقوله : (هذَا) ظاهرة ، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين ، فالإشارة إلى وعيد سمعوه.

والاستفهام بقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزءوا بذلك قال تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) [الإسراء : ٥١] وأتوا بلفظ (الْوَعْدُ) استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء.

وضمير الخطاب في : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر ، وتقدم نظيره في سورة سبأ.

وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجملة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم ، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلّا الله ، فقوله : (قُلْ) هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف بجريان المقول في سياق المحاورة ، ولم يعطف فعل (قُلْ) بالفاء جريا على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة ، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

ولام التعريف في (الْعِلْمُ) للعهد ، أي العلم بوقت هذا الوعد. وهذه هي اللام التي تسمى عوضا عن المضاف إليه ، وهذا قصر حقيقي.

(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) قصر إضافي ، أي ما أنا إلّا نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالما بوقته.

والمبين : اسم فاعل من أبان المتعدي ، أي مبين لما أمرت بتبليغه.

٤٦

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

(لما) حرف توقيت ، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد.

والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها : فحل بهم الوعد فلما رأوه إلخ ، أي رأوا الموعود به.

وفعل (رَأَوْهُ) مستعمل في المستقبل ، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر ، بقرينة قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الملك : ٢٥] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب (مَتى).

ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) في سورة النساء [٤١] وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) في سورة النحل [٨٩] إذ جمع في الآيتين بين فعل (نَبْعَثُ) مضارعا وفعل (جِئْنا) ماضيا.

وأصل المعنى : فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا إلخ ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية.

وضمير (رَأَوْهُ) عائد إلى (الْوَعْدُ) [الملك : ٢٥] بمعنى : رأوا الموعود به.

والزلفة بضم الزاي : اسم مصدر زلف إذا قرب وهو من باب تعب. وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي رأوه شديد القرب منهم ، أي أخذ ينالهم.

و (سِيئَتْ) بني للنائب ، أي ساء وجوههم ذلك الوعد بمعنى الموعود. وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كلحت ، أي لأنه سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه ، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى :

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

(وَقِيلَ) أي لهم.

٤٧

و (تَدَّعُونَ) بتشديد الدال مضارع ادّعى. وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك : ٢٥] ، أي تدّعون أنه لا يكون.

و (بِهِ) متعلق ب (تَدَّعُونَ) لأنه ضمّن معنى «تكذّبون» فإنه إذا ضمّن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف. وذلك ضرب من الإيجاز.

وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة. والقائل لهم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) ملائكة المحشر أو خزنة جهنم ، فعدل عن تعيين القائل ، إذ المقصود المقول دون القائل فحذف القائل من الإيجاز.

والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريض بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئا آخر على نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤].

وقرأ الجمهور (سِيئَتْ) بكسرة السين خالصة ، وقرأه ابن عامر والكسائي بإشمام الكسرة ضمة ، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بني للمجهول.

وقرأ الجمهور (تَدَّعُونَ) بفتح الدال المشددة وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء ، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكما وعنادا كما قالوا (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨))

هذا تكرير ثان لفعل (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [الملك : ٢٣].

كان من بذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهلاك من معه من المسلمين ، وقد حكى القرآن عنهم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] وحكى عن بعضهم (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) [التوبة : ٩٨] ، وكانوا يتآمرون على قتله ، قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) [الأنفال : ٣٠] ، فأمره الله بأن يعرفهم حقيقة تدحض أمانيّهم ، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جره إليه عمله ، وقد جرّت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حيي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بادره المنون ،

٤٨

قال تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) [الزخرف : ٤١ ، ٤٢] وقال : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤] وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] أي المشركين ، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن ، وينسب إلى الشافعي :

تمنّى رجال أن أموت فإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الملك : ٢٥] بأن قارنه كلام بذيء مثل أن يقولوا : أبعد هلاكك يأتي الوعد.

والإهلاك : الإماتة ، ومقابلة (أَهْلَكَنِيَ) ب (رَحِمَنا) يدل على أن المراد : أو رحمنا بالحياة ، فيفيد أن الحياة رحمة ، وأن تأخير الأجل من النعم ، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه أشرف الرسل لحكم أرادها كما دلّ عليه قوله : «حياتي خير لكم وموتي خير لكم» ، ولعلّ حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة ، وكان استمرار نزول الوحي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم خصيصية خصّه الله بها من بين الأنبياء ، فلما أتم الله دينه ربا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة ، وقد أشارت إلى هذا سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) من قوله : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ١ ـ ٣]. ولله در عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله :

رأيت لمنايا لم يدعن محمدا

ولا باقيا إلّا له الموت مرصدا

وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل ، إذ قال (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] ، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يردّ عليه روحه الزكية كلّما سلّم عليه أحد فيردّعليه‌السلام كما ثبت بالحديث الصحيح.

وإنما سمّى الحياة رحمة له ولمن معه ، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدرا حياته ، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإيمان والأعمال الصالحة.

والاستفهام في (أَرَأَيْتُمْ) إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعا ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.

والرؤية علمية ، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بعده مفعولاه ، وهو معلق

٤٩

بالاستفهام الذي في جملة جواب الشرط ، فتقدير الكلام : أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكت وهلك من معي ، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المعدّ للكافرين.

وأقحم الشرط بين فعل الرؤية وما سدّ مسد مفعوليه.

والفاء في قوله : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ) [الملك : ٣٠] رابطة لجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصله المبتدأ والخبر وهو المفعولان المقدّران رجّح جانب الشرط.

والمعية في قوله : (وَمَنْ مَعِيَ) معية مجازية ، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين ، كما في قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) [الفتح: ٢٩] الآية ، أي الذين آمنوا معه ، وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) [التحريم : ٨] كما أطلقت على الموافقة في الرأي والفهم في قول أبي هريرة : «أنا مع ابن أخي» ، يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفّى عنها الحامل إذا وضعت حملها قبل مضي عدة الوفاة.

والاستفهام بقوله : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) إلخ إنكاري ، أي لا يجيرهم منه مجير ، أي أظننتم أن تجدوا مجيرا لكم إذا هلكنا فذلك متعذر فما ذا ينفعكم هلاكنا.

والعذاب المذكور هنا ما عبّر عنه بالوعد في الآية قبلها.

وتنكير (عَذابٍ) للتهويل.

والمراد ب (الْكافِرِينَ) جميع الكافرين فيشمل المخاطبين.

والكلام بمنزلة التذييل ، وفيه حذف ، تقديره : من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين.

وذكر وصف (الْكافِرِينَ) لما فيه من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف.

وقرأ الجمهور بفتحة على ياء (أَهْلَكَنِيَ) ، وقرأها حمزة بإسكان الياء.

وقرأ الجمهور ياء (مَعِيَ) بفتحة. وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩))

٥٠

هذا تكرير ثالث لفعل (قُلْ) من قوله : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) [الملك : ٢٣] الآية.

وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله : (أَوْ رَحِمَنا) [الملك : ٢٨] فإنه بعد أن سوّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب ، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمن ، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم‌الله في الدنيا والآخرة ، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة.

وضمير (هُوَ) عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله ، أي الله هو الذي وصفه (الرَّحْمنُ) فهو يرحمنا ، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تحرموا آثار رحمته. ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم.

وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لأنه يظهر بداء تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف (الرَّحْمنُ) وتوكلوا على الأوثان.

و (مَنْ) موصولة ، وما صدق (مَنْ) فريق مبهم متردد بين فريقين تضمنهما قوله : (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) [الملك : ٢٨] وقوله : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) [الملك : ٢٨] ، فأحد الفريقين فريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، والآخر فريق الكافرين ، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين.

وتقديم معمول (تَوَكَّلْنا) عليه لإفادة الاختصاص ، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضا بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله ، أو نسوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام.

وإنما لم يقدم معمول (آمَنَّا) عليه فلم يقل : به آمنا لمجرد الاهتمام إلى الإخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله : (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الملك : ٢٨] فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سلك به طريق التبكيت ، أي هو الرحمن يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم ، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإشراك وإثبات التوحيد ، إذ الكلام في الإهلاك والإنجاء المعبّر عنه ب (رَحِمَنا) [الملك : ٢٨] فجيء بجملة (آمَنَّا) على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص ، بخلاف قوله : (وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) لأن التوكل يقتضي منجيا وناصرا ،

٥١

والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم ، فقيل : نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه ، بل على الرحمن وحده توكلنا.

وفعل (فَسَتَعْلَمُونَ) معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده.

وقرأ الجمهور (فَسَتَعْلَمُونَ) بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخبارا من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

إيماء إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم ، كما دل عليه خبر تعجب القافلة من (جرهم) التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه‌السلام هاجر بابنه إسماعيل ففجّر الله لها زمزم ولمحت القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا : ما عهدنا بهذه الأرض ماء ، ثم حفر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئرا تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قبيل البعثة ، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجفر (بالجيم) لبني تيم بن مرة ، وبئر تسمى الجم ذكرها ابن عطية وأهملها «القاموس» و «تاجه» ، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فماء هذه الآبار هو الماء الذي أنذروا بأنه يصبح غورا ، وهذا الإنذار نظير الواقع في سورة القلم [١٧ ـ ٣٣] (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) إلى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

والغور : مصدر غارت البئر ، إذا نزح ماؤها فلم تنله الدلاء.

والمراد : ماء البئر كما في قوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) في ذكر جنة سورة الكهف [٤١].

وأصل الغور : ذهاب الماء في الأرض ، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض ، والإخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل : عدل ورضى. والمعين : الظاهر على وجه الأرض ، والبئر المعينة : القريبة الماء على وجه التشبه.

والاستفهام في قوله : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ) استفهام إنكاري ، أي لا يأتيكم أحد بماء معين : أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله

٥٢

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) [الملك : ٢٠] الآيتين.

وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان. ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٢١] وقال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [البقرة : ٧٤].

ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في «الكشاف» مع ما نقل عنه في «بيانه» : ، قال : وعن بعض الشطّار (هو محمد بن زكرياء الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه) أنها (أي هذه الآية) تليت عنده فقال : تجيء به (أي الماء) الفئوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته. والله أعلم.

٥٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٦٨ ـ سورة القلم

سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي «صحيح البخاري» سورة ن والقلم على حكاية اللفظين الواقعين في أولها ، أي سورة هذا اللفظ.

وترجمها الترمذي في «جامعه» وبعض المفسرين سورة (ن) بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة ص وسورة ق.

وفي بعض المصاحف سميت سورة القلم وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.

وهي مكية قال ابن عطية : لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.

وذكر القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : أولها مكي ، إلى قوله : (عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦] ومن قوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) إلى (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم : ١٧ ـ ٣٣] مدني ، ومن قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إلى قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [القلم : ٣٤ ـ ٤٧] مكي ومن قوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم : ٤٨ ـ ٥٠] مدني ، ومن قوله : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [القلم : ٥١] إلى آخر السورة مكي.

وفي «الإتقان» عن السخاوي : أن المدني منها من قوله : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) إلى (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [القلم : ١٧ ـ ٣٣] ومن قوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) إلى قوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم : ٤٨ ـ ٥٠] فلم يجعل قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) إلى قوله : (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [القلم : ٣٤ ـ ٤٧] مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.

وهذه السورة عدّها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال : نزلت بعد سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر ، والأصح حديث عائشة «أن أول ما أنزل

٥٤

سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر».

وما في حديث جابر بن عبد الله «أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي» يحمل على أنها نزلت بعد سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي‌الله‌عنها.

وفي «تفسير القرطبي» : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.

واتفق العادّون على عدّ آيها ثنتين وخمسين.

أغراضها

جاء في هذه السورة الإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن ، وهذا أول التحدّي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدّي ولا تصريح.

وفيها إشارة إلى التحدّي بمعجزة الأمية بقوله : (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [القلم :١].

وابتدئت بخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.

وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.

وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.

ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعّدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزّهم وثراؤهم ، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.

وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام ، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.

ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.

وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه ، وأن لا يضجر في ذلك

٥٥

ضجرا عاتب الله عليه نبيئه يونس عليه‌السلام.

[١ ـ ٤] (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤))

(ن)

افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.

ورسموا حرف (ن) بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو نون (بنون بعدها واو ثم نون) وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته ، لأنك إذا أردت كتابة سيف مثلا فإنما ترسم سينا ، وياء ، وفاء ، ولا ترسم صورة سيف.

وإنما يقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.

وينطق باسم نون ساكن الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها ، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.

(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ١ ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ٢ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ٣ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤)

يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.

و (الْقَلَمِ) المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون ، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلّا الله. وعن مجاهد وقتادة : أنه القلم الذي في قوله تعالى : (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٤ ـ ٥]. قلت : وهذا هو المناسب لقوله : (وَما يَسْطُرُونَ) في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفون إلّا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب.

ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام ، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين

٥٦

المسلمين ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه وتعريف (الْقَلَمِ) تعريف الجنس.

فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.

وهذا يرجحه أن الله نوّه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن بقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٥].

و (ما يَسْطُرُونَ) هي السطور المكتوبة بالقلم.

و (ما) يجوز أن تكون موصولة ، أي وما يكتبونه من الصحف ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والمعنى : وسطرهم الكتابة سطورا.

ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتّاب الوحي القرآن ، (وَما يَسْطُرُونَ) قسما بكتابتهم ، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) في سورة الزخرف [٢ ـ ٣] ، وتنظيره بقول أبي تمام :

وثناياك إنها إغريض ... البيت

و (يَسْطُرُونَ) : مضارع سطر ، يقال : سطر من باب نصر ، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة ، وأصله مشتق من السّطر وهو القطع ، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع.

وضمير (يَسْطُرُونَ) راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة ، والمقصود : المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول ، فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين ، فكأنه قيل : والمسطور ، نظير قوله تعالى : (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) [الطور : ٢ ـ ٣].

ومن فسر (الْقَلَمِ) بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير (يَسْطُرُونَ) راجعا إلى الملائكة فيكون السّطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك ، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا

٥٧

النقصان ، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير.

وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم واللّامزين له بالمجنون ، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب.

والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لمّا دعاهم إلى الإسلام : هو مجنون ، وذلك ما شافهوا به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة [القلم : ٥١] (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ). وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢]. وقد زل فيه صاحب «الكشاف» زلة لا تليق بعلمه.

والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون ، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه.

وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف (إن) ولام الابتداء إذ قالوا (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم : ٥١] بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده ، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر ، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات.

وقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) جعله في «الكشاف» حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي. والتقدير : انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك ، والباء للملابسة أو السببية ، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص. والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره : أن ذلك بنعمة ربك ، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله : (بِسْمِ اللهِ) [هود : ٤١] وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي :

كل له نية في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

وذهب ابن الحاجب في «أماليه» أن (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) متعلق بما يتضمنه حرف (ما) النافية من معنى الفعل وقدّره : انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك. ولا يصح تعلقه بقوله : (مجنون) إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو المجنون الذي يكون من نعمة الله

٥٨

وليس ذلك بمستقيم ، واستحسن هذا ابن هشام في «مغني اللبيب» في الباب الثالث لو لا أنه مخالف لاتفاق النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلّا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك : يا لزيد (يريد في الاستغاثة) ، وتقدم نظيره في قوله : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) في سورة الطور [٢٩].

ولما ثبّت الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) بقرينة وقوعه عقب قوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) ، مؤكدا ذلك بحرف (إِنَ) وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله «لك».

وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا.

و «ممنون» يجوز أن يكون مشتقا من منّ المعطي على المعطى إذا عدّ عليه عطاءه وذكره له ، أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى ، قال النابغة :

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

أي ليس فيها أذى ، والمنّ من الأذى قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤].

وقد انتزع من هذه الآية عبد الله بن الزّبير (بكسر الموحدة) أو غيره في قوله :

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

قبله :

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

ومراده عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق.

ويجوز أن يكون «ممنون» مشتقا من قولهم : منّ الحبل ، إذا قطعه ، أي أجرا غير مقطوع عنك ، وهو الثواب المتزايد كل يوم ، أو أجرا أبديا في الآخرة ، ولهذا كان لإيثار كلمة «ممنون» هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) في سورة هود [١٠٨] لأن ما هنا تكرمة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبعد أن آنس نفس رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس

٥٩

بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله.

والخلق : طباع النفس ، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم يتبع بنعت ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) في سورة الشعراء [١٣٧].

والعظيم : الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم ، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.

و (على) للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ومنه قوله تعالى : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩] ، (إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف : ٤٣] ، (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) [الحج : ٦٧].

وفي حديث عائشة «أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن» أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها.

والخلق العظيم : هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو حسن معاملته الناس على اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة ، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن.

ولهذا قالت عائشة : «كان خلقه القرآن» ، ألست تقرأ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون :١] الآيات العشر». وعن عليّ : الخلق العظيم : هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نحو قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] وقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [الأعراف : ١٩٩] وغير ذلك من آيات القرآن. وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» ، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم ، ولا شك أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) [الجاثية : ١٨] وأمره أن يقول : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٣].

فكما جعل الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.

وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله : (وَإِنَّكَ

٦٠