تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧٢ ـ سورة الجن

سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها الكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس «سورة الجن». وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من «جامعه» ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير «سورة قل أوحي إليّ».

واشتهرت على ألسنة المكتّبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم (قُلْ أُوحِيَ) [الجن : ١].

ولم يذكرها في «الإتقان» في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.

وهي مكية بالاتفاق.

ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي «الصحيحين» و «جامع الترمذي» من حديث ابن عباس أنه قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن : ١] وأنزل الله على نبيئه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١].

وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة كان بعد سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف ، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.

وقد عدّت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس.

واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين.

٢٠١

أغراضها

إثبات كرامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهم ما يدعو إليه من التوحيد والهدى ، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.

وإبطال عبادة ما يعبد من الجن.

وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.

وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب ، وتضليل الذين يتقولون على الله ما لم يقله ، والذين يعبدون الجن ، والذين ينكرون البعث ، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.

وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع ، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله ، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاولتهم منه العدول عن الطعن في دينهم.

[١ ـ ٢] (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢))

افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله : (كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) [الجن : ٧] حسبما يأتي.

أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلم المسلمين وغيرهم بأن الله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريما لنبيه وتنويها بالقرآن وهو أن سخر بعضا من النوع المسمى جنّا لاستماع القرآن وألهمهم أو علّمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجبول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدو أحدهم في مدة الدنيا جبلته فيكون على معيارها مصيره الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يبعث إليهم بشرائع.

٢٠٢

وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإسلام وهديه ففهموه.

هذا العالم هو عالم الجنّ وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة ، الخفية عن حاسة البصر والسمع ، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساما ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة وإرادة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه. وهذه المجردات الناوية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لنجس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلّا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإراداتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده.

وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدو أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن ، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة ، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسّر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.

وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معيّنة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية ، بخلاف حال من يقول : إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد علمه بآيات ذكره.

وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية.

وإنا لم نلق أحدا من أثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول : إنه رأى أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلّا على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات.

وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري :

ومثلك من تخيل ثم خالا

فظهور الجن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته

٢٠٣

هو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.

وقد مضى ذكر الجن عند قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) في سورة الأنعام [١٠٠] ، وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) في سورة الأعراف [١٧٩].

والذين أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن : هم جميع الناس الذين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به ، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه ، والذين جاءهم بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.

وفي الإخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلّا بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع ، فالآية تقتضي أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.

وأما آية الأحقاف [٢٩] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) الآيات فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في «صحيح مسلم» في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.

وقوله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) في موضع نائب فاعل (أُوحِيَ) أي أوحي إلي استماع نفر. وتأكيد الخبر الموحى بحرف (أن) للاهتمام به لغرابته.

وضمير (أَنَّهُ) ضمير الشأن وخبره جملة (اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.

ومفعول (اسْتَمَعَ) محذوف دل عليه (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً) ، أي استمع القرآن نفر من الجن.

والنفر : الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله : (يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] على شخوص الجن. وقولهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى

٢٠٤

الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف [٢٩ ، ٣٠] (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) الآيات.

ومعنى القول هنا : إبلاغ مرادهم إلى من يريدون أن يبلّغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها ، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن فيما يظهر ، فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] فيكون ذلك تكريما لهذا الدّين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.

ويجوز أن يكون قولا نفسيا ، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادة صاحب الإدراك به إبلاغ مدركاته لغيره ، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد :

قالت له النفس إني لا أرى طمعا

وإن مولاك لم يسلم ولم يصد

ومنه قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة :٨].

وتأكيد الخبر ب (أنّ) لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا في كلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف (إن).

ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى ، أي يعجب منه ، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.

وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري في «شرح صحيح مسلم» «لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة ، وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول ؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو علموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمّي الصادق المبشر به» ا ه. وأنا أقول : حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها ، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللقرآن.

والإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً).

وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصدق رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٠٥

وصدق القرآن وما احتوى عليه ما سمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات ، وأكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم من الجن والإنس.

ومتعلق (اسْتَمَعَ) محذوف دل عليه قوله بعده (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً).

و (الرُّشْدِ) : بضم الراء وسكون الشين (أو يقال بفتح الراء وفتح الشين) هو الخير والصواب والهدى. واتفقت القراءات العشر على قراءته بضم فسكون.

وقولهم : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ، أي ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأبيد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه ب (إن) أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك ب (لَنْ).

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣))

هذا محكي عن كلام الجن ، قرأه الجمهور بكسر همزة (أَنَّهُ) على اعتباره معطوفا على قولهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن : ١] إذ يجب كسر همزة (إنّ) إذا حكيت بالقول.

وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢] أي وآمنا بأنه تعالى جد ربنا. وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل ، وجوزه الكوفيون ، على أن حرف الجر كثير حذفه مع (أنّ) فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على هذا التأويل.

قال في «الكشاف» : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) [الجن : ١] بالفتح لأنه فاعل أوحي (أي نائب الفاعل) و (إِنَّا سَمِعْنا) بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليهما البواقي فما كان من الوحي فتح وما كان من قول الجن كسر ، وكلّهن من قولهم ، إلّا الثنتين الأخريين : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [الجن : ١٨] ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) [الجن : ١٩] ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في (فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢] كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جدّ ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي ا ه.

والتعالي : شدة العلوّ ، جعل شديد العلوّ كالمتكلف العلوّ لخروج علوّه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلف.

٢٠٦

والجدّ : بفتح الجيم العظمة والجلال ، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) ، لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها ، وكل ذلك من آثار الاحتياج ، والله تعالى الغني المطلق ، وتعالي جدّه بغناه المطلق ، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به ، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.

وضمير (أَنَّهُ) ضمير شأن وخبره جملة (تَعالى جَدُّ رَبِّنا).

وجملة (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً) إلى آخرها بدل اشتمال من جملة (تَعالى جَدُّ رَبِّنا).

وتأكيد الخبر ب (إن) سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.

والاقتصار في بيان تعالي جد الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبئ بأنه كان شائعا في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلّا ناشئ عن تلقين الشيطان وهو من الجن ، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى : سبحانه (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) في سورة الأنعام [١٠١].

وإعادة (لا) النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع.

وضمير الجماعة في قوله : (رَبِّنا) عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره ، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤))

قرأه الجمهور بكسرة همزة (وَأَنَّهُ). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة كما تقدم في قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) [الجن : ٣] فقد يكون إيمانهم بتعالي الله عن أن يتخذ صاحبة وولدا ناشئا على ما سمعوه من القرآن وقد يكون ناشئا على إدراكهم ذلك بأدلة نظرية.

والسفيه : هنا جنس ، وقيل : أرادوا به إبليس ، أي كان يلقنهم صفات الله بما لا يليق بجلاله ، أي كانوا يقولون على الله شططا قبل نزول القرآن بتسفيههم في ذلك.

٢٠٧

والشطط : مجاوزة الحد وما يخرج عن العدل والصواب ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلا تُشْطِطْ) في سورة ص [٢٢]. والمراد بالشطط إثبات ما نفاه قوله : (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ٢] وقوله : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) [الجن : ٣] وضمير (وَأَنَّهُ) ضمير الشأن.

والقول فيه وفي التأكيد ب (إن) مكسورة أو مفتوحة كالقول في قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) [الجن : ٣] إلخ.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥))

قرأ همزة أن بالكسر الجمهور وأبو جعفر ، وقرأها بالفتح ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وخلف.

فعلى قراءة كسر (إن) هو من المحكي بالقول ، ومعناه الاعتذار عما اقتضاه قولهم : (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ٢] من كونهم كانوا مشركين لجهلهم وأخذهم قول سفهائهم يحسبونهم لا يكذبون على الله.

والتأكيد ب (إِنَّ) لقصد تحقيق عذرهم فيما سلف من الإشراك ، وتأكيد المظنون ب (لَنْ) المفيدة لتأييد النفي يفيد أنهم كانوا متوغلين في حسن ظنهم بمن ضللوهم ويدل على أن الظن هنا بمعنى اليقين وهو يقين مخطئ.

وعلى قراءة الفتح هو عطف على المجرور بالباء في قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢] فالمعنى : وآمنا فإنما ظننا ذلك فأخطأنا في ظننا.

وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة ، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلّد بفتح اللام بل يتعين النظر واتهام رأي المقلّد حتى ينهض دليله.

وقرأ الجمهور (تَقُولَ) بضم القاف وسكون الواو. وقرأه يعقوب بفتح القاف والواو مشددة ، من التقوّل وهو نسبة كلام إلى من لم يقله وهو في معنى الكذب وأصله تتقول بتاءين فعلى هذه القراءة يكون (كَذِباً) مصدرا مؤكدا لفعل (تَقُولَ) لأنه مرادفه.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦))

قرأ الجمهور همزة (وَأَنَّهُ) بالكسر. وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو

٢٠٨

وجعفر وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء ، والمقصود منه هو قوله : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وأما قوله : (كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) إلخ ، فهو تمهيد لما بعده.

وإطلاق الرجال على الجن على طريق التشبيه والمشاكلة لوقوعه مع رجال من الإنس فإن الرجل اسم للذكر البالغ من بني آدم.

والتأكيد ب (إن) مكسورة أو مفتوحة راجع إلى ما تفرع على خبرها من قولهم (فَزادُوهُمْ رَهَقاً).

والعوذ : الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر ، قال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [المؤمنون : ٩٧] ، فإذا حمل العوذ على حقيقته كان المعنى أنه كان رجال يلتجئون إلى الجن ليدفع الجن عنهم بعض الأضرار فوقع تفسير ذلك بما كان يفعله المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان قفر ووحش أو تعزب في الرعي كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثها بهم في الليل فكان الخائف يصيح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه ، قالوا : وأول من سن ذلك لهم قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب وهي أوهام وتخيلات.

وزعم أهل هذا التفسير أن معنى (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أن الجن كانوا يحتقرون الإنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة.

والرهق : الذل.

والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفات حوله. وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها. ومعنى (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالا. والرهق : يطلق على الإثم.

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة (وَأَنَّهُمْ). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) [الجن : ٣].

والمعنى : أن رجالا من الإنس ظنّوا أن الله لا يبعث أحدا ، أو وأنا آمنا بأنهم ظنّوا

٢٠٩

كما ظننتم إلخ ، أي آمنا بأنهم أخطئوا في ظنهم.

والتأكيد ب (إن) المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته. والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر ، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار الحشر ومن إنكار إرسال الرسل.

والإخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإنس إلى عالم الجن.

وجملة (كَما ظَنَنْتُمْ) معترضة بين (ظَنُّوا) ومعموله ، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يشبّهون كفارهم بكفار الإنس.

ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم ، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا) [الجن : ١] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك.

و (أَنْ) من قوله : (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.

وجملة (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) خبره. والتعبير بحرف تأبيد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث.

[٨ ـ ٩] (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩))

قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) والتأكيد ب (إنّ) في قولهم : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) إلخ.

واللمس : حقيقته الجس باليد ، ويطلق مجازا على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس ، فشبه به الاختيار على طريق الاستعارة كما أطلق مرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي :

٢١٠

مسسنا من الآباء شيئا فكلّنا

إلى نسب في قومه غير واضع

أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعا كرام الآباء.

و (مُلِئَتْ) : مستعمل في معنى كثر فيها. وحقيقة الملء عمر فراغ المكان أو الإناء بما يحل فيه ، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحراس على وجه الاستعارة.

والحرس : اسم جمع للحرّاس ولا واحد له من لفظه مثل خدم ، وإنما يعرف الواحد منه بالحرسيّ. ووصف بشديد وهو مفرد نظرا إلى لفظ حرس كما يقال : السلف الصالح ، ولو نظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال : شداد. والطوائف من الحرس أحراس.

والشهب : جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نيزكا باسم الرمح القصير ، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.

والمعنى : إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرّجم ، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية. كما قال في «الكشاف» وذكر شواهده من الشعر الجاهلي.

نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظا للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) وسيأتي بيان ذلك.

وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) إلى آخره ، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب ، وأما نفس الحراسة وكثرة الشهب فإن المخبرين (بفتح الباء) يشاهدونه.

وقوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) إلخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرءوا بالكسر قوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) وبفتح الهمزة الذين قرءوا بالفتح وهذا من تمام قولهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً). وإنما أعيد معه كلمة (وَأَنَّا) للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله كالتوطئة له فإعادة (وَأَنَّا)

٢١١

توكيد لفظي.

وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام ، أي هو جعل النصف الأسفل مباشرا للارض مستقرا عليها وانتصاب النصف الأعلى. وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمنا طويلا لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥].

والمقاعد : جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود ، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرئ القيس :

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

واللام في قوله : (لِلسَّمْعِ) لام العلة أي لأجل السمع ، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف ، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة ، وضمير (مِنْها) للسماء.

و (من) تبعيضية ، أي من ساحاتها وهو متعلق ب (نَقْعُدُ) ، وليس المجرور حالا من (مَقاعِدَ) مقدّما على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماء فالعناية بمتعلق فعل القعود أولى ، ونظيره قول كعب :

يمشي القراد عليها ثم يزلقه

منها لبان وأقرب زهاليل

فقوله (منها) متعلق بفعل (يزلقه) وليس حالا من (لبان).

وأعلم أنه قد جرى على قوله تعالى : (مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) مبحث في مباحث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في «المثل السائر» إلى ابن سنان الخفاجي فقال : إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينه فأوجب قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي :

أعزز عليّ بأن أراك وقد خلا

عن جانبيك مقاعد العوّاد

فإن إيراد هذه اللفظة (أي مقاعد) في هذا الموضع صحيح إلّا أنه يوافق ما يكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته (أي ما يكره) إليه وهم العواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا. قال ابن الأثير : هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] وقوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) ، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد مقاعد الزيارة

٢١٢

لزالت تلك الهجنة ا ه. وأقول : إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثرا في وقع الكلمات عند الأفهام.

والفاء التي فرعت (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) تفريع على محذوف دل عليه فعل (كُنَّا) وترتب الشرط وجزائه عليه وتقديره : كنا نقعد منها (أي من السماء) مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمع الآن لا يتمكّن من السماع.

وكلمة (الْآنَ) مقابل كلمة (كُنَّا) ، أي كان ذلك ثم انقضى.

وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.

والجنّ لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق ، شأن انسياق المخلوقات إلى ما خلقت له مثل تهافت الفراش على النار ، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة ، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعا للهوى مثل مغامرات الهواة في البحار والجبال والثلوج.

ووقع (شِهاباً) في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.

والرصد : اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف ل (شِهاباً) ، أي شهبا راصدة ، ووصفها بالرصد استعارة شبهت بالحراس الراصدين. وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجنيّ من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصا فيكمله الكاهن بحدسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده. وفي الحديث «فيزيد على تلك الكلمة مائة كذبة».

وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسب بين النفوس ، ومعظمه أوهام. وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكهان فقال : «ليسوا بشيء».

أخرج البخاري عن ابن عباس قال «كان الجن يستمعون الوحي» (أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور) فلما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا ، فقالوا : ما هذا إلّا لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائما يصلي بمكة قالوا : هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) [الجن : ١] الآية وأنزل على نبيئه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] وإنما أوحي إليه قول الجن ا ه.

٢١٣

ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجار تمرّ على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوّة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المسترق حتى يبلغ إلى الملك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلّا أحرقها وبخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور وبالباء كما تقدم فيكون المعنى : وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض ، أي الناس ، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك. هذا توجيه القراءة بفتح همزة (أَنَّا) ومحاولة غير هذا تكلف.

وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) [الجن : ٩] إلخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يخبرهم به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئا من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحى به إليه والذي يحمله إليه.

فحاصل المعنى : إنا الآن لا ندري ما ذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.

وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) [الجن : ١١] ثم قولهم : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) [الجن : ١٢] ثم قولهم : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) إلى قوله : (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٣ ـ ١٥].

ومفعول (نَدْرِي) هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله : (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) وهو الذي علّق فعل (نَدْرِي) عن العمل ، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولا يستخلص من الاستفهام تقديره : لا ندري جواب هذا الاستفهام ، وذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب. هذا هو تفسير الآية على

٢١٤

المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩].

وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ما ذا أراد الله بهذه الشهب ، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ١ ، ٢] وقولهم : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيرا بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع.

وتكرير (إنّ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضا لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.

والرشد : إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير ، فلهذا الاعتبار جعل مقابلا للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله : (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ، جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١))

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.

وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء ، أي آمنا بأنا منّا الصالحون ، أي أيقنّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.

ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين ، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم ، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون ، ثم تلطفوا فقالوا : ومنا دون ذلك ، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين ، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح ، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإرشاد إلى الخير.

و (دُونَ) : اسم بمعنى (تحت) ، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية

٢١٥

المكانية ، أي في مكان منحط عن الصالحين.

والتقدير : ومنا فريق في مرتبة دونهم.

وظرفية (دُونَ) مجازية. ووقع الظرف هنا ظرفا مستقرا في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره : فريق ، كقوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤] ويطّرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بحرف (من) مقدم عليه وكانت الصفة ظرفا كما هنا ، أو جملة كقول العرب : منّا ظعن ومنّا أقام.

وقوله : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) تشبيه بليغ ، شبه تخالف الأحوال والعقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى.

و (طَرائِقَ) : جمع طريقة ، والطريقة هي الطريق ، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأنّ التاء للتأكيد مثل دار ودارة ، ومثل مقام ومقامة ، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [المؤمنون : ١٧] ووصفت بالمثلى في قوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) [طه : ٦٣].

ووصف (طَرائِقَ) ب (قِدَداً) ، وهو اسم جمع قدّة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة : القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولا كالسير ، شبهت الطرائق في كثرتها بالقدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القدّ كانوا يقيدون بها الأسرى.

والمعنى : أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإسلام ، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.

وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك ، والتوكيد ب (إنّ) متوجه إلى المعنى التعريضي.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢))

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة (وَأَنَّا). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢]. والتقدير: وآمنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل (ظَنَنَّا) تأكيد لفظي لفعل «آمنا» المقدر بحرف العطف ، لأن الإيمان يقين وأطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير.

٢١٦

لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] أعقبوا لتعريض الإقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يفلت منه أحد استحقه. وقدموه على الأمر بالإيمان الذي في قوله : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) [الجن : ١٣] الآية ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحلية ، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ لم يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد ، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقاد الشرك ووصف الله بما لا يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه ، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيرا لإخوانهم ومرشدا إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن ، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإسلام.

وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) [الأعراف : ١٧٩] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإشراك ، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.

والإعجاز : جعل الغير عاجزا أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي :

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزني بقعة من بقاعها

أي لا تفوتني ولا تخرج عن مكنتي.

وذكر (فِي الْأَرْضِ) يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله : (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) الهرب من الرجم بالشهب ، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم ، فابتدءوا الإنذار من عذاب الدنيا استنزالا لقومهم.

ويجوز أن يكون (نُعْجِزَ) الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى : (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) [النحل : ٤٦] أي لا يغلبون قدرتنا ، ويكون (فِي الْأَرْضِ) مقصودا به تعميم الأمكنة كقوله تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٣١] ، أي في مكان كنتم. والمراد : أنا لا نغلب الله بالقوة. ويكون (نُعْجِزَ) الثاني ، بمعنى الإفلات ولذلك بيّن ب (هَرَباً) ، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.

٢١٧

والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المظنون بحرف (لَنْ) الدال على تأبيد النفي وتأكيده.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣))

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله : (فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢].

والمقصود بالعطف قوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) ، وأما جملة (لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) فتوطئة لذلك.

بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكّر ذلك في نفوسهم ، عادوا إلى ترغيبهم في الإيمان بالله وحده ، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.

ومعنى (يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) ، أي بوجوده وانفراده بالإلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد.

وجملة (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن. ويجوز أن تكون كلاما من الله موجها للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.

والبخس : الغبن في الأجر ونحوه.

والرهق : الإهانة ، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان. وفهم منه أن من لا يؤمن يهان بالعذاب. والخلاف في كسر همزة (أَنَّا) وفتحها كالخلاف في التي قبلها.

وجملة (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) جواب لشرط (من) جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل ، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلّا إذا كان غير صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيرا إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية ، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط ، فكان التقدير هنا : فهو لا يخاف ليكون دالا على تحقيق سلامته من

٢١٨

خوف البخس والرهق ، وليدل على اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه ، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة : ١٥]. واجتمعا هنا كما أشار إليه في «الكشاف» بقوله : فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وكلام «الكشاف» اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك.

وقد نقول : إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون (لا) ناهية ، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي.

وفي «شرح الدماميني على التسهيل» : أن جواب الشرط إذا كان فعلا منفيا ب (لا) يجوز الاقتران بالفاء وتركه. ولم أره لغيره وكلام «الكشاف» يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلّا إذا قصدت مزية أخرى.

[١٤ ـ ١٥] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ).

قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء. والمقصود بالعطف قوله : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) وما قبله توطئة له ، أي أصبحنا بعد سماع القرآن منا المسلمون ، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإسلام مما يليق بحالهم ومنا القاسطون ، أي الكافرون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) [الجن : ١١] لأن فيه تصريحا بأن دون ذلك هو ضد الصلاح.

والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدركات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه.

(فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)).

الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن ، وأنه كلام من جانب الله تعالى

٢١٩

لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل. وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستخلاص العبرة منها ، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله.

والتحري : طلب الحرا بفتحتين مقصورا واويّا ، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل ، يقال : بالحرّي أن تفعل كذا ، وأحرى أن تفعل.

والرشد : الهدى والصواب ، وتنوينه للتعظيم.

والمعنى : أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك.

والقاسط : اسم فاعل قسط من باب ضرب قسطا بفتح القاف وقسوطا بضمها ، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإشراك. وفي «الكشاف» : أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال! حسبوا أنه وصفه بالقسط (بكسر القاف) والعدل ، فقال الحجاج : يا جهلة إنه سمّاني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) وقوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ا ه.

وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير ، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤].

وإقحام فعل (كانوا) لتحقيق مصيرهم إلى النّار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.

[١٦ ـ ١٧] (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧))

اتفق القراء العشرة على فتح همزة : (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ، فجملة (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) معطوفة على جملة (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] ، والواو من الحكاية لا من المحكي ، فمضمونها شأن ثان مما أوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره الله أن يقوله للناس. والتقدير : وأوحي إليّ أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.

٢٢٠