تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا ينسلون إلى المسجد ليصلّوا بصلاة نبيئهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم : «لقد خشيت أن تفرض عليكم» وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة.

وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن فرضا عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلا لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قدر أن بعض قيام الليل كان مفروضا لكان قيامهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أداء لذلك المفروض ، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحفصة وقد قصّت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم في الليل».

وافتتاح الكلام ب (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدر المعين فيه النصف أو أنقص منه قليلا أو زائد عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] أنه قضى أقصى الأجلين وهو العشر السنون.

وقد جاء في الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه».

وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للاهتمام به ، وهو كناية عن أنه أرضى ربّه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد.

ولم تزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك ، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيام مقامه بمكة ، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قيام الليل الواجب منه والرغيبة.

وفي حديث علي بن أبي طالب «أنه سئل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أوى إلى منزله فقال : كان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءا لله ، وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم».

٢٦١

وإيثار المضارع في قوله : (يَعْلَمُ) للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده وذلك إيذان بأنه بمحل الرضى منه.

وفي ضده قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) [الأحزاب : ١٨] لأنه في معرض التوبيخ ، أي لم يزل عالما بذلك حينا فحينا لا يخفى عليه منه حصة.

و (أَدْنى) أصله أقرب ، من الدنوّ ، استعير للأقلّ لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة ، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر.

وهو منصوب على الظرفيّة لفعل (تَقُومُ) ، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى : (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ٤].

وقرأ الجمهور : (ثُلُثَيِ) بضم اللام على الأصل. وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بخفضهما عطفا على (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) ، أي أدنى من نصفه وأدنى من ثلثه.

وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) على أنهما منصوبان على المفعول ل (تَقُومُ) ، أي تقوم ثلثي الليل ، وتقوم نصف الليل ، وتقوم ثلث الليل ، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث. وهذه أحوال مختلفة في قيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ٢] إلى قوله: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ٤].

وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة ، وهي جملة (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها. فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات. فمن العجاب قول الفرّاء أن النصب أشبه بالصواب.

و (طائِفَةٌ) عطف على اسم (إِنَ) بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعد ذكر خبر (إِنَ) لأنه يقدر رفعه حينئذ على الاستئناف كما في قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣]. وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفا فإن بين قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتا في الحكم والمقدار ، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله. فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن

٢٦٢

ويعاملهم ، وأما الله فغاضب عليهم ولا عنهم. وهذا وجه العدول عن أن يقول : إنّ الله يعلم أنكم تقومون. إلى قوله : (أَنَّكَ تَقُومُ) ثم قوله : (وَطائِفَةٌ) إلخ.

ووصف (طائِفَةٌ) بأنهم (من الذين معه) ، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية ، أي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام. أي المصاحبين لك في قيام الليل ، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم ، ففي حديث عائشة في «صحيح البخاري» «أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلّا أني خشيت أن تفرض عليكم ، وذلك في رمضان».

وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عددنا منهم : عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء ، وزينب بنت جحش ، وعبد الله بن عمر ، والحولاء بنت تويت الأسدية ، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقا في أحاديث التهجد من «صحيح البخاري».

واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك.

فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنهم فيما فعلوا.

والمقصود : التمهيد لقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) إلى آخر الآية.

ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل (عَلِمَ) في جملة (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) إلخ ولم يقل : وأن سيكون منكم مرضى بالعطف.

وجملة (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) معترضة بين جملتي (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) وجملة (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفا.

وجملة (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) يجوز أن تكون خبرا ثانيا عن (إِنَ) بعد الخبر في قوله : (يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلخ.

ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا لما ينشأ عن جملة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) من

٢٦٣

ترقب السامع لمعرفة ما مهّد له بتلك الجملة ، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه.

والضمير المنصوب في (تُحْصُوهُ) عائد إلى القيام المستفاد من (أَنَّكَ تَقُومُ).

والإحصاء حقيقته : معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدّوا شيئا كثيرا جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإطاقة. شبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل ، بالأشياء المعدودة ، وبهذا فسر الحسن وسفيان ، ومنه قوله في الحديث «استقيموا ولن تحصوا» أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة ، أي فخذوا منها بقدر الطاقة.

و (إِنَ) مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة ، وقد وقع الفصل بين (إِنَ) وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلا غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح.

و (إِنَ) وجملتها سادة مسد مفعولي (عَلِمَ) إذ تقديره علم عدم إحصائكموه واقعا.

وفرع على ذلك (فَتابَ عَلَيْكُمْ) وفعل تاب مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه ، بفعل تاب المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله.

والوجه أن يكون الخطاب في قوله : (تُحْصُوهُ) وما بعده موجها إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل : إما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، وإما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يظن تعذر الإحصاء عليه ، وبقرينة قوله : (أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) إلخ.

ومعنى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) فصلّوا ما تيسر لكم ، ولما كانت الصلاة لا تخلو عن قراءة القرآن أتبع ذلك بقوله هنا : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أي صلوا كقوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإيجاز.

والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنيّة وهو شيء كثير من القرآن المكيّ كله وشيء من المدني ، وليس مثل قوله في صدر السورة (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤] كما علمت هنالك.

٢٦٤

وقوله : (ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزئ من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع ، ولئن سلمنا ، فإن ما تيسر مجمل وقد بينه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يرو عنه أنه قرأ في الصلاة أقلّ من سورة ، وهو الواجب عند جمهور الفقهاء ، فيكره أن يقرأ المصلي بعض سورة في الفريضة. ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان ، وعند الضرورة ، ففي «الصحيح» «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ فأخذته بحّة فركع» ، أي في أثناء السّورة.

وقال أبو حنيفة وأحمد في رواية عنه : تجزئ قراءة آية من القرآن ولو كانت قصيرة ومثّله الحنفية بقوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين.

وتعيين من تجب عليه القراءة من منفرد وإمام ومأموم مبين في كتب الفقه.

وفعل (تاب) إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف (على) لتضمينه معنى منّ وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والندم منه عدي بما يناسب.

وقد نسخت هذه الآية تحديد مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل من ثلثه ، وأصحاب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط ، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه.

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً).

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، وهذا تخفيف آخر لأجل أحوال أخرى اقتضت التخفيف.

وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإسلامية. وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار :

الضرب الأول : أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله : (أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى).

الضرب الثاني : الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش من تجارة وصناعة وحراثة

٢٦٥

وغير ذلك ، وقد أشار إليها قوله : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) وفضل الله هو الرزق.

الضرب الثالث : أعمال لمصالح الأمة وأشار إليها قوله : (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ودخل في ذلك حراسة الثغور والرباط بها ، وتدبير الجيوش ، وما يرجع إلى نشر دعوة الإسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء. وهذا كله من شئون الأمة على الإجمال فيدخل في بعضها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في القتال في سبيل الله ، والمرض ففي الحديث : اشتكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين.

وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدءوا فيه من السرايا والغزوات.

وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلّا تنويها بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض ، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر.

روي عن ابن مسعود أنه قال «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسبا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وعن ابن عمر : «ما خلق الله موتة بعد الموت في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض».

فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم.

ومعنى (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) يسيرون في الأرض.

وحقيقة الضرب : قرع جسم بجسم آخر ، وسمّي السير في الأرض ضربا في الأرض لتضمين فعل (يَضْرِبُونَ) معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف (فِي) لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى : (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [آل عمران : ١٣٧] وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي

٢٦٦

الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) في سورة النساء [١٠١].

والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] أي التجارة في مدة الحج ، فقوله تعالى : (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثيرا ويكون في النهار فيحتاج المسافر للنوم في النهار.

وفرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن.

وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار.

وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين ، أو بيان لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسّي بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك غير لازم لهم. وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجبا عليهم أو رفع وجوبه. ولو لا اعتبار المظنة العامة لأبقي حكم القيام ورخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي بالمظنة والحكم هنا عدمي ، أي عدم الإيجاب فهو نظير قصر الصلاة في السفر على قول عائشة أم المؤمنين : «إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر» ، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر.

وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركنا من أركان الإسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه.

وأما حكم القيام فهو ما دلّ عليه قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ٢] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة. وقد مضى ذلك كله. فهذه الآية صالحة لأن تكون أصلا للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلا تقاس عليه الرخص العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) [النساء : ١٠٣].

وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن في الصلوات الخمس ما

٢٦٧

يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة.

وعطف (وَآتُوا الزَّكاةَ) تتميم لأن الغالب أنه لم يخل ذكر الصلاة من قرن الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي‌الله‌عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها ، فقال لعمررضي‌الله‌عنه «لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة».

وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة ، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حال معطي الصدقة مستجيبا رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضا في أنه حقيق بأن يرجع إليه ما أقرضه ، وذلك في الثواب الذي يعطاه يوم الجزاء.

ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المنّ والأذى ، والحسن متفاوت.

والحسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه ، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك.

وقد تقدم في سورة البقرة [٢٤٥] قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) وفي سورة التغابن [١٧] (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ).

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً).

تذييل لما سبق من الأمر في قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) ، فإن قوله : (مِنْ خَيْرٍ) يعم جميع فعل الخير.

وفي الكلام إيجاز حذف. تقدير المحذوف : وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله ، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير.

و (ما) شرطية. ومعنى تقديم الخير : فعله في الحياة ، شبّه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثقله وأدواته وبعض أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت وصوله.

و (مِنْ خَيْرٍ) بيان لإبهام (ما) الشرطية.

٢٦٨

والخير : هو ما وصفه الدين بالحسن ووعد على فعله بالثواب.

ومعنى (تَجِدُوهُ) تجدوا جزاءه وثوابه ، وهو الذي قصده فاعله ، فكأنه وجد نفس الذي قدّمه ، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائه باسم المعوض عنه والمجازى به ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الذي يكنز المال ولا يؤدي حقه «مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول : أنا مالك أنا كنزك».

وضمير الغائب في (تَجِدُوهُ) هو المفعول الأول ل (تجدوا) ومفعوله الثاني (خَيْراً).

والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل ، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافا للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأنّ أفعل من كذا ، أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه.

و (خَيْراً) : اسم تفضيل ، أي خيرا مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير ، بل المراد مضاعفة الجزاء ، لما دل عليه قوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) [التغابن : ١٧] وغير ذلك من كثير من الآيات.

وأفاد ضمير الفصل هنا مجرد التأكيد لتحقيقه.

وعطف (وَأَعْظَمَ أَجْراً) على (خَيْراً) أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل (١).

وانتصب (أَجْراً) على أنه تمييز نسبة ل (أَعْظَمَ) لأنه في معنى الفعل. فالتقدير: وأعظم أجره ، كما تقول : وجدته منبسطا كفا ، والمعنى : أن أجره خير وأعظم ممّا قدمتموه.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفا على جملة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) إلخ ، فيكون لها حكم التذييل إرشادا لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعضها توبة منه.

__________________

(١) ضمير الفصل هنا وقع بين معرفة وهو الضمير المفعول الأول لفعل «تجدوه» ، وبين ما هو بمنزلة المعرفة وهو اسم التفضيل لشبهه بالمعرفة في امتناع دخول حرف التعريف عليه كما ذكره في «المفصل» «والكشاف».

٢٦٩

ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشادا من الله لما يسدّ مسدّ قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربّه إذا انتبه من أجزاء الليل ، وهو مشمول لقوله تعالى : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات : ١٨] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربّنا كل ليلة (١) إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له». وقال : «من تعارّ (٢) من الليل فقال : لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له».

وجملة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تعليل للأمر بالاستغفار ، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة. والمقصود من هذا التعليل الترغيب والتحريض على الاستغفار بأنه مرجوّ الإجابة. وفي الإتيان بالوصفين الدّالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإجابة.

__________________

(١) هذا من المتشابه ، وتأويله : أنه ينزل رضاه على عباده.

(٢) التعارر : التقلب على الفراش ليلا بعد نوم حين ينتبه النائم فيبدل جنبا عوض جنب.

٢٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧٤ ـ سورة المدثر

تسمى في كتب التفسير «سورة المدثر» وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.

وأريد المدثّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موصوفا بالحالة التي نودي بها ، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.

وإمّا تسمية باللفظ الذي وقع فيها ، ونظيره ما تقدم في تسمية «سورة المزمل» ، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها.

وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في «الإتقان» في السور التي بعضها مدني. وذكر الآلوسي أن صاحب «التحرير» (محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة ٦٩٨ له تفسير) ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) [المدثر : ٣١] إلخ نزل بالمدينة ا ه. ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.

قيل : إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلّا سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق: ١] وهو الذي جاء في حديث عائشة في «الصحيحين» في صفة بدء الوحي «أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى (ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ـ ٥] ثم قالت : ثم فتر الوحي». فلم تذكر نزول وحي بعد آيات (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ).

وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض. وحاصل ما يجتمع من طرقه : قال جابر بن عبد الله وهو

٢٧١

يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت : دثّروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته «وصبّوا عليّ ماء باردا فدثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا». قال النووي : صب الماء لتسكين الفزع. فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) إلى (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) [المدثر : ١ ـ ٥] ثم حمي الوحي وتتابع ا ه.

ووقع في «صحيح مسلم» عن جابر : أنها أول القرآن ، سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة.

وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد : أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر أربعة.

وقال جابر بن زيد : نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة. ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.

وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي» من طريق ابن شهاب أن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.

والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسا أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم : فرضت ، أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل : كانت سنتين ونصفا ، وقيل : أربعين يوما ، وقيل : خمسة عشر يوما ، والأصح أنها كانت أربعين يوما. فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته.

وعدّ أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمسا وخمسين وعدّها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين.

٢٧٢

أغراضها

جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.

وإعلان وحدانية الله بالإلهية.

والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي.

ونبذ الأصنام.

والإكثار من الصدقات.

والأمر بالصبر.

وإنذار المشركين بهول البعث.

وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق.

ووصف أهوال جهنم.

والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها.

وتحدّي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها.

وتأييسهم من التخلص من العذاب.

وتمثيل ضلالهم في الدّنيا.

ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء.

[١ ـ ٢] (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢))

نودي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصفه في حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة. وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال : دثروني دثروني ، أو قال : زملوني ، أو قال : زملوني فدثروني ، على اختلاف الروايات ، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

وقد مضى عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١] ما في هذا النداء من

٢٧٣

التكرمة والتلطف.

و (الْمُدَّثِّرُ) : اسم فاعل من تدثّر ، إذا لبس الدّثار ، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادّعى.

والدّثار : بكسر الدال : الثوب الذي يلبس فوق الثوب الذي يلبس مباشرا للجسد الذي يسمى شعارا. وفي الحديث «الأنصار شعار والناس دثار».

فالوصف ب (الْمُدَّثِّرُ) حقيقة ، وقيل هو مجاز على معنى : المدثر بالنبوءة ، كما يقال : ارتدى بالمجد وتأزّر به على نحو ما قيل في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوءة ودثارها.

والقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإقبال والتهمّم بالإنذار مجازا أو كناية.

وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساويا للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم ، وعدّ ابن مالك في «التسهيل» فعل قام من أفعال الشروع ، فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية ، قال في «الكشاف» : قم قيام عزم وتصميم.

وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مرّة بن محكان التميمي من شعراء الحماسة :

يا ربّة البيت قومي غير صاغرة

ضمّي إليك رجال الحي والغربا

فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملة حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر :

على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد

وقول الشاعر ، وهو من شواهد النحو ولم يعرف قائله :

فقام يذود الناس عنها بسيفه

وقال ألا لا من سبيل إلى هند

وأفادت فاء (فَأَنْذِرْ) تعقيب إفادة التحفز والشروع بالأمر بإيقاع الإنذار.

٢٧٤

ففعل (قُمْ) منزّل منزلة اللازم ، وتفريع (فَأَنْذِرْ) عليه يبين المراد من الأمر بالقيام.

والمعنى : يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي لا تخف وأقبل على الإنذار.

والظاهر : أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة ، وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) [المزمل : ١٥] ، وقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [المزمل : ١١]. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، ولأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير.

ومفعول أنذر محذوف لإفادة العموم ، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذ جميع الناس ما عدا خديجة رضي‌الله‌عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣))

انتصب (رَبَّكَ) على المفعولية لفعل (كبّر) قدم على عامله لإفادة الاختصاص ، أي لا تكبر غيره ، وهو قصر إفراد ، أي دون الأصنام.

والواو عطفت جملة (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) على جملة (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢].

ودخلت الفاء على (كبّر) إيذانا بشرط محذوف يكون (كبّر) جوابه ، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهيّئ لتقدير الشرط بتقديم المفعول. لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ففيهما فجاهد» (يعني الأبوين).

فالتقدير : مهما يكن شيء فكبّر ربّك.

والمعنى : أن لا يفتر عن الإعلان بتعظيم الله وتوحيده في كل زمان وكل حال وهذا من الإيجاز. وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال : هو كقولك زيدا فاضرب ، تريد : زيدا اضرب.

وتكبير الرب تعظيمه ففعل (كبّر) يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فعّل ، أي أخبر عنه بخبر التعظيم ، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظّم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله.

٢٧٥

فمعنى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) : صف ربّك بصفات التعظيم ، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد ، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها.

ومعنى (كبّر) : كبره في اعتقادك : وكبره بقولك تسبيحا وتعليما. ويشمل هذا المعنى أن يقول : «الله أكبر» لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير ، أي أجلّ وأنزه من كل جليل ، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحا للصلاة.

وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) [المدثر : ٤] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة ، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة. ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال : وذلك قبل أن تفرض الصلاة. فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤))

هو في النظم مثل نظم (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣] أي لا تترك تطهير ثيابك.

وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس ، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها ، كقول عنترة :

فشككت بالرمح الأصم ثيابه

كناية عن طعنه بالرمح.

وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣].

والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا فتحصل أربعة معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضا وأقواها ما رواه الترمذي «إن الله نظيف يحب النظافة». وقال : هو غريب.

والطهارة لجسده بالأولى.

٢٧٦

ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) لأنه لما أمر بالصلاة أمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.

وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلّا في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.

والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه. وفي كلام العرب : فلان نقي الثياب. وقال غيلان بن سلمة الثقفي :

وإنّي بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع

وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس :

ثياب عوف طهارى نقية

وأوجههم بيض المسافر غرّان

ودخول الفاء على فعل (فَطَهِّرْ) كما تقدم عند قوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر : ٣].

وتقديم (ثِيابَكَ) على فعل (طهّر) للاهتمام به في الأمر بالتطهير.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥))

(الرُّجْزَ) : يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة. وقال أبو العالية والربيع والكسائي : الرّجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية ، وبالضم الوثن. ويحمل الرجز هنا على ما يشمل الأوثان وغيرها من أكل الميتة والدم.

وتقديم (الرُّجْزَ) على فعل (اهجر) للاهتمام في مهيع الأمر بتركه.

والقول في (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) كالقول في (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).

والهجر : ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء. والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس.

والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦))

مناسبة عطف (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) على الأمر بهجر الرجز أن المنّ في العطية كثير من خلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي

٢٧٧

الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال : وتصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن ، أي لا تعدّ ما أعطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه ، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.

والسين والتاء في قوله : (تَسْتَكْثِرُ) للعدّ ، أي بعد ما أعطيته كثيرا.

وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة ، أي لأنها من خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي «إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم». ففي هذه الآية إيماء إلى التصدق ، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة ، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة.

والمنّ : تذكير المنعم المنعم عليه بإنعامه.

والاستكثار : عدّ الشيء كثيرا ، أي لا تستعظم ما تعطيه.

وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة. وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعنى (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ليس شيء منها بمناسب ، وقد أنهاها القرطبي إلى أحد عشر.

و (تَسْتَكْثِرُ) جملة في موضع الحال من ضمير (تَمْنُنْ) وهي حال مقدرة.

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧))

تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاقّ الدعوة.

والصبر : ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها.

ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمّل للشيء الشاقّ.

ويعدّى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف (على) ، يقال : صبر على الأذى. ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدى إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام. ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين ، فلا يقال : اصبر على الله ، ويقال : اصبر على حكم الله ، أو لحكم الله. فيجوز أن تكون اللام في قوله (لِرَبِّكَ) لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف ، أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) في

٢٧٨

سورة الطور [٤٨] وقوله : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) في سورة الإنسان [٢٤] فيناسب نداءه ب (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية الملك ، وترك ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب.

ويجوز أن تكون اللام للتعليل ، وحذف متعلق فعل الصبر ، أي اصبر لأجل ربّك على كل ما يشق عليك.

وتقديم (لِرَبِّكَ) على «(اصبر) للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة ، وجعل بعضهم اللام في (لِرَبِّكَ) لام التعليل ، أي اصبر على أذاهم لأجله ، فيكون في معنى : إنه يصبر توكلا على أن الله يتولى جزاءهم ، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أذى المشركين.

والصبر تقدم عند قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) في [البقرة : ٤٥].

وفي التعبير عن الله بوصف (ربّك) إيماء إلى أن هذا الصبر برّ بالمولى وطاعة له.

فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مبدإ رسالته وهي من جوامع القرآن أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.

[٨ ـ ١٠] (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإنذار في قوله (فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] ، أي فأنذر المنذرين وأنذرهم وقت النقر في الناقور وما يقع يومئذ بالذين أنذروا فأعرضوا عن التذكرة ، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها.

ويجوز أن يكون معطوفا على (فَاصْبِرْ) [المدثر : ٧] بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين.

و (النَّاقُورِ) : البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصّور وهو قرن كبير ، أو شبهه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه ، قال خفّاف بن ندبة :

إذا ناقورهم يوما تبدّى

أجاب الناس من غرب وشرق

ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقر وهو صوت اللسان مثل الصفير

٢٧٩

فقوله نقر ، أي صوّت ، أي صوّت مصوّت. وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة.

و (إذا) اسم زمان أضيف إلى جملة (نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) لأنه في قوة فعل ، أي عسر الأمر على الكافرين.

وفاء (فَذلِكَ) لجزاء (إذا) لأن (إذا) يتضمن معنى شرط.

والإشارة إلى مدلول (إذا نقر) ، أي فلذلك الوقت يوم عسير.

و (يَوْمَئِذٍ) بدل من اسم الإشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعروف ب «أل» في نحو (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢].

ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه ، فهو وصف مجازي عقلي. وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث.

و (عَلَى الْكافِرِينَ) متعلق ب (عَسِيرٌ).

ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثه مشهور في كلامهم ، قال السموأل ، أو الحارثي :

وأيّامنا مشهورة في عدوّنا

لها غرر معلومة وحجول

وإنما الغرر والحجول مستعارة لصفات لقائهم العدوّ في أيامهم ، وفي المقامة الثلاثين «لا عقد هذا العقد المبجّل ، في هذا اليوم الأغر المحجل ، إلّا الذي جال وجاب ، وشب في الكدية وشاب» وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) في سورة فصلت [١٦].

و (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد لمعنى (عَسِيرٌ) بمرادفه. وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال : عاجلا غير آجل ، قال طالب بن أبي طالب :

فليكن المغلوب غير الغالب

وليكن المسلوب غير السّالب

وعليه من غير التأكيد قوله تعالى : (قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام : ١٤٠] (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [الأنعام : ٥٦]. وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد ما يشعر به لفظ (غَيْرُ) من المغايرة فيكون تعريضا بأن له حالة أخرى ، وهي اليسر ، أي على المؤمنين ، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم ، وبشارة المؤمنين.

٢٨٠