تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

إليه ، وبعكسه التأخر ، فحذف متعلق (يَتَقَدَّمَ) و (يَتَأَخَّرَ) لظهوره من السياق.

ويجوز أن يقدر : لمن شاء أن يتقدم إليها ، أي إلى سقر بالإقدام على الأعمال التي تقدمه إليها ، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها.

وتعليق (نَذِيراً) بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعته عليه لتفريطه على نحو قول المثل «يداك أوكتا وفوك نفخ» ، وقد تقدم في سورة المزمل [١٩] قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) وفي ضمير (مِنْكُمْ) التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال : لمن شاء منهم ، أي من البشر.

[٣٨ ـ ٤٨] (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨))

استئناف بياني يبين للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر : ٣٧] أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم.

و (رَهِينَةٌ) : خبر عن (كُلُّ نَفْسٍ) وهو بمعنى مرهونة.

والرهن : الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدين ، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة ، ومنه : فرسا رهان ، وكلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال ، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحقوق به ، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانا لئلا يخبس القوم بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.

وبهذا يكون قوله : (كُلُّ نَفْسٍ) مرادا به خصوص أنفس المنذرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة ، أي قرينة ما تعطيه مادة رهينة من معنى الحبس والأسر.

والباء للمصاحبة لا للسببية.

٣٠١

وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديد أهل الشر.

و (رَهِينَةٌ) : مصدر بوزن فعيلة كالشّتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفعولة والفعالة ، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثيل قتيلة ، إذ لو قصد الوصف لقيل رعين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا ، والإخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مسور بن زيادة الحارثي :

أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب

رهينة رمس ذي تراب وجندل

ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلّا لما كان موجب للتأنيث.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) استثناء منقطع.

و (أَصْحابَ الْيَمِينِ) : هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مكان القدس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ) يجوز أن يكون متعلقا بقوله : (يَتَساءَلُونَ) قدّم للاهتمام ، و (يَتَساءَلُونَ) حال من (أَصْحابَ الْيَمِينِ) وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع.

ويجوز أن يكون (فِي جَنَّاتٍ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم في جنات. والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويكون (يَتَساءَلُونَ) حالا من الضمير المحذوف.

ومعنى (يَتَساءَلُونَ) يجوز أن يكون على ظاهر صيغة التفاعل للدلالة على صدور الفعل من جانبين ، أي يسأل أصحاب اليمين بعضهم بعضا عن شأن المجرمين ، وتكون جملة (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) بيانا لجملة (يَتَساءَلُونَ). وضمير الخطاب في قوله : (سَلَكَكُمْ) يؤذن بمحذوف والتقدير : فيسألون المجرمين ما سلككم في سقر ، وليس التفاتا ، أو يقول بعض المسئولين لأصحابهم جوابا لسائليهم قلنا لهم : ما سلككم في سقر.

ويجوز أن يكون صيغة التفاعل مستعملة في معنى تكرير الفعل أي يكثر سؤال كل أحد منهم سؤالا متكررا أو هو من تعدد السؤال لأجل تعدد السائلين.

٣٠٢

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) في أول سورة النساء [١] «هو كقولك تداعينا». ونقل عنه أيضا أنه قال هنا : «إذا كان المتكلم مفردا يقال : دعوت ، وإذا كان المتكلم متعدّدا يقال : تداعينا ، ونظيره ، رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا تفاعلا من الجانبين» ا ه. ذكره صاحب «الكشّاف» في سورة النساء ، أي هو فعل من جانب واحد ذي عدد كثير ، وعلى هذا يكون مفعول (يَتَساءَلُونَ) محذوفا يدلّ عليه قوله (عَنِ الْمُجْرِمِينَ).

والتقدير : يتساءلون المجرمين عنهم ، أي عن سبب حصولهم في سقر ، ويدل عليه بيان جملة (يَتَساءَلُونَ) بجملة (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، فإن (ما سَلَكَكُمْ) في بيان للتساؤل.

وأصل معنى سلكه أدخله بين أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سلك العقد ، واستعير هنا للزج بهم ، وتقدم في سورة الحجر [١٢] قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) وفي قوله : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) في سورة الجن [١٧]. والمعنى : ما زجّ بكم في سقر.

فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملا في أصل معناه كان الباعث على السؤال :

إمّا نسيان الذي كانوا علموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم (يَتَساءَلُونَ) الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره ، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنّة على ما أخذوا به من أسباب نجاتهم ممّا أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.

وإما أن يكون سؤالا موجها من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم ، فيكون المراد بأصحابه اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم وهذا مثل ما في قوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) الآيات في سورة الصافات [٢٧ ، ٢٨] وقوله فيها : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) إلى قوله في (سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥١ ـ ٥٥].

وإن كان السؤال ليس على حقيقته وكان الاستفهام مستعملا في التنديم ، أو التوبيخ فعموم أصحاب اليمين وعموم المجرمين على حقيقته.

٣٠٣

وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلّا ظاهر الاستفهام ، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي : أنهم لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله.

وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.

وأنهم كانوا يخوضون خوضهم المعهود الذي لا يعدو عن تأييد الشرك وأذى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم ، سلكوا بها طريق الإطناب المناسب لمقام التحسر والتلهف على ما فات ، فكأنهم قالوا : لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة ، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة [٢ ـ ٤] (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

وأصل الخوض الدخول في الماء ، ويستعار كثيرا للمحادثة المتكررة ، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى : (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] وغير ذلك ، وقد جمع الإطلاقين قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨].

وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلا عن معنى الكناية ، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

ويوم الدين : يوم الجزاء والجزاء.

و (الْيَقِينُ) : اسم مصدر يقن كفرح ، إذا علم علما لا شك معه ولا تردد.

وإتيانه مستعار لحصوله بعد أن لم يكن حاصلا ، شبه الحصول بعد الانتفاء بالمجيء بعد المغيب.

والمعنى : حتى حصل لنا العلم بأن ما كنا نكذب به ثابت ، فقوله : (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) على هذا الوجه غاية لجملة (نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ).

٣٠٤

ويطلق اليقين أيضا على الموت لأنه معلوم حصوله لكل حيّ فيجوز أن يكون مرادا هنا كما في قوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩]. فتكون جملة (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) غاية للجمل الأربع التي قبلها من قوله : (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) إلى (بِيَوْمِ الدِّينِ).

والمعنى : كنا نفعل ذلك مدة حياتنا كلها.

وفي الأفعال المضارعة في قوله : (لَمْ نَكُ ،) و (نَخُوضُ ،) و (نُكَذِّبُ) إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم.

وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظّا من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته ، وظواهره وسرائره ، وقبل الشفاعة وبعدها.

وقد حرم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعة المؤمنين على أقدارهم.

وفي قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) إيماء إلى ثبوت الشفاعة لغيرهم يوم القيامة على الجملة وتفصيلها في صحاح الأخبار.

وفاء (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) تفريع على قوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ، أي فهم دائمون في الارتهان في سقر.

[٤٩ ـ ٥١] (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١))

تفريع للتعجيب من إصرارهم على الإعراض عن ما فيه تذكرة على قوله : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) [المدثر : ٣١].

وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضمير نحو : أن يقال : عنها معرضين ، لئلا يختص الإنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإنذار بسقر ، بل المقصود التعميم لإعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإعراض قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [التكوير : [٢٧].

و (فَما لَهُمْ) استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفهم

٣٠٥

عنها المستفهمون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة ، و (لَهُمْ) خبر عن (ما) الاستفهامية.

والتقدير : ما ثبت لهم ، و (مُعْرِضِينَ) حال من ضمير (لَهُمْ) ، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة.

وتركيب : ما لك ونحوه ، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردة أو جملة نحو (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) في سورة يوسف [١١]. وقوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة الانشقاق [٢٠]. وقوله : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) في سورة الصافات [١٥٤] وسورة القلم [٣٦]. و (عَنِ التَّذْكِرَةِ) متعلق ب (مُعْرِضِينَ).

وشبهت حالة إعراضهم المتخيّلة بحالة فرار حمر نافرة مما ينفرها.

والحمر : جمع حمار ، وهو الحمار الوحشي ، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.

وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهرب بالوحش من حمر أو بقر وحش إذا أحسسن بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد :

فتوجّست رزّ الأنيس فراعها

عن ظهر غيب والأنيس سقامها

وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإسلام كما في معلقة طرفة ، ومعلقة لبيد ، ومعلقة الحارث ، وفي أراجيز الحجّاج ورؤية ابنه وفي شعر ذي الرمة.

والسين والتاء في (مُسْتَنْفِرَةٌ) للمبالغة في الوصف مثل : استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستخرج واستنبط ، أي نافرة نفارا قويا فهي تعدو بأقصى سرعة العدو.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (مُسْتَنْفِرَةٌ) بفتح الفاء ، أي استنفرها مستنفر ، أي أنفرها ، فهو من استنفره المتعدي بمعنى أنفره. وبناء الفعل للنائب يفيد الإجمال ثم التفصيل بقوله : (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ).

وقرأها الجمهور بكسر الفاء ، أي استنفرت هي مثل : استجاب ، فيكون جملة (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) بيانا لسبب نفورها.

وفي «تفسير الفخر» عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام : سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت : كأنهم حمر ما ذا فقال : مستنفرة : بفتح الفاء فقلت له:

٣٠٦

إنما هو فرّت من قسورة. فقال : أفرّت؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن فكسر الفاء.

و (قَسْوَرَةٍ) قيل هو اسم جمع قسور وهو الرامي ، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فعلل أن يجمع على فعللة. وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جاريا على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب.

وقيل : القسورة مفرد ، وهو الأسد ، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس : إنه الأسد بالحبشية ، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافا لفظيا ، وعنه : أنه أنكر أن يكون قسور اسم الأسد ، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية. وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك ، قال ابن سيده : القسور الأسد والقسورة كذلك ، أنثوه كما قالوا : أسامة ، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إعراض مخلوط برغب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان.

وإيثار لفظ (قَسْوَرَةٍ) هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢))

إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما من كفار قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلان بن فلان ، وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله.

وجمع (صحف) إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحد منهم في شأنه صحيفة ، وإمّا لأنهم لما سألوا أن تأتي كل واحد منهم صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأنّ الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم.

والمنشّرة : المفتوحة المقروءة ، أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و (مُنَشَّرَةً) مبالغة في منشورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل (نشر) المجرد من كون الكتاب مفتوحا واضحا من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم فنشروا التوراة.

(كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣))

(كَلَّا) إبطال لظاهر كلامهم ومرادهم منه وردع عن ذلك ، أي لا يكون لهم ذلك.

٣٠٧

ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإضراب فقال : (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس ما قالوه إلّا تنصلا فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لا يخافون الآخرة ، أي لا يؤمنون بها فكني عن عدم الإيمان بالآخرة بعدم الخوف منها ، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يخاف عذابها إذ كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلا لتكذيبهم بالقرآن.

[٥٤ ـ ٥٦] (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

(كَلَّا) ردع ثان مؤكّد للردع الذي قبله ، أي لا يؤتون صحفا منشورة ولا يوزعون إلّا بالقرآن.

وجملة (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) تعليل للردع عن سؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشّرة ، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة ، وهذا كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥٠ ، ٥١]. فضمير (إِنَّهُ) للقرآن ، وهو معلوم من المقام ، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير (تَذْكِرَةٌ) للتعظيم.

وقوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) في سورة المزمل [١٩].

وهذا تعريض بالترغيب في التذكر ، أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا.

والضمير الظاهر في (ذَكَرَهُ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (إِنَّهُ) وهو القرآن فيكون على الحذف والإيصال وأصله : ذكر به.

ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضر من المقام على نحو قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩].

وضمير (شاءَ) راجع إلى (من) ، أي من أراد أن يتذكر ذكر بالقرآن وهو مثل قوله آنفا (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر : ٣٧] وقوله في سورة المزمل [١٩] (فَمَنْ

٣٠٨

شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصل إذا شاءوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك ، وقد تقدم في سورة المزمل.

وجملة (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معترضة في آخر الكلام لإفادة تعلمهم بهذه الحقيقة ، والواو اعتراضية.

والمعنى : أن تذكّر من شاءوا أن يتذكروا لا يقع إلّا مشروطا بمشيئة الله أن يتذكروا ، وقد تكرر هذا في القرآن تكررا ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [التكوير : ٢٩] وقال هنا (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري ، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة ، وهما عبارتان متقاربتان ، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر ، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.

وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية ، وبالخذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوبقته فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإعراض عن شرائع الله ودعوة رسله ، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوحال الضلال وبإنارة سبيل الخير لبصيرته سميت لطفا مثل تعلقها بإيمان عمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد ، وهذا تأويل قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥].

هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله ، والأدلة التي اقتضت المؤاخذة على الضلال ، وتأويلها الأكبر في قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٨ ، ٧٩] ولله في خلقه سرّ جعل بينهم وبين كنهه حجابا ، ورمز إليه بالوعد والوعيد ثوابا وعقابا.

٣٠٩

وقرأ نافع ويعقوب وما تذكرون بمثناة فوقية على الالتفات ، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة ، فالمعنى أنهم يغلب عليهم الاستمرار على عدم الذكرى بهذه التذكرة إلّا أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلابا في سجيّة من يشاء توفيقه واللطف به. وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومن آمنوا بعد نزولها.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ).

جملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) تقوية للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى.

فالمعنى : فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل للتقوى.

وتعريف جزأي الجملة في قوله : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) يفيد قصر مستحق اتقاء العباد إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يتّقى. ويتجنب غضبه كما قال : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) [الأحزاب : ٣٧].

فإما أن يكون القصر قصرا إضافيا للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصرا ادعائيا لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلّا فإن بعض التقوى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء : ١] وقد يقال : إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله ، وهذا من متممات القصر الادعائي.

وأهل الشيء : مستحقه.

وأصله : أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجه ومنه (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) [هود : ٨١].

ومعنى (أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) : أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسانه ومنه بيت «الكشاف» في سورة المؤمنين :

ألا يا ارحموني يا إله محمّد

فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل

وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] ، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣].

٣١٠

روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في هذه الآية : قال الله تعالى : «أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» قال الترمذي : حسن غريب ، وسهيل ليس بالقوي ، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت.

وأعيدت كلمة (أَهْلُ) في الجملة المعطوفة دون أن يقال : والمغفرة ، للإشارة إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [النساء : ٥٩].

٣١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧٥ ـ سورة القيامة

عنونت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ب «سورة القيامة» لوقوع القسم بيوم القيامة في أولها ولم يقسم به فيما نزل قبلها من السور.

وقال الآلوسي : يقال لها «سورة لا أقسم» ، ولم يذكرها صاحب «الإتقان» في عداد السور ذات أكثر من اسم.

وهي مكية بالاتفاق.

وعدّت الحادية والثلاثين في عداد نزول سور القرآن. نزلت بعد سورة القارعة وقبل سورة الهمزة.

وعدد آيها عند أهل العدد من معظم الأمصار تسعا وثلاثين آية ، وعدّها أهل الكوفة أربعين.

أغراضها

اشتملت على إثبات البعث.

والتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه.

وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا.

واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة.

والتذكير بالموت وأنه أول مراحل الآخرة.

والزجر عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.

٣١٢

وفي «تفسير ابن عطية» عن عمر بن الخطاب ولم يسنده : أنه قال «من سأل عن القيامة أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعها فليقرأ هذه السورة».

وأدمج فيها آيات (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) إلى (وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٦ ، ١٧] لأنها نزلت في أثناء نزول هذه السورة كما سيأتي.

[١ ـ ٤] (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤))

افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن.

وكون القسم بيوم القيامة براعة استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة.

وفيه أيضا كون المقسم به هو المقسم على أحواله تنبيها على زيادة مكانته عند المقسم كقول أبي تمام :

وثناياك إنّها اغريض

ولآل تؤم وبرق وميض

كما تقدم عند قوله تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) في سورة الزخرف [١ ـ ٣].

وصيغة (لا أُقْسِمُ) صيغة قسم ، أدخل حرف النفي على فعل (أُقْسِمُ) لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول : لا أقسم به ، أي ولا أقسم بأعزّ منه عندي ، وذلك كناية عن تأكيد القسم وتقدم عند قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) في سورة الواقعة [٧٥].

وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد.

والقسم (بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) باعتباره ظرفا لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة.

وتقدم الكلام على (يَوْمَ الْقِيامَةِ) غير مرة منها قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) في سورة البقرة [٨٥].

٣١٣

وجواب القسم يؤخذ من قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) لأنه دليل الجواب إذ التقدير : لنجمعن عظام الإنسان أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه.

وفي «الكشاف» «قالوا إنه (أي لا أقسم) في الإمام بغير ألف» وتبرأ منه بلفظ (قالوا) لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ لأقسم الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في «غيث النفع» ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد ، فتكون اللام لام قسم. والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك ، وعطف قوله : (وَلا أُقْسِمُ) تأكيدا للجملة المعطوف عليها ، وتعريف النفس تعريف الجنس ، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصف (اللَّوَّامَةِ) مبالغة لأنها تكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة ، ولومها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن «ما يرى المؤمن إلّا يلوم نفسه على ما فات ويندم ، يلوم نفسه على الشر لم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه» فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقسم بها وما كان يوم القيامة إلّا لكرامتها.

والمراد اللوامة في الدنيا لوما تنشأ عنه التوبة والتقوى وليس المراد لوم الآخرة إذ (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤].

ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم. وعن بعض المفسرين أن (لا أُقْسِمُ) مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تلوم على فعل الخير.

وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) إلخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب.

وتعريف (الْإِنْسانُ) تعريف الجنس ، ووقوعه في سياق الإنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم ، وهو عموم عرفي منظور فيه إلى غالب الناس يومئذ إذ كان المؤمنون قليلا. فالمعنى : أيحسب الإنسان الكافر.

وجملة (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) مركبة من حرف أن المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت (إنّ) المكسورة.

واسم أن ضمير شأن محذوف.

٣١٤

والجملة الواقعة بعد أن خبر عن ضمير الشأن ، فسيبويه يجعل أن مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي فعل الظن. والأخفش يجعل أن مع جزئيها في مقام المفعول الأول (أي لأنه مصدر) ويقدّر مفعولا ثانيا. وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول (أن) المفتوحة الهمزة بعدها فيستغني الفعل ب (أن) واسمها وخبرها عن مفعوليه.

وجيء بحرف لن الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها.

قال القرطبي : نزلت في عدي بن ربيعة (الصواب ابن أبي ربيعة) قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عدي : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك أو يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية ، ألا قلت : إن سبب النزول لا يخصص الإنسان بهذا السائل.

والعظام : كناية عن الجسد كله ، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقوالهم (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨] (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩] (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) [النازعات : ١١] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإعادة بعد البلى ، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى. فإثبات إعادة العظام اقتضى أن إعادة بقية الجسم مساو لإعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإيجاز.

ثم إن كانت إعادة الخلق بجمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذرات الله أعلم بها ، وهو أحد قولين لعلمائنا ، ففعل (نَجْمَعَ) محمول على حقيقته. وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على صور الأجسام الفانية سواء كان خلقا مستأنفا أو مبتدأ من أعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا. ففعل (نَجْمَعَ) مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلي. ومناسبة استعارته مشاكلة أقوال المشركين التي أريد إبطالها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث ، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلّا إجمالها ومن ثم اختلف علماء الإسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث. واختار إمام الحرمين التوقف ، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين.

و (بَلى) حرف إبطال للنفي الذي دل عليه (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع.

و (قادِرِينَ) حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد (بَلى) الذي يدل عليه قوله :

٣١٥

(أَلَّنْ نَجْمَعَ) ، أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نسوي بنانه.

ويجوز أن يكون (بَلى) إبطالا للنفيين : النفي الذي أفاده الاستفهام الإنكاري من قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) والنفي الذي في مفعول (يَحْسَبُ) ، وهو إبطال بزجر ، أي بل ليحسبنا قادرين ، لأن مفاد (أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون (قادِرِينَ) مفعولا ثانيا ليحسبنا المقدر ، وعدل في متعلق (قادِرِينَ) عن أن يقال : قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإعادة.

ولمراعاة هذه المعاني عدل عن رفع : قادرون ، بتقدير : نحن قادرون ، فلم يقرأ بالرفع.

والتسوية : تقويم الشيء وإتقان الخلق قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس: ٧] وقال في هذه السورة : (فَخَلَقَ فَسَوَّى) [القيامة : ٣٨]. وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوّمة متقنة ، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سوّي إلّا وقد أعيد خلقه قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى : ٢].

والبنان : أصابع اليدين والرجلين أو أطراف تلك الأصابع. وهو اسم جمع بنانة.

وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول : قلعت الريح أوتاد الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلّها فإنه قد يكنّى بأطراف الشيء عن جميعه.

ومنه قولهم : لك هذا الشيء بأسره ، أي مع الحبل الذي يشد به ، كناية عن جميع الشيء. وكذلك قولهم : هو لك برمته ، أي بحبله الذي يشد به.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥))

(بَلْ) إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم ، فموقع الجملة بعد (بَلْ) بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين ، أي لمّا دعوا إلى الإقلاع عن الإشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر.

والفجور : فعل السوء الشديد ويطلق على الكذب ، ومنه وصفت اليمين الكاذبة

٣١٦

بالفاجرة ، فيكون فجر بمعنى كذب وزنا ومعنى ، فيكون قاصرا ومتعديا مثل فعل كذب مخفف الذال. روي عن ابن عباس أنه قال : يعني الكافر يكذّب بما أمامه. وعن ابن قتيبة : أن أعرابيا سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبر راحلته فاتّهمه عمر فقال الأعرابي :

ما مسّها من نقب ولا دبر

أقسم بالله أبو حفص عمر

فاغفر له اللهم إن كان فجر

قال : يعني إن كان نسبني إلى الكذب.

وقوله : (يُرِيدُ الْإِنْسانُ) يجوز أن يكون إخبارا عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور.

ويجوز أن يكون استفهاما إنكاريا موافقا لسياق ما قبله من قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣].

وأعيد لفظ (الْإِنْسانُ) إظهارا في مقام الإضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب من ضلاله.

وكرر لفظ (الْإِنْسانُ) في هذه السورة خمس مرات لذلك ، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين الرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها.

واللام في قوله : (لِيَفْجُرَ) هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى : ١٥] (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء : ٢٦] وقول كثير :

أريد لأنسى حبّها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكل مكان

وينتصب الفعل بعدها ب (أن) مضمرة ، لأنه أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل : هي لام التعليل وقيل : زائدة. وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره ، أي إرادتهم للفجور. واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها ، ولهذا الاستعمال الخاص بها. قال النحاس سماها بعض القراء (لام أن). وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) في سورة النساء [٢٦].

٣١٧

وأمام : أصله اسم للمكان الذي هو قبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلف ، ويطلق مجازا على الزمان المستقبل ، قال ابن عباس : يكذب بيوم الحساب ، وقال عبد الرحمن ابن زيد : يكذب بما أمامه سفط.

وضمير (أَمامَهُ) يجوز أن يعود إلى الإنسان ، أي في مستقبله ، أي من عمره فيمضي قدما راكبا رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور. وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه.

ويجوز أن يكون (أَمامَهُ) أطلق على اليوم المستقبل مجازا وإلى هذا نحا ابن عباس في رواية عنه وعبد الرحمن بن زيد ، ويكون (لِيَفْجُرَ) بمعنى يكذب ، أي يكذب باليوم المستقبل.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦))

يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) [القيامة : ٥] بالتكذيب بيوم البعث.

ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالة وقوعه.

و (أَيَّانَ) اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها : أن آن كذا ، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضموم النون وإنما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفا فصارت (أَيَّانَ) بمعنى (متى). وتقدم عند قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) في الأعراف [١٨٧]. فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعدّ السنين ونحوها ، أو بما يتعين به عند السائلين من حدث يحل معه هذا اليوم. فهو طلب تعيين أمد لحلول يوم يقوم فيه الناس.

[٧ ـ ١٣] (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣))

عدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدّدوا بأهواله ، لأنهم لم يكونوا

٣١٨

جادّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن ينذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدي ما يترك فرصة للهدي والإرشاد إلّا انتهزها ، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاما بالجواب عن سؤالهم كأنه حمل لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «متى الساعة؟ فقال له : ما ذا أعددت لها».

فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئا من تعيين وقته بتعيين أشراطه.

والفاء لتفريع الجواب عن السؤال.

و (بَرِقَ) قرأه الجمهور بكسر الراء ، ومعناه : دهش وبهت ، يقال : برق يبرق فهو برق من باب فرح فهو من أحوال الإنسان.

وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلا له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره. كما أسند الأعشى البرق إلى الأعين في قوله :

كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان ، أي لمع البصر من شدة شخوصه ، ومضارعه يبرق بضم الراء. وإسناده إلى البصر حقيقة.

ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنبياء : ٩٧] ، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر ، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير.

والتعريف في (الْبَصَرُ) للجنس المراد به الاستغراق ، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يعرضون عليه من طرائق منازلهم.

وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيّرا ، وهو ما

٣١٩

دل عليه قوله : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، فهذا خسوف ليس هو خسوفه المعتاد عند ما تحول الأرض بين القمر وبين مسامتته الشمس.

ومعنى جمع الشمس والقمر : التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي.

و (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) ظرف متعلق ب (يَقُولُ الْإِنْسانُ) ، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) [القيامة: ٦].

وطوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم (أَيْنَ الْمَفَرُّ) فكأنه قيل : حلّ يوم القيامة وحضرت أهواله يقول الإنسان يومئذ ثم تأكّد بقوله (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).

و (يَوْمَئِذٍ) ظرف متعلق ب (يَقُولُ) أيضا ، أي يوم إذ يبرق البصر ويخسف القمر ويجمع الشمس والقمر ، فتنوين (إذ) تنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها (إذ).

وذكر (يَوْمَئِذٍ) مع أن قوله : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) إلخ مغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزءون فيسألون عن وقته ، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد.

و (الْإِنْسانُ) : هو المتحدّث عنه من قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) [القيامة : ٣] ، أي يقول الإنسان الكافر يومئذ : أي المفر.

و (الْمَفَرُّ) : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر ، والاستفهام مستعمل في التمني ، أي ليت لي فرارا في مكان نجاة ، ولكنه لا يستطيعه.

و (أَيْنَ) ظرف مكان.

و (كَلَّا) ردع وإبطال لما تضمنه (أَيْنَ الْمَفَرُّ) من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا.

والوزر : المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون.

فيجوز أن يكون (كَلَّا لا وَزَرَ) كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان ، أي لا وزر لك ، فينبغي الوقف على (الْمَفَرُّ). ويجوز أن يكون من تمام مقالة

٣٢٠