تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٧٠ ـ سورة المعارج

سميت هذه السورة في كتب السنّة وفي «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي» وفي «تفسير الطبري» وابن عطيّة وابن كثير «سورة سال سائل». وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.

وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية وفي معظم التفاسير «سورة المعارج». وذكر في «الإتقان» أنها تسمى «سورة الواقع».

وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها ، وأخصّها بها جملة (سَأَلَ سائِلٌ) [المعارج : ١] لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلّا أنها غلب عليها اسم «سورة المعارج» لأنه أخف.

وهي مكية بالاتفاق. وشذ من ذكر أن آية (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) [المعارج : ٢٤] مدنية.

وهي السورة الثامنة والسبعون في عداد نزول سور القرآن عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الحاقة وقبل سورة النبأ.

وعدّ جمهور الأمصار آيها أربعا وأربعين. وعدّها أهل الشام ثلاثا وأربعين.

أغراضها

حوت من الأغراض تهديد الكافرين بعذاب يوم القيامة ، وإثبات ذلك اليوم ووصف أهواله.

ووصف شيء من جلال الله فيه ، وتهويل دار العذاب وهي جهنم. وذكر أسباب

١٤١

استحقاق عذابها.

ومقابلة ذلك بأعمال المؤمنين التي أوجبت لهم دار الكرامة وهي أضداد صفات الكافرين.

وتثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتسليته على ما يلقاه من المشركين.

ووصف كثير من خصال المسلمين التي بثها الإسلام فيهم ، وتحذير المشركين من استئصالهم وتبديلهم بخير منهم.

[١ ـ ٣] (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣))

كان كفار قريش يستهزءون فيسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به ، ويسألونه تعجيله ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] وكانوا أيضا يسألون الله أن يوقع عليهم عذابا إن كان القرآن حقا من عنده قال تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].

وقيل : إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال : (إِنْ كانَ هذا) (أي القرآن) (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢].

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله ، ولذلك فالمراد ب (سائِلٌ) فريق أو شخص.

والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء ، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز. ويجوز أن يكون (سَأَلَ سائِلٌ) بمعنى استعجل وألحّ.

وقرأ الجمهور (سَأَلَ) بإظهار الهمزة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (سَأَلَ) بتخفيف الهمزة ألفا. قال في «الكشاف» : وهي لغة قريش وهو يريد أن قريشا قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياسا في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمز ولذلك قال سيبويه : وليس ذا بقياس متلئب (أي مطرد مستقيم) وإنما يحفظ عن العرب قال : ويكون قياسا متلئبا ، إذا اضطر الشاعر ، قال الفرزدق :

١٤٢

راحت بمسلمة البغال عشية

فارعي فزازة لا هناك المرتع

يريد لا هنأك بالهمز. وقال حسان :

سالت هذيل رسول الله فاحشة

ضلت هذيل بما سالت ولم تصب

يريد سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إباحة الزنا. وقال القرشي زيد بن عمرو بن نفيل (يذكر زوجيه) :

سألتاني الطلاق أن رأتاني

قلّ مالي قد جئتماني بنكر

فهؤلاء ليس لغتهم سال ولا يسال وبلغنا أن سلت تسال لغة ا ه. فجعل إبدال الهمز ألفا للضرورة مطردا ولغير الضرورة يسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعا. وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة : أن من قرأ (سَأَلَ) غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل : قال وخاف. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول : هما متساولان. وقال في «الكشاف» : يقولون (أي أهل الحجاز) : سلت تسال وهما يتسايلان ، أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب. وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز (سَأَلَ) غير مهموز سماعي ، وليس بقياس عندهم وأنه إمّا تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي سيبويه ، وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واويا كما هو رأي أبي علي أو أجوف يائيا كما هو رأي الزمخشري. وبذلك يندحض تردد أبي حيان جعل الزمخشري قراءة (سَأَلَ) لغة أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد.

وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل الهمز المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات ، ولذلك لم يرد في القرآن مخففا في بعض القراءات إلّا في هذا الموضع إذ لا نظير له في توالي حركات ، وإلّا فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي) [البقرة : ١٨٦] وهو يساوي (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) بله قوله : سالتهم وتسالهم ولا يسالون.

وقوله : (سَأَلَ سائِلٌ) بمنزلة سئل لأن مجيء فاعل الفعل اسم فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو ، فالعدول عن أن يقول : سئل بعذاب إلى قوله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) ، لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب ، ومثله قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة :

١٤٣

وإن الغدر قد علمت معدّ

بناه في بني ذبيان باني

ومن بلاغة القرآن تعدية (سَأَلَ) بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال ، لأن الباء تأتي بمعنى (عن) وهو من معاني الباء الواقعة بعد فعل السؤال نحو (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، وقول علقمة :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

أي إن تسألوني عن النساء ، وقال الجوهري عن الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وجعل في «الكشاف» تعدية فعل سأل بالباء لتضمينه معنى عني واهتمّ. وقد علمت احتمال أن يكون سال بمعنى استعجل ، فتكون تعديته بالباء كما في قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [الحج : ٤٧] وقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨].

وقوله : (لِلْكافِرينَ) يجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب (واقِعٍ) ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا خبرا لمبتدإ محذوف ، والتقدير : هو للكافرين.

واللام لشبه الملك ، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤].

ووصف العذاب بأنه واقع ، وما بعده من أوصافه إلى قوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) [المعارج : ٦] إدماج معترض ليفيد تعجيل الإجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي السؤال لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مجملا لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف ، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف ، فحكي السؤال مجملا ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات ، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحفّ به من الأهوال.

وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازا إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل ، واستجابة الداعي ، والإنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع ، ولا يغرهم تأخره.

وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهوله ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه ، دون أن يخوضوا في تعيين وقته ، فحصل من هذا كله معنى : أنهم سألوا عن العذاب الذي هددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء ، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذابا إن كان القرآن حقا ، إظهارا لقلة اكتراثهم

١٤٤

بالإنذار بالعذاب. فأعلمهم أن العذاب الذي استهزءوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته ، فإن أرادوا النجاة فليحذروه.

وقوله : (مِنَ اللهِ) يتنازع تعلقه وصفا (واقِعٍ) و (دافِعٌ). و (مِنَ) للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلّق به.

فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة. وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مجازي تتناوله قدرة القادر مثل (مِنَ) في قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) [التوبة : ١١٨] وقوله : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ) [النساء : ١٠٨].

وبهذا يكون حرف (مِنَ) مستعملا في تعيين مجازين متقاربين.

وإجراء وصف (ذِي الْمَعارِجِ) على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلالة ولإدماج الإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى : (لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [الزخرف : ٣٣]. ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [المجادلة : ١١] ، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين.

و (الْمَعارِجِ) : جمع معرج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به ، أي يصعد من سلم ومدرج.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤))

اعتراض لبيان أن المعارج منازل من الرفعة الاعتبارية ترتقي فيها الملائكة وليست معارج يعرج إليه فيها ، أي فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف ، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج ، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها ، أي جاعلها ، ونظيره قوله تعالى : (ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥].

و (الرُّوحُ) : هو جبريل عليه‌السلام الموكل بإبلاغ إرادة الله تعالى وإذنه وتخصيصه بالذكر لتمييزه بالفضل على الملائكة. ونظير هذا قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤] أي في ليلة القدر.

١٤٥

و (الرُّوحُ) : يطلق على ما به حياة الإنسان وتصريف أعماله وهو المذكور في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]. فيجوز أن يكون مما شمله قوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ، أي أرواح أهل الجنة على اختلاف درجاتها في المعارج. وهذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة. وهذه تقريبات لنهاية عظمة تلك المنازل وارتقاء أهل العالم الأشرف إليها وعظمة يوم وقوعها.

وضمير (إِلَيْهِ) عائد إلى الله على تأويل مضاف على طريقة تعلق بعض الأفعال بالذوات ، والمراد أحوالها مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكلها. و (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يتنازع تعلقه كل من قوله : (واقِعٍ) [المعارج : ١] وقوله : (تَعْرُجُ).

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥))

اعتراض مفرع : إما على ما يومئ إليه (سَأَلَ سائِلٌ) [المعارج : ١] من أنه سؤال استهزاء ، فهذا تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما على (سَأَلَ سائِلٌ) بمعنى : دعا داع.

فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة (سَأَلَ سائِلٌ) إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضا بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف.

والصبر الجميل : الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقةالصبر ، أي اصبر صبرا محضا ، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعكر معناها من بقايا أضدادها ، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) في سورة يوسف [١٨] وسيجيء قوله تعالى : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) في المزمل [١٠].

[٦ ـ ٧] (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧))

تعليل لجملتي (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] ولجملة (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) [المعارج : ٥] ، أي سألوا استهزاء لأنهم يرونه محالا وعليك بالصبر لأنا نعلم تحققه ، أي وأنت تثق بأنه قريب ، أي محقق الوقوع ، وأيضا هو تجهيل لهم إذ اغتروا بما هم فيه من الأمن ومسالمة العرب لهم ومن الحياة الناعمة فرأوا العذاب الموعود بعيدا ، إن كان في الدنيا فلأمنهم ، وإن كان في الآخرة فلإنكارهم البعث ، والمعنى : وأنت لا تشبه حالهم

١٤٦

وذلك يهوّن الصبر عليك فهو من باب (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٨] ، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ) [الكهف : ٢٨].

و (بَعِيداً) هنا كناية عن معنى الإحالة لأنهم لا يؤمنون بوقوع العذاب الموعود به ، ولكنهم عبروا عنه ببعيد تشكيكا للمؤمنين فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣].

واستعمل (قَرِيباً) كناية عن تحقق الوقوع على طريق المشاكلة التقديرية والمبالغة في التحقق. وبين (بَعِيداً) و (قَرِيباً) محسن الطباق.

[٨ ـ ١٨] (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

يجوز أن يتعلق (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) بفعل (تَعْرُجُ) [المعارج : ٤] ، أو أن يتعلق ب (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ابتداء كلام ، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لأن عدم المساءلة مسبب عن شدة الهول ، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المول لو يفتدي من ذلك العذاب.

والمهل : درديّ الزيت.

والمعنى : تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت ، وهذا كقوله في سورة الرحمن [٣٧] (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ).

والعهن : الصوف المصبوغ ، قيل المصبوغ مطلقا ، وقيل المصبوغ ألوانا مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري ، قال زهير :

كان فتات العهن في كل منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطّم

والفنا بالقصر : حب في البادية ، يقال له : عنب الثعلب ، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر. والعهنة : شجر بالبادية لها ورد أحمر.

١٤٧

ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة [٥] (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) فإيثار العهن بالذكر لإكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) [فاطر : ٢٧]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصير إلى عالم الآخرة.

ومعنى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه ، فحذف متعلق (يَسْئَلُ) لظهوره من المقام ومن قوله : (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميما ، قال كعب بن زهير :

وقال كل خليل كنت آمله

لا ألهينّك إني عنك مشغول

والحميم : الخليل الصديق.

وقرأ الجمهور بفتح ياء (يَسْئَلُ) على البناء للفاعل. وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول. فالمعنى : لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.

وموقع (يُبَصَّرُونَهُمْ) الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحمّاء لا يرى بعضهم بعضا يومئذ لأن كل أحد في شاغل ، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذابا فوق العذاب.

ويجوز أن تكون جملة (يُبَصَّرُونَهُمْ) في موضع الحال ، أي لا يسأل حميم حميما في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له : انظر ما ذا يقاسي فلان. و (يُبَصَّرُونَهُمْ) مضارع بصّره بالأمر إذا جعله مبصرا له ، أي ناظرا فأصله : يبصّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.

والضميران راجعان إلى (حَمِيمٌ) المرفوع وإلى (حَمِيماً) المنصوب ، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظرا إلى عموم (حَمِيمٌ) و (حَمِيماً) في سياق النفي.

و (يَوَدُّ) : يحب ، أي يتمنى ، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب. وإما بكلام يصدر منه نظير قوله : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ، وهذا هو الظاهر ، أي يصرخ الكافر يومئذ فيقول : أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون

١٤٨

ذلك فضيحة له يومئذ بين أهله.

و (الْمُجْرِمُ) : الذي أتى الجرم ، وهو الذنب العظيم ، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.

و (يَوْمِئِذٍ) هو (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) فإن كان قوله : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ) متعلقا ب (يَوَدُّ) فقوله : (يَوْمِئِذٍ) تأكيد ل (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) ، وإن كان متعلقا بقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) [المعارج : ٤] فقوله : (يَوْمِئِذٍ) إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.

و (لَوْ) مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل (يَوَدُّ) ، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.

وقرأ الجمهور (يَوْمِئِذٍ) بكسر ميم (يوم) مجرورا بإضافة (عذاب الله). وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإضافة (يوم) إلى (إذ) ، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.

والافتداء : إعطاء الفداء ، وهو ما يعطى عوضا لإنقاذ من تبعة ، ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) في البقرة [٨٥] وقوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في آل عمران [٩١] ، والمعنى : لو يفتدي نفسه ، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.

ومعنى (مِنْ) الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يتخلص و (صاحِبَتِهِ) : زوجه.

والفصيلة : الأقرباء الأدنون من القبيلة ، وهم الأقرباء المفصول منهم ، أي المستخرج منهم ، فشملت الآباء والأمهات قال ابن العربي : قال أشهب : سألت مالكا عن قول الله تعالى : (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) فقال هي أمه ا ه ، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم ، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.

وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميل الطبيعي في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.

١٤٩

ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصدا للإيجاز.

والإيواء : الضم والانحياز. قال تعالى : (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) [يوسف : ٦٩] وقال: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ) [هود : ٤٣].

و (الَّتِي تُؤْوِيهِ) : إن كانت القبيلة ، فالإيواء مجاز في الحماية والنصر ، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئا يومئذ.

وإن كانت الأمّ فالإيواء على حقيقته باعتبار الماضي ، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] أي يودّ لو يفتدي بأمه ، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه ، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.

(وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) عطف على (بِبَنِيهِ) ، أي ويفتدي بمن في الأرض ، أي ومن له في الأرض مما يعزّ عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة في استبقائه على نحو قوله تعالى : (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) [آل عمران : ٩١].

و (مَنْ) الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ يُنْجِيهِ) للتراخي الرتبي ، أي يودّ بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب ، فالإنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله : (يُنْجِيهِ) عائد إلى الافتداء المفهوم من (يَفْتَدِي) على نحو قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

والمعطوف ب (ثُمَ) هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً) [النساء : ٨٩] وقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] ، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه ب (ثُمَ) للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.

ومتعلق (يُنْجِيهِ) محذوف يدل عليه قوله : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ).

و (كَلَّا) حرف ردع وإبطال لكلام سابق ، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام ، وهو هنا لإبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة ، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو

١٥٠

لإبطال ما يتفوه به من تمنّي ذلك. قال تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] ، ألا ترى أنه عبر عن قوله ذلك بالودادة ، في قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [النساء : ٤٢] أي يصيرون من ترابها.

فالتقدير : يقال له كلا ، أي لا افتداء ولا إنجاء.

وجملة (إِنَّها لَظى) استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف (كَلَّا) من الإبطال. وضمير (إِنَّها) عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى. ولما كان (لَظى) مقترنا بألف التأنيث أنّث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف. والمقصود التعريض بأنها أعدت له ، أي أنها تحرقك وتنزع شواك ، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) ، أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلّا بجمع المال.

فحرف (إنّ) للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر ، لا إلى الإخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس ذلك بمحل التردد. و (لَظى) خبر (إن).

ويجوز أن يكون ضمير (إِنَّها) ضمير القصة وهو ضمير الشأن ، أي إن قصتك وشأنك لظى ، فتكون (لَظى) مبتدأ.

وقرأ الجمهور (نَزَّاعَةً) بالرفع فهو خبر ثان عن (إنّ) إن جعل الضمير ضميرا عائدا إلى النار المشاهدة ، أو هو خبر عن (لَظى) إن جعل الضمير ضمير القصة وجعل (لَظى) مبتدأ.

وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة. والتعريض هو هو ، وحرف (إنّ) إما للتوكيد متوجها إلى المعنى التعريضي كما تقدم ، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأخبار المهتم بها.

و (لَظى) : علم منقول من اسم اللهب ، جعل علما ل «جهنم» ، وألفه ألف تأنيث ، وأصله : لظى بوزن فتى منونا اسم جنس للهب النار. فنقل اسم الجنس إلى جعله علما على واحد من جنسه ، فقرن بألف تأنيث تنبيها بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.

والعرب قد يدخلون تغييرا على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شمس بضم الشين منقولا من شمس بفتح الشين. كما قال ابن جني في شرح قول تأبط

١٥١

شرا :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عمّ الصدق شمس بن مالك

وليس من العلم بالغلبة إذ ليس معرفا ولا مضافا ، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعا من الصرف فلا تقول : لظّى بالتنوين إلّا إذا أردت جنس اللهب ، ولا تقول : اللّظى إلّا إذا أردت لهبا معينا ، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.

والنّزاعة : مبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.

والشوى : اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو ، وهي العضو غير الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكل أحد من شوى ، وقيل الشواة : جلدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.

وجملة (تَدْعُوا) إما خبر ثان حسب قراءة (نَزَّاعَةً) بالرفع وإمّا حال على القراءتين. والدعاء في قوله : (تَدْعُوا) يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية ، شبهت لظى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدبة ، ورمز إلى ذلك ب (تَدْعُوا) وذلك على طريقة التهكم.

ويكون (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) قرينة ، أو تجريدا ، أي من أدبر وتولى عن الإيمان بالله. وفيه الطباق لأن الإدبار والتولي يضادّان الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر ، ويكون (يدعوا) مشتقا من الدعوة المضمومة الدال ، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية ، لأن التشبيه بدعوة المنادي ، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي :

أمسى بوهبين مختارا لمرتعه

من ذي الفوارس تدعو أنفه الرّبب

الرّبب بكسر الراء وبموحدتين : جمع ربّة بكسر الراء وتشديد الموحدة : نبات ينبت في الصيف أخضر.

ويجوز أن يكون (تَدْعُوا) مستعملا حقيقة ، و «الذين يدعون» : هم الملائكة الموكلون بجهنم ، وإسناد الدعاء إلى جهنم إسنادا مجازيا لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء ، أو جهنم تدعو حقيقة بأن يخلق الله فيها أصواتا تنادي الذين تولوا أن يردوا عليها فتلتهمهم.

١٥٢

و (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتدوا من عذاب يومئذ. وهذه الصفات خصائص المشركين ، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإسلام.

وهي ثلاثة : الإدبار والإعراض ، وجمع المال ، أي الخشية على أموالهم.

والإدبار : ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر ، فأدبر : جعل شيئا وراءه بأن لا يعرج عليه أصلا أو بأن يقبل عليه ثم يفارقه.

والتولّي : الإدبار عن شيء والبعد عنه ، وأصله مشتق من الولاية وهي الملازمة قال تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٤٤] ، ثم قالوا : ولّى عنه ، أرادوا اتخذ غيره وليا ، أي ترك ولايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا : رغب فيه ورغب عنه ، فصار «ولي» بمعنى : أدبر وأعرض ، قال تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) [النجم : ٢٩] أي عامله بالإعراض عنه.

ففي التولي معنى إيثار غير المتولّى عنه ، ولذلك يكون بين التولّي والإدبار فرق ، وباعتبار ذلك الفرق عطف و (تَوَلَّى) على (أَدْبَرَ) أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإدبار مرادا به إدبار غير تول ، أي إدبارا من أول وهلة ، ويكون التولي مرادا به الإعراض بعد ملابسة ، ولذلك يكون الإدبار مستعارا لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حال الذين قال الله فيهم : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] ، والتولي مستعار للإعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣١] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.

والمقصود من ذكرهما معا تفظيع أصحابهما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلّق (أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) متّحدا يتنازعه كلا الفعلين ، ويقدر بنحو : عن الحق ، وفي «الكشاف» : أدبر عن الحق وتولى عنه ، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحدا.

ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلّق هو أشد مناسبة لمعناه ، فقدر البيضاوي : أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة ، أي لم يقبل الحق وهو الإيمان من أصله ، وأعرض عن طاعة

١٥٣

الرسول بعد سماع دعوته. وعن قتادة عكسه : أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وتبعه الفخر والنيسابوري.

والجمع والإيعاء في قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) مرتب ثانيهما على أولهما ، فيدل ترتب الثاني على الأول أن مفعول (جَمَعَ) المحذوف هو شيء مما يوعى ، أي يجعل في وعاء.

والوعاء : الظرف ، أي جمع المال فكنزه ولم ينفع به المحاويج ، ومنه جاء فعل (فَأَوْعى) إذا شحّ. وفي الحديث : «ولا توعي فيوعى عليك».

وفي قوله : (جَمَعَ) إشارة إلى الحرص ، وفي قوله : (فَأَوْعى) إشارة إلى طول الأمل. وعن قتادة (جَمَعَ فَأَوْعى) كان جموعا للخبيث ، وهذا تفسير حسن ، أي بأن يقدّر ل (جَمَعَ) مفعول يدل عليه السياق ، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث. وعليه يكون (فَأَوْعى) مستعارا لملازمته ما فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنة لا يفرط فيها.

[١٩ ـ ٢١] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١)).

معترضة بين (مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٧ ـ ١٨] وبين الاستثناء (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج : ٢٢] إلخ.

وهي تذييل لجملة (وَجَمَعَ فَأَوْعى) تنبيها على خصلة تخامر نفوس البشر فتحملهم على الحرص لنيل النافع وعلى الاحتفاظ به خشية نفاده لما فيهم من خلق الهلع. وهذا تذييل لوم وليس في مساقه عذر لمن جمع فأوعى ، ولا هو تعليل لفعله.

وموقع حرف التوكيد ما تتضمنه الجملة من التعجيب من هذه الخصلة البشرية ، فالتأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر ولفت الأنظار إليه والتعريض بالحذر منه.

والمقصود من التذييل هو قوله : (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) وأما قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) فتمهيد وتتميم لحالتيه.

فالمراد بالإنسان : جنس الإنسان لا فرد معيّن كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] وقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] ، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.

١٥٤

وهلوع : فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلع.

والهلع لفظ غامض من غوامض اللّغة قد تساءل العلماء عنه ، قال «الكشاف» : «وعن أحمد بن يحيى (هو ثعلب) قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر (١) : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره الله ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس» ا ه. فسارت كلمة ثعلب مسيرا أقنع كثيرا من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع. وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) تفسيرا لمدلول الجزوع ، تعيّن أن يكون مدلول الكلمة معنى مركبا من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيرا له ، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم ، وكثيرا من أئمة اللغة فسر الهلع بالجزع ، أو بشدة الجزع ، أو بأفحش الجزع ، والجزع : أثر من آثار الهلع وليس عينه ، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب :

ما إن جزعت ولا هلعت

ولا يردّ بكاي زندا

إذ عطف نفي الهلع على نفي الجزع ، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف ، ولو كان الهلع أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشوا. ولذلك تكلّف المرزوقي في «شرح الحماسة» لمعنى البيت تكلفا لم يغن عنه شيئا قال : فكأنه قال : ما حزنت عليه حزنا هيّنا قريبا ولا فظيعا شديدا ، وهذا نفي للحزن رأسا كقولك : ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم اه.

والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاق منه. وأما الجزع فمن آثار الهلع ، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره ، وبعضهم بالضجر ، وبعضهم بالشح ، وبعضهم بالجوع ، وبعضهم بالجبن عند اللقاء. وما ذكرناه في ضبطه يجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع. ومعنى (خُلِقَ هَلُوعاً) : أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية ، إذ ليس في تعلّق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها ، ولا في اتصاف

__________________

(١) محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان والي شرطة بغداد في زمن المتوكل على الله ، وكان شاعرا أديبا ملازما لأهل العلم توفي سنة ٢٥٣ وأبوه عبد الله والي خراسان في زمن المأمون وممدوح أبي تمام توفي سنة ٢٢٩.

١٥٥

صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها ، وقد تكون للشيء الحالة وضدها باختلاف الأزمان والدواعي ، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حال مع تحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه ، وإذ ذكر الله الهلع هنا عقب مذمّة الجمع والإيعاء ، فقد أشعر بأن الإنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله : (خُلِقَ هَلُوعاً) كناية بالخلق عن تمكن ذلك الخلق منه وغلبته على نفسه.

والمعنى : أن من مقتضى تركيب الإدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.

بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية ركّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف ، وساعية إلى الملائم ومعرضة عن المنافر. وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإدراك في استخدامها كما يجب في حدود المقدرة البدنية التي أعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع ، كل ذلك ليصلح الإنسان لإعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحا يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعدادا لصلاحيته لإعمار عالم الخلود ، ثم جعل له إدراكا يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر. وخلق فيه إلهاما يحب النافع ويكره الضار ، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضارّ فيبتغي ما يظنه نافعا غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل ، أو شاعرا بذلك ولكن شغفه بحصول النفع العاجل يرجح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدّرا معاذير أو حيلا يقتحم بها ما فيه من ضر آجل. وإن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنه ضرّ الضار ونفع النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه ، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تحدث فيه إيثارا لاتباع الضار لملاءمة فيه ولو في وقت أو عند عارض ، إعراضا عن اتباع النافع لكلفة في فعله أو منافرة لوجدانه ، وذلك من اشتمال تركيب قواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها ، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان ، وصلاحية لإفساد ذلك أو بعثرته.

غير أن الله جعل للإنسان عقلا وحكمة إن هو أحسن استعمالهما نخلت صفاته ، وثقّفت من قناته ، ولم يخله من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يريض جامح نفسه ، وكيف يوفق بين إدراكه وحسّه ، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.

١٥٦

فإذا أخبر عن الإنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك : إلقاء تبعة ذلك عليه لأنه فرط في إراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير ، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر ، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء.

وإذا أسند ما يأتيه الإنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود : التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه ، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق ، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء: ٧٩] عقب قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨]. وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة ، وحلكت عليهم الأجواء ، ففكروا وقدّروا ، وما استطاعوا مخلصا وما قدروا.

واعلم أن كلمة (خلق الإنسان) إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يعنى بها التنبيه على جبلة الإنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضا بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) ، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] ، وقد ترد لبيان أصل ما فطر عليه الإنسان وما طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ـ ٥] فعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة. قال عروة بن أذينة :

إن التي زعمت فؤادك ملّها

خلقت هواك كما خلقت هوّى لها

أراد إبطال أن يكون ملّها بحجة أنها خلقت حبيبة له كما خلق محبوبها ، أي إن محبته إياها لا تنفك عنه.

والهلع : صفة غير محمودة ، فوصف الإنسان هنا بها لوم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها ، ولذلك ذيل به قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٨] على كلا معنييه.

وانتصب (جَزُوعاً) على الحال من الضمير المستتر في (هَلُوعاً) ، أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر.

وقوله : (مَنُوعاً) عطف على (جَزُوعاً) ، أي خلق هلوعا في حال كونه جزوعا إذا مسه الشر ، ومنوعا إذا مسه الخير.

١٥٧

و (الشَّرُّ) : الأذى مثل المرض والفقر.

و (الْخَيْرُ) : ما ينفع الإنسان ويلائم رغباته مثل الصحة والغنى.

والجزوع : الشديد الجزع ، والجزع : ضد الصبر.

والمنوع : الكثير المنع ، أي شديد المنع لبذل شيء مما عنده من الخير.

و (إِذا) في الموضعين ظرفان يتعلقان كل واحد بما اتصل به من وصفي (جَزُوعاً) و (مَنُوعاً).

[٢٢ ـ ٣٥] (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ به من قوله : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) [المعارج : ١١] الآية.

فالمعنى على الاستدراك. والتقدير : لكن المصلين الموصوفين بكيت وكيت أولئك في جنات مكرمون.

فجملة (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) حيث وقعت بعد (إِلَّا) المنقطعة وهي بمعنى (لكنّ) فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم (لكنّ) المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد (لكن) المخففة وهو ما حققه الدماميني ، وإن كان ابن هشام رأى عدّ الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب.

والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين ، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة.

وهذه صفات ثمان هي من شعار المسلمين ، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطنابا في الثناء عليهم لأن مقام الثناء مقام إطناب ، وتنبيها

١٥٨

على أن كلّ صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات.

وهذه الصفات لا يشاركهم المشركون في معظمها بالمرة ، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد ، وذلك حفظ الأمانات والعهد ، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدر ، ومع أحلافه دون أعدائه ، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب ، وإذا خشي أن يوصم بالكذب. وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث ، وغدر بعضهم بعضا ، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة.

ولما كان وصف (الْمُصَلِّينَ) غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) الآية [المدثر : ٤٢ ، ٤٣] ، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها.

والدوام على الشيء : عدم تركه ، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه ، كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار.

وفي إضافة (صلاة) إلى ضمير (الْمُصَلِّينَ) تنويه باختصاصها بهم ، وهذا الوصف للمسلمين مقابل وصف الكافرين في قوله : (بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) [المعارج : ١ ، ٢].

ومجيء الصلة جملة اسمية دون أن يقال : الذين يدومون ، لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام.

وإعادة اسم الموصول مع الصّلات المعطوفة على قوله (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) لمزيد العناية بأصحاب تلك الصّلات.

وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم (حَقٌ) للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم في مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت.

ومعنى كون الحق معلوما أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه ، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم.

ومجيء الصلة جملة اسمية لإفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعا لتوهم

١٥٩

الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشحّ للنفوس.

والسائل : هو المستعطي ، و (الْمَحْرُومِ) : الذي لا يسأل الناس تعففا مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم.

وأصل المحروم : الممنوع من مرغوبه ، وتقدم في سورة الذاريات [١٩] في قوله : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٨].

والتصديق بيوم الدين هو الإيمان بوقوع البعث والجزاء ، و (الدِّينِ) : الجزاء. وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) [المعارج : ٦].

ولما كان التصديق من عمل القلب لم يتصور أن يكون فيه تفاوت أتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول ، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار.

ووصفهم بأنهم (مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) مقابل قوله في حق الكافرين (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) [المعارج : ١ ، ٢] لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله.

والإشفاق : توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.

وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإشفاق لأنه من المغيبات ، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه.

وجملة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) معترضة ، أي غير مأمون لهم ، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمن منه إذ قالوا : (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [الشعراء : ١٣٨]. ووصفهم بأنهم (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠] إذ أخص الأحمّاء بالرجل زوجه ، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة عن غير الأزواج ، قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين ، أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنا ولا مخالّة ولا بغاء ، ولذلك عقب بالتفريع بقوله : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ).

١٦٠