تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

والعادي : المفسد ، أي هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم ، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم ، ونشأت بينهم الإحن من الغيرة.

وذكر رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يودّ الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة. وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه ، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بمواليه وأهل عهده.

والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله.

والرعي : الحفظ والحراسة. وأصله رعي الغنم والإبل.

وقرأ الجمهور (لِأَماناتِهِمْ) بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير لأمانتهم بالإفراد والمراد الجنس.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد.

ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجبا عليه ، قال تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢].

والقيام بالشهادة : الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى ، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في سورة البقرة [٣].

وباء (بِشَهاداتِهِمْ) للمصاحبة ، أي يقومون مصاحبين للشهادة ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية.

فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم.

والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريبا أو صديقا ، وقد تثير الشهادة على المرء إحنة منه وعداوة.

١٦١

وقرأ الجمهور بشهادتهم بصيغة الإفراد ، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها. وقرأ حفص ويعقوب (بِشَهاداتِهِمْ) بصيغة الجمع. وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها ، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل : عافاه الله ، وقاتله الله ، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها. وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به ، وبذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجرد تأكيد لجملة (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين.

وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة ، وأن الصلوات تكفر الذنوب كحديث «ما يدريكم ما بلغت به صلاته».

وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر.

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع.

ولما أجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مكرمون في الجنة.

وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة[٥].

والإكرام : التعظيم وحسن اللقاء ، أي هم مع جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء ، قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤] وقال (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وهذا يقتضي أن يكون قوله : (فِي جَنَّاتٍ) خبرا عن اسم الإشارة وقوله (مُكْرَمُونَ) خبرا ثانيا.

[٣٦ ـ ٤١] (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ

١٦٢

كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١))

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا)

فرع استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستهزءين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.

فرع ذلك على ما أفاده في قوله : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج : ٣٥].

والمعنى : أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فما ذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.

وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.

ومعنى (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أيّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك ، أو في حال إهطاعهم إليك.

وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا) في سورة البقرة [٢٤٦]. وتركيب «ما له» لا يخلو من حال مفردة ، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبّ الاستفهام. فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف ، أي (قِبَلَكَ) فيكون ظرفا مستقرا وصاحب الحال هو (لِ الَّذِينَ كَفَرُوا). ويجوز أن تكون (مُهْطِعِينَ) ، فيكون (قِبَلَكَ) ظرفا لغوا متعلقا ب (مُهْطِعِينَ). وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخر المجرى اللائق به في التركيب. وكتب في المصحف اللام الداخلة على (الَّذِينَ) مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر.

والإهطاع : مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) في سورة القمر [٨].

قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب «الكشاف» : كان المشركون يجتمعون

١٦٣

حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزءون بالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم. فأنزل الله هذه الآية.

وقبل : اسم بمعنى (عند).

وتقديم الظرف على (مُهْطِعِينَ) للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة.

وموقع قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ) مثل موقع (قِبَلَكَ) وموقع (مُهْطِعِينَ). والمقصود : كثرة الجهات ، أي واردين إليك.

والتعريف في (الْيَمِينِ) و (الشِّمالِ) تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه.

والمقصود من ذكر اليمين والشمال : الإحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال ، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما ، ومثله قول قطريّ بن الفجاءة :

فلقد أراني للرماح دريئة

من عن يميني مرّة وأمامي

يريد : من كل جهة.

و (عِزِينَ) حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا). و (عِزِينَ) : جمع عزة بتخفيف الزاي ، وهي الفرقة من النّاس ، اسم بوزن فعلة. وأصله عزوة بوزن كسوة ، وليست بوزن عدة. وجرى جمع عزة على الإلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سنة من كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسّر مثل عضة (للقطعة).

وهذا التركيب في قوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) إلى قوله (جَنَّةَ نَعِيمٍ) يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال من يظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا طالبوا الاهتداء بهديه.

والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها.

ويجوز أن يكون الكلام استفهاما مستعملا في التعجيب من حال إسراعهم ثم

١٦٤

تكذيبهم واستهزائهم.

وجملة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) بدل اشتمال عن جملة (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الآية ، لأنّ التفافهم حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأنه أن يكون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأورد استفهام عليه.

وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزءين : نحن ندخل الجنة قبل المسلمين ، فجاز أن يكون الاستفهام إنكارا لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، أو بالتعبير بفعل (يَطْمَعُ) عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٦٤] أي يتظاهرون بأنهم يحذرون.

وأسند الطمع إلى (كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) دون أن يقال : أيطمعون أن يدخلوا الجنة ، تصويرا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم ، يرون أنفسهم سواء في ذلك ، ففي قوله : (كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) تقوية التهكم بهم.

ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما بني عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي (كَلَّا) أي لا يكون ذلك. وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعا لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكما.

وهنا تمّ الكلام على إثبات الجزاء.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١)).

كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالا لشبهتهم الباعثة على إنكاره ، وهو الإنكار الذي ذكر إجمالا بقوله المتقدم آنفا (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢] فالخبر بقوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلقهم بعد فنائهم.

فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفا.

١٦٥

والمعنى : أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.

فما صدق (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة ، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوّن منها بتكوين آخر.

وعدل عن أن يقال : إنا خلقناهم من نطفة ، كما قال في آيات أخرى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٧ ، ٧٨] وغيرها من آيات كثيرة ، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا ، وعلم ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢]. وكان في قوله تعالى : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) إيماء إلى أنهم يخلقون الخلق الثاني (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) كما قال في الآية الأخرى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦] وقال : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] فكان في الخلق الأول سرّ لا يعلمونه.

ومجيء (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خلقوا من نطفة وكانوا معدومين ، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) مفرعا على قوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) والتقدير : فإنا لقادرون الآية.

وجملة (لا أقسم برب المشارق) إلخ معترضة بين الفاء وما عطفته.

والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه : ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.

وجمع (الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات ،

١٦٦

ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب ، أقسم الله به على سنة أقسام القرآن.

وفي إيثار (الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) بالقسم بربها رعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإحياء بعد الموت.

وتقدم القول في دخول حرف النفي مع (لا أقسم) عند قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) في سورة الحاقة [٣٨ ، ٣٩] ، وقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) في سورة الواقعة [٧٥].

وقوله : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) يحتمل معنيين : أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيرا منهم ، أي نبدل ذواتهم خلقا خيرا من خلقهم الذي هم عليه اليوم. والخيرية في الإتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقا أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود ، وكان الخلق الأول مناسبا لعالم التغير والفناء ، وعلى هذا الوجه يكون (نُبَدِّلَ) مضمنا معنى : نعوّض ، ويكون المفعول الأول ل (نُبَدِّلَ) ضميرا مثل ضمير (مِنْهُمْ) أي نبدلهم والمفعول الثاني (خَيْراً مِنْهُمْ).

و (من) تفضيلية ، أي خيرا في الخلقة ، والتفضيل باعتبار اختلاف زماني الخلق الأول والخلق الثاني ، أو اختلاف عالميهما.

والمعنى الثاني : أن نبدل هؤلاء بخير منهم ، أي بأمّة خير منهم ، والخيرية في الإيمان ، فيكون (نُبَدِّلَ) على أصل معناه ، ويكون مفعوله محذوفا مثل ما في المعنى الأول ، ويكون (خَيْراً) منصوبا على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [البقرة : ٦١] ، ويكون هذا تهديدا لهم بأن سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين كما قال تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر : ١٦] وقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨].

وفي هذا تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.

وذيل بقوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ، والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره ، شبه بالمسبوق في الحلبة ، أو بالمسبوق في السير ، وقد تقدم في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] ، ومنه قول مرة بن عدّاء الفقعسي :

١٦٧

كأنك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

يريد : كأنك لم تغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك.

و (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) متعلق بمسبوقين ، أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة [٦١] إنا لقادرون (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ).

[٤٢ ـ ٤٤] (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

تفريع على ما تضمنه قوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) [المعارج : ٣٦] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم : إننا ندخل الجنة ، الاستهزاء بالقرآن والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعلم بأنهم لم يجد فيهم الهدي والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة.

ومعنى الأمر بالترك في قوله : (فَذَرْهُمْ) أنه أمر بترك ما أهمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإعراض بقوله : (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا).

فجملة (يَخُوضُوا) وجملة (وَيَلْعَبُوا) حالان من الضمير الظاهر في قوله : (فَذَرْهُمْ). وتلك الحال قيد للأمر في قوله : (فَذَرْهُمْ). والتقدير : فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم.

وتعدية فعل (ذر) إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات. والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل ، مثل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي حرم عليكم أكلها ، وقوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) [النساء : ٢٣] أي أن تجمعوهما معا في عصمة نكاح والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) في سورة الطور [٤٥] ، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله : (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) في هذه الآية ، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] إذ التقدير : فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام.

١٦٨

وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان ، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية.

وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبشة أخت عمرو بن معديكرب تلهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل :

ودع عنك عمرا انّ عمرا مسالم

وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم

وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].

وبهذا تعلم أن قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) لا علاقة له بحكم القتال ، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.

والخوض : الكلام الكثير ، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

واللعب : الهزل والهزء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجدّ في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا.

وجزم (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر : أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا ، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك ، ومثل هذا الجزم كثير نحو (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [الجاثية : ١٤] ونحو (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣]. وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيت نكتة المبالغة.

و (حَتَّى) متعلقة ب (ذرهم) لما فيه من معنى ، أمهلهم وانتظرهم ، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازون على استهزائهم وكفرهم ، فلا يكون غاية ل (يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) والغاية هنا كناية عن دوام تركهم.

وإضافة (يوم) إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.

وقرأ الجمهور (يُلاقُوا) بألف بعد اللام من الملاقاة. وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء.

١٦٩

واللقاء : مجاز على كل تقدير : فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يلقى ولا يلقى. وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذّوات.

و (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) بدل من (يَوْمَهُمُ) ليس ظرفا.

والخروج : بروز أجسادهم من الأرض.

وقرأ الجمهور (يَخْرُجُونَ) بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول.

و (الْأَجْداثِ) : جمع جدث بفتحتين وهو القبر ، والقبر : حفير يجعل لمواراة الميت.

وضمير (يَخْرُجُونَ) عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة. وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر.

والنّصب بفتح فسكون : الصنم ، ويقال : نصب بضمتين ، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة ، قال الأعشى :

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

و (يُوفِضُونَ) مضارع أوفض ، إذا أسرع وعدا في سيره ، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم ، شبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإسراع اختصاصا بهم ، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دعّ ، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام.

وقرأ الجمهور نصب بفتح النون وسكون الصاد. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد.

وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل ، كما قال تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] وقال : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧]. وأصل الخشوع : ظهور الطاعة أو المخافة على الإنسان.

والرهق : الغشيان ، أي التغطية بساتر ، وهو استعارة هنا لأن الذلة لا تغشى.

وجملة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) فذلكة لما تضمنته السورة في أول

١٧٠

أغراضها من قوله : (بِعَذابٍ واقِعٍ) إلى قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ) الآيات [المعارج : ١ ـ ٤] ، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ). وفيها محسّن رد العجز على الصدر.

١٧١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧١ ـ سورة نوح

بهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه» بترجمة «سورة إنا أرسلنا نوحا». ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في «جامعه».

وهي مكية بالاتفاق.

وقد عدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور ، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور.

وعدّ العادّون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية ، وعدّها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية ، وعدها أهل الكوفة ثمانا وعشرين آية.

أغراضها

أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا ، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان. وفي ذلك تمثيل لحال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه بحالهم.

وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه‌السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث.

وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم.

وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها.

ودعوة نوح على قومه بالاستئصال.

١٧٢

وأشارت إلى الطوفان.

ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين ، وبالتبار للكافرين كلهم.

وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة.

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١))

افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر ، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام. وكثيرا ما يفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا (إن) داخلة على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) الآية [النمل : ٣٠ ، ٣١].

وذكر نوح عليه‌السلام مضى في سورة آل عمران. وتقدم أن هذا الاسم غير عربي ، وأنه غير مشتق من مادة النّوح.

و (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه ، ف (أَنْ) تفسيرية لأنها وقعت بعد (أَرْسَلْنا). وفيه معنى القول دون حروفه. ومعنى (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله ، فأمره الله أن ينذرهم عذابا يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدّما على حلول العذاب. وهذا يقتضي أنه أمر بأن يعلمهم بهذا العذاب ، وأن الله وقّته بمدة بقائهم على الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أرسل به في مدة يقع الإبلاغ في مثلها ، فحذف متعلّق فعل (أَنْذِرْ) لدلالة ما يأتي بعده من قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) [نوح : ٣].

وحرف (مِنْ) زائد للتوكيد ، أي قبل أن يأتيهم عذاب فهي قبليّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه (قَبْلِ).

و «قوم نوح» هم الناس الذين كانوا عامرين الأرض يومئذ ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة.

والقوم : الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم.

وإضافة (قوم) إلى ضمير نوح لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به ، ولأنه

١٧٣

واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد.

وعدل عن أن يقال له : أنذر الناس إلى قوله : (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) إلهابا لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب ، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته ، وهم عدد تكوّن بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض. ولعل عددهم يوم أرسل إليهم نوح لا يتجاوز بضعة آلاف.

[٢ ـ ٤] (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

لم تعطف جملة (قالَ يا قَوْمِ) بالفاء التفريعية على جملة (أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] لأنها في معنى البيان لجملة (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح : ١] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم ، وإنما أدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أمر أن يقول فقال ، تنبيها على مبادرة نوح لإنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه.

ولك أن تجعلها استئنافا بيانيا لجواب سؤال السامع أن يسأل ما ذا فعل نوح حين أرسل الله إليه (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) ، وهما متقاربان.

وافتتاح دعوته قومه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان : أنهم قومه ، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلّا ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.

والنذير : المنذر غير جار على القياس ، وهو مثل بشير ، ومثل حكيم بمعنى محكم ، وأليم بمعنى مؤلم ، وسميع بمعنى مسمع ، في قول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

وقد تقدم في أول سورة البقرة [١٠] عند قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). وحذف متعلق

١٧٤

(نَذِيرٌ) لدلالة قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) عليه. والتقدير : إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقوه ولم تطيعوني.

والمبين : يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بان ، أي موضّح أو من أبان القاصر ، الذي هو مرادف بان المجرد ، أي نذير واضح لكم أني نذير ، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم ، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء [١٠٩ ، ١١٠] (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

وتقديم (لَكُمْ) على عامله وهو (نَذِيرٌ) للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.

فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات ، وهي : النداء وجعل المنادى لفظ (يا قَوْمِ) المضاف إلى ضميره ، وافتتاح كلامه بحرف التأكيد ، واجتلاب لام التعليل ، وتقديم مجرورها.

و (أَنِ) في (أَنِ اعْبُدُوا) تفسيرية لأن وصف (نَذِيرٌ) فيه معنى القول دون حروفه ، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم ، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس [٧١] (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما.

واتقاء الله اتقاء غضبه ، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد : حال من أحوال الذات من باب (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكلها ، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون : لم يكن في شريعة نوح إلّا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها ، لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال ، فقوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإشراك اعتقادا وسجودا.

وجزم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) في جواب الأوامر الثلاثة (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.

وحرف (مِنْ) زائد للتوكيد ، وهذا من زيادة (مِنْ) في الإيجاب على رأي كثير من أئمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي

١٧٥

وجميع نحاة الكوفة. فيفيد أن الإيمان يجبّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإسلام.

ويجوز أن تكون (مِنْ) للتبعيض ، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتازانيّ ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم ، أي ذنوب الإشراك وما معه ، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة ، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية ، ومغفرة الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله. وقال ابن عطية : معنى التبعيض : مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد. وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر (مِنْ) التبعيضية اقتصادا في الكلام بالقدر المحقق.

وأما قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته ، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإنسان حب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارض ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع. قال المعري :

وكلّ يريد العيش والعيش حتفه

ويستعذب اللذات وهي سمام

والتأخير : ضد التعجيل ، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء.

وقد أشعر وعده إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم ، أي مجموع قومه لأنه جعل جزاء لكل من عبد الله منهم واتقاه وأطاع الرسول ، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم ، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [نوح : ١] كما تقدم آنفا ، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود [٣٨] (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان ، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى : ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة.

والأجل المسمى : هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقة كل أحد منهم ، فالتنوين في (أَجَلٍ) للنوعية ، أي الجنس ، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥].

ومعنى (مُسَمًّى) أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) في

١٧٦

سورة الأنعام [٢].

فالأجل المسمى : هو عمر كل واحد ، المعيّن له في ساعة خلقه المشار إليه في الحديث «أن الملك يؤمر بكتب أجل المخلوق عند ما ينفخ فيه الروح» ، واستعيرت التسمية للتعيين لشبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال.

والمعنى : ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعا فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم.

فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود [٣] (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهي على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلا لقوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي تعليلا للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) إلى قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ) إلخ لأن الربط بين الأمر وجوابه يعطي بمفهومه معنى : إن لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى ، فعلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) ، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إبّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإيمان ساعتئذ ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] ، فيكون هذا حثا على التعجيل بعبادة الله وتقواه.

فالأجل الذي في قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) غير الأجل الذي في قوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ويناسب ذلك قوله عقبه (لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيّنة لاستئصالهم ، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين. وفي إضافة (أَجَلٍ) إلى اسم الجلالة في قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذارا لهم ليؤمنوا بالله. ويحتمل أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى ، أي دون تأخيرهم تأخيرا مستمرا فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في

١٧٧

قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى).

ويحتمل أن تكون الجملة تعليلا لكلا الأجلين : الأجل المفاد من قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [نوح : ١] فإن لفظ (قَبْلِ) يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مبهم غير بعيد ، والأجل المذكور بقوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فيكون أجل الله صادقا على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم.

وإضافته إلى الله إضافة كشف ، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد.

وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وبين قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) إما لاختلاف المراد بلفظيّ (الأجل) في قوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) ، وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله : (إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) فانفكت جهة التعارض.

أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين : أصل العلم الإلهي بما سيكون ، وأصل تقدير الله للأسباب وترتّب مسبباتها عليها.

فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [فاطر : ١١] أي في علم الله ، والناس لا يطلعون على ما في علم الله.

وأما وجود الأسباب كلها كأسباب الحياة ، وترتب مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيّرات لم تكن موجودة إكراما لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر. وفي الحديث صدقة المرء المسلم تزيد في العمر. وهو حديث حسن مقبول. وعن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سره أن يمد في عمره فليتق الله وليصل رحمه. وسنده جيد. فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص. وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صدق قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) وقد قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج.

فالذي رغّب نوح قومه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرت آجالهم

١٧٨

وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول ، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسّر إلى ما خلق له» ، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.

وفي إقحام فعل (كُنْتُمْ) قبل (تَعْلَمُونَ) إيذان بأن علمهم بذلك المنتفي لوقوعه شرطا لحرف (لَوْ) محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) في سورة يونس [٢].

وجواب (لَوْ) محذوف دل عليه قوله : (لا يُؤَخَّرُ). والتقدير : لأيقنتم أنه لا يؤخر.

[٥ ـ ٦] (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))

جرد فعل (قالَ) هنا ، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح : ١] عومل معاملة الجواب الذي يتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠] ، تنبيها على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله : (لَيْلاً وَنَهاراً) وحصول يأسه منهم ، فجعل مراجعته ربه بعد مهلة مستفادة من قوله : (لَيْلاً وَنَهاراً) بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورين. ولك أن تجعل جملة (قالَ رَبِ) إلخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب معرفة ما ذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى.

وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآيات [نوح : ٢٦].

وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهار توكله على الله ، وانتصار الله له ، والإتيان على مهمات من العبرة بقصته ، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي :

١ ـ (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) إلخ [نوح : ١].

١٧٩

٢ ـ (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) إلخ [نوح : ٢].

٣ ـ (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلخ [نوح : ٥].

٤ ـ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) إلخ [نوح : ١٠].

٥ ـ (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) إلخ [نوح : ٢١].

٦ ـ (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) إلخ [نوح : ٢٤].

٧ ـ (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ) إلخ [نوح : ٢٦].

٨ ـ (رَبِّ اغْفِرْ لِي) إلخ [نوح : ٢٨].

وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم ، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار ، ومن أوقات الهدوّ وراحة البال وهي أوقات الليل.

ومعنى (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلّا بعدا منه ، فالفرار مستعار لقوة الإعراض ، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قربا مما أدعوهم إليه.

واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع. والتقدير : فلم يزدهم دعائي قربا من الهدى لكن زادهم فرارا كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه‌السلام (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) [هود : ٦٣].

وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سببا في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم.

وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، أو تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، وهو هنا تأكيد إعراضهم المشبه بالابتعاد بصورة تشبه ضد الإعراض.

ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتا لهم من قبل كان قوله : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.

١٨٠