تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

إشعارا بانتهاء المقصود وتنبيها إلى فائدته ، ووجه الانتفاع به ، والحث على التدبر فيه ، واستثمار ثمرته ، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ) إلخ يقوى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف (إِنَ) لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة.

والإشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أتي باسم الإشارة المؤنث.

والتذكرة : مصدر ذكّره (مثل التزكية) ، أي أكلمه كلاما يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإقلاع عن عمل سيّئ والإقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر ، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يفرّط فيه إلّا من كان ناسيا لما فيه من نفع له.

وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ، أي ليس بعد هذه التذكرة إلّا العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها.

ففي قوله : (فَمَنْ شاءَ) حثّ على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلّا سوء تدبيره.

وهذا حثّ وتحريض فيه تعريض بالمشركين بأنهم أبوا أن يتذكروا عنادا وحسدا.

واتخاذ السبيل : سلوكه ، عبّر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله : (اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزّلفى.

ويتعلق قوله : (إِلى رَبِّهِ) ب (سَبِيلاً) ، أي سبيلا مبلغة إلى الله ، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب ، أي إلى إكرامه لأن ذلك قرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافا إلى ضمير (فَمَنْ شاءَ) إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه.

وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مثل الذي كان ضالا ، أو آبقا فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده ، أو سلك الطريق إلى مولاه.

وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل.

(وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠))

لما ناط اختيارهم سبيل مرضاة الله بمشيئتهم أعقبه بالتنبيه إلى الإقبال على طلب

٣٨١

مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبل الخير لهم لأنهم إذا كانوا منه بمحل الرضى والعناية لطف بهم ويسّر لهم ما يعسر على النفوس من المصابرة على ترك الشهوات المهلكة ، قال تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) [الليل : ٧] فإذا لم يسعوا إلى مرضاة ربهم وكلهم إلى أحوالهم التي تعوّدوها فاقتحمت بهم مهامه العماية إذ هم محفوفون بأسباب الضلال بما استقرت عليه جبلّاتهم من إيثار الشهوات والاندفاع مع عصائب الضلالات ، وهو الذي أفاده قوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) [الليل : ١٠] ، أي نتركه وشأنه فتتيسر عليه العسرى ، أي تلحق به بلا تكلف ومجاهدة.

فجملة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يجوز أن تكون عطفا على جملة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الإنسان : ٢٩] أو حالا من (مَنْ يَشاءُ) [الإنسان : ٣١] وهي على كلا الوجهين تتميم واحتراس.

وحذف مفعول (تَشاؤُنَ) لإفادة العموم ، والتقدير : وما تشاءون شيئا أو مشيئا وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة ، أي ما تشاءون شيئا في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال.

وقد علل ارتباط حصول مشيئتهم بمشيئة الله ، بأن الله عليم حكيم ، أي عليم بوسائل إيجاد مشيئتهم الخير ، حكيم بدقائق ذلك مما لا تبلغ إلى معرفة دقائقه بالكنه عقول الناس ، لأن هنالك تصرفات علوية لا يبلغ الناس مبلغ الاطلاع على تفصيلها ولكن حسبهم الاهتداء بآثارها وتزكية أنفسهم للصد عن الإعراض عن التدبر فيها.

و (ما) نافية ، والاستثناء من عموم الأشياء المشيئة وأحوالها وأزمانها ، ولما كان ما بعد أداة الاستثناء حرف مصدر تعين أن المستثنى يقدر مصدرا ، أي إلّا شيء الله (بمعنى مشيئته) ، وهو صالح لاعتبار المعنى المصدري ولاعتبار الحالة ، ولاعتبار الزمان ، لأن المصدر صالح لإرادة الثلاثة باختلاف التأويل فإن قدر مضاف كان المعنى : إلّا حال مشيئة الله ، أو إلّا زمن مشيئته ، وإن لم يقدر مضاف كان المعنى : لا مشيئة لكم في الحقيقة إلّا تبعا لمشيئة الله.

وإيثار اجتلاب (أَنْ) المصدرية من إعجاز القرآن.

ويجوز أن يكون فعلا (تَشاؤُنَ) و (يَشاءَ اللهُ) منزلين منزلة اللازم فلا يقدر لهما مفعولان على طريقة قول البحتري :

٣٨٢

أن يرى مبصر ويسمع واع

ويكون الاستثناء من أحوال ، أي وما تحصل مشيئتكم في حال من الأحوال إلّا في حال حصول مشيئة الله. وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمع الأشعريّ التعبير عنه بالكسب ، فقيل فيه «أدق من كسب الأشعري». ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة ، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فهو تذييل أو تعليل لجملة (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) [الإنسان : ٣١] ، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها.

وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس [١١ ، ١٢] : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن ، من العمل بها المعبر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صرفت العناية والاهتمام إلى ما يلوّح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.

وفعل (كانَ) يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.

وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين : إحداهما مشيئة العباد ، والأخرى مشيئة الله ، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلا للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضها بانفراده نوط التكاليف بمشيئة العباد وثوابهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم ، والمقتضي بعضها الآخر مشيئة لله في أفعال عباده.

فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرة بانفعال النفوس لفاعليّة الترغيب والترهيب ، وأما مشيئة الله انفعال النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلت فحصلت مشيئة العبد علمنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.

وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشر من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل ، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك ، مما في ذلك كله من إصابة أو خطأ ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتلاءم بعضها مع بعض أو رجح

٣٨٣

خيرها على شرها عرفنا مشيئة الله لأن تلك آثار مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستتب لفلان ، فعلمه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته ، وإذا تعاكست وتنافر بعضها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه ، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حفّ بذلك الفرد ، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير ، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يشاء الشر ، ولا مخلص للعبد من هذه الربقة إلّا إذا توجهت إليه عناية من الله ولطف فكوّن كائنات إذا دخلت تلك الكائنات فيما هو حاف بالعبد من الأسباب والأحوال غيّرت أحوالها وقلبت آثارهما رأسا على عقب ، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغمورا بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافا به ، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهدى وتوغله فيه في حين كان متلبسا بسابغ الضلالة والعناد.

فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به ، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة : إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ أعز الإسلام بأحد العمرين» وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة ودخل في الإسلام عقب قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم له : «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم» ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت أثرا من دعوة إبراهيم عليه‌السلام بقوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا دعوة إبراهيم».

فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة «إنها سلامة الأسباب والآلات».

وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطا فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط ، فللإنسان مشيئته لا محالة.

وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلّا في العبارة بالخلق أو بالكسب ، وعبارة الأشعري أرشق وأعلق بالأدب مع الله الخالق ، وإلّا في تحقيق معنى مشيئة الله ، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب (وَما تَشاؤُنَ) بتاء الخطاب على

٣٨٤

الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وخلف بياء الغائب عائدا إلى (فَمَنْ شاءَ) [الإنسان : ٢٩].

(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

يجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] إذ يتساءل السامع على أثر مشيئة الله في حال من اتخذ إلى ربه سبيلا ومن لم يتخذ إليه سبيلا ، فيجاب بأنه يدخل في رحمته من شاء أن يتخذ إليه سبيلا وأنه أعد لمن لم يتخذ إليه سبيلا عذابا أليما وأولئك هم الظالمون.

ويجوز أن تكون الجملة خبر (أَنْ) في قوله : (إِنَّ اللهَ) [الإنسان : ٣٠] وتكون جملة (كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [الإنسان : ٣٠] معترضة بين اسم (أَنْ) وخبرها أو حالا ، وهي على التقديرين منبئة بأن إجراء وصفي العليم الحكيم على اسم الجلالة مراد به التنبيه على أن فعله كله من جزاء برحمة أو بعذاب جار على حسب علمه وحكمته.

وانتصب (الظَّالِمِينَ) على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه المذكور على طريقة الاشتغال والتقدير : أوعد الظالمين ، أو كافأ ، أو نحو ذلك مما يقدره السامع مناسبا للفعل المذكور بعده.

٣٨٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٧ ـ سورة المرسلات

لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.

وسميت في عهد الصحابة «سورة والمرسلات عرفا» ففي حديث عبد الله بن مسعود في «الصحيحين» قال : «بينما نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية» الحديث.

وفي «الصحيح» عن ابن عباس قال : «قرأت سورة والمرسلات عرفا» فسمعتني أم الفضل (امرأة العباس) فبكت وقالت : بنيّ أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب».

وسميت «سورة المرسلات» ، روى أبو داود عن ابن مسعود «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة» ثم قال : «وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة» فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات بدون واو القسم لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.

واشتهرت في المصاحف باسم «المرسلات» وكذلك في التفاسير وفي «صحيح البخاري».

وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في «حاشيتيهما» على البيضاوي أنها تسمى «سورة العرف» ولم يسنداه ، ولم يذكرها صاحب «الإتقان» في عداد السور ذات أكثر من اسم.

٣٨٦

وفي «الإتقان» عن «كتاب ابن الضريس» عن ابن عباس في عدّ السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات. وفيه عن «دلائل النبوة» للبيهقي عن عكرمة والحسن في عدّ السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات.

وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف ، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا ، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.

وعن ابن عباس وقتادة : أن آية (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨] مدنية نزلت في المنافقين ، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرون بالصلاة ، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) [المرسلات : ٤٨] وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى (قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) : كناية عن أن يقال لهم : أسلموا. ونظيره قوله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣] فهي في المشركين وقوله : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) إلى قوله : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٣ ـ ٤٦].

وعن مقاتل نزلت (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة فقالوا : لا نجبّي فإنها مسبّة علينا. فقال لهم : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود.

وهذا أيضا أضعف ، وإذا صحّ ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ عليهم الآية.

وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. واتفق العادون على عد آيها خمسين.

أغراضها

اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.

والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.

ووعيد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.

٣٨٧

والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.

وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله.

[١ ـ ٧] (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧))

قسم بمخلوقات عظيمة دالّة على عظيم علم الله تعالى وقدرته.

والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر ، وفي تطويل القسم تشويق السامع لتلقي المقسم عليه.

فيجوز أن يكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعا واحدا ، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة. ومشى صاحب «الكشاف» على أن المقسم بها كلهم ملائكة.

ولم يختلف أهل التأويل أن (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) للملائكة.

وقال الجمهور : العاصفات : الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفا. وقال القرطبي : قيل العاصفات : الملائكة.

و (فَالْفارِقاتِ) لم يحك الطبري إلّا أنهم الملائكة أو الرسل. وحكى القرطبي عن مجاهد : أنها الرياح.

وفيما عدا هذه من الصفات اختلف المتأوّلون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح.

ف (الْمُرْسَلاتِ) قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسرو :هي الملائكة. وقال ابن عباس وقتادة : هي الرياح ، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.

و (النَّاشِراتِ) قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح : الملائكة. وقال ابن مسعود ومجاهد : الرياح وهو عن أبي صالح أيضا.

ويتحصل من هذا أن الله أقسم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله : وَالسَّماءِ

٣٨٨

ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) [البروج : ١ ، ٢] ، ومثله تكرّر في القرآن.

ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس ما عطفت هي عليه ، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفات جنس آخر.

فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح ، وأن ما بعدها صفات للملائكة ، والواو الثانية للعطف وليست حرف قسم. ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتا غير المعطوف عليه. وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء.

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

أراد صفات ممدوح واحد.

ولنتكلم على هذه الصفات :

فأما (الْمُرْسَلاتِ) فإذا جعل وصفا للملائكة كان المعنيّ بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي ، وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) الآية [آل عمران : ٣٩] ، أو (الْمُرْسَلاتِ) بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط ، و (عُرْفاً) حال مفيدة معنى التشبيه البليغ ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعير بعضه ببعض ، يقال : هم كعرف الضبع ، إذا تألبوا ، ويقال : جاءوا عرفا واحدا. وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح.

وفسر (عُرْفاً) بأنه اسم ، أي الشعر الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ ، أي كالعرف في تتابع البعض لبعض ، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول ، أي معروف (ضد المنكر) ، وأن نصبه على المفعول لأجله ، أي لأجل الإرشاد والصلاح.

(فَالْعاصِفاتِ) تفريع على (الْمُرْسَلاتِ) ، أي ترسل فتعصف ، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة ، وإن أريد بالمرسلات وصف الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به.

٣٨٩

و (عَصْفاً) مؤكد للوصف تأكيدا لتحقيق الوصف ، إذ لا داعي لإرادة رفع احتمال المجاز.

والنشر : حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازا في الإظهار والإيضاح وفي الإخراج.

ف (النَّاشِراتِ) إذا جعل وصفا للملائكة جاز أن يكون نشرهم الوحي ، أي تكرير نزولهم لذلك ، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح ، أي بالشرائع البينة.

وإذا جعل وصفا للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء لتنبيه على أنه معطوف على (الْمُرْسَلاتِ) لا على (فَالْعاصِفاتِ) لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع.

والقول في تأكيد (نَشْراً) وتنوينه كالقول في (عَصْفاً).

والفرق : التمييز بين الأشياء ، فإذا كان وصفا للملائكة فهو صالح للفرق الحقيقي مثل تمييز أهل الجنة عن أهل النار يوم الحساب ، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب ، مثل قوم نوح عن نوح ، وعاد عن هود ، وقوم لوط عن لوط وأهله عدا امرأته ، وصالح للفرق المجازي ، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر.

وإن جعل وصفا للرياح فهو من آثار النشر ، أي فرقها جماعات السحب على البلاد.

ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعانيه عطف (فَالْفارِقاتِ) على (النَّاشِراتِ) بالفاء.

وأكد بالمفعول المطلق كما أكد ما قبله بقوله : (عَصْفاً) و (نَشْراً) ، وتنوينه كذلك.

والملقيات : الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذكر.

والإلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض.

وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصّون كل ذكر بمن هو محتاج إليه ، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب ، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم.

وهذا معنى (عُذْراً أَوْ نُذْراً). فالعذر : الإعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر ،

٣٩٠

وتوبة التائبين بعد الذنب.

والنّذر : اسم مصدر أنذر ، إذا حذر.

و (عُذْراً) قرأه الجمهور بسكون الذال ، وقرأه روح عن يعقوب بضمها على الاتباع لحركة العين.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب (نُذْراً) بضم الذال وهو الغالب فيه.

وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بإسكان الذال على الوجهين المذكورين في (عُذْراً) ، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإنذار.

وانتصب (عُذْراً أَوْ نُذْراً) على بدل الاشتمال من (ذِكْراً) و (أَوْ) في قوله : (أَوْ نُذْراً) للتقسيم.

وجملة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) جواب القسم وزيدت تأكيدا بأن لتقوية تحقيق وقوع الجواب.

و (إِنَّما) كلمتان هما (إنّ) التي هي حرف تأكيد و (ما) الموصولة وليست هي (إنّما) التي هي أداة حصر ، والتي (ما) فيها زائدة. وقد كتبت هذه متصلة (إنّ) ب (ما) لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين ، والرسم اصطلاح ، ورسم المصحف سنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره.

و (إِنَّما تُوعَدُونَ) : هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية.

والخطاب للمشركين ، أي ما توعّدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه.

والواقع : الثابت. وأصل الواقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيها بالمستقر.

[٨ ـ ١٤] (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤))

٣٩١

الفاء للتفريع على قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) [المرسلات : ٧] لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان الخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه ، بيّن لهم ما يحصل قبله زيادة في تهويله عليهم. والإنذار بأنه مؤخّر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة ، وفيه كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الأخبار عن أمارات حلول ما يوعدون يستلزم التحذير من التهاون به ، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٩].

وكررت كلمة (إِذَا) في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة (إِذَا) كما في قوله : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ) الآية [القيامة : ٧ ـ ١٠] ، لإفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلا في جعله علامة على وقوع ما يوعدون.

وطمس النجوم : زوال نورها ، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المظلم من الأرض ، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس ، أي زوال التهابها بأن تبرد حرارتها ، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها ، أو بأن تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قطعا فيزول التهابها.

ومعنى (فُرِجَتْ) تفرّق ما كان ملتحما من هيكلها ، يقال : فرج الباب إذا فتحه. والفرجة : الفتحة في الجدار ونحوه. فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي ، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة على طمس نورها.

وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء ، فمعنى (فُرِجَتْ) : فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] وكل ذلك مفض إلى انقراض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه.

والنسف : قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم.

ونسف الجبال : دكها ومصيرها ترابا مفرقا ، كما قال تعالى : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤].

٣٩٢

وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره.

وجملة (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة. فأمّا (أُقِّتَتْ) فأصله وقتت بالواو في أوله ، يقال : وقّت وقتا ، إذا عين وقتا لعمل ما ، مشتقا من الوقت وهو الزمان ، فلما بني للمجهول ضمّت الواو وهو ضم لازم احترازا من ضمة (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٣٧] لأن ضمة الواو ضمة عارضة ، فجاز إبدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة. وقرأه الجمهور (أُقِّتَتْ) بهمزة وتشديد القاف. وقرأه أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف ، وقرأه أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف.

وشأن (إِذا) أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل ، وهو علامة على أن ما يوعدون يحصل مع العلامات الأخرى.

ولا خلاف في أن (أُقِّتَتْ) مشتقّ من الوقت كما علمت آنفا ، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه : جعلت وقتا ، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه ، وقد يكون بمعنى : وقّت لها وقت على طريقة الحذف والإيصال.

وإذ كان (إِذَا) ظرفا للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية ، تعيّن تأويل (أُقِّتَتْ) على معنى : حان وقتها ، أي الوقت المعيّن للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأن ينذروا أممهم بأنّه يحلّ في المستقبل غير المعين ، وذلك عليه قوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) فإن التأجيل يفسر التوقيت.

وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في محمل معنى هذه الآية فعن ابن عباس (أُقِّتَتْ) : جمعت أي ليوم القيامة قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] ، وعن مجاهد والنخعي (أُقِّتَتْ) أجّلت. قال أبو علي الفارسي : أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا.

قال في «الكشاف» : «والوجه أن يكون معنى «وقتت» بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة» ا ه. وهذا صريح في أنه يقال : وقت بمعنى أحضر في الوقت المعيّن ، وسلمه شراح «الكشاف» وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها.

٣٩٣

ويجيء على القولين أن يكون قوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) استئنافا ، وتجعل (أيّ) اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرّحوا ولم يجملوا ، والذي يظهر لي أن تكون (أيّ) موصولة دالّة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدّال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه (أيّ) وتقديره : ليوم أيّ يوم ، أي ليوم عظيم. ويكون معنى (أُقِّتَتْ) حضر ميقاتها الذي وقّت لها ، وهو قول ابن عباس جمعت ، وفي «اللسان» على الفراء : (أُقِّتَتْ) جمعت لوقتها ، وذلك قول الله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] وقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

ويكون اللام في قوله : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) لام التعليل ، أي جمعت لأجل اليوم الذي أجّلت إليه. وجملة (أُجِّلَتْ) صفة ليوم ، وحذف العائد لظهوره ، أي أجّلت إليه.

وقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بدل من (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) بإعادة الحرف الذي جرّ به المبدل منه كقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤] أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل.

والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلان على جواب (إذا) من قوله (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) إلخ ، إذ يعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذكر فذلك وقوع ما توعدون.

وجملة (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ) قد علمت آنفا الوجه الوجيه في معناها. ومن المفسرين من جعلها مقول قول محذوف : يقال يوم القيامة ، ولا داعي إليه.

و (الْفَصْلِ) : تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاء إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضح الحقائق على ما هي عليه في الواقع.

وجملة (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) في موضع الحال من يوم الفصل ، والواو واو الحال والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضا عن ضميره ، مثل (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ، ٢]. والأصل : وما أدراك ما هو ، وإنما أظهر في مقام الإضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصدا لتهويله.

و (ما) استفهامية مبتدأ و (أَدْراكَ) خبر ، أي أعلمك. و (ما يَوْمُ الْفَصْلِ) استفهام علق به فعل (أَدْراكَ) عن العمل في مفعولين ، و (ما) الاستفهامية مبتدأ أيضا و (يَوْمُ

٣٩٤

الْفَصْلِ) خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

حمل هذه الجملة عن نظائرها الآتية في هذه السورة يقتضي أن تجعل استئنافا لقصد تهديد المشركين الذين يسمعون القرآن ، وتهويل يوم الفصل في نفوسهم ليحذروه ، وهو متصل في المعنى بجملة (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) [المرسلات : ٧] اتصال أجزاء النظم ، فموقع جملة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ابتداء الكلام ، وموقع جملة (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) [المرسلات : ٨] التأخر ، وإنما قدمت لتؤذن بمعنى الشرط. وقد حصل من تغيير النظم على هذا الوجه أن صارت جملة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بمنزلة التذييل ، فحصل في هذا النظم أسلوب رائع ، ومعان بدائع. وبعض المفسرين جعل هذه الجملة جواب (إذا) أي يتعلق (إذا) بالاستقرار الذي في الخبر وهو (لِلْمُكَذِّبِينَ). والتقدير : إذا حصل كذا وكذا حلّ الويل للمكذبين وهو كالبيان لقوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) ، فيحصل تأكيد الوعيد ، ولا يرد على هذا عروّ الجواب عن الفاء الرابطة للجواب لأن جواب (إذا) جواب صوري ، وإنما هو متعلّق (إذا) عومل معاملة الجواب في المعنى.

ثم إن هذه الجملة صالحة لمعنى الخبرية ولمعنى الإنشاء لأن تركيب (ويل له) يستعمل إنشاء بكثرة.

والويل : أشد السوء والشرّ.

وعلى الوجه الأول يكون المراد بالمكذبين كذبوا بالقرآن ، وعلى الوجه الثاني في معنى الجملة جميع الذين كذبوا الرسل وما جاءوهم به ، وبذلك العموم أفادت الجملة مفاد التذييل ، ويشمل ذلك المشركين الذين كذبوا بالقرآن والبعث إذ هم المقصود من هذه المواعظ وهم الموجه إليهم هذا الكلام ، فخوطبوا بقوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ).

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦))

استئناف بخطاب موجه إلى المشركين الموجودين الذين أنكروا البعث معترض بين أجزاء الكلام المخاطب به أهل الشرك في المحشر.

ويتضمن استدلالا على المشركين الذين في الدنيا ، بأن الله انتقم من الذين كفروا بيوم البعث من الأمم سابقهم ولاحقهم ليحذروا أن يحلّ بهم ما حلّ بأولئك الأولين

٣٩٥

والآخرين.

والاستفهام للتقرير استدلالا على إمكان البعث بطريقة قياس التمثيل.

والمراد بالأولين الموصوفون بالأولية أي السبق في الزمان ، وهذا يقرّ به كل جيل منهم مسبوق بجيل كفروا.

فالتعريف في (الْأَوَّلِينَ) تعريف العهد ، والمراد بالأولين جميع أمم الشرك الذين كانوا قبل مشركي عصر النبوة.

والإهلاك : الإعدام والإماتة. وإهلاك الأولين له حالتان : حالة غير اعتيادية تنشأ عن غضب الله تعالى ، وهو إهلاك الاستئصال مثل إهلاك عاد وثمود ، وحالة اعتيادية وهي ما سن الله عليه نظام هذا العالم من حياة وموت.

وكلتا الحالتين يصح أن تكون مرادا هنا ، فأما الحالة غير الاعتيادية فهي تذكير بالنظر الدال على أن الله لا يرضى عن الذين كذبوا بالبعث.

وأما الحالة الاعتيادية فدليل على أن الذي أحيا الناس يميتهم فلا يتعذر أن يعيد إحياءهم.

[١٧ ـ ١٨] (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨))

حرف (ثمّ) للتراخي الرتبي لأن التهديد أهم من الإخبار عن أهل المحشر ، لأنه الغرض من سوق هذا كله ، ولأن إهلاك الآخرين أشدّ من إهلاك الأولين لأنه مسبوق بإهلاك آخر.

ووقعت جملة (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) موقع البيان لجملة (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) [المرسلات : ١٦ ، ١٧] ، وهو كالتذييل يبين سبب وقوع إهلاك الأولين وأنه سبب لإيقاع الإهلاك بكل مجرم ، أي تلك سنة الله في معاملة المجرمين فلا محيص لكم عنها.

وذكر وصف المجرمين إيماء إلى أن سبب عقابهم بالإهلاك هو إجرامهم.

والإشارة في قوله : (كَذلِكَ) إلى الفعل المأخوذ من (نَفْعَلُ) ، أي مثل ذلك الفعل نفعل.

٣٩٦

و (المجرمون) من ألقاب المشركين في اصطلاح القرآن قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٢٩] وسيأتي في هذه السورة (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦].

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩))

تقرير لنظيره المتقدم تأكيدا للتهديد وإعادة لمعناه.

التهديد : من مقامات التكرير كقول الحارث بن عياد :

قرّبا مربط النعامة مني

الذي كرّره مرارا متوالية في قصيدته اللامية التي أثارت حرب البسوس.

فعلى الوجه الأول في موقع جملة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقدر الكلام المعوض عنه تنوين (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ يقال لهم (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) [المرسلات : ١٦].

والمراد بالمكذبين : المخاطبون فهو إظهار في مقام الإضمار لتسجيل أنهم مكذبون ، والمعنى : ويل يومئذ لكم.

وعلى الوجه الثاني في موقع الجملة يقدر المحذوف المعرض عنه التنوين : يوم إذ (النُّجُومُ طُمِسَتْ) [المرسلات : ٨] إلخ ، فتكون الجملة تأكيدا لفظيا لنظيرتها التي تقدمت. والمراد بالمكذبين جميع المكذبين الشامل للسامعين.

وعلى الاعتبارين فتقرير معنى الجملتين حاصل لأن اليوم يوم واحد ولأن المكذبين يصدق بالأحياء وبأهل المحشر.

[٢٠ ـ ٢٣] (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣))

تقرير أيضا يجري فيه ما تقدم في قوله : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) ، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع.

وكل من التقرير والتقريع من مقتضيات ترك العطف لشبهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه.

٣٩٧

وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإيجاد بعد العدم إيجادا متقنا دالا على كمال الحكمة والقدرة ليفضى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بدئ أول مرة وكفى بذلك مرجحا لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه.

والماء : هو ماء الرجل. والمهين : الضعيف فعيل من مهن ، إذا ضعف ، وميمه أصلية وليس هو من مادة هان.

وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنسانا شديد القوة عقلا وجسما.

وحرف (مِنْ) للابتداء لأن تكوين الإنسان نشأ من ذلك الماء ، كما تقول : هذه النخلة من نواة توزريّة.

وجعل خلق الإنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلّا بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم ، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك ، وقد بيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكوين الجنين من ماء المرأة وماء الرجل.

وقوله : (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإدماج مع مناسبته لأن له دخلا في تبيين إمكان الإعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء ، ولذلك ذيله بقوله (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) على التفسيرين الآتيين.

والقرار : محل القرور والمكث.

و (مَكِينٍ) : صفة ل (قَرارٍ) ، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكن مكانة ، إذا ثبت ورسخ.

ووصف القرار بالمكين على طريقة المجاز العقلي ، أي مكين الحالّ والمستقرّ فيه. فالتقدير : مكين فيه. والمراد بالقرار المكين : الرحم.

والقدر : بفتح الدال المقدار المعيّن المضبوط ، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل.

وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر (فَقَدَرْنا) بتشديد الدال. وقرأه الباقون بتخفيف الدال من قدر المتعدي وهما بمعنى واحد ، يقال : قدّر بالتشديد تقديرا فهو مقدّر ، وقدر

٣٩٨

بالتخفيف قدرا فهو قادر ، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جعل له.

والمعنى : فقدرنا الخلق كقوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس : ١٩] وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].

والفاء في قوله : (فَقَدَرْنا) للتفريع على قوله : (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالا.

والفاء في (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) للتفريع على (قدّرنا) أي تفريع إنشاء ثناء ، أي فدل تقديرنا على أننا نعم القادرون ، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر ، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة.

و (الْقادِرُونَ) : اسم فاعل من قدر اللازم إذا كان ذا قدرة وبذلك يكون الكلام تأسيسا لا تأكيدا ، أي فنعم القادرون على الأشياء.

وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون (قدّرنا) فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤))

هو نحو ما تقدم في نظيره الموالي هو له.

[٢٥ ـ ٢٧] (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧))

جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض لهم بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٣٣].

ومحلّ الامتنان هو قوله : (أَحْياءً) وأمّا قوله : (وَأَمْواتاً) فتتميم وإدماج.

وكفات : اسم للشيء الذي يكفت فيه ، أي يجمع ويضمّ فيه ، فهو اسم جاء على صيغة الفعال من كفت ، إذا جمع ، ومنه سمي الوعاء : كفاتا ، كما سمي ما يعي الشيء وعاء ، وما يضم الشيء : الضمام.

٣٩٩

و (أَحْياءً) مفعول (كِفاتاً) لأن (كِفاتاً) فيه معنى الفعل كأنه قيل كافتة أحياء. وقد يقولون منصوب بفعل مقدر دلّ عليه (كِفاتاً) وكل ذلك متقارب.

و (أَمْواتاً) عطف عليه وهو إدماج وتتميم لأن فيه مشاهدة الملازمة بين الأحياء والأموات تدلّ على أن الحياة هي المقصود من الخلقة.

وهذا تقرير لهم بالاعتراف بالأحوال المشاهدة في الأرض الدالة على تفرد الله تعالى بالإلهية.

وتنوين (أَحْياءً وَأَمْواتاً) للتعظيم مرادا به التكثير ولذلك لم يؤت بهما معرّفين باللام ، وفائدة ذكر هذين الجمعين ما في معنييهما من التذكير بالحياة والموت.

وقد تصدى الكلام لإثبات البعث بشواهد ثلاثة :

أحدها : بحال الأمم البائدة في انقراضها.

الثاني : بحال تكوين الإنسان.

الثالث : مصير الكل إلى الأرض وفي كل ذلك إبطال لإحالتهم وقوع البعث لأنهم زعموا استحالته فأبطلت دعواهم بإثبات إمكان البعث فإنه إذ ثبت الإمكان بطلت الاستحالة فلم يبق إلّا النظر في أدلة ترجيح وقوع ذلك الممكن.

وفي الآية امتنان يجعل الأرض صالحة لدفن الأموات ، وقد ألهم الله لذلك ابن آدم حين قتل أخاه كما تقدم ذكره في سورة المائدة ، فيؤخذ من الآية وجوب الدفن في الأرض إلّا إذا تعذر ذلك كالذي يموت في سفينة بعيدة عن مراسي الأرض أو لا تستطيع الإرساء ، أو كان الإرساء يضر بالراكبين أو يخاف تعفن الجثة فإنها يرمى بها في البحر وتثقّل بشيء لترسب إلى غريق الماء. وعليه فلا يجوز إحراق الميت كما يفعل مجوس الهند ، وكان يفعله بعض الرومان ، ولا وضعه لكواسر الطير كما كان يفعل مجوس الفرس ، وكان أهل الجاهلية يتمدحون بالميت الذي تأكله السباع أو الضباع وهو الذي يموت قتيلا في فلاة ، قال تأبط :

لا تدفنوني إنّ دفني محرّم

عليكم ولكن خامري أمّ عامر

وهذا من جهالة الجاهلية وكفران النعمة.

واحتج ابن القاسم من أصحاب مالك بهذه الآية لكون القبر حرزا فأوجب القطع

٤٠٠