تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

الإنسان ، أي يقول : أين المفر؟ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول (كَلَّا لا وَزَرَ) أي لا وزر لي ، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلّا النار كما ورد في الحديث ، فيحسن أن يوصل (أَيْنَ الْمَفَرُّ) بجملة (كَلَّا لا وَزَرَ).

وأما قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا بقرينة قوله : (يَوْمَئِذٍ) ، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم.

وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.

و (الْمُسْتَقَرُّ) : مصدر ميمي من استقرّ ، إذا قرّ في المكان ولم ينتقل ، والسين والتاء للمبالغة في الوصف.

وتقديم المجرور لإفادة الحصر ، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر. والمعنى : لا ملجأ يومئذ للإنسان إلّا منتهيا إلى ربك ، وهذا كقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨].

وجملة (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) ، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة ، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبئون بما قدموا وما أخروا.

وينبغي أن يكون المراد ب (الْإِنْسانُ) الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) الآية [آل عمران : ٣٠]. واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد ، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة. وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة.

وتنبئة الإنسان بما قدّم وأخّر كناية عن مجازاته على ما فعله : إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء ، إذ يقال له : هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها ، فكان الإنباء من لوازم الجزاء قال تعالى : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) [التغابن : ٧] ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله.

والمراد بما قدم : ما فعله وبما (أَخَّرَ) : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن

٣٢١

فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعاء : «فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت».

[١٤ ـ ١٥] (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

إضراب انتقالي ، وهو للترقي من مضمون (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] إلى الإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٥ ، ٢٦] ، (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩]. وقال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤].

ونظم قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) صالح لإفادة معنيين :

أولهما أن يكون (بَصِيرَةٌ) بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون (بَصِيرَةٌ) خبرا عن (الْإِنْسانُ). و (عَلى نَفْسِهِ) متعلقا ب (بَصِيرَةٌ) ، أي الإنسان بصير بنفسه. وعدّي بحرف (عَلى) لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). وهاء (بَصِيرَةٌ) تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسّابة ، أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذ.

والمعنى الثاني : أن يكون (بَصِيرَةٌ) مبتدأ ثانيا ، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه ، ومجموع الجملة خبرا عن (الْإِنْسانُ) ، و (بَصِيرَةٌ) حينئذ يحتمل أن يكون بمعنى بصير ، أي مبصر والهاء للمبالغة ، كما تقدم في المعنى الأول ، وتكون تعدية (بَصِيرَةٌ) ب (عَلى) لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول.

ويحتمل أن تكون (بَصِيرَةٌ) صفة لموصوف محذوف ، تقديره : حجة بصيرة ، وتكون (بَصِيرَةٌ) مجازا في كونها بينة كقوله تعالى : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] ومنه قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] والتأنيث لتأنيث الموصوف.

وقد جرت هذه الجملة مجرى المثل لإيجازها ووفرة معانيها.

٣٢٢

وجملة (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان ، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها.

(لَوْ) هذه وصليّة كما تقدم عند قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في آل عمران [٩١]. والمعنى : هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره.

والإلقاء : مراد به الإخبار الصريح على وجه الاستعارة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) في سورة النحل [٨٦].

والمعاذير : اسم جمع معذرة ، وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر ، ومثل المعاذير قولهم : المناكير ، اسم جمع منكر. وعن الضحاك : أن معاذير هنا جمع معذار بكسر الميم وهو الستر بلغة اليمن يكون الإلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي ، أي الإرخاء ، وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه.

والمعنى : أن الكافر يعلم يومئذ أعماله التي استحق العقاب عليها ويحاول أن يعتذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره.

و (مَعاذِيرَهُ) : جمع معرف بالإضافة يدل على العموم. فمن هذه المعاذير قولهم : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] ومنها قولهم : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ) [المائدة : ١٩] وقولهم : (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة.

[١٦ ـ ١٩] (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩))

هذه الآية وقعت هنا معترضة. وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلّت منه ، أو من شدة رغبته في حفظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنزل الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ). قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت ، ثم إن علينا أن نبيّنه بلسانك ، أي أن تقرأه» ا ه.

٣٢٣

فلما نزل هذا الوحي في أثناء نزول السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يكن سورة مستقلة كان ملحقا بالسورة وواقعا بين الآي التي نزل بينها.

فضمير (بِهِ) عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة.

وقوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ) ، أي إذا قرأه جبريل عنا ، فأسندت القراءة إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي ، والقرينة واضحة.

ومعنى (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ، أي أنصت إلى قراءتنا.

فضمير (قَرَأْناهُ) راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في (لا تُحَرِّكْ بِهِ) وهو القرآن بالمعنى الاسمي ، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) في سورة مريم [٦٤] ، ووقوع (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) في أثناء أحكام الزوجات في سورة البقرة [٢٣٨]. قالوا : نزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة: هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأئمة التفسير. وذكر الفخر عن القفال أنه قال : إن قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) ليس خطابا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ) [القيامة : ١٣] فكان ذلك للإنسان حالما ينبّأ بقبائح أفعاله فيقال له : اقرأ كتابك ، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له : لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار ، ثمّ إن علينا بيان مراتب عقوبته ، قال القفال : فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به ا ه.

وأقول : إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه.

والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة : أن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخشى تفلّت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور ، صار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها ، فلعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطا لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه ، فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه ، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لما كان يلاقيه في ذلك من الشدة.

و (قرآن) في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان ، قال حسان في

٣٢٤

رثاء عثمان بن عفان :

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا

ولفظ (عَلَيْنا) في الموضعين للتكفل والتعهّد.

و (ثُمَ) في (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) للتراخي في الرتبة ، أي التفاوت بين رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قوله (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي (إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). ومعنى الجملتين : أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك ، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك ، أي عن ظهر قلبك لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظا في الصدور بيّنا لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قرب أو بعد.

فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه.

وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبيّن متمسكين بأن (ثُمَ) للتراخي وهو متمسّك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته (ثُمَ) إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن ، ولأن (ثُمَ) قد عطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ (بَيانَهُ) خاصة ، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقا لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح.

[٢٠ ـ ٢١] (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١))

رجوع إلى مهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجع المتكلم إلى وصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل ، فكلمة (كَلَّا) ردع وإبطال. يجوز أن يكون إبطالا لما سبق من قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) إلى قوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ٣ ـ ١٥] ، فأعيد (كَلَّا) تأكيدا لنظيره ووصلا للكلام بإعادة آخر كلمة منه.

والمعنى : أن مزاعمهم باطلة.

وقوله ٩ : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) إضراب إبطالي يفصّل ما أجمله الردع ب (كَلَّا) من إبطال ما قبلها وتكذيبه ، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة ، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة ، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة (فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة ، أي جرى على الأمر والنهي

٣٢٥

الشرعيين لم يكن مذموما. قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٧].

ويجوز أن يكون إبطالا لما تضمنه قوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ١٥] فهو استئناف ابتدائي. والمعنى : أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة ، أي آثروا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حسابا.

وقرأ الجمهور (تُحِبُّونَ) و (تَذَرُونَ) بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مواجهة بالتفريع لأن ذلك أبلغ فيه. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة ، والضمير عائد إلى (الْإِنْسانُ) في قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ١٤] جاء ضمير جمع لأن الإنسان مراد به الناس المشركون ، وفي قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ) ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك.

[٢٢ ـ ٢٥] (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

المراد ب (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداء من قوله : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) [القيامة : ١٠] ، وأعيد مرتين.

والجملة المقدرة المضاف إليها (إذ) ، والمعوّض عنها التنوين تقديرها : يوم إذ برق البصر.

وقد حصل من هذا تخلص إلى إجمال حال الناس يوم القيامة بين أهل سعادة وأهل شقاوة.

فالوجوه الناضرة وجوه أهل السعادة والوجوه الباسرة وجوه أهل الشقاء ، وذلك بين من كلتا الجملتين.

وقد علم الناس المعنيّ بالفريقين مما سبق نزوله من القرآن كقوله في سورة عبس [٤٠ ـ ٤٢] : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) فعلم أن أصل أسباب السعادة الإيمان بالله وحده وتصديق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان بما جاء به

٣٢٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن أصل أسباب الشقاء الإشراك بالله وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونبذ ما جاء به. وقد تضمن صدر هذه السورة ما ينبئ بذلك كقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] وقوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) [القيامة : ٥].

وتنكير (وُجُوهٌ) للتنويع والتقسيم كقوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] وقول الشاعر وهو من أبيات «كتاب الآداب» ولم يعزه ولا عزاه صاحب «العباب» في شرحه :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

وقول أبي الطيب :

فيوما بخيل تطرد الروم عنهم

ويوم بجود تطرد الفقر والجدبا

فالوجوه الناضرة الموصوفة بالنضرة (بفتح النون وسكون الضاد) وهي حسن الوجه من أثر النعمة والفرح ، وفعله كنصر وكرم وفرح ، ولذلك يقال : ناضر ونضير ونضر ، وكني بنضرة الوجوه عن فرح أصحابها ونعيمهم ، قال تعالى في أهل السعادة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] لأن ما يحصل في النفس من الانفعالات يظهر أثره.

وأخبر عنها خبرا ثانيا بقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وظاهر لفظ (ناظِرَةٌ) أنه من نظر بمعنى : عاين ببصره إعلانا بتشريف تلك الوجوه أنها تنظر إلى جانب الله تعالى نظرا خاصا لا يشاركها فيه من يكون دون رتبهم ، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة «أن أناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال : هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا؟ قلنا : لا ، قال : فإنكم لا تضارّون في رؤية ربكم يومئذ إلّا كما تضارون في رؤيتهما».

وفي رواية «فإنكم ترونه كذلك»وساق الحديث في الشفاعة.

وروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال : «كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته» وربما قال : «سترون ربكم عيانا».

٣٢٧

وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيّض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار ، قال : فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم».

فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ظنية لاحتمالها تأويلات تأوّلها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخوّل رؤيتها لغير أهل السعادة.

ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة ، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها لأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات ، ومقدار يحاط بجميعه أو ببعضه ، إذا كانت الرؤية بصرية ، فلا جرم أن يعد الوعد برؤية أهل الجنة ربّهم تعالى من قبيل المتشابه.

ولعلماء الإسلام في ذلك أفهام مختلفة ، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التي تخلقوا بها من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله ، وصرف أنظارهم عن التعمّق في تشخيص حقيقته وإدراجه تحت أحد أقسام الحكم العقلي ، فقد سمعوا هذا ونظائره كلّها أو بعضها أو قليلا منها ، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله ، ولكنهم انصرفوا إلى ما هو أحق بالعناية وهو التهمّم بإقامة الشريعة وبثّها وتقرير سلطانها ، مع الجزم بتنزيه الله تعالى عن اللوازم العارضة لظواهر تلك الصفات ، جاعلين إمامهم المرجوع إليه في كل هذا قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] بالنسبة إلى مقامنا هذا ، مع اتفاقهم على أنّ عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإيمان ، فلما نبع في علماء الإسلام تطلّب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته ، لم يروا طريقة السلف مقنعة لأفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم في العلم طريقة تمحيص وهي اللائقة بعصرهم ، وقارن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية ، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم ، وحدا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل ، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحدين ، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كلّ حقيقة في نصابها ، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل.

٣٢٨

فسلكت جماعات مسالك التأويل الإجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا التنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصّلون صرفها عن ظواهرها بل يجملون التأويل ، وهذه الطائفة تدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات ، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتا جعلها فرقا : فمنهم الحنابلة ، والظاهرية ، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة.

ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع التقييد بأنها مؤوّلة عن ظواهرها بوجه الإجمال. وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول.

ومنهم فرق النّظّارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة ، والأشاعرة ، والماتريدية.

فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربّهم ناسجة على هذا المنوال :

فالسلف أثبتوها دون بحث ، والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك ، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوه قطعيا وألغوها.

والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب.

وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالما من اتجاه نقوض ومنوع ومعارضات ، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصا من اتجاه منوع مجردة أو مع المستندات ، فطال الأخذ والرد. ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد.

ويحسن أن نقوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شئون الخالق تعالى.

وهذا معنى قول سلفنا : إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة ، وإن اشمأزّ منها المعتزلة.

هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم ، وأمّا ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى : (قالَ لَنْ تَرانِي) في سورة الأعراف [١٤٣].

٣٢٩

وتقديم المجرور من قوله : (إِلى رَبِّها) على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة.

وبين (ناضِرَةٌ) و (ناظِرَةٌ) جناس محرف قريب من التامّ.

وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أنها أريد بها التفصيل والتقسيم لمقابلته بقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) ، على حد قول الشاعر :

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نساء ويوم نسر

وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذ هي وجوه أهل الشقاء. وأعيد لفظ (يَوْمَئِذٍ) تأكيدا للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم.

و (باسِرَةٌ) : كالحة من تيقن العذاب ، وتقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) في سورة المدثر [٢٢].

فجملة (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) استئناف بياني لبيان سبب بسورها.

و (فاقِرَةٌ) : داهية عظيمة ، وهو نائب فاعل (يُفْعَلَ بِها) ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعه ليس مؤنثا حقيقيا ، مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه ، وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث. وإفراد (فاقِرَةٌ) إفراد الجنس ، أي نوعا عظيما من الداهية.

والمعنى : أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يكتنه كنهها.

[٢٦ ـ ٣٠] (كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠))

ردع ثان على قول الإنسان (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : ٦] ، مؤكّد للردع الذي قبله في قوله : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [القيامة : ٢٠]. ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيّؤ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى.

وعن المغيرة بن شعبة يقولون : القيامة القيامة ، وإنما قيامة أحدهم موته ، وعن علقمة

٣٣٠

أنه حضر جنازة فلما دفن قال : «أمّا هذا فقد قامت قيامته» ، فحالة الاحتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرة.

وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدعوا وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة ، فيكون ردعا على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة ، فليس مؤكدا للردع الذي في قوله : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [القيامة : ٢٠] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة.

و (إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) متعلق بالكون الذي يقدر في الخبر وهو قوله : (إِلى رَبِّكَ). والمعنى : المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي.

وجملة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) بيان للردع وتقريب لإبطال الاستبعاد المحكي عن منكري البعث بقوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : ٦].

و (إِذا) ظرف مضمن معنى الشرط ، وهو منتصب بجوابه أعني قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ).

وتقديم (إِلى رَبِّكَ) على متعلقه وهو (الْمَساقُ) للاهتمام به لأنه مناط الإنكار منهم.

وضمير (بَلَغَتِ) راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل (بَلَغَتِ) ومن ذكر (التَّراقِيَ) فإن فعل (بَلَغَتِ التَّراقِيَ) يدل أنها روح الإنسان. والتقدير : إذا بلغت الروح أو النفس. وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان ، ومثله قول حاتم الطائي :

أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

أي إذا حشرجت النفس. ومن هذا الباب قول العرب «أرسلت» يريدون : أرسلت السماء المطر ، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع.

والأنفاس : جمع نفس ، بفتح الفاء ، وهو أنسب بالحقائق.

و (التَّراقِيَ) : جمع ترقوة (بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث) وهي ثغرة النحر ، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله.

فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أمن اللبس ، لأن في تثنية

٣٣١

ترقوة شيئا من الثقل لا يناسب أفصح كلام ، وهذا مثل ما جاء في قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) في سورة التحريم [٤].

ومعنى (بَلَغَتِ التَّراقِيَ) : أن الروح بلغت الحنجرة حيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلّا في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار ، ومثله قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الآية [الواقعة : ٨٣].

واللام في (التَّراقِيَ) مثل اللام في المساق فيقال : هي عوض عن المضاف إليه ، أي بلغت روحه تراقيه ، أي الإنسان.

ومعنى (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) وقال قائل : من يرقي هذا رقيات لشفائه؟ أي سأل أهل المريض عن وجدان أحد يرقي ، وذلك عند توقع اشتداد المرض به والبحث عن عارف برقية المريض عادة عربية ورد ذكرها في حديث السريّة الذين أتوا على حيّ من أحياء العرب إذ لدغ سيد ذلك الحي فعرض لهم رجل من أهل الحي ، فقال : هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب.

والرقيا بالقصر ، ويقال بهاء تأنيث : هي كلام خاص معتقد نفعه يقوله قائل عند المريض واضعا يده في وقت القراءة على موضع الوجع من المريض أو على رأس المريض ، أو يكتبه الكاتب في خرقة ، أو ورقة وتعلق على المريض ، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي من صرع الجنون ومن ضر السموم ومن الحمّى.

ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سمّوا الراقي ونحوه عرّافا ، قال رؤبة بن العجاج :

بذلت لعرّاف اليمامة حكمه

وعرّاف نجد إن هما شفياني

فما تركا من عوذة يعرفانها

ولا رقية بها رقياني

وقال النابغة يذكر حالة من لدغته أفعى :

تناذرها الراقون من سوء سمعها

تطلقه طورا وطورا تراجع

وكان الراقي ينفث على المرقيّ ويتفل ، وأشار إليه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله : «ثم إنه طمس المكتوب على غفلة ، وتفعل عليه مائة تفلة».

٣٣٢

وأصل الرقية : ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله ، فأصلها وارد من الأديان السماوية ، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب ، ولذلك يخلطونها من أقوال ربما كانت غير مفهومة ، ومن أشياء كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره ، فاختلط أمرها في الأمم الجاهلة ، وقد جاء في الإسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقبلة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء.

والضمير المستتر في (ظَنَ) عائد إلى الإنسان في قوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) [القيامة : ٥] أي الإنسان الفاجر.

والظن : العلم المقارب لليقين ، وضمير (أَنَّهُ) ضمير شأن ، أي وأيقن أنه ، أي الأمر العظيم الفراق ، أي فراق الحياة.

وقوله : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) إن حمل على ظاهره ، فالمعنى التفاف ساقي المحتضر بعد موته إذ تلفّ الأكفان على ساقيه ويقرن بينهما في ثوب الكفن فكلّ ساق منهما ملتفة صحبة الساق الأخرى ، فالتعريف عوض عن المضاف إليه ، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيّأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة.

ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا فإن العرب يستعملون الساق مثلا في الشدة وجدّ الأمر تمثيلا بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم ، يقولون : قامت الحرب على ساق.

وأنشد ابن عباس قول الراجز :

صبرا عناق إنه لشر باق

قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

وتقدم في قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) في سورة القلم [٤٢].

فمعنى (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) طرأت مصيبة على مصيبة.

والخطاب في قوله : (إِلى رَبِّكَ) التفات عن طريق خطاب الجماعة في قوله : (بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) [القيامة : ٢٠] لأنه لما كان خطابا لغير معيّن حسن التفنن فيه.

والتعريف في (الْمَساقُ) تعريف الجنس الذي يعم الناس كلهم بما فيهم الإنسان الكافر المردود عليه. ولك أن تعبر عن اللام بأنها عوض عن المضاف إليه ، أي مساق

٣٣٣

الإنسان الذي يسأل : (أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : ٦].

و (الْمَساقُ) : مصدر ميمي ل (ساق) ، وهو تسيير ماش أمام مسيّره إلى حيث يريد مسيّره ، وضده القود ، وهو هنا مجاز مستعمل في معنى الإحضار والإيصال إلى حيث يلقى جزاء ربه.

وسلك في الجمل التي بعد (إِذا) مسلك الإطناب لتهويل حالة الاحتضار على الكافر وفي ذلك إيماء إلى أن الكافر يتراءى له مصيره في حالة احتضاره وقد دل عليهحديث عبادة بن الصامت في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، قالت عائشة أو بعض أزواجه : إنا نكره الموت. قال : ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشّر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه».

[٣١ ـ ٣٥] (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥))

تفريع على قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة : ٦].

فالضمير عائد إلى الإنسان في قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] أي لجهله البعث لم يستعد له.

وحذف مفعول (كَذَّبَ) ليشمل كلّ ما كذب به المشركون ، والتقدير : كذب الرسول والقرآن وبالبعث ، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإسلام.

ويجوز أن يكون الفاء تفريعا وعطفا على قوله : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة: ٣٠] ، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خاليا من العدّة لذلك اللقاء.

وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره : فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم.

وقد ورد ذلك في قوله تعالى : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢١ ـ ٢٤].

٣٣٤

وفعل (صَدَّقَ) مشتق من التصديق ، أي تصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله : (وَلكِنْ كَذَّبَ).

والمعنى : فلا آمن بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبعض المفسرين فسّر (صَدَّقَ) بمعنى أعطى الصّدقة ، وهو غير جار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال : تصدق ، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله : (وَلكِنْ كَذَّبَ).

وعطف (وَلا صَلَّى) على نفس التصديق تشويها له بأن حاله مبائن لأحوال أهل الإسلام. والمعنى : فلم يؤمن ولم يسلم.

و (لا) نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير :

فلا هو أخفاها ولم يتقدم

وهذا معنى قول الكسائي «(لا) بمعنى (لم) ولكنه يقرن بغيره يقول العرب : لا عبد الله خارج ولا فلان ، ولا يقولون : مررت برجل لا محسن حتى يقال : ولا مجمل» ا ه فإذا لم يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مضيّ إلّا في إرادة الدعاء نحو : «لا فضّ فوك» وشذ ما خالف ذلك. وأما قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) [البلد : ١١] فإنّه على تأويل تكرير النّفي لأنّ مفعول الفعل المنفي بحرف لا وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بيّنها قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) إلى قوله : (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٢ ـ ١٧]. فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل : فكّ رقبة ولا أطعم يتيما ولا أطعم مسكينا ولا آمن.

وجملة (وَلكِنْ كَذَّبَ) معطوفة على جملة (فَلا صَدَّقَ).

وحرف (لكِنْ) المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مخفّف النون المشددة أخت (إنّ) هو حرف استدراك ، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب : ٥] ، وإما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠].

وحرف (لكِنْ) المخفف لا يعمل إعرابا فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجملة (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أفادت معنيين : أحدهما توكيد قوله (فَلا

٣٣٥

صَدَّقَ) بقوله : (كَذَّبَ) ، وثانيهما زيادة بيان معنى (فَلا صَدَّقَ) بأنه تولّى عمدا لأنّ عدم التصديق له أحوال ، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤].

والتكذيب : تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتولي : الإعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن.

وفاعل (صَدَّقَ) والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإنسان المتقدم ذكره.

و (يَتَمَطَّى) : يمشي المطيطاء (بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة) وهي التبختر.

وأصل (يَتَمَطَّى) : يتمطط ، أي يتمدد لأن المتبختر يمدّ خطاه وهي مشية المعجب بنفسه. وهنا انتهى وصف الإنسان المكذب.

والمعنى : أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذهب إلى أهله مزدهيا بنفسه غير مفكر في مصيره.

قال ابن عطية : قال جمهور المتأولين : هذه الآية كلها من قوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) نزلت في أبي جهل بن هشام ، قال : ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى : (يَتَمَطَّى) فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها ا ه. وفيه نظر سيأتي قريبا.

فقوله : (أَوْلى لَكَ) وعيد ، وهي كلمة توعّد تجري مجرى المثل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم ، والمراد به ما يراد بقولهم : ويل لك ، من دعاء على المجرور باللام بعدها ، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه.

(فَأَوْلى) : اسم تفضيل من ولي ، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف ، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه ، قال الأصمعي : معناه : قاربك ما تكره ، قالت الخنساء :

هممت بنفسي كلّ الهموم

فأولى لنفسي أولى لها

وكان القانص إذا أفلته الصيد يخاطب الصيد بقوله : (أَوْلى لَكَ) وقد قيل : إن منه قوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ) من قوله : (فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) في سورة

٣٣٦

القتال [٢٠ ، ٢١] على أحد تأويلين يجعل (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مستأنفا وليس فاعلا لاسم التفضيل ، وذهب أبو علي الفارسي إلى أن (أَوْلى) علم لمعنى الويل وأن وزنه أفعل من الويل وهو الهلاك ، فأصل تصريفه أويل لك ، أي أشدّ هلاكا لك فوقع فيه القلب (لطلب التخفيف) بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أولى بوزن أفلح ، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا فقالوا : أولى في صورة وزن فعلى.

والكاف خطاب للإنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا ، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : أولى له.

وقوله : (فَأَوْلى) تأكيد ل (أَوْلى لَكَ) جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعي عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر.

قال قتادة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فأخذ رسول الله فلبّب أبا جهل بثيابه وقال له (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال أبو جهل : يتهددني محمد (أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد) فو الله إني لأعزّ أهل الوادي. وأنزل الله تعالى (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى كما قال لأبي جهل.

وقوله : (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق.

وجيء بحرف (ثُمَ) لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد ، وتهديد بأشدّ مما أفاده التهديد الأول وتأكيده كقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) [التكاثر : ٣ ، ٤].

وأحسب أن المراد : كلّ إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) إلى قوله : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) [القيامة : ٣ ـ ١٤] ، وما أبو جهل إلّا من أولهم ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله.

وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦))

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتدئ به فارتبط بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] فكأنه قيل : أيحسب أن

٣٣٧

لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم.

وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعه بقوله : (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) كما ستعلمه.

والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣].

وأصل معنى الترك : مفارقة شيء شيئا اختيارا من التّارك ، ويطلق مجازا على إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله ويتعهده ، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي.

والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق ، أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] وقوله : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].

وعدل عن بناء فعل يترك للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق : (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) فكأنه قال : أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى.

فجاء ذكر (سُدىً) هنا على طريقة الإدماج فيما سيق له الكلام ، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازيه على ما عمله في حياته الأولى.

وفي إعادة (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) تهيئة لما سيعقب من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً) [القيامة : ٣٧] إلى آخر السورة.

فقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) تكرير وتعداد للإنكار على الكافرين تكذيبهم بالعبث ، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدّم الإنسان وأخّر.

ومعنى هذا مثل قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

و (سُدىً) بضم السين وبالقصر : اسم بمعنى المهمل ويقال : سدى بفتح السّين والضمّ أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال : إبل سدىً ، وجمل سدىً ويشتق منه فعل فيقال : أسدى إبله وأسديت إبلي ، وألفه منقلبة عن الواو.

٣٣٨

ولم يفسر صاحب «الكشاف» هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع (سُدىً) في موضع الحال من ضمير (يُتْرَكَ).

فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان ليستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد ذلك من مفاسد جسيمة ، لا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين ، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليه المصير ، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم الكساد ، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلّا الأنكاد ، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهيمون في كل وادي ، وتركهم مضربا لقول المثل «فإنّ الريح للعادي».

ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] ، أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم ، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) ، أي لا يحسب أنه يترك غير مرعيّ بالتكليف كما تترك الإبل ، وذلك يقتضي المجازاة. وعن الشافعي : لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السّدى الذي لا يؤمر ولا ينهى ا ه. وقد تبين من هذا أن قوله : (أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة.

[٣٧ ـ ٤٠] (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

استئناف هو علة وبيان للإنكار المسوق للاستدلال بقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ) [القيامة : ٣٦] الذي جعل تكريرا وتأييدا لمضمون قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) الآية ، أي أنّ خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانه دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها ، فيتصل معنى الكلام هكذا : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويعد ذلك متعذرا. ألم نبدأ خلقه إذ كوّنّاه نطفة ثم تطوّر خلقه أطوارا فما ذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك ، قال تعالى : (ما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤].

٣٣٩

وهذه الجمل تمهيد لقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى).

وهذا البيان خاص بأحد معنيي التّرك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيّده قوله : (سُدىً) ، [القيامة : ٣٦] أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإحياء أن يجازى على عمله. والمعنى : أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته.

ووقع وصف (سُدىً) في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة ، وانتقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة ، فكان وقوعه إدماجا.

فالإنسان خلق من ماء وطوّر أطوارا حتى صار جسدا حيّا تامّ الخلقة والإحساس فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإناث ، فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلّا هو.

والنطفة : القليل من الماء سمي بها ماء التناسل ، وتقدم في سورة فاطر.

واختلف في تفسير معنى (يُمْنى) فقال كثير من المفسرين معناه : تراق. ولم يذكر في كتب اللغة أن فعل : منى أو أمنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية (منّى) التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تراق بها دماء الهدي ، ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية.

وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح ، فاسم (منى) علم مرتجل ، وقال ثعلب : سميت بذلك من قولهم : منى الله عليه الموت ، أي قدّره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن ابن شميل وعن ابن عيينة. وفسر بعضهم (تَمَنَّى) بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق ، أي خلقهم. والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) في سورة الواقعة [٥٨].

والعلقة : القطعة الصغيرة من الدم المتعقد.

وعطف فعل (كانَ عَلَقَةً) بحرف (ثُمَ) للدلالة على التراخي الرتبي فإنّ كونه علقة

٣٤٠