تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

[١١ ـ ١٦] (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦))

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا).

لما جرى ذكر الكافرين في قوله : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ) [المدثر: ٩ ، ١٠] ، وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكافرين بقوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر : ٧] انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إلخ. استئناف يؤذن بأن حدثا كان سببا لنزول هذه الآية عقب الآيات التي قبلها ، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أمر بالإنذار ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتمع نفر من قريش فيهم أبو لهب ، وأبو سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، والعاصي بن وائل ، والمطعم بن عدي. فقالوا : إن وفود العرب ستقدم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الأخبار عنه. فمن قائل يقول : مجنون وآخر يقول : كاهن ، وآخر يقول : شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسمّوا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به ، فقام رجل منهم فقال : شاعر ، فقال الوليد بن المغيرة : سمعت كلام ابن الأبرص (يعني عبيد بن الأبرص) وأميّة بن أبي الصلت ، وعرفت الشعر كله ، وما يشبه كلام محمد كلام شاعر ، فقالوا : كاهن ، فقال الوليد : ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. والكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ، فقام آخر فقال : مجنون ، فقال الوليد : لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يخنق فما هو يخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته ، فقالوا : ساحر ، قال الوليد : لقد رأينا السّحّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده ، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا عبد شمس أصبأت؟ فقال الوليد : فكّرت في أمر محمد وإن أقرب القول فيه أن تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر ، يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فقال ابن إسحاق : فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الآيات.

٢٨١

وعن أبي نصر القشيري أنه قال : قيل بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول كفار مكة : أنت ساحر فوجد من ذلك غمّا وحمّ فتدثر بثيابه فقال الله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢].

وأيّاما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعنيّ بقوله تعالى : (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) فإن كان قول الوليد صدر منه بعد نزول صدر هذه السورة فجملة (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) مستأنفة استئنافا ابتدائيا والمناسبة ظاهرة ، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة ، كان متصلا بقوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر : ٧] على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل ، وما بينهما اعتراض ، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوما على الأصح سواء نزل وحي بين يدء الوحي وفترته مدة أيام ، أو لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعت فترته ، فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فأخذ المشركون في الاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتصدير الجملة بفعل (ذَرْنِي) إيماء إلى أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مهتما ومغتما مما اختلقه الوليد بن المغيرة ، فاتصاله بقوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) يزداد وضوحا.

وتقدم ما في نحو (ذَرْنِي) وكذا ، من التهديد والوعيد للمذكور بعد واو المعية ، في تفسير قوله تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) في سورة القلم [٤٤].

وجيء بالموصول وصلته في قوله : (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) لإدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد.

وانتصب (وَحِيداً) على الحال من (مَنْ) الموصولة.

والوحيد : المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام ، أو شهرة أو قصة ، وهو فعيل من وحد من باب كرم وعلم ، إذا انفرد.

وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهي كثرة الولد وسعة المال ، ومجده ومجد أبيه من قبله ، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسنّ من أبي جهل وأبي سفيان ، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به. وجاء هذا الوصف بعد فعل (خَلَقْتُ) ، ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل (خَلَقْتُ) أي أوجدته وحيدا عن المال والبنين والبسطة ، فيغيّر عن غرض المدح

٢٨٢

والثناء الذي كانوا يخصونه به ، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حال كل مخلوق فتكون من قبيل قوله : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] الآية.

وعطف على ذلك (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً) عطف الخاص على العام.

والممدود : اسم مفعول من مدّ الذي بمعنى : أطال ، بأن شبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم ، أو من مدّ الذي بمعنى : زاد في الشيء من مثله ، كما يقال : مد الوادي النهر ، أي مالا مزيدا في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب. وكان الوليد من أوسع قريش ثراء. وعن ابن عباس : كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإبل والغنم والعبيد والجواري والجنان وكانت غلة ماله ألف دينار (أي في السنة).

وامتنّ الله عليه بنعمة البنين ووصفهم بشهود جمع شاهد ، أي حاضر ، أي لا يفارقونه فهو مستأنس بهم لا يشتغل باله بمغيبهم وخوف معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة ، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخرا له ، قيل : كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابنا ، والمذكور منهم سبعة ، وهم : الوليد بن الوليد ، وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاصي ، وقيس أو أبو قيس ، وعبد شمس (وبه يكنى). ولم يذكر ابن حزم في «جمهرة الأنساب» : العاصي. واقتصر على ستة.

والتمهيد : مصدر مهّد بتشديد الهاء الدال على قوة المهد. والمهد : تسوية الأرض وإزالة ما يقضّ جنب المضطجع عليها ، ومهد الصبي تسمية بالمصدر.

والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.

وأكد (مَهَّدْتُ) بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز.

ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة ، فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) [القلم : ١٠] إلخ بناء على قول من قال : إن المراد به الوليد بن المغيرة (وقد علمت أنه احتمال) لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يَطْمَعُ) للتراخي الرتبي ، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في

٢٨٣

الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يسر أموره. وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به في قوله : (كَلَّا).

والطمع : طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام ، أو لأنّه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أنها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجا بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة.

ولهذه النكتة عدل عن أن يقال : يطمع في الزيادة ، أو يطمع أن يزاد.

و (كَلَّا) ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النّعم وقطع لرجائه.

والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره فمن المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه‌السلام : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨].

وفي هذا الإبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] ، ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله : «من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها».

(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً).

يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلا للردع والإبطال ، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفرانا للنعمة فكانت سببا لقطعها عنه إذ قد تجاوز حدّ الكفر إلى المناواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعما عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافا للأشعري ، واختار المحقّقون أنه خلاف لفظي.

ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى : (كَلَّا).

والعنيد : الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فعيل من : عند يعند كضرب ، إذا نازع وجادل الحق البين.

وعناده : هو محاولته الطعن في القرآن وتحيله للتمويه بأنه سحر ، أو شعر ، أو كلام

٢٨٤

كهانة ، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش ، قبل أن يلومه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة ، وهو أن يقول : هو سحر ، تشبثا بأن فيه خصائص السحر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة.

[١٧ ـ ٢٥] (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥))

جملة (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) معترضة بين (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) [المدثر : ١٦] وبين (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مساءة له وتعجيل المسرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وجملة (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) مبيّنة لجملة (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) فهي تكملة وتبيين لها.

والإرهاق : الإتعاب وتحميل ما لا يطاق ، وفعله رهق كفرح ، قال تعالى : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) في سورة الكهف [٧٣].

والصّعود : العقبة الشديدة التّصعد الشاقة على الماشي وهي فعول مبالغة من صعد ، فإن العقبة صعدة ، فإذا كانت عقبة أشد تصعدا من العقبات المعتادة قيل لها : صعود.

وكأنّ أصل هذا الوصف أن العقبة وصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسم جنس لها.

وقوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) [المدثر : ١٤] ، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة ، وكل ذلك إرهاق له.

قيل : إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.

وقد وزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذكر عناده وهو من مقاصده السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقّب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء. ولما ذكر طعنه في القرآن بقوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) وأنكر أنه وحي من الله بقوله : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أردف بذكر عذاب الآخرة بقوله : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ٢٦].

٢٨٥

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن صعودا جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» ، رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي : هو حديث غريب. فجعل الله صفة صعود علما على ذلك الجبل في جهنم. وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً).

وجملة (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) إلى آخرها بدل من جملة (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) [المدثر : ١٦] بدل اشتمال.

وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.

ومعنى (فَكَّرَ) أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذرا يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

و (قَدَّرَ) جعل قدرا لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما ينحله القرآن من أنواع كلام البشر أو ما يسم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس المخالفة أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه ، نقول : محمد مجنون ، ثم يقول : المجنون يخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك ، ثم يقول في نفسه : هو شاعر ، فيقول في نفسه : لقد عرفت الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر ، ثم يقول في نفسه : كاهن ، فيقول في نفسه : ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه ، ثم يقول في نفسه : نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، فقال للناس : نقول إنه ساحر. فهذا معنى (قَدَّرَ).

وقوله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) كلام معترض بين (فَكَّرَ) و (قَدَّرَ) وبين (ثُمَّ نَظَرَ) وهو إنشاء شتم مفرع على الإخبار عنه بأنه فكر وقدّر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه.

فالفاء لتفريع ذمه عن سيّئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) [النحل : ٤٣ ، ٤٤].

والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه. والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها. ومن زعموا أن الاعتراض لا يكون

٢٨٦

بالفاء فقد توهموا.

و (قُتِلَ) : دعاء عليه بأن يقتله قاتل ، أي دعاء عليه بتعجيل موته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاء له كقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) [التوبة : ٣٠] وقولهم : عدمتك ، وثكلته أمّه ، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال : قاتله الله ما أشجعه. وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغا يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت. وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال. والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قدره ليس مما يغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال : ما هو بعقد السحرة ولا نفثهم وبعد أن فكّر قال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) فناقض نفسه.

وقوله : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تأكيد لنظيره المفرّع بالفاء. والعطف ب (ثُمَ) يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها في الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبأ : ٤ ، ٥].

و (كَيْفَ قَدَّرَ) في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي بينها متعلّق (كَيْفَ).

والاستفهام موجه إلى سامع غير معيّن يستفهم المتكلم سامعه استفهاما عن حالة تقديره ، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإنكار على وجه المجاز المرسل.

و (كَيْفَ) في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها (قَدَّرَ).

وقوله : (ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) عطف على (وَقَدَّرَ) وهي ارتقاء متوال فيما اقتضى التعجيب من حاله والإنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمن لأن نظره وعبوسه وبسره وإدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.

والنظر هنا : نظر العين ليكون زائدا على ما أفاده (فَكَّرَ وَقَدَّرَ). والمعنى : نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آراءهم في انتحال ما يصفون به القرآن.

و (عَبَسَ) : قطّب وجهه لمّا استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمزا مقبولا.

٢٨٧

و (بَسَرَ) : معناه كلح وجهه وتغيّر لونه خوفا وكمدا حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول ، قال تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) في سورة [القيامة : ٢٤ ، ٢٥].

والإدبار : هنا يجوز أن يكون مستعارا لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدّره يأسا من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى.

ويجوز أن يكون مستعارا لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) حكاية عن فرعون في سورة النازعات [٢٢].

وصفت أشكاله التي تشكّل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن ، وذلك تهكم بالوليد.

وصيغة الحصر في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر ، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال : ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون ، كما تقدم في خبره.

ووصف هذا السحر بأنه مأثور ، أي مروي عن الأقدمين ، يقول هذا ليدفع به اعتراضا يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.

وجملة (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) بدل اشتمال من جملة (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) بأن السحر يكون أقوالا وأفعالا فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم ، لأن مقصوده من ذلك كله أنّ القرآن ليس وحيا من الله.

وعطف قوله : (فَقالَ) بالفاء لأنّ هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقا بأن يعطف بحرف التعقيب.

[٢٦ ـ ٣٠] (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

جملة (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ)

٢٨٨

[المدثر : ١٨] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.

ويجوز أن تكون بدلا من جملة سأرهق صعورا (١). والإصلاء : جعل الشيء صاليا ، أي مباشرا حرّ النار. وفعل صلي يطلق على إحساس حرارة النار ، فيكون لأجل التدفّي كقول الحارث بن حلزة :

فتنورت نارها من بعيد

بخزازى أيّان منك الصلاء

أي أنت بعيد من التدفي بها وكما قال حميد بن ثور :

لا تصطلي النار إلّا مجمرا أرجا

قد كسّرت من يلنجوج له وقصا

ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) في سورة أبي لهب [٣] وقال : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) في سورة الليل [١٤ ، ١٥] ، وقال : (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) في سورة النساء [١٠] ، والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإحراق كقوله تعالى : (فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) في سورة النساء [٣٠]. ومنه قوله هنا (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ).

وسقر : علم لطبقة من جهنم ، عن ابن عباس : أنه الطبق السّادس من جهنم. قال ابن عطية : سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي ا ه. واقتصر عليه ابن عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسّرون سقر بما يرادف جهنم.

وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى : (لا تُبْقِي) إلى قوله : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ). وقيل سقر معرّب نقله في «الإتقان» عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعرّبة ولا من أية لغة هو.

و (ما أَدْراكَ ما سَقَرُ) جملة حالية من (سَقَرَ) ، أي سقر التي حالها لا ينبئك به منبئ وهذا تهويل لحالها.

و (ما سَقَرُ) في محل مبتدإ وأصله سقر ما ، أي ما هي ، فقدّم (ما) لأنه اسم استفهام وله الصدارة.

فإن (ما) الأولى استفهامية. والمعنى : أيّ شيء يدريك ، أي يعلمك.

__________________

(١) في المطبوعة : سَأُصْلِيهِ سَقَرَ والمثبت من «الكشاف» (٤ / ١٨٣) ط. دار الفكر.

٢٨٩

و (ما) الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن (سَقَرُ).

وجملة (لا تُبْقِي) بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) ، فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر.

وحذف مفعول (تُبْقِي) لقصد العموم ، أي لا تبقي منهم أحدا أو لا تبقي من أجزائهم شيئا.

وجملة (وَلا تَذَرُ) عطف على (لا تُبْقِي) فهي في معنى الحال ، ومعنى (لا تَذَرُ) ، أي لا تترك من يلقى فيها ، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦].

و (لَوَّاحَةٌ) : خبر ثالث عن (سَقَرُ). و (لَوَّاحَةٌ) فعّالة ، من اللّوح وهو تغيير الذات من ألم ونحوه ، وقال الشاعر ، وهو من شواهد «الكشاف» ولم أقف على قائله :

تقول ما لاحك يا مسافر

يا ابنة عمي لا حني الهواجر

والبشر : يكون جمع بشرة ، وهي جلد الإنسان ، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سودا ، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.

وقوله : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) خبر رابع عن (سَقَرُ) من قوله : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ).

ومعنى (عَلَيْها) على حراستها ، ف (على) للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال : فلان على الشرطة ، أو على بيت المال ، أي يلي ذلك والمعنى : أن خزنة سقر تسعة عشر ملكا.

وقال جمع : إن عدد تسعة عشر : هم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.

وقيل : تسعة عشر صنفا من الملائكة وقيل تسعة عشر صفّا. وفي «تفسير الفخر»: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها : أحدها قول أهل الحكمة : إن سبب فساد النفس هو القوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة ، والشهوة والغضب ، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنامية ، والمولّدة ، فهذه سبعة ، فتلك تسع عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك ا ه.

والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزّعون على دركات سقر أو جهنم لكل درك

٢٩٠

ملك فلعل هذه الدركات معيّن كل درك منها لأهل شعبة من شعب الكفر ، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) في سورة النساء [١٤٥] فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله ، ومنها الوثنية ، ومنها الشرك بتعدد الإله ، ومنها عبادة الكواكب ، ومنها عبادة الشيطان والجن ، ومنها عبادة الحيوان ، ومنها إنكار رسالة الرسل ، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة ، وعبادة البشر مثل الملوك ، والإباحية ولو مع إثبات الإله الواحد.

وفي ذكر هذا العدد تحدّ لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [المدثر : ٣١].

وقرأ الجمهور (تِسْعَةَ عَشَرَ) بفتح العين من (عَشَرَ). وقرأ أبو جعفر تسعة عشر بسكون العين من (عَشَرَ) تخفيفا لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد ، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١))

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد : «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدّهم (١) أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) ، أي ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا ، فمن ذا يغلب الملائكة ا ه.

وفي «تفسير القرطبي» عن السدي : أن أبا الأشدّ بن كلدة الجمحي قال مستهزئا : لا

__________________

(١) الدّهم بفتح الدال وسكون الهاء : الجماعة الكثيرة ، ويقال : الدهماء.

٢٩١

يهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة ، وقيل : قال الحارث بن كلدة : أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه.

فالمراد من (أَصْحابَ النَّارِ) خزنتها ، وهم المتقدم ذكرهم بقوله : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠].

والاستثناء من عموم الأنواع ، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلّا من نوع الملائكة.

وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره ما توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلا فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشدّ بن أسيد الجمحي : لا يبلغون ثوبي حتى أجهضهم عن جهنم ، أي أنحّيهم.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار ، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر وهلّا كانوا آلافا ليكون مرآهم أشد هولا على أهل النار ، أو هلّا كانوا ملكا واحدا فإن قوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له ، فكان جواب هذا السؤال : أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فهم الكفار للقرآن. وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة. فقوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) تقديره : وما جعلنا ذكر عدتهم إلّا فتنة ، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب ، وازدياد الذين آمنوا إيمانا ، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين. فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله.

والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل (جَعَلْنا) تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير ، ولما كانت الفتنة حالا من أحوال الذين كفروا لم تكن مرادا منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالا لهم.

والتقدير : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلّا لغرض فتنة الذين كفروا ؛ فانتصب (فِتْنَةً) على أنه مفعول ثان لفعل (جَعَلْنا) على الاستثناء المفرغ ، وهو قصر قلب للردّ على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هيّن.

وقوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلخ. علة ثانية لفعل (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا

٢٩٢

فِتْنَةً). ولو لا أن كلمة (فِتْنَةً) منصوبة على المفعول به لفعل (جَعَلْنا). لكان حق (لِيَسْتَيْقِنَ) أن يعطف على (فِتْنَةً) ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقا بفعل : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً).

ويجوز أن يكون (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) متعلقا بفعل (جَعَلْنا) وب (فِتْنَةً) ، على وجه التنازع فيه ، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلّا فتنة لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلّا فساد التأويل ، وتلك العدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد.

والاستيقان : قوة اليقين ، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى : ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقا لما في كتبهم.

والمراد ب (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود حين يبلغهم ما في القرآن من مثل ما في كتبهم أو أخبارهم. وكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضا عما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويودّ المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن.

والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلا بريئا من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سلام وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذي قال الله فيهم (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم.

روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار؟ ، قالوا : لا ندري حتى نسأل نبيئنا. فجاء رجل إلى النبي فقال : يا محمد غلب أصحابكم اليوم ، قال : وبم غلبوا قال : سألهم يهود : هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار ، قال : فما قالوا؟ قال : قالوا لا ندري حتى نسأل نبيئنا ، قال : أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون؟ فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبيئنا إلى أن قال جابر : فلما جاءوا قالوا : يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال. هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع (بإشارة الأصابع) قالوا : نعم إلخ. وليس في هذا ما يلجئ إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين

٢٩٣

المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة.

قال أبو بكر ابن العربي في «العارضة» : حديث جابر صحيح والآية التي فيها (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] مكية بإجماع ، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة ، فيحتمل أن الصحابة قالوا : لا نعلم ، لأنهم لم يكونوا قرءوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم (أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة وكان الذين يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار. قال : ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم أن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعيّنهم الله حتى صرح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ا ه. فقد ظهر مصداق قوله تعالى : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بعد سنين من وقت نزوله.

ومعنى (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أنهم يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جزئيّ في جزئيات حقيقة إيمانهم بالغيب ، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة ، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.

وقوله : (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتورهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين ، فالمؤمنون علموا وعملوا ، والذين أوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم.

والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح ، لأنه إذا قيل (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا ، ولذلك عطف عليه (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ، أي ليقولوا هذا القول إعرابا عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب.

واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨].

٢٩٤

والمرض في القلوب : هو سوء النية في القرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة ، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلّا في المدينة بعد الهجرة والآية مكية.

و (ما ذا أَرادَ اللهُ) استفهام إنكاري فإن (ما) استفهامية ، و (ذا) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد (ما) أو (من) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي ، فيكون تقديره : ما الأمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل ، والمعنى : لم يرد الله هذا العدد الممثل به ، وقد كنّي بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك ، والمعنى : لم يرد الله العدد الممثل به فكنّوا بنفي إرادة الله وصف هذا العدد عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقا للواقع لأنهم ينفون فائدته ، وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله.

والإشارة بهذا إلى قوله : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠].

و (مَثَلاً) منصوب على الحال من هذا ، والمثل : الوصف ، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر ، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين.

والمثل : وصف الحالة العجيبة ، أي ما وصفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [محمد : ١٥] الآية.

وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦].

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

اسم الإشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله : (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (مَثَلاً) بتأويل ما تضمنه الكلام ، بالمذكور ، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين ، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يضل الله من يشاء أن يضله من عباده ، ومثل ذلك الهدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيمانا مع إيمانهم يهدي الله من يشاء.

والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر ، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال ، تعليما

٢٩٥

للمسلمين وتنبيها للنّظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم.

ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضلال من يضل ، في أن كلّا من المشبّه والمشبه به جعله الله سببا وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوت الناس في مدى إفهامهم فيه بين مهتد ومرتاب مختلف المرتبة في ريبه ، ومكابر كافر وسيّئ فهم كافر.

وهذه كلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله ، أو من تردد واضطراب إلى مثله ، أو من حنق وعناد إلى مثله ، فانطوى التشبيه من قوله : (كَذلِكَ) على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج.

وإسناد الإضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجد الأسباب الأصلية في الجبلات ، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض ، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير ، ومقاومة أئمة الضلال لتلك الدعوات. تلك الأسباب التي أدت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم. وكلّ من خلق الله. فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلّا التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦].

ومشيئة الله ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالّين.

ومحل (كَذلِكَ) نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلّت عليه الصفة ، والتقدير : يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهديا كذلك الإضلال والهدي. وليس هذا من قبيل قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه ، وحصل من تقديمه محسّن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع

٢٩٦

الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو : ما هذا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره ، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل.

والجنود : جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد.

وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إضافة تشريف ، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام ، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ).

فيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) على أن يكون جاريا على طريقة الأسلوب الحكيم ، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عونا على زيادة استحضار الموصوف ، فغرض القرآن الذكرى ، وقد اتخذه الضالّون ومرضى القلوب لهوا وسخرية ومراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولم يكونوا عشرين أو مئات أو آلافا.

وضمير (هِيَ) على هذا الوجه إلى (عِدَّتَهُمْ).

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصّة أو الصفة أو الآيات القرآنية.

والمعنى : نظير المعنى على الاحتمال الأول.

ويحتمل أن يرجع إلى (سَقَرَ) [المدثر : ٢٦] وإنما تكون (ذِكْرى) باعتبار الوعيد بها وذكر أهوالها.

والقصر متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره : وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك.

ويحتمل أن يرجع ضمير (هِيَ) إلى (جُنُودَ رَبِّكَ) والمعنى المعنى ، والتقدير التقدير ، أي وما ذكرها أو عدة بعضها.

٢٩٧

وجوّز الزجاج أن يكون الضمير راجعا إلى نار الدنيا ، أي أنها تذكر للناس بنار الآخرة ، يريد أنه من قبيل قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) [الواقعة : ٧١ ـ ٧٣]. وفيه محسن الاستخدام.

وقيل : المعنى : وما عدتهم إلّا ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار.

وإنما حملت الآية هذه المعاني بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن. ولو وقعت إثر قوله : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) [المدثر : ٢٩] لتمحض ضمير (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى) للعود إلى سقر ، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشر المتقدم في قوله : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) التّجنيس التام.

[٣٢ ـ ٣٧] (كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

(كَلَّا).

(كَلَّا) حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أو من متكلم وسامع مثل قوله تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦١ ، ٦٢] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى : (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) في سورة مريم [٧٩] ، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده ، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالا لما قبله من قولهم : فإذا أراد الله بهذا مثلا ، فيكون ما بينهما اعتراضا ويكون قوله (وَالْقَمَرِ) ابتداء كلام فيحسن الوقف على (كَلَّا). ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدما على الكلام الذي بعده من قوله : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ) تقديم اهتمام لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) ، أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله : (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣] فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها.

أدبر (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ

٢٩٨

شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧)).

الواو المفتتح بها هذه الجملة واو القسم ، وهذا القسم يجوز أن يكون تذييلا لما قبله مؤكّدا لما أفادته (كَلَّا) من الإنكار والإبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار ، فتكون جملة (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) تعليلا للإنكار الذي أفادته (كَلَّا) ويكون ضمير (إِنَّها) عائدا إلى (سَقَرَ) [المدثر : ٢٦] ، أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقا بالإنكار عليه وردعه.

وجملة القسم على هذا الوجه معترضة بين الجملة وتعليلها ، ويحتمل أن يكون القسم صدرا للكلام الذي بعده وجملة (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) جواب القسم والضمير راجع إلى (سَقَرَ) ، أي أن سقر لأعظم الأهوال ، فلا تجزي في معاد ضمير (إِنَّها) جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى) [المدثر : ٣١].

وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالبا ، أقسم بمخلوق عظيم ، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى.

ومناسبة القسم ب (الْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام فناسبت حالي الهدى والضلال من قوله : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [المدثر : ٣١] ومن قوله : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) [المدثر : ٣١] ففي هذا القسم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة.

وإدبار الليل : اقتراب تقضيه عند الفجر ، وإسفار الصبح : ابتداء ظهور ضوء الفجر. وكل من (إِذْ) و (إِذا) واقعان اسمي زمان منتصبان على الحال من الليل ومن الصبح ، أي أقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإسلام قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١].

وقد أجريت جملة (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) مجرى المثل.

ومعنى إحدى أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظيرة لها كما يقال : هو أحد الرجال لا يراد : أنه واحد منهم ، بل يراد : أنه متوحد فيهم بارز ظاهر ، كما تقدم في قوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] ، وفي المثل «هذه إحدى حظيّات لقمان».

٢٩٩

وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف (إِذْ أَدْبَرَ) بسكون ذال (إِذْ) وبفتح همزة (أَدْبَرَ) وإسكان داله ، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تمضي وتحضر وتستقبل ، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يقسم بكونها فيه ، ولذلك أقسم بالصبح إذا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائيّ وأبو جعفر إذا دبر بفتح الذال المعجمة من إذا بعدها ألف ، وبفتح الدّال المهملة من دبر على أنه فعل مضي مجرد ، يقال : دبر ، بمعنى : أدبر ، ومنه وصفه بالدّابر في قولهم : أمس الدّابر ، كما يقال : قبل بمعنى أقبل ، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية ، على وزان (إِذا أَسْفَرَ) في قراءة الجميع ، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم.

و (الْكُبَرِ) : جمع الكبرى في نوعها ، جمعوه هذا الجمع على غير قياس بابه لأن فعلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات ، وأما بنية فعل فإنها جمع تكسير لفعلة كغرفة وغرف ، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكبر ، أي أنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في أخواته مثل عظمى.

وانتصب (نَذِيراً) على الحال من ضمير (إِنَّها) ، أي إنها لعظمى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيرا.

والنذير : المنذر ، وأصله وصف بالمصدر لأن (نَذِيراً) جاء في المصادر كما جاء النكير ، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإفراد والتذكير ، وقد كثر الوصف ب (النذير) حتى صار بمنزلة الاسم للمنذر.

وقوله : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) بدل مفصل من مجمل من قوله (لِلْبَشَرِ) ، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) [الأعراف : ٧٥] ، وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير : ٢٧ ، ٢٨] وقوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) [المائدة : ١١٤]. والمعنى : إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإيمان والخير لينتذر بها ، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدّم مشي إلى جهة الإمام فكأنّ المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو

٣٠٠