تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) وقصتها هي المشار إليها بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [البقرة : ٦٥] فالتقدير : فجعلنا منها ، أي من القرية نكالا ، وهم القوم الذين قيل لهم (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة : ٦٥].

والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات.

وأصل (أَعْتَدْنا) أعددنا أي هيّأنا ، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإدغام طلبا للخفة.

و (السَّعِيرِ) : اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من : سعر النار ، إذا أوقدها وهو لهب النار ، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقدا فإن جهنم طبقات.

وكان السعير عذابا لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأنّ نار جهنم أشد من نار طبعهم ، فإذا أصابتهم صارت لهم عذابا.

وتسمية عذابهم (السَّعِيرِ) دون النار ، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) [سبأ : ١٢] وقال (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] يعني الشيطان.

ومعنى الإعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال ، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦))

هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أعد للشياطين خاصة ، والمعنى : ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملة التي قبلها فلذلك عطفت عليها.

وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به.

وجملة (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) حال أو معترضة لإنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل (بِئْسَ) عليه. والتقدير : وبئس المصير عذاب جهنم.

٢١

والمعنى : بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.

[٧ ـ ٩] (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩))

(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).

الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان ذم مصيرهم في جهنم ، أي من جملة مذام مصيرهم مذمة ما يسمعونه فيها من أصوات مؤلمة مخيفة.

و (إِذا) ظرف متعلق ب (سَمِعُوا) يدل على الاقتران بين زمن الإلقاء وزمن سماع الشهيق.

والشهيق : تردد الأنفاس في المصدر لا تستطيع الصعود لبكاء ونحوه أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق تفظيعا له لأن قوله : (سَمِعُوا لَها) يقتضي أن الشهيق شهيقها لأن أصل اللام أن تكون لشبه الملك.

وجملة (وَهِيَ تَفُورُ) حال من ضمير (فِيها) وتفور : تغلي وترتفع ألسنة لهيبها.

و (الْغَيْظِ) أشد الغضب. وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) خبر ثان عن ضمير (وَهِيَ) ، مثلث حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يلقون إليها ، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلّا سلط عليه ما يستطيع من الإضرار.

واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم : يكاد فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا ، أي يكاد تتفرق أجزاؤه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة[٥].

ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) في سورة الكهف [٧٧] إذ مثل الجدار بشخص له إرادة.

و (تَمَيَّزُ) أصله تتميز ، أي تنفصل ، أي تتجزأ أجزاء تخييلا لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع ، وهذا كقولهم : غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة

٢٢

في السماء.

(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

أتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.

فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم ، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به.

و (كُلَّما) مركب من (كل) اسم دال على الشمول ومن (ما) الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوّل مع الفعل الذي بعده بمصدره.

والتقدير : في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتها الفوج.

وباتصال (كل) بحرف (ما) المصدرية الظرفية اكتسب التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مرتبة إحداهما على الأخرى.

وجيء بفعلى (أُلْقِيَ) و (سَأَلَهُمْ) ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد (كُلَّما) أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.

والفوج : الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) في سورة النمل [٨٣].

وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله : (سَأَلَهُمْ) إلخ. لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

وخزنة النار : الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن : الذي يخزن شيئا ، أي يحفظه في مكان حصين ، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل.

٢٣

وجملة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) بيان لجملة (سَأَلَهُمْ) كقوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [طه : ١٢٠].

والاستفهام في (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة.

والنذير : المنذر ، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) إلخ بمعنى التذييل.

وجملة : (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضا يشير إلى أن الفوج قاطع كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبّخوهم عليه وذلك من شدة الخوف.

وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض ، ولوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠]. وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم ، فابتدءوا الجواب دفعة بحرف (بَلى) المفيد نقيض النفي في الاستفهام ، فهو مفيد معنى : جاءنا نذير. ولذلك كان قولهم : (قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) موكدا لما دلت عليه (بَلى) ، وهو من تكرير الكلام عند التحسر ، مع زيادة التحقيق ب (قَدْ) ، وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطإ.

وجملة : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينهما وبين ما سبقها من كلامهم اعتراض جواب الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفا ، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) [الملك : ١٠] إلخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته.

ويجوز أن تكون جملة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) من تمام كلام كل فوج لنذيرهم. وأتي بضمير جمع المخاطبين مع أن لكل قوم رسولا واحدا في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس ؛ إما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج ، أي قال جميع الأفواج : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) إلى قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) ، على طريقة المثال المشهور : «ركب القوم دوابهم» ، وإما

٢٤

على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعه الذين يؤمنون بما جاء به.

وعموم (شَيْءٍ) في قوله : (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) المراد منه شيء من التنزيل ، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن ينزل الله وحيا على بشر ، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى:(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وقد تقدم في آخر [الأنعام : ٩١].

ووصف الضلال ب (كَبِيرٍ) معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.

ومعنى القصر المستفاد من النفي والاستثناء في (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) قصر قلب ، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلّا الضلال ، وليس الوحي الإلهي والهدى كما تزعمون.

والظرفية مجازية لتشبيههم تمحّضهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠))

أعيد فعل القول للإشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جوابا عن سؤال خزنة جهنم وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسرا وتندما ، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] إلخ. لتأكيد الإخبار على حسب الوجهين المتقدمين في موقع جملة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٩].

وذكروا ما يدل على انتفاء السمع والعقل عنهم في الدنيا ، وهم يريدون سمعا خاصا وعقلا خاصا ، فانتفاء السمع بإعراضهم عن تلقي دعوة الرسل مثل ما حكى الله عن المشركين (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] وانتفاء العقل بترك التدبر في آيات الرسل ودلائل صدقهم فيما يدعون إليه.

ولا شك في أن أقل الناس عقلا المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم ، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات ، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال ، فكان حكم العقل قاضيا بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإنذار بالامتثال إذ لا معارض له في دينهم لو لا الإلف

٢٥

والتكبر بخلاف حال أهل الأديان أتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئا فكانوا إلى المعذرة أقرب لو لا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض.

وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) من [سورة الطور: ٣٢] عن كتاب الحكيم الترمذي أنه أخرج حديثا «أن رجلا قال : يا رسول الله ما أعقل فلانا النصراني ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه ، إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) قال وفي حديث ابن عمر فزجره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «مه إن العاقل من يعمل بطاعة الله» ولم أقف عليه فيما رأيت من كتب التفسير ولم يذكره السيوطي في التفسير بالمأثور في سورة الطور ولا في سورة الملك.

ويؤخذ من هذه الآية أن قوام الصلاح في حسن التلقي وحسن النظر وأن الأثر والنظر ، أي القياس هما أصلا الهدى ، ومن العجيب ما ذكره صاحب «الكشاف» : أن من المفسرين من قال : إن المراد من الآية : لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي. ولم أقف على تعيين من فسر الآية بهذا ولا أحسبه إلّا من قبيل الاسترواح.

و (أَوْ) للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد ، وحسن التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها ، أو من دواعي أنفسها ، قال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ١٧ ـ ١٨].

ووجه تقديم السمع على العقل أن العقل بمنزلة الكليّ والسمع بمنزلة الجزئي ورعيا للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذرون ، ثم يعملون عقولهم في التدبر فيها.

(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

الفاء الأولى فصيحة ، والتقدير : إذ قالوا بذلك فقد تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم ، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب.

والسحق : اسم مصدر معناه البعد ، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله ، أي أسحقهم الله إسحاقا ، ويجوز أن يراد من هذا الدعاء

٢٦

التعجيب من حالهم كما يقال : قاتله الله ، وويل له ، في مقام التعجب.

والفاء الثانية للتسبب ، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجيب من بعدهم عن الحق ، أو عن رحمة الله تعالى. ويحتمل أيضا أن يقال لهم يوم الحساب عقب اعترافهم ، تنديما يزيدهم ألما في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم.

واللام الداخلة على (سحقا) لام التقوية إن جعل (سحقا) دعاء عليهم بالإبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل ، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم : شكرا لك ، فكل من (سحقا) واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه.

و (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) يعمّ المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعا للجمل التي قبله.

وقرأ الجمهور (فَسُحْقاً) بسكون الحاء. وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لاتباع ضمة السين.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢))

اعتراض يفيد استئنافا بيانيا جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة ، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين.

وقدم المغفرة تطمينا لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه ، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم ، فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية على التحلية ، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع ، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفا في قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٩].

وتنكير (مَغْفِرَةٌ) للتعظيم بقرينة مقارنته ب (أَجْرٌ كَبِيرٌ) وبقرينة التقديم.

وتقديم المسند على المسند إليه في جملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ليتأتى تنكير المبتدأ ، ولإفادة الاهتمام ، وللرعاية على الفاصلة وهي نكت كثيرة.

[١٣ ـ ١٤] (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤))

٢٧

عطف على الجمل السابقة عطف غرض على غرض ، وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد فأنزل الله (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) كذا روي عن ابن عباس.

وصيغة الأمر في (وَأَسِرُّوا) و (اجْهَرُوا) مستعملة في التسوية كقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) [الطور : ١٦] ، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها (أَوِ) عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.

فقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول ، أي فسواء في علم الله الإسرار والإجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بله ما يسرون به من الكلام ، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القويّ علمه.

وضمير (إِنَّهُ) عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام ، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير ، لأن الاسم الذي في جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [الملك : ١٢] لا يكون معادا لكلام آخر.

و (ذات الصدور) ما يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال. وهو مركب من (ذات) التي هي مؤنث (ذو) بمعنى صاحب ، و (الصُّدُورِ) بمعنى العقول وشأن (ذو) أن يضاف إلى ما فيه رفعة.

وجملة (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) استئناف بياني ناشئ عن قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بأن يسأل سائل منهم : كيف يعلم ذات الصدور ، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه؟ فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور ، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالا لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خلدها ، فالإتيان ب (مَنْ) الموصولة لإفادة التعليل بالصلة.

فيجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) مفعول (يَعْلَمُ) فيكون (يَعْلَمُ) و (خَلَقَ) رافعين

٢٨

ضميرين عائدين إلى ما عاد إليه ضمير (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، فيكون (مَنْ) الموصولة صادقة على المخلوقين وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه. والتقدير : من خلقهم.

ويجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) فاعل (يَعْلَمُ) والمراد الله تعالى ، وحذف مفعول (يَعْلَمُ) لدلالة قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ). والتقدير : ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير.

والعلم يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دال على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام ، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة.

وجملة (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الأحسن أن تجعل عطفا على جملة (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) لتفيد تعليما للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون ، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإسرار من الأحوال.

و (اللَّطِيفُ) : العالم خبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة.

و (الْخَبِيرُ) : العليم الذي لا تعزب عنه الحوادث الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) في الأنعام [١٠٣] وعند قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) في سورة لقمان [١٦].

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

استئناف فيه عود إلى الاستدلال ، وإدماج للامتنان ، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإنسان إذ ما الإنسان إلّا جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ) [طه : ٥٥] ، فلما ضرب لهم بخلق أنفسهم دليلا على علمه الدال على وحدانيته شفّعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها ، مع

٢٩

المنة بأنه خلقها هيّنة لهم صالحة للسير فيها مخرجة لأرزاقهم ، وذيّل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره.

والذّلول من الدواب المنقادة المطاوعة ، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد ، فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) الآية في سورة البقرة [٧١] ، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقتها تشبيها بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة.

والمناكب : تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد ، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها.

وفرع على هذه الاستعارة الأمر في (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإدامة تذكيرا بما سخّر الله لهم من المشي في الأرض امتنانا بذلك.

ومناسبة (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أن الرزق من الأرض. والأمر مستعمل في الإدامة أيضا للامتنان ، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها. فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول ، والأكل مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك. وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة.

وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإنعام ليتدبروا فيتركوا العناد ، قال تعالى : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) [النحل : ٨١].

وأما عطف (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) فهو تتميم وزيادة عبر أسطر لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت.

والمعنى : إليه النشور منها ، وذلك يقتضي حذفا ، أي وفيها تعودون.

وتعريف (النُّشُورُ) تعريف الجنس فيعم أي كل نشور ، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) بمنزلة التذييل.

والقصر المستفاد من تعريف جزأي (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه.

٣٠

وتقديم المجرور في جملة (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) للاهتمام.

ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦))

انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يصيّر مشيهم في مناكب الأرض إلى تجلجل في طبقات الأرض. فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير.

و (مَنْ) اسم موصول وصلته صادق على موجود ذي إدراك كائن في السماء. وظاهر وقوع هذا الموصول عقب جمل (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) إلى قوله : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك : ١٥] أن الإتيان بالموصول من قبيل الإظهار في مقام الإضمار ، وأن مقتضى الظاهر أن يقال أأمنتموه أن يخسف بكم الأرض ؛ فيتأتى أن الإتيان بالموصول لما تأذن به الصلة من عظيم تصرفه في العالم العلوي الذي هو مصدر القوى والعناصر وعجائب الكائنات فيصير قوله : (مَنْ فِي السَّماءِ) في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان وذلك لا يليق بالله ، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلف رحمهم‌الله أجمعين.

وقد أوّلوه بمعنى : من في السماء عذابه أو قدرته أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالى: (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] وأمثاله ، وخص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم.

ولكن هذا الموصول غير مكين في باب المتشابه لأنه مجمل قابل للتأويل بما يحتمله (مَنْ) أن يكون ما صدقه مخلوقات ذات إدراك مقرها السماء وهي الملائكة فيصح أن تصدق (مَنْ) على طوائف من الملائكة الموكلين بالأمر التكويني في السماء والأرض قال تعالى : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) [الطلاق : ١٢] ، ويصح أن يراد باسم الموصول ملك واحد معيّن وظيفته فعل هذا الخسف ، فقد قيل : إن جبريل هو الملك الموكّل بالعذاب.

وإسناد فعل (يَخْسِفَ) إلى «الملائكة» أو إلى واحد منهم حقيقة لأنه فاعل الخسف قال تعالى حكاية عن الملائكة (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ... إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) [العنكبوت : ٣١ ـ ٣٤].

٣١

وإفراد ضمير (يَخْسِفَ) مراعاة للفظ (مَنْ) إذا أريد طائفة من الملائكة أو مراعاة للفظ والمعنى إذا كان ما صدق (مَنْ) ملكا واحدا.

والمعنى : توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين.

والخسف : انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطنا وباطنه ظاهرا وهو شدة الزلزال.

وفعل خسف يستعمل قاصرا ومتعديا وهو من باب ضرب ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) سورة النحل [٤٥].

والباء في قوله : (بِكُمُ) للمصاحبة ، أي يخسف الأرض مصاحبة لذواتكم. وفي الجمع بين السماء والأرض محسّن الطباق.

والمصدر المنسبك من (أَنْ يَخْسِفَ) يجوز أن يكون بدل اشتمال من اسم الموصول لأن الخسف من شأن من في السماء ، ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو مطّرد مع (أَنْ) ، والخافض المحذوف حرف (من).

وفرع على الخسف المتوقع المهدد به أن تمور الأرض تفريع الأثر على المؤثر لأن الخسف يحدث المور ، فإذا خسفت الأرض فاجأها المور لا محالة ، لكن نظم الكلام جرى على ما يناسب جعل التهديد بمنزلة حادث وقع فلذلك جيء بعده بالحرف الدال على المفاجأة لأن حق المفاجأة أن تكون حاصلة زمن الحال لا الاستقبال كما في «مغني اللبيب» فإذا أريد تحقيق حصول الفعل المستقبل نزل منزلة الواقع في الحال كقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] ، وإذا أريد استحضار حالة فعل حصل فيما مضى نزل كذلك منزلة المشاهد في الحال كقوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) [يونس : ٢١] ، فكان قوله : (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) مؤذنا بتشبيه حالة الخسف المتوقع المهدد به بحالة خسف حصل بجامع التحقق كما قالوا في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي ، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ورمز إليه بما هو من آثاره ويتفرع عنه فكان في الكلام تمثيلية مكنيّة.

والمور : الارتجاج والاضطراب وتقدم في قوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) في سورة الطور [٩].

٣٢

(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧))

(أَمْ) لإضراب الانتقال من غرض إلى غرض ، وهو انتقال من الاستفهام الإنكاري التعجيبي إلى آخر مثله باعتبار اختلاف الأثرين الصادرين عن مفعول الفعل المستفهم عنه اختلافا يوجب تفاوتا بين كنهي الفعلين وإن كانا متحدين في الغاية ، فالاستفهام الأول إنكار على أمنهم الذي في السماء من أن يفعل فعلا أرضيا.

والاستفهام الواقع مع (أَمْ) إنكار عليهم أن يأمنوا من أن يرسل عليهم من السماء حاصب وذلك أمكن لمن في السماء وأشد وقعا على أهل الأرض. والكلام على قوله : (مَنْ فِي السَّماءِ) تقدم في الآية قبلها ما يغني عنه.

وتفريع جملة (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) على الاستفهام الإنكاري كتفريع ملة (فَإِذا هِيَ تَمُورُ) [الملك : ١٦] أي فحين يخسف بكم أو يرسل عليهم حاصب تعلمون كيف نذيري ، وحرف التنفيس حقه الدخول على الأخبار التي ستقع في المستقبل ، وإرسال الحاصب غير مخبر بحصوله وإلّا لما تخلف لأن خبر الله لا يتخلف. وإنما هو تهديد وتحذير فإنهم ربما آمنوا وأقلعوا فسلموا من إرسال الحاصب عليهم ولكن لما أريد تحقيق هذا التهديد شبه بالأمر الذي وقع فكان تفريع صيغة الإخبار على هذا مؤذنا بتشبيه المهدد به بالأمر الواقع على طريقة التمثيلية المكنية ، وجملة (فَسَتَعْلَمُونَ) قرينتها لأنها من روادف المشبه به كما تقدم.

و (كَيْفَ نَذِيرِ) ، استفهام معلّق فعل (تعلمون) عن العمل ، وهو استفهام للتهديد والتهويل ، والجملة مستأنفة.

وحذفت ياء المتكلم من نذيري تخفيفا وللرعي على الفاصلة.

والنذير مصدر بمعنى الإنذار مثل النكير بمعنى الإنكار.

وقدم التهديد بالخسف على التهديد بالحاصب لأن الخسف من أحوال الأرض ، والكلام على أحوالها أقرب هنا فسلك شبه طريق النشر المعكوس ، ولأن إرسال الحاصب عليهم جزاء على كفرهم بنعمة الله التي منها رزقهم في الأرض المشار إليه بقوله : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك : ١٥] فإن منشأ الأرزاق الأرضية من غيوث السماء قال تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذاريات : ٢٢].

٣٣

(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨))

بعد أن وجه الله إليهم الخطاب تذكيرا واستدلالا وامتنانا وتهديدا وتهويلا ابتداء من قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) [الملك : ١٣] التفت عن خطابهم إلى الإخبار عنهم بحالة الغيبة ، تعريضا بالغضب عليهم بما أتوه من كل تكذيب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانوا جديرين بإبعادهم عزّ الحضور للخطاب ، فلذلك لم يقل (ولقد كذب الذين من قبلكم) ولم يقطع توجيه التذكير إليهم والوعيد لعلهم يتدبرون في أن الله لم يدخرهم نصحا.

فالجملة عطف على جملة (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [الملك : ١٧] لمناسبة أن مما عوقب به بعض الأمم المكذبين من خسف أو إرسال حجارة من السماء وهم قوم لوط ، ومنهم من خسف بهم مثل أصحاب الرس.

ولك أن تجعل الواو للحال ، أي كيف تأمنون ذلك عند ما تكذبون الرسول في حال أنه قد كذب الذين من قبلكم فهل علمتم ما أصابهم على تكذيبهم الرسل.

ضرب الله لهم مثلا بأمم من قبلهم كذبوا الرسل فأصابهم من الاستئصال ما قد علموا أخباره لعلّهم أن يتّعظوا بقياس التمثيل إن كانت عقولهم لم تبلغ درجة الانتفاع بأقيسة الاستنتاج ، فإن المشركين من العرب عرفوا آثار عاد وثمود وتناقلوا أخبار قوم نوح وقوم لوط وأصحاب الرسّ وفرع (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) استفهاما تقريريا وتنكيريا وهو كناية عن تحقيق وقوعه وأنه وقع في حال فظاعة.

وقد أكد الخبر باللام و (قد) لتنزيل المعرّض بهم منزلة من يظن أن الله عاقب الذين من قبلهم لغير جرم أو لجرم غير التكذيب. فهو مفرع على المؤكد ، فالمعنى : لقد كذب الذين من قبلهم ولقد كان نكيري عليهم بتلك الكيفية.

و (نَكِيرِ) ؛ أصله نكيري بالإضافة إلى ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا ، كما في قوله : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٧] ، والمعنى : كيف رأيتم أثر نكيري عليهم فاعلموا أن نكيري عليكم صائر بكم إلى مثل ما صار بهم نكيري عليهم.

والمراد بالنكير المنظر بنكير الله على الذين من قبلهم ، ما أفاده استفهام الإنكار في قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) [الملك : ١٦] وقوله : (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [الملك : ١٧].

٣٤

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

عطف على جملة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) [الملك : ١٥] استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.

واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله : (فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) تصوّر صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصّبا ، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلفة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة ، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفه الصحف قال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية : ١٧ ـ ٢٠] ، وقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].

وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير ، ولم يكن شاهده من قبل ، كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحد ممن ألفوه معشاره.

وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل [٧٩] في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ). وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك ، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسلك في هذه السورة مسلك الإطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة :

فالوصف الأول : ما أفاده قوله : (فَوْقَهُمْ) فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في

٣٥

الجوّ بواسطة تحريك جناحيه وذلك سرّ قوله تعالى : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] بعد قوله : (وَلا طائِرٍ) في [سورة الأنعام : ٣٨] لقصد تصوير تلك الحالة.

الوصف الثاني : (صافَّاتٍ) وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصّف ، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء ، وهو قاصر ومتعد ، يقال : صفّوا ، بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) [الصافات : ١٦٥] وقال تعالى في البدن (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) [الحج : ٣٦]. ويقال : صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف ، وفي حديث ابن عباس في الجنائز «مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبر منبوذ» إلى قوله : «فصفّنا خلفه وكبّر».

والمراد هنا أن الطير صافّة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلّا ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه ، أي مدها فصفّ ريش الجناح فإذا تمدد الجناح ظهر ريشه مصطفّا فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) في سورة النور [٤١]. وبسط الجناحين يمكّن الطائر من الطيران فهو كمدّ اليدين للسابح في الماء.

الوصف الثالث : (وَيَقْبِضْنَ) وهو عطف على (صافَّاتٍ) من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادة الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله ، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل.

والقبض : ضد البسط. والمراد به هنا ضد الصّف المذكور قبله ، إذ كان ذلك الصف صادقا على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه ، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران.

وأوثر الفعل المضارع في (يَقْبِضْنَ) لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان.

وجيء في وصف الطير ب (صافَّاتٍ) بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات ، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد ، أي ويجددن قبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض

٣٦

الأجنحة على زيادة التحرك عند ما يحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران ، ونظيره قوله تعالى في الجبال والطير (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) [ص : ١٨ ـ ١٩] لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دوما.

وانتصب (فَوْقَهُمْ) على الحال من (الطَّيْرِ) وكذلك انتصب (صافَّاتٍ).

وجملة (وَيَقْبِضْنَ) في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر ، ولذلك عديت إلى المرئي ب (إلى). والاستفهام في (أَوَلَمْ يَرَوْا) إنكاري ، ونزلوا منزلة من لم ير هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإلهية.

وجملة (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) مبينة لجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ) وما فيها من استفهام إنكار ، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يمسكهن إلّا الرحمن إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) [الحج : ٦٥].

وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهويّ المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبل هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطير من الهويّ.

ومعنى إمساك الله إياها : حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم ، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح ، ومن الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه ، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعا لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين.

وإيثار اسم (الرَّحْمنُ) هنا دون الاسم العلم بخلاف ما في سورة النحل [٧٩] (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) لعله للوجه الذي ذكرناه آنفا في خطابهم بطريقة الإطناب من قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) الآية.

فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم (الرَّحْمنُ) فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف (الرَّحْمنُ) في هذه السورة أربع مرات.

وجملة (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) تعليل لمضمون (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي

٣٧

أمسكهن الرحمن لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمهم أو انتفائه.

والبصير : العليم ، مشتق من البصيرة ، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو : السميع البصير ، وإنما هو هنا من باب قولهم : فلان بصير بالأمور. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [غافر : ٤٤] ، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم. وتقديم (بِكُلِّ شَيْءٍ) على متعلقه لإفادة القصر الإضافي وهو قصر قلب ردّا على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) [الملك :١٣].

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠))

(أم) منقطعة وهي للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه ، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوجه إليهم استفهام أن يدلّوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله ، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلّا إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره.

وهذا الكلام ناشئ عن قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال.

و (أم) المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام ، والأكثر أن يكون مقدرا فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين.

والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء ، والإشارة مشار بها إلى مفهوم (جُنْدٌ) مفروض في الأذهان استحضر للمخاطبين ، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون ، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا : بنو فلان. ولما كان الاستفهام مستعملا في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن.

وقريب من ذلك قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ونحوه.

٣٨

و (من) في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ.

وكتب في المصحف (أَمَّنْ) بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم (أم) وميم (من) المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] بميم واحدة بعد العين ، ولا تقرأ إلّا بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته.

و (الَّذِي هُوَ جُنْدٌ) صفة لاسم الإشارة و (لَكُمْ) صفة ل (جُنْدٌ) و (يَنْصُرُكُمْ) جملة في موضع الحال من (جُنْدٌ) أو صفة ثانية ل (جُنْدٌ).

ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولها الذي اتخذتموه جندا فمن هو حتى ينصركم من دون الله.

فتكون (من) استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله : (مِنْ فِرْعَوْنَ) [الدخان : ٣١] في قراءة فتح ميم (من) ورفع فرعون ، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف ، واسم الإشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له ، و (الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) صفة لاسم الإشارة وجملة (يَنْصُرُكُمْ) خبر عن اسم الاستفهام ، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمن. وجيء بالجملة الاسمية (الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكون على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيّؤ كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها» أي هيعة جهاد.

فالمعنى : ينصركم عند احتياجكم إلى نصره ، فهذا وجه الجمع بين جملة (هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) وجملة (يَنْصُرُكُمْ) ولم يستغن بالثانية عن الأولى.

و (دُونِ) أصله ظرف للمكان الأسفل ضد (فوق) ، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل.

فقوله : (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من الضمير المستتر في (يَنْصُرُكُمْ). أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله ، أي من مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) [الأنبياء : ٤٣] فتكون (مِنْ) زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة ، ولا تجر تلك الظروف بغير (مِنْ) ، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين : وما منصوب

٣٩

على الظرف لا يخفضه سوى حرف. وفسره بظرف (عند) ولا خصوصية ل (عند) بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة.

وتكرير وصف (الرَّحْمنُ) عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة.

وذيل هذا بالاعتراض بقوله : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم ، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى ، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام فكما غر الأمم السالفة دينهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] وقال (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) [القمر : ٤٣] فتعريف (الْكافِرُونَ) للاستغراق. وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير.

والغرور : ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها ، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع. وتقدم في قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في آخر آل عمران [١٩٦] وقوله : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في الأنعام [١١٢] وقوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) في سورة فاطر [٥].

والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأنّ الغرور محيط بهم إحاطة الظرف.

والمعنى : ما الكافرون في حال من الأحوال إلّا في حال الغرور ، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١))

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ)

انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) [الملك :٢٠] ، وهذا الكلام ناظر إلى قوله : (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك : ١٥] على طريقة اللف والنشر المعكوس.

٤٠