تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] الحديث ، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥].

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى ، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة ، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة.

وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شئون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، أي زيادة قرب لك. وقد تقدم في سورة [الإسراء : ٧٩]. فكان هذا حكما خاصا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرّهم على ذلك فكانوا يرونه لزاما عليهم ، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) [السجدة : ١٦] ، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [المزمل : ٢٠] الآية ، قالت عائشة : «إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه» ، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين. وتقرر أنه مندوب فيه. واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه.

وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من (اللَّيْلَ) أي إلّا قليلا منه ، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها.

و (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلاً) بدلا مطابقا وهو تبيين لإجمال (قَلِيلاً) فجعل القليل هنا النصف أو أقلّ منه بقليل.

وفائدة هذا الإجمال الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل وأن جعله نصف الليل رحمة ورخصة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويدل لذلك تعقيبه بقوله : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أي انقص من النصف قليلا ، فيكون زمن قيام الليل أقلّ من نصفه ، وهو حينئذ قليل فهو رخصة في الرخصة.

٢٤١

وقال (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقيد (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) بمثل ما قيد به (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) لتكون الزيادة على النصف متسعة ، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك : «إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر» فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا».

والتخيير المستفاد من حرف (أَوِ) منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن لذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم.

وبعد فذلك توسيع على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب.

وجعل ابن عطية (اللَّيْلَ) اسم جنس يصدق على جميع الليالي ، وأن المعنى : إلّا قليلا من الليالي ، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها ، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزئياتها لا باعتبار الأجزاء ، ثم قال : (نِصْفَهُ) إلى آخره.

وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقت النوم عادة فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله : ولأن الليل وقت سكون الأصوات واشتغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً).

يجوز أن يكون متعلقا بقيام الليل ، أي رتل قراءتك في القيام.

ويجوز أن يكون أمرا مستقلا بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل ، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاث سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السورة مكي ، وفي أن هذه السورة من أوائل السور ، وهذا مما أشعر به قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] أي سنوحي إليك قرآنا.

فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.

والترتيل : جعل الشيء مرتّلا ، أي مفرقا ، وأصله من قولهم : ثغر مرتّل ، وهو المفلج

٢٤٢

الأسنان ، أي المفرق بين أسنانه تفرقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته ، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع. ووصفت عائشة الترتيل فقالت : «لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها لا كسردكم هذا».

وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلق بحوافظهم ، ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كيلا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود : قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله : «هذّا كهذّ الشعر» لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر ميزان بحرها ، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذّ إسراع القطع.

وأكد هذا الأمر بالمفعول المطلق لإفادة تحقيق صفة الترتيل. وقرأ الجمهور (أَوِ انْقُصْ) بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل ، حركوا الواو بضمّة لمناسبة ضمة قاف (انْقُصْ) بعدها. وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.

ووقع في قوله تعالى : (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ) إذا (شبعت) فتحة نون القرآن محسّن الاتّزان بأن يكون مصراعا من بحر الكامل أحذّ دخله الإضمار مرتين.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥))

تعليل للأمر بقيام الليل وقع اعتراضا بين جملة (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] وجملة (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) [المزمل : ٦] ، وهو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحمل شدة الوحي ، وفي هذا إيماء إلى أن الله يسّر عليه ذلك كما قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ٢] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنزول القرآن فلما قال له : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ٤] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.

والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه : إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملك.

وحقيقة الإلقاء : رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه ، ويقال : شيء لقى ، أي مطروح ، استعير الإلقاء للإبلاغ دفعة على غير ترقب.

٢٤٣

والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة ، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيرا على الرسول الأمّي تنوء الطاقة عن تلقّيه.

وأشعر قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله قبله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ) وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد له جلده» (أي تغير بمثل القشعريرة) وقالت عائشة : «رأته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا».

ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. قال الفراء : «ثقيلا ليس بالكلام السفساف». وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.

وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأكيد قربه واستمراره ، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجئ.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦))

تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] ، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطأ وأقوم قيلا.

والمعنى : أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرّك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.

و (ناشِئَةَ) وصف من النشء وهو الحدوث. وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف ، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى (في) مثل «مكر الليل» ، وجعل من أقوم القيل ، فعلم أن فيه قولا وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن ، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة ، أي الصلاة الناشئة في الليل ، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام.

ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعد هدأة الليل فأشبهت

٢٤٤

السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو ، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشء فيها أقوى ، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم ، وفسر ابن عباس (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) بصلاة الليل كلها. واختاره مالك. وعن علي بن الحسين : أنها ما بين المغرب والعشاء. وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير : أن أصل هذا معرب عن الحبشة ، وقد عدها السبكي في «منظومته» في معربات القرآن.

وإيثار لفظ (ناشِئَةَ) في هذه الآية دون غيره من نحو : قيام أو تهجد ، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد.

وقرأ جمهور العشرة (وَطْئاً) بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة ، والوطء : أصله وضع الرجل على الأرض ، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأنا للظلام بالليل ، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله ، أي واطئا أنت ، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكّن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى : أشد وقعا ، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء.

ويجوز أن يكون الوطء مستعارا لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي ، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيرا وثوابا ، وبهذا فسره قتادة.

وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر واطأ من مادة الفعال. والوطاء : الوفاق والملاءمة ، قال تعالى : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧]. والمعنى : أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب ، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد.

وضمير (هِيَ) ضمير فصل ، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) [المزمل : ٢٠] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل. وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر.

والأقوم : الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاج والالتواء واستعير (أَقْوَمُ) للأفضل الأنفع.

و (قِيلاً) : القول ، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)

٢٤٥

[المزمل : ٥]. فالمعنى : أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات ، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس : (وَأَقْوَمُ قِيلاً) : أدنى من أن يفقهوا القرآن. وقال قتادة : أحفظ للقراءة ، وقال ابن زيد : أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.

وانتصب (وَطْئاً) و (قِيلاً) نسبة تمييزي ل (أَشَدُّ) ول (أَقْوَمُ).

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧))

فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها ، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذ على المشهور ، ولم يفرض حينئذ إلّا قيام الليل.

فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) [المزمل : ٦] وذلك دائر : بين أن يكون تعليلا لاختيار الليل لفرض القيام عليه فيه ، فيفيد تأكيدا للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غناءه فيتحصل من المعنى : قم الليل لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا ، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين ، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل ، وبين أن يكون تلطفا واعتذارا عن تكليفه بقيام الليل ، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإيقاع ما عسى أن يكلفه فيام الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.

ويجوز أن يكون تعليلا لما تضمنه (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) [المزمل : ٣] ، أي إن نقصت من نصف الليل شيئا لا يفتك ثواب عمله ، فإن لك في النهار متسعا للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦٢].

وقد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠].

وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصودا لأنه مما تسمح به دلالة كلمة (سَبْحاً طَوِيلاً) وهي من بليغ الإيجاز.

٢٤٦

والسبح : أصله العوم ، أي السلوك بالجسم في ماء كثير ، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياء السير في الأرض.

وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل بالسابحات في قوله في مدح فرسه :

مسحّ إذا ما السابحات على الونى

أثرن الغبار في الكديد المركّل

فعبر عن الجاريات بالسابحات.

وفسر ابن عباس السبح بالفراغ ، أي لينام في النهار ، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال : فراغا طويلا لحوائجك فافرغ لدينك بالليل.

والطويل : وصف من الطول ، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقادير أكثر أمثاله. فالطول من صفات الذوات ، وشاع وصف الزمان به يقال : ليل طويل وفي الحديث «الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه».

وأما وصف السّبح ب (طويل) في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعد هذا ففي قوله (طَوِيلاً) ترشيح لاستعارة السّبح للعمل في النهار.

[٨ ـ ٩] (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

عطف على (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه ، أي اذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الإنسان : ٢٥].

وإقحام كلمة (اسْمَ) لأن المأمور به ذكر اللسان وهو جامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) [الأعراف : ٢٠٥].

والتبتل : شدة البتل ، وهو مصدر تبتّل القاصر الذي هو مطاوع بتّله ف (تَبَتَّلْ) وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتّى كأنه فعله غيره به

٢٤٧

فطاوعه ، والتبتل : الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي ، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله ، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب «إلى» الدالة على الانتهاء ، قال امرؤ القيس :

منارة ممسى راهب متبتّل

والتبتيل : مصدر بتّل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التّقطيع.

وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى أن حصول التبتل ، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطع. ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطعه نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين (تَبَتَّلْ) و (تَبْتِيلاً) مشير إلى إراضة النفس على ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله.

والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجّة المشركين ولذلك قيل (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشئونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطّيب ، وتزوج النساء ، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه ، وقد قال : «حبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب».

وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.

وفي حديث سعد في «الصحيح» «ردّ رسول الله على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا» يعني ردّ عليه استشارته في الإعراض عن النساء.

ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك ، وهو معنى الحنيفيّة ، ولذلك عقب قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

وخلاصة المعنى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق ، وإذ قد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنّث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم [٥١] (وقد نزلت قبل المزمل) (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ

٢٤٨

كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في هذه السور الأول منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ووصف الله بأنه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها ، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده ؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب ، فيكون لاستيعاب جهات الأرض ، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.

ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب ، أي مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما ، كما يقال : سبحوا لله كلّ مشرق شمس ، وكما يقال : صلاة المغرب.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع (رَبُ) على أنه خبر لمبتدإ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديث عنه. ثم أريد الإخبار عنه بخبر جامع لصفاته ، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض رب على البدل من (رَبِّكَ).

وعقّب وصف الله ب (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، بالإخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلّا هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولذلك فرع عليه قوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) ، وإذ كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلّا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره ، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا.

والوكيل : الذي يوكل إليه الأمور ، أي يفوض إلى تصرفه ، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك ، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلّا عليه ، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠].

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠))

عطف على قوله : (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] ، والمناسبة أن الصبر على الأذى

٢٤٩

يستعان عليه بالتوكل على الله.

وضمير (يَقُولُونَ) عائد إلى المشركين ، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة ، ومن ذلك عند قوله تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) [الجن : ١٦] الآيات من سورة (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) [الجن : ١] ، ولأنه سيأتي عقبه قوله (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [المزمل : ١١] فيبين المراد من الضمير.

وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ففي سورة العلق [٩ ، ١٠] (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى). قيل هو أبو جهل تهدّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلنّ ويفعلنّ. وفيها : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧]. قيل هو الأخنس بن شريق «تنكّر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن كان حليفه» ، وفي سورة القلم [٢ ـ ١٥] (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) إلى قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، وقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله : (قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [القلم : ١٥] ردّا لمقالاتهم. وفي سورة المدثر [١١ ـ ٢٥] إن كانت نزلت قبل سورة المزمل (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إلى قوله : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة. فلذلك أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يقولون.

والهجر الجميل : هو الحسن في نوعه ، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه وقد يقال : كريم ، وذميم ، وخالص ، وكدر ، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تعتلق بها كان نوعها خالصا ، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدّرا قبيحا ، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، وتقدم عند قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩] ، ومن هذا المعنى قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) في سورة يوسف [١٨] ، وقوله (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) في سورة المعارج [٥].

فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر ، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى ، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور ، أو كراهية أعماله كان معرّضا لأن يعتلق به أذى من سبّ أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا ، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبّا أو انتقاما.

٢٥٠

وهذا الهجر : هو إمساك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).

وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم ، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١))

القول فيه كالقول في (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) في سورة القلم [٤٤] ، أي دعني وإياهم ، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.

وانتصب (الْمُكَذِّبِينَ) على المفعول معه ، والواو واو المعية.

والمكذبون هم من عناهم بضمير (يَقُولُونَ) و (اهْجُرْهُمْ) [المزمل : ١٠] ، وهم المكذبون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل مكة ، فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.

ووصفهم ب (أُولِي النَّعْمَةِ) توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم ، وتهديدا لهم بأن الذي قال (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) سيزيل عنهم ذلك التنعم.

وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم ، لأنهم كانوا يعدّون سعة العيش ووفرة المال كمالا ، وكانوا يعيّرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) الآيات [المطففين : ٢٩ ، ٣٠] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) [محمد : ١٢].

و (النَّعْمَةِ) : هنا بفتح النون باتفاق القراء. وهي اسم للترفه ، وجمعها أنعم بفتح الهمزة وضم العين.

وأما النّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية ، وأمن ورزق ،

٢٥١

ونحو ذلك من الرغائب. وجمعها : نعم بكسر النون وفتح العين ، وتجمع جمع سلامة على نعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب. وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسرة اتباع.

والنّعمة بضم النون اسم للمسرّة فيجوز أن تجمع على نعم على أنه اسم جمع ، ويجوز أن تجمع على نعم بضم ففتح مثل : غرفة وغرف ، وهو مطرد في الوزن.

وجعلهم ذوي النّعمة المفتوحة النون للإشارة إلى أن قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة ، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق ، والاستظلال بالبيوت والجنات ، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر ، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤] وتعريف (النَّعْمَةِ) للعهد.

والتمهيل : الإمهال الشديد ، والإمهال : التأجيل وتأخير العقوبة ، وهو مترتب في المعنى على قوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) ، أي وانتظر أن ننتصر لك كقوله تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف : ٣٥].

و (قَلِيلاً) وصف لمصدر محذوف ، أي تمهيلا قليلا. وانتصب على المفعول المطلق.

[١٢ ـ ١٤] (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤))

وهذا تعليل لجملة (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [المزمل : ١١] ، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردّك عليهم ، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها ، وهم الذين بدّلوا نعمة الله كفرا ، فأعد الله لهم ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النّعمة التي خوّلوها ، فبطروا بها وقابلوا المنعم بالكفران.

فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود. والجحيم : وهو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد. والطعام : ذو الغصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد. والأنكال : جمع

٢٥٢

نكل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف. وهو القيد الثقيل.

والغصّة بضم الغين : اسم الأثر الغصّ في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة.

وإضافة الطعام إلى الغصة إضافة مجازية وهي من الإضافة لأدنى ملابسة ، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبشاعة أو يبوسة.

والعذاب الأليم : مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر ، فإن الألم ضد اللذة. وقد عرّف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.

وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النّعمة (بالفتح).

وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها ، و (لدى) يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة. والتقدير : لدى خزائننا ، أي خزائن العذاب ، ويجوز أن يكون مجازا في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله.

ويتعلق (يَوْمَ تَرْجُفُ) بالاستقرار الذي يتضمنه خبر (إِنَّ) في قوله (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً).

والرجف : الزلزلة والاضطراب ، والمراد : الرجف المتكرر المستمر ، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.

والكثيب : الرمل المجتمع كالربوة ، أي تصير حجارة الجبال دقاقا.

ومهيل : اسم فعول من هال الشيء هيلا ، إذا نثره وصبّه ، وأصله مهيول ، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو ، لأنها زائدة ويدلّ عليها الضمة.

وجيء بفعل (كانَتِ) في قوله : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) ، للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي. ووجه مخالفته لأسلوب (تَرْجُفُ) أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد ، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف ، إلّا أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.

[١٥ ـ ١٦] (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)

٢٥٣

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦))

نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) إلى قوله : (وَعَذاباً أَلِيماً) [المزمل : ١١ ـ ١٣].

فالكلام استئناف ابتدائي ، ولا يعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله.

فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين : مذهب الجمهور ومذهب السكاكي.

والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين.

وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.

واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه‌السلام ، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول هو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله ، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطيع مثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧] وقد قال أهل مكة (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١]. وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا.

وأكد الخبر ب (إنّ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا.

ونكر (رَسُولاً) لأنهم يعلمون المعنيّ به في هذا الكلام ، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل هو صفة الإرسال.

وأدمج في التنظير والتهديد وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكونه شاهدا عليهم.

٢٥٤

والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف (شاهِداً) موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال ، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإبلاغ.

وأما شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربّهم ، وذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح ، وقد تقدم في سورة البقرة [١٤٣].

وتنكير (رَسُولاً) المرسل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإرسال في قوله : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ) إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا.

وتفريع (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحلّ بالمخاطبين لمّا عصوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما حلّ بفرعون.

وفي إظهار اسم فرعون في قوله : (فَعَصى فِرْعَوْنُ) دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.

ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أوّل مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري ، أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى.

والأخذ مستعمل في الإهلاك مجازا لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده.

والوبيل : فعيل صفة مشبهة من وبل المكان ، إذا وخم هواؤه أو مرعى كلئه ، وقال زهير :

إلى كلإ مستوبل متوخّم

وهو هنا مستعار لسيّئ العاقبة شديد السوء ، وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.

[١٧ ـ ١٨] (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ

٢٥٥

كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨))

الاستفهام ب (كيف) مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلّا المؤاخذة بما شهد به ، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هدّدوا به ، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فما ذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة ، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.

فالمعنى : هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة ، ففعل الشرط من قوله : (إِنْ كَفَرْتُمْ) مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدّوام من فعل (كَفَرْتُمْ) وإلّا فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.

و (يَوْماً) منصوب على المفعول به ل (تَتَّقُونَ). واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر.

ووصف اليوم بأنه (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان ، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب ، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو :

إذن والله نرميهم بحرب

تشيب الطفل من قبل المشيب

فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله ، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت. وقال العيني : لم أجده في ديوانه. وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله :

دعاني من نجد فإن سنينه

لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا

وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) إلى اليوم مجاز عقلي

٢٥٦

بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال ، والأهوال سبب للشيب عرفا.

والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله : (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً).

وجملة (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) صفة ثانية.

والباء بمعنى (في) وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هو لا ورعبا مما كني عنه بجملة (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً). أي السماء على عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.

والانفطار : التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) في سورة المعارج [٤].

وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعبا وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا له أثر في زيادة نكالهم.

ويجوز أن تجعل جملة (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) مستأنفة معترضة بين جملة (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) إلخ ، وجملة (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائدا إلى الكفر المأخوذ من فعل (كَفَرْتُمْ).

ويجوز أن يكون الإخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ ، أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٨٨ ـ ٩٠].

ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع. قال الفراء : السماء تذكّر على التأويل بالسقف لأن أصل تسميتها سماء على التشبيه بالسقف ، أي والسقف مذكر والسماء مؤنث. وتبعه الجوهري وابن برّي.

وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر :

فلو رفع السماء إليه قوما

لحقنا بالسماء مع السحاب

وأنشد ابن برّي أيضا في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر :

وقالت سماء البيت فوقك مخلق

ولمّا تيسّر اجتلاء الركائب

٢٥٧

ولا ندري مقدار صحة هاذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر. وقيل : إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياسا على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها ، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه.

ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث ، إلى التذكير إيثارا لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحرفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث ، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنّبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] إذ ليس في الفعل إلّا حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل ، فجاءت بعدها تاء التأنيث.

وجملة (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) صفة أخرى ل (يَوْماً) ، وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم.

وضمير (وَعْدُهُ) عائد إلى (يَوْماً) الموصوف ، وإضافة (وعد) إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع ، أي الوعد به ، أي بوقوعه.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمنا استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته ، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلا.

والإشارة ب (هذِهِ) إلى الآيات المتقدمة من قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) [المزمل : ١٥].

وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجهين به ابتداء هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير ، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠].

٢٥٨

والتذكرة : اسم لمصدر الذكر بضم الذال ، الذي هو خطور الشيء في البال ، فالتذكرة : الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب ، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.

وفرع على هذا التحريض التعريضيّ تحريض صريح بقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربّه سبيلا فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تبق للمتغافل معذرة.

والإتيان بموصول (فَمَنْ شاءَ) من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصل إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلّا مشيئته ، لأن قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) قرينة على ذلك. ومن هذا القبيل قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩]. فليس ذلك إباحة للإيمان والكفر ولكنه تحريض على الإيمان ، وما بعده تحذير من الكفر ، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط. ولذلك قال ابن عطية : ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد.

وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلا ما من السبيل قال : وهو حسن ، فيبقى ظاهر الآية على حاله من التّخيير ا ه.

وقد علمت ممّا قرّرناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير. وفي قوله : (إِلى رَبِّهِ) تمثيل لحال طالب الفوز والهدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أري السبيل الذي يبلّغه إلى مقصده فلم يبق له ما يعوقه عن سلوكه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

٢٥٩

من هنا يبتدئ ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة.

وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملا بالأمر الذي في أول السورة من قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) الآية [المزمل : ٢] ، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعا لقوله فيها : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة.

واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها. والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة.

ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة. ومثله ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة.

ولا ينبغي أن يطال القول في أنّ القيام الذي شرع في صدر السورة كان قياما واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به وأقرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسخ وجوب قيام الليل ، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضا على المسلمين ، وهو تأويل ، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على الأمة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجرى ذكر تعويضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج ، وأن وجوب الخمس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل وجوبها على المسلمين. وهذا قول ابن عباس لأنه قال : إن قيام الليل لم ينسخه إلّا آية : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) الآية ، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلة بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه :«نام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله» ثم وصف وضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح. وابن عباس يومئذ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة.

ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلّا حين احتجز موضعا من المسجد لقيامه

٢٦٠