تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

وأن مخففة من الثقيلة ، وجيء بأن المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل (أُوحِيَ) [الجن : ١] فهو في تأويل المصدر ، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره (لَوِ اسْتَقامُوا) إلى آخر الجملة. وسبك الكلام : أوحي إليّ إسقاء الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.

وضمير (اسْتَقامُوا) يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجردا عن ما صدقه كقولك : عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم آخر.

ويجوز أن يكون عائدا إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن ، فضمير (اسْتَقامُوا) عائد إلى المشركين ، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن ، وكذلك أسماء الإشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه ، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.

والاستقامة على الطريقة : استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببينات الطريق.

و (الطَّرِيقَةِ) : الطريق : ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفا في قوله (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) [الجن : ١١].

والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيرا مستقيما على طريقة ، ولذلك فالتعريف في (الطَّرِيقَةِ) للجنس لا للعهد.

وقوله : (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) : وعد بجزاء على الاستقامة في الدّين جزاء حسنا في الدنيا يكون عنوانا على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].

وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كسني يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوحة من العيش وفي نخيل وجنات

٢٢١

فكان جعل ترتّب الإسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف (لَوِ) مشيرا إلى أن المراد : لأدمنا عليهم الإسقاء بالماء الغدق ، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإفتان في قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلا لما تضمنه معنى إدامة الإسقاء فإنه تعليل للإسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلا للإسقاء المفروض في جواب (لَوِ) لأن جواب (لَوِ) منتف فلا يصلح لأن يعلل به ، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ظرف مستقر في موضع الحال من (ماءً غَدَقاً) وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة.

وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.

والغدق : بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.

وجملة (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) إدماج فهي معترضة بين جملة (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) إلخ وبين جملة (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) إلخ.

ثم أكدت الكناية عن الإنذار المأخوذة من قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ) الآية ، بصريح الإنذار بقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) ، أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.

والسّلك : حقيقته الإدخال ، وفعله قاصر ومتعد ، يقال : سلكه فسلك ، قال الأعشى :

كما سلك السّكيّ في الباب فيتق

أي أدخل المسمار في الباب نجّار.

وتقدم عند قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الحجر [١٢].

واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى : نعذبه عذابا لا مصرف عنه.

وانتصب (عَذاباً) على نزع الخافض وهو حرف الظرفية ، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.

٢٢٢

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) دون أن يقول : عن ذكرنا ، أو عن ذكري ، لاقتضاء الحال الإيماء إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذابا صعدا.

والصّعد : الشاق الغالب ، وكأنه جاء من مصدر صعد ، كفرح إذا علا وارتفع ، أي صعد على مفعوله وغلبه ، كما يقال : علاه بمعنى تمكن منه ، (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) [الدخان : ١٩].

وقرأ الجمهور نسلكه بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف (يَسْلُكْهُ) بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨))

اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) فهي معطوفة على مرفوع (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] ، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بأن يقوله. والمعنى : قل أوحي إلي أن المساجد لله ، فالمصدر المنسبك مع (أَنَ) واسمها وخبرها نائب فاعل (أُوحِيَ) [الجن : ١].

والتقدير : أوحي إلي اختصاص المساجد بالله ، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها ، وهي معالم التوحيد.

وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في «الحجة».

وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل (أَنَ) ، فالمجرور مقدم على متعلّقه للاهتمام. والتقدير : ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.

واللام في قوله (لِلَّهِ) للاستحقاق ، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله.

والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام والأنصاب وجعلوا الصنم (هبل) على سطح الكعبة ، قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها) [البقرة : ١١٤] يعني بذلك المشركين من قريش.

٢٢٣

وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) [الأنفال : ٣٤] ، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] بلفظ (مَساجِدَ) ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيّروا المساجد ، أو لتعظيم المسجد الحرام ، كما جمع (رُسُلِي) في قوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [سبأ : ٤٥] ، على تقدير أن يكون ضمير (فَكَذَّبُوا) عائدا إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سبأ : ٤٣] أي كذبوا رسولي.

ومنه قوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] يريد نوحا ، وهو أول رسول فهو المقصود بالجمع.

وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحدا ، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية لزعمهم ذلك.

[١٩ ـ ٢٠] (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))

قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.

ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجا عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.

فكسر الهمزة على عطف الجملة على جملة (أُوحِيَ إِلَيَ) [الجن : ١] ، والتقدير: وقل إنه لما قام عبد الله يدعوه لأن همزة (إنّ) إذا وقعت في محكي بالقول تكسر ، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونقل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨].

وأما الفتح فعلى اعتباره معطوفا على جملة (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) [الجن : ١] ، أي وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله ، أي أوحى الله إليّ اقتراب المشركين من أن يكونوا لبدا على عبد الله لما قام يدعو ربّه.

٢٢٤

وضمير (أَنَّهُ) ضمير الشأن وجملة (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) إلى آخرها خبره.

وضمير (كادُوا يَكُونُونَ) عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطابا ابتداء من قوله : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) [الجن : ١٦] إلى قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) [الجن : ١٨].

و (عَبْدُ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال : وأنه لما قمت تدعو الله كادوا يكونون عليك ، أو لما قمت أدعو الله ، كادوا يكونون عليّ. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف (عَبْدُ اللهِ) لما في هذه الإضافة من التشريف مع وصف (عَبْدُ) كما تقدم غير مرة منها عند قوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١].

و (لِبَداً) بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع : لبدة ، وهي ما تلبد بعضه على بعض ، ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.

والكلام على التشبيه ، أي كاد المشركون يكونون مثل اللبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيظ وغضب وهم بالأذى كما يقال : تألبوا عليه.

ومعنى (قامَ) : اجتهد في الدعوة إلى الله ، كقوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في سورة الكهف [١٤] ، وقال النابغة :

بأن حصنا وحيّا من بني أسد

قاموا فقالوا حمانا غير مقروب

وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في أول سورة البقرة [٣].

ومعنى قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جزء بن كليب الفقعسي :

فلا تبغينها يا بن كوز فإنه

غذا الناس مذ قام النبي الجواريا

أي قام يعبد الله وحده ، كما دل عليه بيانه بقوله بعده : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) ، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لله تعالى.

وجملة (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) بيان لجملة (يَدْعُوهُ).

وقرأ الجمهور قال بصيغة الماضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر (قُلْ) بدون

٢٢٥

ألف على صيغة الأمر ، فتكون الجملة استئنافا. والتقدير : أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي ، فهو من تمام ما أوحي به إليه.

و (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) ، يفيد قصرا ، أي لا أدعو غيره ، أي لا أعبد غيره دونه.

وعطف عليه (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) تأكيدا لمفهوم القصر ، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإبلاغ.

[٢١ ـ ٢٣] (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣))

(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ).

هذا استئناف ابتدائي. وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه ، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما خفي عليه من الشئون المتعلقة به من اتّباع متابعين وإعراض معرضين ، انتقل إلى تلقينه ما يرد على الذين أظهروا له العناد والتورك.

ويجوز أن يكون (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ) إلخ ، تكريرا لجملة (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) [الجن : ٢٠] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر.

والضر : إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم به من النصر عليهم.

وقوله : (وَلا رَشَداً) تتميم.

وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع ، والرشد يقابله الضلال ، فالتقدير : لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا ضلالا ولا رشدا.

والرّشد بفتحتين : مصدر رشد ، والرّشد ، بضم فسكون : الاسم ، وهو معرفة الصواب ، وقد تقدم قريبا في قوله : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن : ٢].

وتركيب (لا أَمْلِكُ لَكُمْ) معناه لا أقدر قدرة لأجلكم على ضرّ ولا نفع ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) في سورة الممتحنة [٤] وتقدم أيضا

٢٢٦

في سورة الأعراف.

وجملتا (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي) إلى (مُلْتَحَداً) معترضتان بين المستثنى منه والمستثنى ، وهو اعتراض ردّ لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآن إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم ، قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس : ١٥].

والملتحد : اسم مكان الالتحاد ، والالتحاد : المبالغة في اللحد ، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه ، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى : لن أجد مكانا يعصمني.

و (مِنْ دُونِهِ) حال من (مُلْتَحَداً) ، أي ملتحدا كائنا من دون الله أي بعيدا عن الله غير داخل من ملكوته ، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة التي في ملك الله ، وذلك متعذر ، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف (لَنْ) الدال على تأييد النفي.

و (مِنَ) في قوله : (مِنْ دُونِهِ) مزيدة جارة للظرف وهو (دون).

وقوله : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) استثناء منقطع من (ضَرًّا) و (رَشَداً) ، وليس متصلا لأن الضر والرشد المنفيين في قوله : (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء.

ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من (مُلْتَحَداً) ، أي بتأويل (مُلْتَحَداً) بمعنى مخلص أو مأمن.

وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

والبلاغ : اسم مصدر بلغ ، أي أوصل الحديث أو الكلام ، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١].

و (مِنَ) ابتدائية صفة (بلاغ) ، أي بلاغا كائنا من جانب الله ، أي إلّا كلاما أبلغه من القرآن الموحى من الله.

و (رِسالاتِهِ) : جمع رسالة ، وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ

٢٢٧

خاص بألفاظ مخصوصة ، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

لما كان قوله : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) [الجن : ٢٠] إلى هنا كلاما متضمنا أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزا له من ضروب الاقتراح ، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم.

و (مِنَ) شرطية وجواب الشرط قوله : (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ).

(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة ، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، ويقولون : (مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [السجدة : ٢٨] ، ويقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] ، وقالوا : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] ، فهم مغرورون بالاستدراج والإمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من (حَتَّى) ، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العدد والعدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم.

و (حَتَّى) هنا ابتدائية وكلما دخلت (حَتَّى) في جملة مفتتحة ب (إِذا) ف (حَتَّى) للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية. وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن (حَتَّى) في مثله جارة وأن (إِذا) في محل جرّ وليس ببعيد.

واعلم أن (حَتَّى) لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل (حَتَّى).

و (إِذا) اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو (فَسَيَعْلَمُونَ).

وعلى رأي الأخفش وابن مالك (إِذا) محل جر ب (حَتَّى). واقتران جملة سيعلمون بالفاء دليل على أن (إِذا) ضمّن معنى الشرط ، واقتران الجواب بسين

٢٢٨

الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد (إِذا) إلى زمن الاستقبال. وجيء بالجملة المضاف إليها (إِذا) فعلا ماضيا للتنبيه على تحقيق وقوعه.

وفعل سيعلمون معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه.

وضعف الناصر وهن لهم من جهة وهن أنصارهم ، وقلة العدد وهن لهم من جانب أنفسهم ، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤]. وقالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [سبأ : ٣٥].

[٢٥ ـ ٢٨] (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ).

كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [النمل : ٧١] ، و (عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [الأعراف : ١٨٧] ، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن ، فلما قال الله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) [الجن : ٢٤] الآية علم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت حلول الوعيد فأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه.

فجملة (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر.

والأمد : الغاية وأصله في الأمكنة. ومنه قول ابن عمر في حديث «الصحيحين» : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمّر وجعل أمدها ثنية الوداع» (أي غاية المسابقة). ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) [الحديد : ١٦] وهو كذلك هنا. ومقابلته ب «قريب» يفيد أن المعنى أم يجعل له أمدا بعيدا.

٢٢٩

وجملة (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) في موضع العلة لجملة (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) الآية.

و (عالِمُ الْغَيْبِ) : خبر مبتدأ محذوف ، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله (رَبِّي). وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفا اتّبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في «المفتاح».

و (الْغَيْبِ) : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس.

وإضافة صفة (عالِمُ) إلى (الْغَيْبِ) تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفرادا فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته ، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن. ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها ، فإيثار المصدر هنا لأنه أشمل لإحاطة علم الله بجميع ذلك.

وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) في سورة البقرة [٣].

وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر ، أي هو عالم الغيب لا أنا.

وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه.

ومعنى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) : لا يطلع ولا ينبئ به ، وهو أقوى من يطلع لأن (يُظْهِرُ) جاء من الظهور وهو المشاهدة ولتضمينه معنى : يطلع ، عدي بحرف (عَلى).

ووقوع الفعل في حيّز النفي يفيد العموم ، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيّزه يفيد العموم.

وحرف (عَلى) مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) [التحريم : ٣] فهو استعلاء مجازي.

واستثنى من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب ، أي على غيب أراد الله إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله ، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إخبار

٢٣٠

بما سيحدث أو اطلاع على ضمائر بعض الناس.

فقوله : (ارْتَضى) مستثنى من عموم (أَحَداً). والتقدير : إلّا أحدا ارتضاه ، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى.

والإتيان بالموصول والصلة في قوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الخبر ، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس ، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة ، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه ، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة ، أو أمور الدنيا ، وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم [٢ ـ ٤].

والمراد بهذا الاطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ، ففي الحديث : «الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة ، أو بالإلهام». قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد كان يكون في الأمم قبلكم محدّثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» رواه مسلم. قال مسلم : قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهمون.

وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة : أنها تسرّ ولا تغرّ ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها.

و (مِنْ رَسُولٍ) بيان لإبهام (مَنِ) الموصولة ، فدل على أن ما صدق (مَنِ) جماعة من الرسل ، أي إلّا الرسل الذين ارتضاهم ، أي اصطفاهم.

وشمل (رَسُولٍ) كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه‌السلام. وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم.

وهنا أربعة ضمائر غيبة :

الأول ضمير (فَإِنَّهُ) وهو عائد إلى الله تعالى.

والثاني الضمير المستتر في (يَسْلُكُ) وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه

٢٣١

ضمير (فَإِنَّهُ).

والثالث والرابع ضميرا (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ، وهما عائدان إلى (رَسُولٍ) أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصدا من بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خلفه رصدا ، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه.

والسّلك حقيقته : الإدخال كما في قوله تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في سورة الحجر [١٢].

وأطلق السّلك على الإيصال المباشر تشبيها له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفا في قوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) [الجن : ١٧] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يبلغ إليه ما أوحي إليه من الغيب ، كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم. وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

والمراد ب (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) الكناية عن جميع الجهات ، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف.

والرصد : اسم جمع كما تقدم آنفا في قوله : (يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩]. وانتصب (رَصَداً) على أنه مفعول به لفعل (يَسْلُكُ).

ويتعلق (لِيَعْلَمَ) بقوله : (يَسْلُكُ) ، أي يفعل الله ذلك ليبلّغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليه كما بعثه دون تغيير ، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعا ومسببا عن تبليغ الوحي كما أنزل الله ، جعل المسبب علّة وأقيم مقام السّبب إيجازا في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلّا على وفق ما وقع ، وهذا كقول إياس بن قبيصة :

وأقبلت والخطّيّ يخطر بيننا

لأعلم من جبانها من شجاعها

أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلم ذلك. وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب ، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها.

وجيء بضمير الإفراد في قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) مراعاة للفظ (رَسُولٍ)،

٢٣٢

ثم جيء له بضمير الجمع في قوله : (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) مراعاة لمعنى رسول وهو الجنس ، أي الرسل على طريقة قوله تعالى السابق آنفا (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣].

والمراد : ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله وأدوا الأمانة علما يترتب عليه جزاؤهم الجزيل.

وفهم من قوله : (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء ، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث.

ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلا لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييدا لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب.

واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثنى منه ، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص ، فليس قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله ، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ).

وقرأ رويس عن يعقوب (لِيَعْلَمَ) بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول على أنّ (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) نائب عن الفاعل ، والفاعل المحذوف حذف للعلم به ، أي ليعلم الله أن قد أبلغوا.

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً).

الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) ، أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره ، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك ، فقوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمه بتبليغهم ما أرسل إليهم ، وقوله : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) تعميم أشمل بعد تعميم ما.

وعبر عن العلم بالإحصاء على طريق الاستعارة تشبيها لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد

٢٣٣

لأن معرفة الأعداد أقوى ، وقوله : (عَدَداً) ترشيح للاستعارة.

والعدد : بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عدّ ، فالمعنى هنا : وأحصى كل شيء معدودا ، وهو نصب على الحال ، بخلاف قوله تعالى : (وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [مريم : ٩٤]. وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإدغام لأن الأصل في الإدغام للأفعال.

٢٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٣ ـ سورة المزمل

ليس لهذه السورة إلّا اسم «سورة المزمل» عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها ، فيجوز أن يراد به حكاية اللفظ ، ويجوز أن يراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١].

قال ابن عطية : هي في قول الجمهور مكية إلّا قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [المزمل : ٢٠] إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.

وقال في «الإتقان» : إن استثناء قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة «نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس» ا ه.

يعني وذلك كله بمكة ، أي فتكون السورة كلها مكية فتعيّن أن قوله : (قُمِ اللَّيْلَ) [المزمل : ٢] أمر به في مكة.

والروايات تظاهرت على أن قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها ، فقالت عائشة : «نزل بعد صدر السورة بسنة» ، ومثله روى الطبري عن ابن عباس ، وقال الجمهور : نزل صدر السورة بمكة ونزل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلى آخرها بالمدينة ، أي بعد نزول أولها بسنين.

فالظاهر أن الأصح أن نزول (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى : (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠] إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.

٢٣٥

وروى الطبري عن سعيد بن جبير «قال : لما أنزل الله على نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) [المزمل : ١] مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [المزمل : ٢٠] ا ه ، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.

والروايات عن عائشة مضطربة فبعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب «الإتقان». وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة ، وبعض الروايات يقول فيها : إنها كانت تفرش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فاجتمعوا فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ١ ، ٢] فكتبت عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم ، فأنزل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى (فَتابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل : ٢٠] ، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبن بعائشة إلّا في المدينة ، ولأن قولها : «فخرج مغضبا» يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده ، ويؤيّده أخبار تثبت قيام الليل في مسجده.

ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الروايات بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.

ونسب القرطبي إلى «تفسير الثعلبي» قال : قال النخعي في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متزملا بقطيفة عائشة ، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ا ه ، وإنما بنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة في المدينة ، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محالة كما سنبينه عند قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] ، وأن قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السّورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وأنه ناسخ لوجوب قيام الليل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.

وحكى القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : إن آيتين وهما (وَاصْبِرْ

٢٣٦

عَلى ما يَقُولُونَ) إلى قوله : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١٠ ، ١١] نزلتا بالمدينة.

واختلف في عدّ هذه السورة في ترتيب نزول السور ، والأصح الذي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة : أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق ، فقيل سورة ن والقلم ، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر ، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور ، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة ، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة ، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل ، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من «صحيح البخاري» وسيأتي عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ).

والأصح أن سبب نزول (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) الآية.

وعدة آيها في عدّ أهل المدينة ثمان عشرة آية ، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عدّ من عداهم عشرون.

أغراضها

الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بندائه بوصفه بصفة تزمله.

واشتملت على الأمر بقيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.

وعلى تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحمل إبلاغ الوحي.

والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات.

وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.

وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين.

وتكفّل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.

والوعيد لهم بعذاب الآخرة.

ووعظهم مما حلّ بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.

٢٣٧

وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.

ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا لأعذار الملازمة.

والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.

والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبّره.

وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.

وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك بتدبرها.

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ).

افتتاح الكلام بالنداء إذا كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقى إلى المخاطب من كلام.

والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلّا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) [الأنفال : ٦٥] ، أو تلطف وتقرب نحو : يا بنيّ ويا أبت ، أو قصد تهكم نحو : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فإذا نودي المنادى بوصف هيئته من لبسة أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه «قم أبا تراب» وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق «قم يا نومان» ، وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رآه حاملا هرّة صغيرة في كمه «يا أبا هريرة».

فنداء النبي ب (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) نداء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١].

و (الْمُزَّمِّلُ) : اسم فاعل من تزمل ، إذا تلفف بثوبه كالمقرور ، أو مريد النوم وهو مثل التدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من

٢٣٨

معنى التلفف ، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ. وأصل التزمل مشتق من الزّمل بفتح فسكون وهو الإخفاء ولا يعرف ل (تزمّل) فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل ، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس ، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس ، فمنه التزمل ومنه التعمّم والتأزّر والتقمّص ، وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل : ارتدى وائتزر.

وأصل (الْمُزَّمِّلُ) : المتزمل ، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقاربهما.

وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين : إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زمّلوني زمّلوني»حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ ، وعليه فهو حقيقة.

وقيل : هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال : «لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سمّوا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه (أي صفوة وصفا تتفق عليه الناس) فقالوا : كاهن ، وقالوا : مجنون ، وقالوا : ساحر ، فصدر المشركون على وصفه ب (ساحر) فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر ، فأتاه جبريل فقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١].

وسيأتي في سورة المدثر أن سبب نزولها رؤيته الملك جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال : «دثروني» ، فيتعين أن سبب ندائه ب (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) كان عند قوله : «زمّلوني» ، فذلك عند ما اغتمّ من وصف المشركين إياه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) في سورة المدثر.

وقيل : هو تزمّل للاستعداد للصلاة فنودي (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) وهذا مروي عن قتادة. وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة.

ومحملها على أن التزمّل حقيقة ، وقال عكرمة : معناه زمّلت هذا الأمر فقم به ، يريد أمر النبوءة فيكون قوله : (اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) مع قوله : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) [المزمل : ٧] تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل

٢٣٩

ونهار إلّا قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز.

فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن ابتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا : إنه مجنون.

أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل ، ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

فنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف (الْمُزَّمِّلُ) باعتبار حالته وقت ندائه وليس المزمل معدودا من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال السهيلي : ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عدّه من أسمائه.

وفعل (قُمِ) منزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة ، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله (قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ٢] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك.

و (اللَّيْلَ) : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وانتصب (اللَّيْلَ) على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل ، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإنسان.

وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما.

وأمر الرسول بقيام الليل أمر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة ، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سيأتي في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل : ٢٠] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري : «فغطني حتى بلغ مني الجهد» ثم قال:

٢٤٠